في الوقت الذي وجهت وزارة التجارة الاتهام إلى من أسمتهم “أطراف تستعمل الأطفال للمضاربة في مادة الزيت “، وأقرت في حلولها المقترحة “منع القصر شراء زيت المائدة”، اختار مجلس الأمة إنشاء لجنة تحقيق برلمانية لتقصي الحقيقة حول ما اسماه “مشكلات الندرة والاحتكار”، وفي ذلك مؤشر على أن الأزمة أعمق من التشريح المقدم من طرف وزارة رزيق.
ما الدافع الذي جعل مجلس الأمة المعروف بـ “التريث والهدوء”، مقارنة بالمجلس الشعبي الوطني الذي تحكمه عادة النقاشات المعارضة الحادة، إلى الخروج من صمته والإعلان عن إنشاء لجنة تحقيق برلمانية لتقصي الحقيقة حول” مشكلات الندرة والاحتكار “التي طالت السلع والبضائع من المواد ذات الاستهلاك الواسع في “الجهات الأربعة للجمهورية “.
يعترف مجلس الأمة في بيانه بوجود “مشكلات ندرة ” والتي طالت “الجهات الأربعة للجمهورية”، وهو ما يعني أن الاضطراب في التموين ليس “ظرفي” ، والندرة لم تلاحظ في منطقة بعينها، بل مست كل ولايات الوطن، وهو عكس التبريرات التي ظل وزير التجارة يرددها منذ عدة أشهر، حيث اجتهدت مصالحه فقط لنفي الأخبار التي كانت تتحدث عن الندرة والزيادات في أسعار المواد الواسعة الاستهلاك وعلى رأسها مادة زيت المائدة .
ويتضح جليا أن مجلس الأمة لم يقتنع بالحجج والمبررات المقدمة من قبل وزير التجارة، بحيث اتجهت النقاشات الداخلية في الغرفة العليا للبرلمان بـ ” الاتفاق” على إنشاء لجنة تحقيق برلمانية تعهد إليها مسؤولية التحقيق والتقصي في مشكلات الندرة والاحتكار الذي طال بعض السلع والبضائع من المواد الأساسية ذات الاستهلاك الواسع في الجهات الأربعة للجمهورية، وفي مختلف الجوانب ذات الصلة”.
أبعد من ذلك أوضح مجلس الأمة في ذات البيان أن “اللجنة ستعمل على الوقوف على دوافع هذه الأزمة ومسبباتها الرئيسية ومن يغذيها ويحوم حولها” بهدف “السعي لصد أي مناورات من المضاربين وسلوكاتهم الكيدية المتكررة وأنانيهم الفردية وطمعهم الشخصي على حساب المنتج والمستهلك على حد سواء”.
ويؤكد هذا المسعى لمجلس الأمة، أن أزمة الندرة لم تسقط من السماء، بقدر ما ولدتها قرارات خاطئة تشترك فيها عدة أطراف عن قصد أو عن نقص كفاءة وعدم قدرة على الاستشراف، خصوصا وأن الوضعية تأزمت أكثر بمجرد صدور قانون محاربة المضاربة الذي يشدد العقوبات على المخالفين ويردع المتمردين على القواعد التجارية .
وضمن هذا السياق ، وحتى وان لم يحدد مجلس الأمة بدقة الإطار الذي ستشتغل ضمنه لجنة التحقيق البرلمانية ، فان تأكيده على ” تقصي الحقيقة حول مشكلات الندرة والاحتكار “تعني أنها ستذهب أبعد من التحقيق الذي خرجت به وزارة التجارة وكان وراء قرارها بـ “منع القصّر شراء زيت المائدة” ، والسبب في ذلك حسب وزير التجارة كمال رزيق “بعد اكتشاف أطراف تستعمل الأطفال للمضاربة في زيت المائدة “.
إن تقصي الحقيقة حول “مشكلات الندرة والاحتكار”، تشترك فيه سلسلة من المتدخلين في العملية ، وبالتالي يتعين على لجنة التحقيق الوصول إليها بصفة مباشرة أو غير مباشرة، لأن أزمة ندرة بعض المواد الواسعة الاستهلاك ، لا تخص فحسب ضعف الإنتاج الذي ترتبط مادته الأولية بالخارج، وتخضع في مجملها إلى تداولات البورصة والى أزمة نقل دولية خصوصا في زمن كورونا ، وإنما مرتبطة بالتوزيع والنقل والتخزين والتبريد والفاتورة والصك البنكي والشكارة ، وهي مشكلات لم تستطع وزارة التجارة تحريكها بسبب وجود ” مقاومة ” لدى شبكة عنكبوتية أضحت تتحكم في آليات السوق بشكل غير مسبوق .
إن غياب الفوترة مع سبق الإصرار والترصد، وأرقامها بملايير الدينارات سنويا، وعدم الاعتراف بالصك البنكي في تداولات بملايير الدينارات، والدفع كاش بـ “الشكارة”، وتحديد سعر صرف العملة بسوق “السكوار”، وتضخيم فواتير الاستيراد، وعدم قدرة مصالح وزارة التجارة لقمع الغش والرقابة معاينة محلات التجار الذين يغلقونها أمامها لعلمهم بتوقيتها !!، وكذا عدم مراجعة آليات منح السجل التجاري، ضمن اقتصاد موازي يتداول به ما قيمته 90 مليار دولار، هي المجالات التي يقتضي على لجنة التحقيق البرلمانية الولوج إليها بطريقة أو بأخرى وعدم الاكتفاء بتقارير إدارية جوفاء بعيدة عن الميدان والواقع، التي كانت وراء تمديد تسيير أزمة الندرة من سنة لأخرى ومن شهر لأخر وعدم حلها بصفة كلية .
فهل ستكون لجنة التحقيق البرلمانية طليقة الأيدي بالشكل الذي يمكنها ليس من معرفة الحقيقة حول الندرة وإنما محاربة الفساد أولا وأخيرا ؟.