وليد عبد الحي
عندما وضع صموئيل هنتينغتون فكرته حول الصدام الحضاري اعتبر أن الدين واللغة(المقومان الاساسيان للهوية الحضارية) سيجعلان السمة العامة للحروب القادمة حروبا حضارية ، رغم ان الموسوعة الحربية تشير الى ان حوالي 6% فقط من حروب التاريخ كانت حروبا دينية. ويرى الكسندر دوغان أن الحرب الأوكرانية هي حرب على ” التقاليد الارثذوكسية بما في ذلك نزعتها الروحية وقيم العائلة فيها والمجد التاريخي لروسيا”، رغم ان النظرة الى البنية السوسيولوجية الاوكرانية والروسية معا لا تدعمان اي من المفكرين هنتينغتون أو دوغين، فاغلب المجتمع الروسي والاوكراني من المسيحيين، بل ومن نفس المذهب الارثذوكسي، ففي اوكرانيا 87% من شعبها من المسيحيين، (منهم 67% ارثذوكس-10% كاثوليك و 2 % بروتستنت ، والباقي مزيج من المذاهب الفرعية او غر المنتمية) وفي روسيا يمثل الأرثذوكس حوالي 87 % من السكان ، وعليه فان الدولتين المتصارعتين مسيحيتان وتحتلا المرتبة الاولى والثانية في عدد أتباع المذهب الارثذوكسي سكانيا.
من جانب آخر فان اوروبا الكاثوليكية( بخاصة الوسطى والغربية) يشكل الكاثوليك فيها 38%، ويميل نسبة هامة منهم لتصعيد الصراع مع روسيا، اما البروتستنتينية التي تتمركز بشكل أعلى في شمال اوروبا (اكثر من 85%) وفي بريطانيا(55%) وامريكا (52%) فهي الاكثر حماسا للجم الصعود الروسي.
ذلك يعني أن الدين في هذه الحرب لا مكان له ، فهم مسيحيون جميعا، واذا نظرنا للأمر مذهبيا فان الصراع في بؤرته المركزية يدور بين بلدين ارثذوكسيين.
من جانب آخر ، فان كثيرا من الادبيات الاسلامية ترى ان الغرب ” المسيحي ” لا هم له إلا اشعال النار في ديار المسلمين لتحطيم الدين الاسلامي ، وهنا كيف نفسر من هذا المنظور الحرب الاوكرانية (وغيرها عبر التاريخ) حيث يطحن المسيحيون عظام بعضهم بغض النظر عن الدين والمذهب الواحد ؟ بل يبدو الموقف الرسمي العربي والاسلامي في معظمه اقرب الى المعسكر الكاثوليكي البروتستنتي منه للمعسكر الارثذوكسي رغم ان الموقف الارثذوكسي اقل سوءا نسبيا من المذاهب المسيحية الاخرى تجاه القضايا العربية، والاعلام العربي الاسلامي بدءا من قناة الجزيرة(الذراع الاعلامي الاذكى للاخوان المسلمين) وقناة العربية واغلب قنوات الخليج وبقية القنوات العربية تهلل وبشكل واسع لاية انتكاسات روسية وتسهب في تغطيتها مقابل اعلام اسلامي اقل انتشارا (واغلبه مرتبط بكيفية او اخرى بايران وسوريا واحيانا الجزائر) يغض الطرف عن الانتكاسات الروسية ويهرب لموضوعات اخرى او يهلل لاي تقدم روسي..
لقد راى هنتينغتون ان الكونفوشية والارثذوكسية حضارتان تكمن داخلهما بذور صراع محتمل، ورآى ان الحضارة الاسلامية هي الاكثر احتمالا للتقارب مع الكونفوشية استنادا لمقياس المسافة السياسية الذي اعتمده والذي أزعم انه سرقه حرفيا من نموذج كلينغبيرغ الذي وضع المقياس قبل 55 سنة من نموذج هنتينغتون، اما دوغين والذي كان الأكثر حذرا في كتابه اسس الجيوبولتيك (Foundations of Geopolitics) من الصين والاكثر ميلا لليابان معتبرا الصين القاعدة الجيبوليتيكية للأنجلوسكسونية، نرى ان الرسائل المتبادلة بين بوتين وتشي بنغ تنم عن تطور هادئ وعميق في الشراكة الاستراتيجية بين البلدين خلافا للتنظير الدوغيني ولو الى حين.
لا يمكن انكار الدين في الصراع الدولي المعاصر انكارا مطلقا، لكني اعتقد انه كثيرا ما كان سرابا “يحسبه الظمآن ماء ” ، لكني اميل ألى ان الصراعات الدولية في جوهرها حاليا (مع مراعاة بعض الخصوصات العابرة ) هي بين النموذج المعاصر المتمثل في قوى الترابط( العولمية ) بغض النظر عن النظرة المعيارية لها (خيرا او شرا) وبين النموذج التاريخي التقليدي المتمسك بالهويات الدينية والقومية ، وخلال تراجع النموذج القديم هناك مرحلة انتقالية تتمثل في بناء كتل دولية متحللة من الجغرافيا السياسية والجغرافيا الاستراتيجية او ما اسماه المفكران الفرنسيان ديلوز و غوتاري (Gilles Deleuze and Félix Guattari’s) ب ” اللامكانية او اللامناطقية” (Deterritorialization)، ولكن هذا التحول يتم بتكيف تدريجي طوعا حينا وكرها حينا آخر، وما البريكس وشنغهاي والناتو والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية وشبكات الترابط التقني والتجاري والسياسي والاجتماعي الا مؤشر “مراهق” على هذا التحول ، ويبدو ان نظرية دوركهايم هي الأقرب في تفسير العلاقة بين الروابط العضوية وتفكك الروابط الآلية، ومن الضروري النظر للمسألة على اساس الاتجاهات الأعظم (Mega-trend) لا على اساس الحالات العابرة او الاتجاهات الفرعية، مع الافتراض بان حركية التحول ستأخذ منهجا جدليا هيغليا ربما بمديات زمنية اطول…ربما.