محمد المناعي- باحث في الجغرافيا السياسية _تونس
أعادت الحرب الروسية الأوكرانية إلى سطح الأحداث النقاش حول التوازنات الدولية المختلة ومؤشرات بناء قوة شرقية وازنة تعدّل كفة الهيمنة الأمريكية المطلقة على العالم منذ سقوط جدار برلين . هذا التوازن بصدد الولادة من رحم صراع محتدم على مسالك نقل السلع وعلى الأسواق الاستهلاكية الكبرى وحول منابع الطاقة ومسالك توزيعها واستغلالها وكذلك الصراع من أجل توسيع نفوذ قوى صاعدة مقابل محاولات صمود القوة الأبرز الولايات المتحدة الأمريكية .
هذا الصراع اعتمد على أساليب تقليدية من عقوبات اقتصادية واختراق متبادل وصولا إلى الغزو المباشر وأخره الغزو الروسي لجارتها أوكرانيا وكذلك استعمال وسائل مستحدثة من قبيل تغذية النزعات المتطرفة والإرهابية ( داعش والقاعدة وبوكو حرام وغيرها ) والتيارات القومية والانفصالية الجديدة التي تشق مختلف بلاد الشرق من شرق أوروبا إلى شرق أسيا مرورا عبر الشرق الأوسط البيئة الأكثر جاهزية للصراعات الطائفية ،هذه الوسائل جعلت من دمشق وكييف في قلب معركة إعادة التوازن للعالم ما بعد 11 سبتمبر 2001 .
الأزمة السورية في جوهر معركة الغاز الطبيعي
كانت سوريا ولا تزال محورا من المحاور الأساسية للجغرافيا السياسية للشرق الأوسط فهي لاعب أساسي في التوازنات الطائفية والإثنية في المنطقة بتنوعها السني والعلوي والدرزي والكردي وامتدادات هذه التشكيلات في الدول المحيطة ، ولاعب رئيسي في توازنات الدول المجاورة خاصة لبنان مع ماض طويل من التدخل في موازين القوى الداخلية لهذا البلد الهش سياسيا وكذلك رقم صعب في علاقة بأمن إسرائيل وفي تشعّبات القضية الفلسطينية بانتكاساتها وانتصاراتها .
سوريا اليوم ومنذ أكثر من عقدين تمثل ذراعا طولا للمحور الشيعي الذي يمتد من إيران إلى العراق إلى حزب الله اللبناني والمتشابك مع الذراع الشيعي الجنوبي الذي يخترق أغلب دول الخليج طائفيا وعبره سياسيا وصولا إلى اليمن عبر الحوثيين … لكن أساسا محور معركة الطاقة في المنطقة فكيف ذلك ؟
في بدايات الألفينات عززت قطر صاحبة ثاني مخزون من الغاز الطبيعي في المنطقة والثالثة عالميا ب17 % من الاحتياطي العالمي،علاقاتها مع النظام السوري ورفعت في استثماراتها واتفاقياتها المشتركة ودعّمت علاقتها بدول مجلس التعاون الخليجي استعدادا لتنفيذ مشروعها العملاق المدعوم أمريكيا وغربيا ، وهو مشروع أنبوب الغاز السني الذي ينطلق من قطر مرورا عبر المملكة العربية السعودية والأردن وسوريا وتركيا نحو أوروبا والذي ستحقق به قطر وأمريكا وأوروبا عدة أهداف في أن واحد بحجر أهمها :
– الضغط على تكلفة النقل بتصدير الغاز القطري عبر الأنابيب وتعويض الناقلات العملاقة واختصار المسافة لتزويد أوروبا بالغاز مما يحقق مزيد من النجاعة واستقرار في التزويد وإيرادات مالية إضافية لقطر.
– تزويد أوروبا ب الغاز والحد من تبعيتها للغاز الروسي الذي يمثل أكثر من 40 % من وارداتها للغاز حاليا هذه التبعية التي تصل إلى 100 % تقريبا بتشيكيا ونسب متفاوتة بين باقي الدول الأوروبية وتنويع مصادر التزود .
– تحقيق هدف استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية برفع اليد الطاقية لروسيا على حلفائها الأوروبيين وخاصة دول حلف شمال الأطلسي ويوفر الغاز من مصدر تابع جيوسياسيا للمحور الغربي وهي قطر والسعودية.
والهدف الأساسي تحرير صادرات الغاز القطري من مراقبة إيران لمضيق هرمز الذي يجعل من واردات الغرب للمحروقات الخليجية نقطة الضعف التي تحول دون استهداف مباشر لإيران ، هذه القوة الاقليمية الصاعدة التي تتحكم في مصير حركة نقل المحروقات الخليجية .
بالتزامن مع مشروع أنبوب الغاز القطري ، تقع سوريا على محور أنبوب الغاز الشيعي الذي ينطلق من إيران مرورا عبر الجنوب العراقي الشيعي ثم سوريا فالبحر الأبيض المتوسط وصولا إلى أوروبا .
وغير بعيد شمالا ينطلق مشروع أنبوب الغاز الروسي الذي يمر عبر البحر الأسود غير بعيد عن الحدود الجنوبية لأوكرانيا وصولا إلى الاتحاد الأوروبي عبر بلغاريا .
ويعتبر أنبوب الغاز الشيعي شريان رئيسي لتصدير غاز إيران صاحبة ثاني أكبر احتياطي في العالم أقل تهديدا للصادرات الروسية باعتباره ينتمي لمحور معاد للولايات المتحدة الأمريكية وله علاقات مترابطة اقتصاديا وعسكريا مع روسيا وتنسيق متواصل للتحكم في الإنتاج والتصدير والأسعار والتزويد.
هذه المصالح الطاقية والاقتصادية المتشابكة جعلت من سوريا محورا للصراع في المنطقة خاصة بعد تعزز الدور العسكري للمحور الشيعي بتطوير إيران لقدراتها النووية وبإحراز حزب الله لانتصار حاسم على إسرائيل في جنوب لبنان سنة 2006 وتحوله إلى قوة سياسية مهيمنة على جزء هام من القرار في لبنان ، وضعت جميعها سوريا في قلب التوازنات ورجحت الكفة لصالح المحور الإيراني – الروسي .
توترت العلاقات القطرية السورية منذ 2009 واتجهت قطر لمشروعها القائم على تغيير النظام السوري بالتنسيق مع النظام التركي في إطار مشروع سياسي إخواني هيمن على الحكم في تركيا بزعامة حزب العدالة والتنمية، فضخت قطر أموالا طائلة لدعم الجماعات الاخوانية في كل من فلسطين (حركة حماس التي غادرت سوريا لتستقر في قطر منذ 2012 ) أو في تونس التي نجح الإخوان في الهيمنة على السلطة سنة 2011 وفي المغرب عبر حزب العدالة والتنمية وفي مصر بعد قلب نظام مبارك وهيمنة الإخوان على السلطة وكذلك في ليبيا بالدفع نحو قلب نظام القذافي بالتعاون مع التحالف الغربي…وخاصة في سوريا حيث مولت قطر وتركيا أساسا وكذلك السعودية وبدرجة أقل الأردن التمرد المسلح لقلب نظام الحكم في سوريا وكذلك دعم التمدد في العراق عبر مشروع الدولة الإسلامية في العراق والشام بالتعاون مع المخابرات الغربية والغطاء السياسي الأمريكي والفرنسي تحديدا . وكان الذراع الإعلامي لقطر المتمثل في شبكة الجزيرة فاعلا في توجيه الرأي العام العربي والداخلي لهذه البلدان غير المستقرة سياسيا .
لم تكن سوريا بمفردها في مواجهة التحالف الاخواني و المال الخليجي والتورط الغربي في دفاعها عن وحدتها الترابية بل كان المحور الروسي الإيراني ( مباشرة أو عبر حزب الله اللبناني ) في مقدمة الداعمين عسكريا وسياسيا ، فسقوط النظام السوري كان سيمثل ضربة اقتصادية قاسمة للمشروع الطاقي والإقليمي الإيراني وكذلك تهديدا واضحا للنفوذ الطاقي الروسي في الوقت الذي تتململ فيه دول الاتحاد الأوروبي لتعويض الغاز الروسي ومحاولات حلف شمال الأطلسي قضم جزء من المجال الحيوي الروسي خاصة في جورجيا وأوكرانيا .
صراع النفوذ الروسي – الصيني و الغربي وطريق الحرير الجديد
الصراع الأمريكي الروسي الذي لم يهدأ عبر الأزمات المتفجرة في منطقة الشرق الأوسط والقوقاز وليبيا (دعم الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر ) وإفريقيا (التدخل الروسي غير المباشر في الساحل الإفريقي وتأييد إنهاء التواجد الفرنسي في مالي ) وفي شرق أوروبا وأخيرا في أوكرانيا هي محاولات روسية لاستعادة المجد السوفياتي عبر مشروع توسعي يقوده الرئيس بوتين عبر نسج تحالفات في أسيا واستعمال القوة لإخضاع كل من جورجيا ( انفصال أوسيتيا وأبخازيا ) وأوكرانيا ( انفصال شبه جزيرة القرم و الدومباس ) وتتواصل هذه الأيام الحرب على النظام الأوكراني الحليف للغرب .
يقابل الطموح الروسي في التوسع محاولات أمريكية للتصدي لهذا الطموح في استعادة لعبارات وممارسات الحرب الباردة بين القوتين وخاصة وهو الأهم السعي الأمريكي لعرقلة لزرع ألغام في طريق الحرير الجديد المشروع الصيني العملاق الذي أعلن عنه منذ حوالي عشر سنوات لانجاز:
– أطول خط حديدي يربط الصين بكازاخستان وروسيا وبيلاروسيا وصولا إلى أوروبا عبر بولونيا وألمانيا .
– وأطول طريق سيارة تربط الصين بأوروبا مرورا عبر دول أسيا الوسطى وإيران والعراق وسوريا وتركيا وشرق أوروبا وروسيا وأيضا أوكرانيا وصولا لبلجيكا وفرنسا وايطاليا …
– مشروع الطريق البحري الذي يحزّم جنوب شرق أسيا ويمر عبر الهند ومنطقة القرن الإفريقي ومصر وصولا إلى أوروبا .
وما يرافق هذا المشروع من استثمارات صينية عملاقة في مجال البنى التحتية وربط اقتصاديات دول العبور للمسالك الثلاثة بالاقتصاد الصيني .
هذا المشروع يمثل التهديد المباشر للاقتصاد الأمريكي ويجعل من هذه المنطقة تحت الإشعاع التجاري للعملاق الصيني وأيضا حلقات من سلسلة مصالح سياسية وجيواستراتيجية متصلة بين دول المعبر والصين وروسيا مما يحجم نفوذ أمريكا في منطقة حيوية في الاقتصاد العالمي.
وما الأزمات في سوريا وإيران وأوكرانيا والايغور شرق الصين وإقليم تيقراي الأثيوبي وأفغانستان وغيرها سوى ألغام تفجر هنا وهناك وتحاول الولايات المتحدة إطالة هذه الأزمات وتعقيدها لعرقلة هذا المشروع المهدد للسيادة الأمريكية على العالم .
إن نجاح المحور الشرقي في كسب الحرب في سوريا وتوفير الغطاء السياسي والعسكري للنفوذ الايراني في المنطقة ووضع حد لطموحات حلف شمال الأطلسي في أوكرانيا وجورجيا يؤسس لتوازن قديم مستجد بصيغ أخرى وقوى إقليمية قديمة متجددة متمثلة في الصين وروسيا وكذلك قوى إقليمية صاعدة في مقدمتها الهند وإيران ويفتح نافذة على خامات إفريقيا وأسواق أوروبا وسيكون محور هذا الصراع والتوازن ثنائية الطاقة والأسواق التجارية وحطبها الأزمات الكامنة والمتفجرة الاثنية والطائفية والعرقية وهو ما سيجعل الحدود في السنوات القليلة القادمة متحركة والثقل يتجه تدريجيا من شمال المحيط الأطلسي إلى القارة الأسيوية وستظل الأطراف ( سوريا ، فلسطين ، أوكرانيا ،اليمن ، القرن الإفريقي ، البلقان …) ملتهبة وحطبا لصراع طويل .