تسعى الدراسة إلى تحديد مفهوم “العامل الخارجي”، منهجيًا؛ لتتمكن من التعرف إلى فاعليته وتأثيره في عملية الانتقال. ويعني “العامل الخارجي”، بحسب الدراسة، دور العوامل السياسية الخارجية الآني والمباشر في تأثيرها في الانتقال الديمقراطي. وقد لاحظت الدراسة أن دور هذه العوامل في مراحل الانتقال، يختلف عنها في مراحل “ترسيخ الديمقراطية”، فإذا كان التأثير الخارجي في الثورات ضئيلًا، ولا سيما إذا كانت ثورات شعبية عفوية، فإنه قد يكون مؤثّرًا في مرحلة الانتقال الديمقراطي، وإن لم يكن تأثيره حاسمًا إلا بفعل عوامل داخلية محلية، تيسّره وتمكّنه. وتبين الدراسة العلاقة بين العامل الخارجي والموقع الجيوستراتيجي للدولة في الحالة العربية؛ إذ يزداد العامل الخارجي أهمية بازدياد أهمية موقع الدولة. وتتابع الدراسة تطور مبدأ “دعم الديمقراطية” في السياسة الأميركية الذي ظل مرتبطًا بالمصالح الأميركية، وانتهى لصالح مبدأ استقرار الأنظمة. كما ترصد تيارًا إقليميًا ودوليًا، لم يحظَ بالاهتمام الكافي، يدور حول “تعزيز الأوتوقراطية”.
من نافلة القول إن نتائج فعل العامل الخارجي، بمعنى تأثير دول أخرى وسياساتها وعلاقات الدولة المعنية بها في التحول الديمقراطي فيها، لا تتضح بمعزلٍ عن العوامل الداخلية، بل من خلال تفاعل ما نطلق عليه اسم العامل الخارجي معها. فهي التي تحدد مدى تأثيره، وإن لم تتحكم في اتجاهه. ونحن هنا نقوم بذلك بعزل هذا العامل بشكل مصطنع لفائدة البحث في الانتقال الديمقراطي، ويفترض أن يفحص الباحث في هذا المجال مدى تحوّله إلى عامل حاسم في عملية الانتقال، أو معوِّق لهذه العملية، أو مساند لها.
وثمة عوامل خارجية أثّرت بنيويًا في الاقتصاد والمجتمع، ولم يعد من المفيد التعامل معها بوصفها مؤثرات خارجية عند حصول عملية الانتقال ذاتها. خذ مثلًا التبعية الاقتصادية الناجمة عن علاقات المركز الصناعي العالمي المتطور بدول الجنوب، وإعاقتها نشوء برجوازية وطنية محلية منتجة. هذا عامل مهمّ للغاية، وقد يكون حاسمًا في إعاقة نشوء مجتمع مدني يقوم على علاقات التبادل الحر، وفي مركزة القوة الاقتصادية والسياسية بِيَد فئات اجتماعية محددة، سواء أكانت بيروقراطية أم عسكرية، تدور في فلكها “رأسمالية محاسيب” غير منتجة. وعلى الرغم من منشئه التاريخي في التفاعل بين “داخل” و”خارج”، هل يمكن التعامل مع هذا المركب الاقتصادي الاجتماعي بوصفه عاملًا خارجيًا أثناء عملية الانتقال؟ كلّا بالطبع؛ إذ أضحى واقعًا داخليًا، بامتياز، كما في حالات آثار مرحلة الاستعمار في بنية الدولة والاقتصاد والمجتمع، وإن كان يعاد إنتاجه بين الاقتصاديات المتطورة وهوامش الاقتصاد العالمي عبر علاقات تجارية غير متكافئة، وديون وصفقات تسليح وغيرها. وهذه العوامل البنيوية التي خلفتها التبعية الاقتصادية لا تؤثر فقط في نمط الدكتاتورية، بل تعود وتفرض ذاتها عند دراسة ديمومة الديمقراطية وفرص نجاحها بعد الانتقال.
ورغم أهمية انتشار الأفكار الديمقراطية عبر وسائل الاتصال والتعليم والتأثير والتأثر الثقافيين، ونشوء ردود الفعل السلبية والإيجابية، فهي ليست من ضمن العوامل الخارجية المقصودة في هذا النوع من الدراسات الذي يميل غالبًا إلى التركيز على العوامل السياسية الخارجية الفاعلة آنيًا، أي أثناء فترة الانتقال. أما التفاعل الثقافي وانتشار فكرة الديمقراطية ومدى جاذبيتها وكيفية استيعابها بعيدًا عن تعقيدات واقعها الحقيقي، فهي عوامل مهمة جدًا في رأيي ولا تحظى باهتمام كافٍ، ولم تعد قابلة للفصل عن الثقافة الشعبية وثقافة النخب على حد سواء؛ إذ لم يعد الفصل بين “الأصيل” و”الدخيل” ممكنًا في الثقافة، كما في الاقتصاد. وينطبق ذلك خاصة على التفاعل الثقافي العربي – العربي الذي يصعب حصر قنواته وأطره، من وسائل إعلام ومنظمات وأحزاب ومؤسسات عربية فاعلة على نطاق إقليمي ووسائل تواصل وأدب وفن. فهذه كلها غدت معطيات ومكونات في الخلفية السياسية والثقافية والاجتماعية القائمة في الدولة التي تجري فيها عملية التحول وتؤثر فيها. ويجب أن تُؤخذ جميعًا في الاعتبار عند دراسة شروط الانتقال الديمقراطي في الدولة المعنية.
* هذه الدراسة منشورة في العدد 38 (أيار/ مايو 2019) من دورية “سياسات عربية” (الصفحات 7-26)وهي مجلة محكّمة للعلوم السياسية والعلاقات الدولية والسياسات العامة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات كل شهرين.