تسلل ملف التحويلات الاجتماعية تدريجيا إلى نقاشات البرلمان في السنوات الأخيرة، بمناسبة تقديم وعرض مخططات عمل الحكومة وحصيلتها، وبمناسبة تقديم مشاريع قوانين المالية وتسوية الميزانية، ليصبح النواب في الأخير شركاء فاعلين في التحول العميق في السياسة الاجتماعية للدولة، مدافعين عن خطط الإصلاح الجاري تنفيذها.
انتقل الاهتمام تدريجيا من ملف قفة رمضان والشبكة الاجتماعية، إلى مسألة دعم المواد ذات الاستهلاك الواسع، خصوصا الحليب والخبز تحت ضغط الجهاز التنفيذي الذي عجز عن إيجاد بدائل لسد الضغط الميزانياتي، في ظل النمو الديمغرافي المفرط وارتفاع عدد المشمولين بالدعم، حيث توجد نسبة عالية من المجتمع تحت خط الفقر وإكراهات تردّي المداخيل المالية المتأتية من صادرات المحروقات وتزايد مستويات الإنفاق وسوء استخدام المقدّرات المالية وانتشار ظواهر التبذير والفساد والنهب، ليتوسّع اهتمام النواب ليشمل سياسة التحويلات الاجتماعية ككل التي تشكل كل أشكال الدعم المباشر وغير المباشر، ومنها الوقود والكهرباء والمياه، حيث تدفع الدولة الفارق بين السعر الحقيقي والسعر الذي يوجّه للاستهلاك.
وتمكّن الجهاز التنفيذي بدهاء، من نقل النقاش من الدوائر المغلقة التي تتدخل في رسم الميزانيات السنوية إلى المؤسسة التشريعية، ولم تخلو النقاشات التي شهدها البرلمان بعد الانهيار الحاد للأسعار في 2008 من تناول لهذه القضية الحساسة، وتدريجيا تبنى النواب وأعضاء مجلس الأمة القضية وأصبح مطلب الإصلاح عبر عنوان توجيه الدعم لمستحقيه، في قلب توصيات اللجان المالية التي تداولت على الفصل في مشاريع قوانين المالية والميزانية.
ونجح ما يمكن وصفه برمي الملف للنواب في كسب مزيد من المؤيدين لهذا التوجه والطرح، وخصوصا نواب التجمع الوطني الديمقراطي ذي التوجه الليبيرالي، وانتهى الأمر بعد عقد من الزمن، بإدراجه رسميا في شكل مادة قانونية في مشروع قانون المالية للعام 2022 والمعروفة بالمادة 187 بعد حوالي 15 سنة من التركيز السياسي والإعلامي المسلط على القضية.
وفي تقرير لجنة التحقيق البرلمانية حول ندرة وارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية ذات الاستهلاك الواسع في السوق الوطنية، التي تشكلت عقب أحداث جانفي 2011 المعروفة بأحداث الزيت والسكر، أخذ إصلاح نظام الدعم الاجتماعي طريقه إلى توصيات اللجنة المشكّلة من نواب من أحزاب التحالف الرئاسي الأسبق والمعارضة، حيث جاء في التوصية 12 الدعوة لـ “فتح نقاش وطني مسؤول معمّق لمراجعة سياسة الدعم لاستهداف الطبقة الاجتماعية المستحقة لذلك، بمنحها مساعدة مباشرة ودعم الإنتاج بدلا من الاستهلاك للحد من المضاربة والتهريب وتحويل المواد المدعّمة لاستعمالات أخرى، وذلك قصد الحد من استنزاف المال العام”.
توصيات متكررة
وتكررت هذه التوصيات في مختلف تقارير اللجان المالية عند دراسة ميزانية القطاعات أو في تقاريرها، والتي تدعو في غالبيتها لـ “ترشيد التحويلات الاجتماعية طبقاً للسياسة المنتهجة من طرف الحكومة”.
وساهم مجلس المحاسبة عبر تقاريره التي تم رفع السرية عنها بداية من 2011 في توسيع دائرة الاهتمام بالملف، حيث لا تخلو تقاريره من تحليل ونقد وتصويبات لإصلاح سياسة التحويلات الاجتماعية. وفي تقريره ما قبل الأخير الصادر في 2019 وردت هذه التوصية الموجّهة للسلطات تدعو لـ “بذل المزيد من الصرامة والفعالية في منح التخصيصات بعنوان دعم الدولة للمنتجات الغذائية الأساسية والمنتجات الطاقوية لتغطية بعض نفقات قطاعي الصحة والتربية، وهذا من خلال استحداث ملف يستهدف الشرائح الاجتماعية الأكثر حرمانا”.
وشكّل تقرير مجلس المحاسبة محفّزا للنواب لانتقاد السياسات الحكومية وتقبّل أي سياسات حكومية في هذه المجال، وبعدما تقبّل النواب السابقين تقليص ميزانية الدعم الاجتماعي وزيادة أسعار الوقود والكهرباء والماء، أكمل الجيل الجديد من النواب، المسار بالموافقة على زيادات جديدة في أسعار بعض المواد الاستهلاكية كمادة السكر، وفي قيمة الرسوم على بعض الخدمات والذي يؤدي تدريجيا إلى مزيد من التضخم في الأسعار.
وفي الواقع لا يشعر البرلمانيون بالضغط الممارس على المواطنين نظير هذه الزيادات، بالنظر إلى حصولهم على تعويض محترم يكفل لهم مستوى معيشي مستقر في الحصول على منحة تقاعد تكفل لهم الوفاء بالمتطلبات العادية لأسرهم.
وفي ظل تراجع مراكز المقاومة وضعف التمثيل النقابي، تثير التوجهات الجديدة للحكومة، أسئلة حول نواياها المستقبلية وإن كانت لا تحمل نية خفية لتقليص تدخلها في قطاعات عدة، منها قطاعات الصحة والتعليم بشكل قد يزحزح الجزائر من صدارة قائمة الدول الأكثر عدالة في مجال توزيع الريع العمومي في منطقة الشرق الأوسط والشمال الإفريقي التي وضعها البنك الدولي.
ويبقى هذا الملف جديرا بالمتابعة…