مقالة فلسفية: هل يمكن ان توجد افكار خارج حدود اللغة؟

مقدمة

إذا كانت الفلسفة عموما تفكيرا في الوجود الانساني، وفي الأبعاد والظواهر المختلفة التي يتضمنها هذا الوجود، فمن البديهي أن تثير اللغة – بوصفها ظاهرة إنسانية- اهتمام الفلاسفة. ولقد عُرّف الانسان بكونه حيوانا ناطقا أو متكلما، وهو نعت يقتضي ضرورة الوجود المسبق للغة، التي تتعدد خدماتها وتتنوع وظائفها: فهي تفيد التبليغ، وتسمح بتحقيق التواصل، وكذلك التعبير عما يخالج الذات. إلّا أنّ كثيرا ما تنتاب المرء فكرة أو إحساس يتأخر أو يعجز عن إيجاد التعبير المناسب له، كما يحدث له في أحيان أخرى أن يفكر تفكيرا داخليا صامتا، ومن هذا المنطلق، فقد شغلت العلاقة بين اللغة والفكر بال فلاسفة اللغة وعلمائها؛ فاعتقد البعض منهم أن هناك تطابق مطلق بينهما، ولاوجود لأفكارٍ لا تستطيع اللغة التعبير عنها، واعتقد آخرون أن هناك انفصال بين اللغة والفكر، مما يلزم عنه إمكانية تواجد أفكار تعجز اللغة عن التعبير عنها وتوصيلها للغير، فهل يمكن فعلا أن تكون هناك أفكار بدون لغة؟ بمعنى آخر: هل يمكن ان توجد افكار خارج حدود اللغة؟

عرض الاطروحة:

يرى أنصار الاتجاه الثنائي، أنه لا يوجد تطابق وتناسب بين عالم الافكار وعالم الالفاظ، فالفكر أسبق من اللغة وأوسع منها، وأنّ ما يملكه الفرد من أفكار ومعان يفوق بكثير ما يملكه من ألفاظ وكلمات، فاللغة والفكر منفصلان، واللغة ليست سوى أداة، وأداة قاصرة لا تخدم الفكر إلا جزئيا، بل هي على ما يرى برغسون تحجب الفكر والواقع.

الحجة:

يميز أفلاطون بين عالمين موجودين هما: عالم المثل وهو العالم الحقيقي، عالم الفكر والمعقولات والحقائق المطلقة الكاملة، وبين عالم المحسوسات وهو عالم يأتي في المرتبة السفلى، لأنه عالم أشباه الحقائق والظلال (المحسوسات والعالم المادي). أما اللغة فهي معبرة عن عالم الأشياء المحسوسة، وهكذا يعطي أفلاطون الأسبقية للفكر على اللغة، فللفكر أسبقية أنطولوجية (وجودية) على اللغة أي أنه سابق في الوجود عليها، فمستودع الأفكار عند افلاطون هو عالم المثل، فالأفكار المطلقة توجد في هذا العالم بدون كلمات لأن اللغة تنتمي إلى عالم المحسوسات، وبالتالي فاللغة ليست سوى أداة للتعبير عن فكر سابق عليها.
واعتبر ديكارت الفكر واللغة من طبيعتين متناقضتين، كل منهما يشكل كيانا قائما بذاته مستقلا عن الآخر، فالفكر جوهر روحي خاصيته الوحيدة هي التفكير، بينما اللغة مظهرها مادي (الصوت، الكتابة) لذلك فهي في خدمة الفكر، وهي التي تنتجه. ولذلك فالعلاقة بينهما هي علاقة انفصال واستقلال، والأسبقية هنا للفكر.
أما شوبنهاور فقد اعتبر أن الفكر منفصل تمام الانفصال عن اللغة، فالأفكار تموت لحظة تجسدها في كلمات، وهذا ما يبرر استقلالية الفكر عن اللغة.
يقول برغسون: وهو أحد أنصار الاتجاه الثنائي: “ليست الموضوعات الخارجية و حدها هي التي تختفي عنا، بل إن حالاتنا النفسية هي الأخرى لتفلت من طائلتنا بما فيها من طابع ذاتي شخصي حي أصيل”. وقال أيضا: “وحينما نشعر بمحبة أو كراهية أو حينما نحس في أعماق نفوسنا بأننا فرحون أو مكتئبون، فهل تكون عاطفتنا ذاتها هي التي تصل إلى شعورنا؟”.
فالإنسان كثيرا ما يدرك كماً زاخراً من المعاني والافكار تتزاحم في ذهنه، وفي المقابل لا يجد إلّا ألفاظا محدودة لا تكفي لبيان هذه المعاني والافكار. كما قد يفهم أمرا من الامور ويكوّن عنه صورة واضحة بذهنه وهو لم يتكلم بعد، فإذا شرع في التعبير عما حصل في فكره من أفكار عجز عن ذلك. كما قد يحصل أن نتوقف – لحظات – أثناء الحديث أو الكتابة بحثا عن كلمات مناسبة لمعنى معين، أو نقوم بتشطيب أو تمزيق ما نكتبه ثم نعيد صياغته من جديد… وفي هذا المعنى يقول برغسون: «إننا نملك أفكارا اكثر مما نملك اصواتا» .
وقد تؤدي الألفاظ إلى قتل المعاني وتجمد حيويتها وحركتها، بينما المعاني مبسوطة ممتدة وغير نهائية بل تتطور أسرع من الألفاظ، فالفكرة أغنى من اللفظ إذ يمكن التعبير عنها بألفاظ مختلفة، بينما الألفاظ معدودة ومحدودة، بل قيمتها لا تكون إلا من خلال ما تنطوي عليه من معان ومفاهيم وتصورات.
وفي الاتجاه نفسه يشتكي المتصوفة عجز اللغة عن التعبير عما يعيشونه من حقائق، فيبدو لنا ما يقولونه مجرد شطحات تعارض النصوص الشرعية. فهذا الحلاج كان يقول: “ليس في الجبة إلاّ الله”. وهذا البسطامي يقول: “سبحاني ما أعظم شأني” وربما هذا ما قصده فاليري في قوله :”إن أجمــــل الأفكار هي تلك التي لا نستطيع التعبير عنها” .

النقد:

لكن القول أن الفكر أوسع من اللغة وأسبق منها ليس إلّا مجرد افتراض وهمي، فإذا كنا ندرك معانٍ ثم نبحث لها عن ألفاظ ما يبرر أسبقية الفكر على اللغة، فإنّ العكس قد يحدث أيضا، حيث نردد ألفاظ دون حصول معانٍ تقابلها وهو ما يعرف في علم النفس بـ “الببغائية”، أفلا يعني ذلك أن اللغة أسبق من الفكر؟
وحتى لو سلمنا جدلا بوجود أسبقية للفكر على اللغة فإنها مجرد أسبقية منطقية لا زمنية؛ فالإنسان يشعر أنه يفكر ويتكلم في آنٍ واحد. والواقع يبيّن أن التفكير يستحيل أن يتم بدون لغة؛ فكيف يمكن أن تتمثل في الذهن تصورات لا اسم لها؟ وكيف تتمايز الافكار فيما بينها لولا اندراجها في قوالب لغوية؟ ثم لو كانت اللغة عاجزة عن التعبير عن جميع أفكارنا فالعيب قد لا يكون في اللغة، بل في مستعملها الذي قد يكون فاقدا لثروة لغوية تمكنه من التعبير عن أفكاره .
هذا الرأي بالغ في تمجيد الفكر والتقليل من شأن اللغة، الأمر الذي جعل الفكر نشاطا أخرسا، وهذه النتيجة لا تؤكدها معطيات علم النفس الذي أثبت أن الطفل يتعلم الفكر واللغة في آن واحد، لذلك قال هيغل: “نحن نفكر داخل الكلمات”، وإلى نفس الاتجاه ذهب غوسدروف حيث قال: “التفكير ضاج بالكلمات”.

نقيض الاطروحة :

وعلى خلاف الرأي السابق، يذهب أنصار الاتجاه الاحادي، إلى أن هناك تناسب بين الفكر واللغة، وعليه فعالم الافكار يتطابق مع عالم الالفاظ، أي أن معاني الافكار تتطابق مع دلالة الالفاظ، ولا وجود لأفكار خارج إطار اللغة، فبين اللغة والفكر اتصال ووحدة عضوية وهما بمثابة وجهي العملة النقدية غير القابلة للتجزئة، باعتبار «أن الفكر لغة صامتة واللغة فكر ناطق .«

الحجة:

إن الطرح اللساني المعاصر مع دوسوسير يؤكد على العلاقة الوظيفية بين اللغة والفكر، ذلك أنه لا تقتصر وظيفة اللغة تجاه الفكر في تقديم أداة صوتية مادية تتيح له أن يظهر وينكشف فحسب، بل توفر له أيضا إمكانية أن يتجزأ أو ينقسم، ويتخذ لنفسه شكلا وهيئة. يقول دوسوسير: “اللغة شبيهة بورقة، الفكر وجهها والصوت قفاها” ويقول زكي نجيب محمود: “الفكر هو التركيب اللفظي أو الرمزي لا أكثر ولا أقل”.
إن اللغة إذن هي الشكل الوحيد لوجود الفكر، إنهما (اللغة والفكر) وجهان لعملة واحدة مترابطان ومتلاحمان، بحيث لا يمكن تصور الفكر خارج اللغة. فالأفكار تبقى عديمة المعنى في ذهن صاحبها ما لم تتجسد في الواقع، ولا سبيل الى ذلك إلّا ألفاظ اللغة التي تدرك إدراكا حسيا، فاللغة – إذن – هي التي تبرز الفكر من حيز الكتمان إلى حيز التصريح، ولولاها لبقي كامنا عدما، لذلك قيل: «الكلمة لباس المعنى ولولاها لبقي مجهولا .«
يرى ميرلوبونتي أنه ليس للفكر باطن، لأنه ليس من شأن الفكر أن يوجد خارج الألفاظ. فالمعنى يسكن اللفظ، والفكر لابد أن يتجسّد في عبارات. إن اللغة في نظر ميرلوبونتي ليست مجرد لباس خارجي للفكر، بل هي حضور للفكر نفسه في صميم العالم المحسوس. فالفكر والكلام يتكونان في آن واحد، وهما عملية ذهنية واحدة، تتم دفعة واحدة. ولا يمكن اعتبار الكلام مجرد علامة على وجود الفكر، مثلما الأمر بالنسبة لعلاقة الدخان بالنار، وهو ما نفهم منه رفض ميرولوبونتي بقول أسبقية الفكر على اللغة ورفض العلاقة الانفصالية بينهما.
اللغة والفكر حسب لاكروا متعاصران (متزامنان)، ولا يمكن تصور فكر قبل اللغة، حيث يقول: “إن الفكر تصنعه اللغة إذ يصنع اللغة”.
ثم إن الملاحظة المتأملة وعلم النفس يؤكدان أنّ الطفل يولد صفحة بيضاء خاليا تماما من أي افكار، ويبدأ في اكتسابها بالموازاة مع تعلمه اللغة، أي أنه يتعلم التفكير في نفس الوقت الذي يتعلم فيه اللغة. وعندما يصل الفرد الى مرحلة النضج العقلي فإنه يفكر باللغة التي يتقنها، فالأفكار لا ترد الى الذهن مجردة، بل مغلفة باللغة التي نعرفها، كما قال ستالين “مهما كانت الافكار التي تجيئ الى فكر الانسان، فإنها لا تستطيع ان تنشأ وتوجد إلاّ على مادة اللغة”. وأنه حسب هيجل “أي محاولة للتفكير بدون لغة هي محاولة عديمة الجدوى، فاللغة هي التي تعطي للفكر وجوده الاسمى والاصح”.
كما أن اللغة تصبغ الفكر بصبغة اجتماعية موضوعية تنقله من طابعه الانفعالي الذاتي، ليصير خبرة انسانية قابلة للتحليل والفهم والانتقال بين الناس، والنتيجة أن العلاقة بين اللغة والفكر بمثابة العلاقة بين الروح بالجسد، الأمر الذي جعل “هاملتون” يقول : « إن الالفاظ حصون المعاني . «

النقد: لكن ورغم ذلك، فإنه لا وجود لتطابق مطلق بين اللغة والفكر، بدليل ان القدرة على الفهم تتفاوت مع القدرة على التبليغ، من ذلك مثلا أنه اذا خاطبنا شخص بلغة لا نتقنها فإننا نفهم الكثير مما يقول، لكننا نعجز عن مخاطبته بالمقدار الذي فهمناه، كما أن الادباء – مثلا – رغم امتلاكهم لثروة لغوية يعانون من مشكلة في التبليغ.

التركيب:

وعلى ضوء ما سبق، ومهما تحفظ البعض من مسألة التوحيد بين اللغة والفكر واعتبارهما شيئا واحدا، وبالرغم من أن اللغة قد تقصر أحيانا عن التعبير عن الأفكار بناء على أن قدرتنا على الفهم لا تناسب دائما قدرتنا على التبليغ، إلا أنه لابد من التسليم بوجود علاقة ترابط بين الفكر واللغة، وهذا ما تؤكده الدراسات والأبحاث العلمية اللسانية، وهذه العلاقة تشبه العلاقة بين وجه الورقة النقدية وظهرها، حيث أن الفكر هو وجه الصفحة، بينما الصوت هو ظهر الصفحة، ولا يمكن قطع الوجه دون أن يتم في الوقت نفسه قطع الظهر، وبالتالي لا يمكن، في مضمار اللغة، فصل الصوت عن الفكر، أو فصل الفكر عن الصوت.

حل المشكلة:

الاختلاف في تحديد طبيعة العلاقة بين اللغة والفكر هو دليل وجود اشكالية في هذا الموضوع، والمهم هو توحيد الجهود بغية فهم هذه العلاقة، ولا فائدة من استمرار الجدل العقيم من أجلها، لأن اكتشاف طبيعة هذه العلاقة سوف يعطي معرفة أرقى، ووجود أسعد للإنسان، وذلك هو الهدف المنشود.

Please subscribe to our page on Google News

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15247

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *