مقال فلسفي حول إذا كانت اللغة تشكل عائقا للفكر، فهل يجب رفضها ؟

أولا – ملخص لفهم موضوع اللغة تشكل عائقا للفكر.

اللغة هي الوسيلة الأساسية التي نعبر بها عن أفكارنا وننقل بها المعرفة بين الأفراد والمجتمعات. وقد أثارت العلاقة بين اللغة والفكر العديد من التساؤلات الفلسفية عبر العصور. من بين هذه التساؤلات: هل يمكن أن تكون اللغة عائقاً أمام الفكر؟ وإذا كانت كذلك، فهل يجب علينا رفضها أو السعي إلى تجاوزها؟

1. هل تشكل اللغة عائقاً للفكر؟

أ) اللغة كإطار للفكر

بعض الفلاسفة، مثل فرديناند دي سوسير ولودفيغ فيتغنشتاين، يؤكدون أن اللغة تشكل إطاراً للفكر. فيتغنشتاين مثلاً، قال في مقولته الشهيرة: “حدود لغتي هي حدود عالمي”. ما يعنيه هو أن اللغة تحدد حدود تفكيرنا؛ لا يمكن لنا التفكير أو التعبير عن أفكار لا تملك لغتنا مصطلحات أو مفاهيم لها. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار اللغة عائقاً أمام الفكر في حالة كانت محدودة وغير قادرة على التعبير عن المفاهيم العميقة أو الجديدة.

ب) القيود اللغوية وتأثيرها على الإبداع

إذا كانت اللغة تفرض حدوداً على الفكر، فقد تقيد القدرة على الإبداع والابتكار. قد نجد أنفسنا عاجزين عن التعبير عن أفكار أو تجارب غير مألوفة إذا لم تكن لدينا الكلمات المناسبة لها. كما أن تنوع اللغات قد يؤدي إلى فهم مختلف للعالم، فمفهوم معين قد يوجد في لغة واحدة ولا يوجد في أخرى، مما يسبب اختلافاً في النظرة إلى العالم بين متحدثي اللغات المختلفة.

ج) اللغة كأداة غير كافية

بعض الفلاسفة مثل جاك دريدا وميشيل فوكو، يرون أن اللغة ليست مجرد أداة محايدة لنقل الفكر، بل هي تعبير عن هياكل السلطة والمعرفة. اللغة تعيد إنتاج أنظمة معينة من التفكير التي قد تكون غير شاملة أو مشوهة. فبالتالي، قد تكون اللغة أداة غير كافية أو حتى مضللة في بعض الأحيان لفهم الواقع.

2. هل يجب رفض اللغة إذا كانت تشكل عائقاً للفكر؟

أ) اللغة كضرورة

رغم القيود التي قد تفرضها اللغة على الفكر، فهي تظل الوسيلة الرئيسية للتواصل بين البشر. لا يمكن رفضها بشكل مطلق لأنها تشكل أساس التفاعل الاجتماعي والنقل الثقافي. إن محاولتنا رفض اللغة ستكون بمثابة محاولة للعودة إلى حالة غير حضارية وغير مجتمعية. فاللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أيضاً أداة للتعلم ونقل المعرفة بين الأجيال.

ب) تطوير اللغة بدلاً من رفضها

بدلاً من رفض اللغة، يمكننا السعي إلى تطويرها وتوسيعها لتشمل مفاهيم جديدة وتعبيرات أكثر دقة. اللغة ليست ثابتة، بل هي في تطور دائم. في كل عصر، تظهر كلمات ومفاهيم جديدة تعبر عن التطورات العلمية والفكرية والاجتماعية. كما يمكن للإنسان تجاوز القيود اللغوية من خلال الإبداع في التعبير، واستخدام الرموز، أو الفنون.

ج) الفلسفة واللغة

حتى في الفلسفة نفسها، يعتمد الفلاسفة على اللغة لتطوير أفكارهم ونقد الأفكار السابقة. اللغة ليست عائقاً في حد ذاتها، بل هي أداة يمكن استخدامها بشكل إيجابي لتجاوز القيود المفروضة على الفكر. الفلاسفة مثل هيدغر وسارتر أكدوا على أن اللغة، رغم أنها قد تكون محدودة، هي أيضاً وسيلة للتحرر الفكري من خلال التفكر العميق في معانيها وتوسيع استخداماتها.

اللغة قد تفرض بعض القيود على الفكر وتحد من قدرته على التعبير عن بعض الأفكار أو المفاهيم الجديدة. ومع ذلك، لا يمكننا رفضها لأنها تظل أداة أساسية للتواصل والتعلم. بدلاً من رفض اللغة، يمكننا العمل على تطويرها وتوسيعها لتشمل آفاقاً أوسع من الفكر. من خلال ذلك، يمكننا تجاوز القيود التي قد تفرضها اللغة، واستغلالها كوسيلة للتعبير عن الأفكار بطرق أكثر دقة وإبداعاً.

المثال النموذجي

الإشكال : إذا كانت اللغة تشكل عائقا للفكر فهل يجب رفضها ؟

مقدمة :

يتبادل الناس الأفكار كما يتبادلون الأشياء ،ووسيلة هذا التبادل وطريقة هذا التواصل هي اللغة التي يعرفها الجرجاني (هي كل ما يعبر به قوم عن أغراضهم)فلا ينحصر الفكر في الكلام فقط.والفكر في جوهره نشاط عقلي يعتمد في أداء وظيفته على استخدام المعاني وما يقابلها في اللغة من رموز والتفكير كما يقول كوندايك (يرتد إلى فن إتقان الكلام) وهذا يعني أن اللغة والفكر مرتبطان أشد الارتباط غير أن بعض المفكرين والفلاسفة يشكون من تقصير اللغة وعجزها عن التعبير عن كامل أفكارنا وبعبارة أصح :هل نستطيع أن نفكر فيما نعجز عن قوله ؟

الموقف الأول :

يرى أصحاب الاتجاه الثنائي أن اللغة باعتبارها أداة عامة للتواصل بين الأفكار لا تخرج عن كونها ألفاظا عادية ساكنة تقف في وجه الفكر وتقيم له عقبة فاللغة كما يلاحظ جيسبيرسن(بمفرداتها وصيغتها الثابتة قد أجبرت الفكر على أن يسلك سبلا مطروقة حتى أنهم اضطروا إلى اقتفاء أثر الأولين وآل بهم الأمر إلى أن يكون تفكيرهم أشبه بتفكير من سبقهم)،وقد ذهب على شاكلة هذا الطرح برغسون ،حيث يرى بأن الفكر مستقل عن اللغة وأن اللغة تقيد الفكر وتستعبده ،كما يرى أيضا أنه لا يوجد تناسب بين ما نملكه من أفكار وما نملكه من ألفاظ ،فالألفاظ محدودة ،والأفكار غير محدودة فكيف يمكن للمحدود أن يستوعب اللامحدود يقول برغسون(إن كلماتي من جليد فكيف تحمل بداخلها النيران وإن المعاني تموت عند سجنها في القوالب اللغوية)؛وفي هذا يقول ( الألفاظ قبور المعاني)،ويرجع أصحاب هذا الموقف عدم التناسب إلى كون اللغة واحدة منذ القدم لم تتطور بينما الأفكار تتطور كل يوم ،بالإضافة إلى كل هذا فإن الفكر تتجاوز دلالة الألفاظ ؛ حيث أن اللفظ لا يعبر إلا عما اصطلح وتعارف عليه المجتمع كذلك أننا في حياتنا اليومية يستعصي علينا التعبير عن بعض المعاني (كما كان يحدث مع الصوفية الذين يرون صعوبة التعبير عن تجاربهم النفسية >من ذاق عرف<يطلبون منا أن نعاني تجربتهم لنذوق ما ذاقوا) وكذلك أن الفكر متصل والألفاظ منفصلة حيث تتدفق المعاني ككل متصل يجعل الألفاظ عاجزة على أن تسعه وقد جاء هذا في القرآن الكريم في بعض الآيات في قوله تعالى (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) ،وقوله أيضا (قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) بالإضافة إلى كل هذا يمكن التعبير عن الألفاظ والمعاني دون استخدام اللغة مثل الرسم والموسيقى و إشارات الصم والبكم .

النقد :

إن هذا القول بهذا الرأي لم يصمد للنقد ذلك أننا لا نستطيع أن نجزم باستغلال الفكر عن اللغة إذ كيف يمكن أن نتمثل في الذهن تصورات لا اسم لها ، ومهما ألح برغسون على عجز اللغة ومخاطرها فهو يطالب بإخضاع اللغة هذه إلى تعديلات عميقة وشاملة حتى تؤدي دورها يقول(إن اللغة يجب أن تكون على درجة من السيولة والمرونة مما يجعلها قادرة على متابعة الفكر الحي في سيولته وتدفقه المستمر) وكيف تتمايز الأفكار فيما بينها لولا اندراجها في قوالب لغوية

الموقف الثاني :

إن هذا الموقف السلبي يوحي بأمرين :1-إن الفكر قد يوجد في صورة عالية عن الألفاظ .2-أن اللغة يجب ألا تستعبد الفكر الحر .

وعلى عكس الرأي الأول نجد من يقول بالتلاحم بين الفكر واللغة وبين المعاني والألفاظ فمعظم الفلاسفة اللغويين يؤكدون وجود وحدة بين اللغة والفكر وشبه هاملتون اللغة بورقة وجهها الفكر وظهرها الصوت ويشبه ماكس موليير ذلك التداخل بين اللغة والفكر بقطعة نقد الفكر وجهها واللغة ظهرها يقول (ليس ما ندعوه فكرا إلا وجها من وجهي قطعة النقد والوجه الآخر هو الصوت المسموع والقطعة شيء واحد غير قابل التجزئة فليس ثمة فكر ولا صوت ولكن كلمات). وقد شبهت اللغة بالقلم والفكر بالمداد أو الجسد والروح ،فالفكر واللغة شيء واحد ذلك أننا نفكر باللغة ونتكلم بالفكر وأن الكلام غير المنظم فكريا ليس لغة بل ثرثرة لا طائل منها ونجد دو لاكروا يقول (إن الفكر يصنع اللغة وهي تصنعه) ،ويقال أن ما ندركه جيدا نعبر عنه بوضوح كذلك يقول واطسن ( التفكير ضرب من الكلام الصامت ) ويؤكد ذلك كوندياك حيث يرى أن فن التفكير يرتد إلى فن إتقان الكلام ،إذا فلا تمييز بين الفكر واللغة ويقول هيغل (إن الرغبة في التفكير بدون كلمات محاولة عديمة الجدوى لأن الكلمة تعطي للفكر وجوده الأسمى ) ويقول ستالين (مهما كانت الأفكار التي تجئ إلى فكر الإنسان فإنها لا تستطيع أن تنشأ وتوجد إلا على أساس مادة اللغة) ،ويقول هاملتون (إن المعاني شبيهة بشرارة النار ما إن تومض فإنها سرعان ما تنطفئ ولا يمكن إظهارها وتثبيتها إلا بالألفاظ)؛إن هذا الرأي يقوم على أنه لا وجود لمعنى إلا إذا تمايز عن غيره من المعاني بإشارة تسمح للغير بإدراكها ،فعلم النفس المعاصر كشف على أن تكوين المعاني لدى الأطفال يتقدم مع تقدم اكتسابهم للغة وزيادة رصيدهم اللغوي وأن الطفل بتعلمه اللغة يتعلم التفكير ويسير في ارتقائه اللغوي وفقا لارتقاء فهمه وقد لوحظ أن فقدان اللغة يلازمه اختلال في المقومات الذهنية ،كذلك أن افتراض معان عصية عن الألفاظ وافتراض خيالي إذ لا يكون لهذه المعاني وجود واقعي ما لم تحددها الألفاظ كما أن الأفكار التي لا تضبط بكلمات سرعان ما تزول وتندحر وفي هذا يقول هاملتون (الألفاظ حصون المعانــــــي) .

النقد :

هذا الرأي هو الآخر لم يصمد للنقد حيث أنه مهما وافقنا على وجود تطابق بين الأفكار والألفاظ فإنه يجب أن نعترف بوجود تفاوت بينهما إذ نجد في أنفسنا عدم التناسب بين قدرتنا على الفهم وقدرتنا على الأداء وهذا يعني أن الإنسان يفهم معاني اللغة أكثر مما يحسن ألفاظها >نفهم اللغة الأجنبية أكثر مما نتقن التكلم بها، ومع كل هذا فإننا نعترف بأنه كلما كانت لغتنا سليمة كنا أقدر للتعبير عن أفكارنا وفي هذا يقول كوندياك (نحن لا نفكر بصورة حسنة أو سيئة إلا لأن لغتنا مصنوعة صناعة حسنة أو سيئة) ،فبقدر ما تكون اللغة في أمة من الأمم متطورة بقدر ما تتاح الفرصة لهم لتملك زمام الحضارة الإنسانية والمعرفة العلميـــــــــة .

التركيب :

إن العيب الذي تؤاخذ عليه النظريتان هو أنهما جزأتا اللغة عن الفكر والفكر عن اللغة إلا أن هذين الأخيرين بمثابة الجسد للروح لا يمكن لأحدهما أن ينفصل عن الآخر ولا يمكن له أن يستمر في الوجود دون وجود الثاني كذلك أنه توجد

الخاتمة :

علاقة بين الفكر واللغة على مستوى التأثير المتبادل ويمكن الاستدلال على ذلك حيث أن علم النفس الفيزيولوجي أثبت أن للدماغ البشري مراكز خاصة باللغة (مراكز :الكلام ، الرؤية ،السمع …) ؛وهناك مراكز خاصة بالعمليات العقلية كالتفكير والذاكرة والذكاء ,وإذا ما تعرض مركز من هذه المراكز لخلل بسبب صدمة مثل حالة معطوبي الحرب يكون له انعكاس على التفكــــــير .

وإذا أردنا الخروج بحوصلة فإن اللغة حقا لا تعبر إلا عن قليل من مضمون الفكر ،ولكن لا ينبغي رفضها لأن الفكر بأوسع معانيه بحاجة إليها فهي بالنسبة له أداة تنظيم وتوضيح ونمو والعجز الذي يصيب اللغة لا يجب أن يوحي برفضها كوسيلة للتواصل ،وإن التخلي عنها يعني إنكار الفكر وهذا ضرب من الحلم الكاذب.

Please subscribe to our page on Google News

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15252

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *