مؤلف الكتاب عدوٌ خطيرٌ ماكر؛ لذا يجب قراءة الكتاب بحذرٍ وتمعّن، وقراءة ما بين السطور؛ فقد تنخدع وللوهلة الأولى بموضوعية (بيريز ) وهو يتحدث عن فشل الحرب وأهمية السلام، ولكن سرعان ما ستكتشف أن هذا السياسي الـمُخضرَم إنما يدُس السمّ في العسل، وأن دعوته الظاهرية للسلام لا تُخفي استراتيجية (إسرائيل ) التوسّعية، وهي قناعة تقوم على ضرورة استمرار هيمنة (إسرائيل ) على الـمنطقة، وإن اختلفت الوسيلة وتغيرت من دبابة إلى بضاعة متقنة الإنتاج. غير أن هناك بعض الاعترافات التي أُجبر (بيريز ) على تدوينها، ليس أقلها أن الحروب التي خاضتها (إسرائيل ) لم تستطع أن تضمن لها النصر النهائي، ولا حتى الأمن، واعترف أيضًا أن الانتفاصة كانت الذخيرة الحية، والنضال الذي أكّد فشل الأمر الواقع، الذي صُمم لغرض فرض نظرية الأمن الإسرائيلية.
بعد انتخاب (إسحاق رابين ) رئيسًا للوزراء عام 1992م، عرض عليّ تولِّي حقيبة الخارجية، وكانت الحكومة السابقة قد وضعت آلية ثابتة ومعقّدة للمفاوضات، كان أشدّها تعقيدًا مسألة التّمثيل الفلسطيني؛ فقد اتُّفِقَ في البداية أن يكون الوفد مـُمَثِّلًا لفلسطينيّي الداخل، وأن يكون الـمُفاوَضون هؤلاء ممن لم يشاركوا في أي أعمال إرهابية، وممن وافقوا على فكرة الفترة الانتقالية لمدة خمس سنوات قبل التفكير بإقامة الدولة الفلسطينية، كما اتُّفق وقتها على استبعاد ممثّلين من المنظمة أو المجلس الوطني الفلسطيني.
ولكن الواقع كان مختلفًا تمامًا؛ فقد نجحت قيادة المنظمة في الإمساك بالخيوط، وحددت تشكيل الوفد المفاوض في (أوسلو )، وكان (ياسر عرفات ) قد نجح في الوصول إلى مركز يصعُب الوصول إليه – والأصعب من ذلك تجاهله – ؛ فقد أضحى رمزًا وطنيًا وأسطورة في أعين الفلسطينيين . وصلت المفاوضات في (أوسلو ) للنتيجة التي طلبناها، وتحقَّق ما تمنيناه: التنازل عن (أريحا) – كمؤشر للاستمرار في المفاوضات – ومن بعدها (غزة )؛ وذلك لتخليص أنفسنا من هذا العبء المستحيل؛ فقد كانت بؤرة مشاكل بالنسبة لنا؛ لذا كان من الأفضل التنازل عنها، والسماح لمنظمة التحرير بالتواجد هناك ومواجهة مشاكل القطاع، وهو ما وصلنا إليه!
لسنوات كان الاعتقاد السائد بين الناس أن العلاقات بين (إسرائيل ) ومنظمة التحرير معدومة تمامًا، وأن المصائب عند طرف ستكون فوائد عند الطرف الآخر؛ فهل كان انهيار المنظمة سيفيد (إسرائيل )؟ وفي حالة ما إذا اختفى العدو الأكبر الذي حاربناه لسنوات؛ فمن سيحل محله؟ هل يمكن أن تكون حركة (حماس ) البديل الأفضل؟ لذا برزت حقيقة مؤدّاها أن من مصلحة (إسرائيل ) القبول بدور للمنظمة على المسرح السياسي، وهو ما تم في حديقة البيت الأبيض بالمصافحة التاريخيه بين (رابين ) و(ياسر عرفات )، وتبادل الاعتراف بين المنظمة و (إسرائيل ). بعدها انتقلتُ للخطوة التالية: كيف يمكن بناء شرق أوسط جديد؟ فالاتفاق في (أوسلو ) والاحتفال في (واشنطن ) لم يكونا سوى العتبة التي يمكن أن نقفز من عليها إلى ما بعدها.
2- الكل خاسر في الحرب
يتعيّن علينا أولًا – وقبل كل شيء – أن نعترف بِعُقْم الحرب؛ فالعرب لا يستطيعون هزيمة (إسرائيل ) في أرض المعركة، و (إسرائيل ) لا تستطيع إملاء شروط السلام على العرب؛ فبعد حرب الأيام الستة في (1967م )، والانتصار الساحق الذي حققته (إسرائيل ) وقتها، راح وزير الدفاع (موشي ديان ) ينتظر – عبثًا – مكالمة هاتفية من الزعماء العرب، عِوضًا عن ذلك جاءت (اللاءات ) الثلاثة من قمة (الخرطوم ): لا للاعتراف بـ (إسرائيل )، لا للتفاوض، لا للصلح. ولم تكد تمضي بضعة أيام حتى أطلق (جمال عبد الناصر )، القول المعروف: “ما أُخذ بالقوة لن يُسترَد إلا بالقوة “، وهكذا فإن (إسرائيل ) كسبت لنفسها مشكلات أمنية جديدة خلال (حرب الاستنزاف )، أما النفير الذي انطلق خلال ساعات الظهيرة في ذلك اليوم المصيري من عام (1973 م )، فقد أنهى عهد السكينة الإسرائيلي، وفجّر فقاعة ثقتها المنفوخة بالنفس، وتعرضت (إسرائيل ) إلى خسائر فادحة، ودفع جيل من المجندين حياته ثمنًا للدفاع عن وطننا.
لذا لم تعد الحرب عديمة الغاية فقط، بل إن الرغبة في حكم أمة أخرى والسيطرة عليها لم تعد ممكنة، والانتفاضة الحية التي يحملها هؤلاء الشباب (الفلسطينيون ) لدليلٌ على عقم الأمر الواقع، الذي صُمّم لفرض أمن (إسرائيل )؛ فلقد تولدت مع الحرب على (لبنان ) تكتيكات مثل مهاجمة العُزَّل، وراكبي الباص، والأطفال الذاهبين إلى المدارس، وكلها كانت نتيجة القرار الخاطئ الذي اتخذته الحكومة الإسرائيلية بغزو (لبنان )؛ فالأمة التي تفرض نفسها على أخرى بسبب الدفاع عن النفس، تفقد الإرادة على منع النفس من ممارسة القمع؛ وذلك بسبب ديناميكيات الغزو؛ فأُجبرت قوات الدفاع الإسرائيلي على أن تغدو في الواقع ثكنة حامية، واقعة تحت رحمة فتيان ملثّمين، يندفعون في الطرقات شاهرين الخناجر والمسدسات، مُطلقين أقذع النعوت ضد الحكم العسكري الإسرائيلي.
إن حربًا أخرى على هذا النمط تعني نحر الضحايا للاشيء، وخسائر فادحة من الأرواح، ومعاناة بشرية، وأضرارًا مالية، وبيئة تبلغ من الضخامة حدًا تستحيل معه مساحات واسعة من المنطقة إلى أرضٍ يباب. إن الحرب لا تحل أيًا من المشكلات، أما السلام فهو الحل، ولقد بينت نتائج اتفاقنا مع مصر، أن بوسعنا إقامة علاقة سليمة مع جيراننا، وأن بوسعنا العيش لكي نرى اليوم الذي تغدو فيه الأمم متحررة من أحزان الحرب.