من كتاب إيران: مستقبل المكانة الإقليمية 2020 – د. وليد عبد الحي

الثقافة السياسية في المجتمع الإيراني:

نقصد بالثقافة السياسية مجموع الاتجاهات والمعتقدات والمشاعر التي تشكل نظاما وتعطي معنى للعملية السياسية،وتقدم قواعد حاكمة لسلوك الأفراد حكاما أو محكومين.

ونظرا للعمق التاريخي للمجتمع الإيراني،والتنوع الإثني،وترسبات الثقافات الوافدة للمجتمع الإيراني،تشكلت الثقافة السياسية بكيفية افرزت عددا من الملامح لها:

1-مركزية مفهوم البطل في الثقافة السياسية:أي الربط بين التقدم السياسي وبين “الشخصية المتفردة بخصائص غير عادية” أو ما نطلق عليه اسم البطل.

غير أن هذا البطل في التاريخ الإيراني هو “بطل مغدور”،أي أنه شخصية قوية وشجاعة وتحكمها رؤية أخلاقية،لكنها تنتهي على الأغلب بطريقة تراجيدية ،وكأن القدر يتآمر عليها،وتتكرر هذه الشخصية في نموذج رستم،سياواش(Siyavash) أو أراش(Arash) أو الحسين بن علي أو مصدق.

وإذا غاب هذا البطل أنتظره المجتمع،وتبدو فكرة المهدي المنتظر كرؤية لمجتمع منجذب لمخلص يبعثه القدر،وبالتالي فإن سيكولوجية المجتمع الإيراني في بعدها السياسي تشتمل على نظرة تشاؤمية للتاريخ من ناحية(نظرا لتراجيديا البطل المتكررة وغلبة إحساس الضحية)،الأمر الذي دفعها لتبني فكرة “المهدي المنتظر” كتحايل أفرزه اللاوعي المجتمعي ليجعل الباب مفتوحا للخلاص من ناحية أخرى،بل إن تيار الحجتيين(Hojjatiya) في الفكر الشيعي يرى أن العنف والإضطراب دليل على أوضاع “تسرع مجيئ المهدي المنتظر ليملأ الارض عدلا”.

والملفت للنظر أن البهائية(أو البابية) التي تعود لمحمد علي الشيرازي(1819-1850) (والذي أدعى أنه “باب”الإمام الغائب،بل أنه –في مرحلة لاحقة_الإمام الثاني عشر) تأكيد لهذه المنظومة المعرفية،رغم ان رجال الدين الشيعة لا سيما محمد حسين بوروجردي لعبوا دورا في تأليب الشاه عليهم ومنع توظيفهم وتدمير معبدهم.

2-الصورة السلبية للبيئة الدولية،وقد تشكلت هذه الصورة بدورها امتدادا لتآمر البيئة على البطل،وتبدو هذه المسألة واضحة في تكرار الاشارة في الكتابات الإيرانية إلى تخلي البيئة عن الحسين،وتآمر البيئة على مصدق،والتآمر على الثورة الإيرانية -كما يعتقد الإيرانيون- منذ قيامها حتى الآن بدءا من الحرب العراقية الإيرانية إلى الحصار المتواصل على الدولة منذ ثلاثين عاما تقريبا.

وهذه الصورة السلبية للبيئة يتولد عنها بعد إيجابي يتمثل في تعزيز فكرة الاعتماد على الذات لحماية المجتمع والدولة،لأن الإتكاء على الضمانات الدولية والعهود والمواثيق لم تقدم للإيرانيين خبرة تاريخية إيجابية.

3-التنوع الثقافي:يحلل المفكر الإيراني عبدالكريم سوروش الثقافة الإيرانية استنادا لأبعاد ثلاثة،البعد القومي(فرهانقئي ميللي) والبعد الديني(فرهانقئي ديني) والبعد الغربي(فرهانقئي غربي)،ويرى ان هذا المزيج واضح في المدينة لكنه أقل وضوحا وبشكل كبير في الريف.

وبعد عام 1950،بخاصة فترة 1951-1953(ثورة مصدق)،كانت هناك محاولات لدمج الثقافة السياسية الغربية ومفاهيمها الاجتماعية المختلفة (الليبرالية والقومية والماركسية) بالفكر الإسلامي،رغم مقاومة بعض كبار رجال الدين مثل مرجع التقليد المحافظ آية الله بوروجردي(توفي عام 1961).

وفي الستينات من القرن الماضي،تنامى اتجاه الدمج بين الثقافات بين المفكرين الإسلاميين،وبرز في هذا الجانب مرتضى مطهري،ومحمد بهشتي،ومرتضى جزايري،ومحمود طالقاني،والذين كانوا يطرحون هذه الأفكار في الجمعية الدينية خلال الفترة 1960-1963 في طهران،وفي عام 1961 صدر مجلد يحمل عنوان”تساؤلات حول مبدأ المرجعيات” ناقش الباحثون فيه موضوع الحكومة الإسلامية والحاجة لمنظمات تمويل مستقلة لرجال الدين.

وتدل مقالة العلامة الطبطبائي بشكل خاص على الاهتمام الكبير بقضية الولاية”الولاء لحكم الأئمة”،حيث اعتبرها فكرة قابلة للتطور باتجاه فلسفة سياسية للحكم تستند للفقيه المسلم.

وفي نفس الفترة ظهر مجلد”مكتبي تشيعي”،وترافق معها بروز “حسينية إ ارشاد” خلال الفترة من 1965-1973،والتي سمحت بظهور المفكر المركزي في الفكر السياسي الإيراني المعاصر على شريعتي،لا سيما محاضراته المناهضة للإمبريالية والمتبنية لهموم العالم الثالث من منظور علم الاجتماع،لا سيما تركيزه على فكرة الحفاظ على الهوية الإسلامية.
وساند هذا الاتجاه كتاب جلال أل آحمد الذي حمل عنوان”غرب زديقي” وطرح فيه مصطلحا انتشر بشكل كبير في الكتابات الإيرانية اللاحقة وهو مصطلح”التسميم الغربي”( Westoxication) للثقافة الإسلامية،وشكل ردا على نزعة التغريب التي كانت السلطة السياسية تسعى لتعميمها..

وتزاحم هذا التوجه مع فكر سياسي آخر يعلي من النزعة القومية الفارسية،حيث يولي هذا التيار اهمية كبيرة للتاريخ الإيراني السابق على الإسلام،بل إنه يربط بين مشكلات إيران وتخلفها وبين”الغزو”العربي لبلادهم،وتبرز هذه النزعة في أفكار أغاخان كرماني،وفاتح علي،وأكوند زاده،وزين العابدين المراقيحي،كما يبرز في التأكيد على بعض الأعياد والعادات والتقاليد والدراسات التاريخية والأدبية التي تنطوي على نزعة إحيائية لتراث فارسي.

وتعود جذور هذه الحركة في التاريخ الإيراني الى فترات سابقة تمتد جذورها للحركة الشعوبية التي أشرنا لها سابقا،ولكنها تنامت في التاريخ الحديث بعد الحركة الدستورية عام 1905-1907،واندمجت مع إيديولوجية الدولة البهلوية بعد انهيار الدولة القاجارية،وعبرت عن نفسها من خلال أحزاب صغيرة مثل أريا،سومكا،حزب إيران الموحدة،وساهم مفكرون جدد في تعميق عداء هذا التيار للعرب والفكر الشيعي،وهو ما يتضح في كتابات صادق هدايات وأحمد كسروي.

وترتب على وجود هذا التيار تنامي التوتر بين الهوية الفارسية القومية وبين الهوية الإسلامية الشيعية،وامتد هذا التوتر للجوار،لأن خريطة كل من الهويتين ليست متطابقة مع الأخرى،حيث يمتد المذهب الشيعي لمناطق مختلفة عن امتداد الهوية الفارسية لا سيما من خلال بعدها المركزي وهو اللغة الفارسية التي استخدمها البريطانيون للإدارة في الهند حتى عام 1834،وانتشرت في أفغانستان وطاجيكستان وأوزبكستان. ،بل إن الخوميني قال بأن الفارسية”هي لغة الثورة” (( ،كما أكد هذا التيار على تسمية الخليج الفارسي.

وترافق مع هذا التوتر،نزعة فارسية استعلائية تجاه العرب تتغذى على إحساس تاريخي حضاري لدى الفرس،وهو أمر نتلمسه-كما ذكرنا سابقا- في تكرار الاشارة بين الكتاب الإيرانيين للمساهمة الكبرى للمفكرين الفرس في إثراء الحضارة الإسلامية من ناحية ،ومن ناحية اخرى في إحساس إيراني بالانتماء إلى “العرق الآري” وعالم الحضارات المستقرة قياسا للثقافة العربية البدوية البدائية،ويربط الكتاب الإيرانيون بين مدنية التشيع(أي أنه ظاهرة حضرية) الممتزجة بالأسطورة وبين “حرفية النص البداوي”..

وتذهب هذه النظرة الاستعلائية لدى هذا التيار إلى مقابلة بين منظومة معرفية فارسية واخرى عربية،فترى في الأولى عقلية علمية تقابلها لدى الثانية شخصية عاطفية،كما ترى الأولى نموذجا للعقلانية التي تتبدى في الذكاء والصبر في المفاوضات والمهارة في إدارة المفاوضات، والبراغماتية التي تمتد جذورها إلى مبدأ التقية في الفكر الشيعي،بل إنها ترى في الشخصية الفارسية شخصية ميالة للتدين (رغم ان النظرة لرجال الدين في المجتمع الإيراني يغلب عليها عند قطاع من الشعب الشك وعدم الإحترام كما أن الدراسات الميدانية لا تؤكد صحة هذا التصور) مقابل نزوع مادي لدى العرب.

4-النزعة البراغماتية:يمكن تعريف البراغماتية بأنها الحكم على صحة فكرة ما بمقدار النفع المترتب عليها،ويعيد بعض الباحثين وجود النزعة البراغماتية في الفكر السياسي الإيراني إلى التزاوج الذي حصل في التاريخ الحديث بين ثقافة البازار والإرث الفكري الديني،حيث تميل ثقافة البازار إلى الرغبة في الربح السريع والاستعداد للتفاوض والمساومة،كما تنطوي ثقافة البازار على الانتهازية والقابلية للرشوة،أما الفكر الديني فيتمثل في أن مبدأ التقية في التراث الشيعي يمثل نوعا من البراغماتية،أي الميل إلى “التظاهر”بقبول الواقع رغم رفضه من الناحية الوجدانية والعقائدية.

وقد انعكس هذا المزيج من الثقافة الشيعية وثقافة البازار على الديبلوماسية الإيرانية من خلال سمات ثلاث:
أ-الغموض الذي تمتد جذوره إلى مبدا التقية.
ب-عدم المباشرة والتركيز على التلميح للموضوع وعدم وضوح الهدف النهائي(ثقافة التاجر في البازار)
ج-المماطلة انتظارا لتغير الظروف،وهو تعبير عن الصبر في الثقافة الشيعية.
5-ثقافة التغيير: تنطوي الثقافة السياسية الإيرانية ايضا على بعد آخر نراه مهما،فالشيعة في التاريخ الإسلامي لم يتسلموا السلطة إلا لفترات قصيرة وقلقة،ولعبوا في معظم تاريخهم دور المعارضة،وهو الأمر الذي عمق لديهم مسالتين هامتين:

أ‌- خبرة التنظيمات السرية:إذ يرتبط أغلب تراث التنظيمات السرية في التاريخ الإسلامي بالتراث الشيعي او التراث الذي له صلة بطريقة أو أخرى بهم،وهو امر يفسر صلابة التنظيمات الشيعية مقارنة بغيرها في المجتمعات الإسلامية.

ب‌- أثرى وجود الشيعة لفترة طويلة في كرسي المعارضة ثقافة سياسة التغيير، شأنهم في ذلك شأن كافة حركات المعارضة في التاريخ كله،بينما نجد أن ثقافة الحفاظ على الأمر الواقع تكرست في الفكر السياسي السني بحكم وجود السنة في السلطة في أغلب المراحل،واعتبارهم حركات التغيير بأنها “فتن”.

6-مركزية المذهب الشيعي:من الواضح ان البعد الشيعي اصبح نقطة الارتكاز للهوية الإيرانية وذلك لعوامل ثلاثة:
أ-ان المذهب الشيعي يشمل اكبر قدر ممكن من السكان(حوالي 90%)،وهو ما يساهم في مساعدة الدولة على تجاوز الولاءات الأخرى العرقية او اللغوية او غيرها.

ب-إن إحساس الشيعة بانهم أقلية في العالم الإسلامي يعزز تماسكهم،وهو ما سنلاحظه في الفصول القادمة من الدراسة.

ج-أن إحساس الشيعة بان إيران هي “الدولة المركز”(Core State) سيعزز الشعور باهميتها والعمل على بقائها وضرورة الدفاع عنها.

وتظهر مركزية البعد المذهبي في توجهات الراي العام الإيراني ،ففي استطلاع للرأي صنف الإيرانيون أنفسهم بانهم شيعة بنسبة 50% ،ومسلمون 26%،وإيرانيون 19%،وهو ما يعزز الفكرة السابقة.

غير أن قوى أخرى في المجتمع الإيراني حاولت أن تزاوج بين الأبعاد السابقة كلها على النحو التالي:

أ-المزاوجة بين الليبرالية والقومية:ويمثل هذا التيار كتاب مثل ميرزا مالكولم خان ،وحسن تقي زاده،وعبر عن نفسه في حركات سياسية كحركة التأميم والجبهة القومية 1951-1953.

ب-المزاوجة بين الدين والقومية:وهؤلاء ينادون بتوحيد الشعوب الآسيوية المسلمة لمواجهة الغرب كوسيلة وحيدة للدفاع عن هذه الشعوب،وهو ما يبرز في كتابات سيد حسن مدرسي وجمال الدين أسد أبادي.وتجسدت افكار هذا الاتجاه حركيا في جمعية المحاربين المسلمين(آية الله كاشاني الذي كان ضمن الجبهة القومية) وحركة مجاهدي خلق،وبرزت كتابات من شخصيات تناصر هذا الاتجاه مثل الخوميني ورفسنجاني ومطهري وطالقاني.

ج-المزاوجة بين القومية والاشتراكية:ويميل هذا التيار إلى وضع الدين في الظل،ككتابات طالبوف وحيدر عمو أوغلي وعلي اكبر ديخودا،ثم أصبحت أكثر عمقا في فترة الخمسينات من القرن الماضي في كتابات خليل مالكي،وتحولت لعمل تنظيمي في السبعينات يسعى لتعميم هذا التوجه كما هو حال منظمة فدائيي الشعب.
ومع انتصار الثورة عام 1979،بدأت هذه التيارات بالتواري قسرا أو طوعا أمام غلبة التيار الديني،وتمحور الفكر السياسي حول فكر الخوميني، والذي تعد فكرة “ولاية الفقيه” هي نقطة ارتكازه في مجال بناء النظام السياسي،وهي فكرة سنعود لها عند مناقشة النظام السياسي الإيراني المعاصر.

لقد اشرنا في غير موضع من هذه الدراسة إلى علي شريعتي،وهو مفكر ترك بصماته على قطاع هام من النخب الفكرية الإيرانية،وسنحاول أن نتوقف عند أبرز افكاره لما له من اثر على تشكيل الوعي الثقافي للمجتمع الإيراني المعاصر.

يرى شريعتي ان الدين يمثل قوة تغيير وتقدم نحو أفق غير الذي كان في العصور الإسلامية الأولى،كما أنه افق مختلف عن حاضر الغرب الراهن،ولا يرى شريعتي فائدة من البحث عن مفهوم الشيعية الحقيقي في الدين الذي تمأسس منذ القرن السابع الميلادي،بل في “دعوة الإمام علي بن أبي طالب للعدالة الإجتماعية والمساواة،وإن سلسلة الأئمة في المنظور الشيعي تعني مستقبلا مفتوحا غير مغلق على حقيقة تمت معرفتها وانتهى الأمر،ويتم ذلك من خلال فلسفة”التأويل” الذي يعني أن هناك في النص معنى مختف لا بد من إمام يكشفه.

وشكل شريعتي أحد اعمدة الإنفتاح في الثقافة الشيعية المعاصرة بدعوته لترجمة الأديان الأخرى والأفكار الأخرى إلى الفارسية وإجراء مقارنة بينها وبين الإسلام(وهو أمر واصله عبدالكريم سوروش في بحث عنوانه “الصراط المستقيم”،بحث فيه الإسلام المتعدد لا الأحادي،أي ان الطريق إلى الله تمر عبر مسارات متعددة).

ولا بد من إدراك أن النظام الشيعي لا يعترف بوجود سلطة “فكرية” واحدة،فالمجتهد له الحق في تبني ما يشاء من التفسيرات وليس لأحد الحق في أن يخطئه،وهو ما أسس لنوع من الديمقراطية في الحوزات العلمية،وعبر آية الله منتظري عن ذلك بضرورة ان يسود رأي الأغلبية ولا تمنع الأقلية من طرح رأيها المخالف ، وهو أمر انعكس على بنية النظام السياسي وكيفية ممارسته للديمقراطية كما سنرى لاحقا.

ويضع شريعتي تصوره لتطوير الفكر الإسلامي وقبول التلاقح الثقافي من خلال بعض العبارات التي يستدل منها على توجهه كقوله”أن لعلي قلب شرقي وعقل غربي”، و”أن الإنسان موجة وليس شاطئا..إنه في حركة”،وهي عبارات يمكن ادراك مضمونها الداعي إلى التوفيق بين التشريع الإسلامي والفلسفة والسعي الشيعي لتطوير منظورهم مع منظور العصر
وقد نظر شريعتي للإسلام “كآيديولوجية لا كثقافة”،ويرى ان لدى المجتمعات نوعين من التوقعات ،أحدهما سلبي والآخر إيجابي،الأول يؤدي إلى الإندثار لأنه يدعو للإقرار بالأمر الواقع والثاني هو الذي يدفع نحو الأمام ونحو الحركة باتجاه التقدم والمستقبلية،وعليه فالثورة لن تأتي بالإنتظار والصلاة والسلبية بل بالسيف والجهاد،وعليه فإن انتظار الإمام يعني التمهيد لعودته بالسعي للتغيير.

Please subscribe to our page on Google News
Walid Abdulhay
Walid Abdulhay

كاتب باحث أكاديمي أردني عمل في عدد من الجامعات العربية، وعمل رئيسًا لقسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك، ومستشارا للمجلس الأعلى للإعلام ...

المقالات: 171

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *