مقالة فلسفية: العنف والتسامح

قيل ” العنف لا يولد إلا العنف ” حلل و ناقش…….. هل يمكن مقابلة العنف بالتسامح ؟

I/(طرح المشكلة): إذا كان العنف هو استعمال القوة أو كل عمل يضغط به شخص على إرادة الغير , و كان التسامح هو معاملة الإنسانية من منظور الإحترام و التعاون الأخلاقي . فإن هذا يعني انه لا يمكن الجمع بينهما انطلاقا من أنه لا يمكن الجمع بين النقيضين و هذا ما تجلى من خلال طرحات الكثير من الدارسين . لكن في المقابل نجد من أكد أنه ينبغي التخلي عن فكرة الصراع إنطلاقا من أن الإنسان المعاصر أصبح يهدف إلى تحقيق الحوار الحضاري . لذا هل من صواب بين الاعتقادين و هل يمكن التصديق بالطرح القائل أن العنف لا يولد إلا العنف ؟ أم أن العنف هو أصل البقاء و البناء ؟ بل هل يمكن مقابلة العنف بالتسامح ؟

II/-التوسيع(محاولة حل المشكلة):
القضية: (العنف أساس البناء و البقاء – لا يمكن مقابلة العنف بالتسامح ).
تحليلها:يذهب أنصار هذا الطرح للتأكيد على فكرة أساسية مضمونها أنه توجد جملة من الأسباب النفسية , الاجتماعية , الاقتصادية و السياسية جعلت العنف مشروعا من أجل البقاء . إن العنف هو أصل حركة العالم و إثبات الذات بل هو أداة شرعية أخلاقية من أجل استرجاع الحقوق المغتصبة . إن التخلي عن فكرة الصراع في حياة الإنسان هو تعبير عن الضعف و الرضوخ للآخر .

البرهنة
1- أكد ” هيراقليطس ” أن العنف هو أصل كل الأشياء و هو ما يتجلى من خلال قوله “أن القتال هو أبو سائر الأشياء ” . نفس الطرح نجده عند “كالكاس” حيث أشار أنه إذا كان العنف هو المسيطر في الطبيعة فإنه ينبغي أن يسيطر على حياة الأفراد . وإذا كان قانون الطبيعة هو “البقاء للأقوى ” و كان الإنسان جزءا من هذا الوجود فلما لا يطبق هذا القانون ؟. فاللبؤة مثلا تقتل أحد صغارها إذا ولد بعاهة لأن ذلك الشبل سوف يجد نفسه يوما غير قادر على اصطياد الفريسة فيكون له أثرا سلبيا على مملكة الغاب .

2- طبيعة الإنسان الأنانية تقتضي إستعمال العنف من أجل إثبات الذات . حيث أكد سيغموند فرويد أن الفر د تحكمه نزعة الحياة ( إيروس ) و نزعة الموت ( تيناطوس ) . هذا ما يفسر سلوكه العدواني لأنه يسعى إلى التملك , فرض السلطة , البقاء و تلبية كل الرغبات , لكن يجد نفسه خاضعا لقيد إسمه الغير و آخر إسمه الموت . هذا ما يحدث له الكبت و الحقد على كل من وقف ضد رغباته. و لعله في ذلك يتفق مع طرح توماس هوبز القائل ” الإنسان ذئب لأخيه الإنسان ” أي الإنسان هو شرير بطبعه فيطبق الحيلة و المكر من أجل فرض الوجود .

3 – أكد فريدريك إنحلز أن العنف هو أساس البناء و التحرر . فالظروف التي عاشتها الطبقة العاملة في ظل الاقتصاد الرأسمالي تميزت بالقمع لأن العامل كان يشعر بالغربة في عمله و هو ما أدى إلى قيام الثورة من أجل تغيير النظام و تحقيق العدالة الإجتماعية . و هذا يعني أنه لا يمكن فهم العنف فقط من الجانب السلبي بل هو وسيلة من أجل غاية سامية . طرح وجد عند جون جاك روسو حيث قال ” ليس لنا فقط الحق , بل من الواجب أن نثور إذا اقتضت الضرورة لذلك . فهناك نوع من الأخلاقية يدعونا إلى حمل السلاح في أوقات ما .”كذلك عبر المفكر الفرنسي ألبير كامو أن الرجل الثائر هو الرجل الذي يقول” لا ” و هذا يعني أن الأمور تفاقمت و زادت في التدهور و أن هناك حدودا يجب الوقوف عندها . موسوليني ” إن السلام الدائم لا هو بالممكن و لا هو بالمفيد , إن الحرب وحدها بما تحدثه من توثر هي التي تبعث أقصى نشاطات الإنسان و التي هي وسام النبل على صدور أولئك الذين يمتلكون الشجاعة لمواجهتها .

4- أكد المفكر الألماني فريدريك نيتشه أن القوة و العنف هما الأساس في بقاء البشرية إذ لا مجال للتسامح و الأخلاق في حياة الإنسان لأن الأخلاق من صنع الضعفاء طبقوها كوسيلة لحماية أنفسهم من طمع الأقوياء . أي أن الذي يمتلك القوة يمتلك الحق. فالنمر الذي يهاجمني يمتلك الحق في أن يقتلني و أنا الذي أدافع عن نفسي أمتلك الحق أن أقتله.
استنتاج جزئي: إذن لا يمكن مقابلة العنف إلا بالعنف.

النقد : على الرغم من أهمية طرح هؤلاء لكن لا يمكن التصديق بما ذهبوا إليه . فالحقيقة أن فكرة العنف و جدت في المجتمعات البدائية و لا تتناسب مع صفة الإنسان المتحضر. لا يمكن إخضاع التجمع الإنساني لقانون يحكم الحيوان مادام منفردا بملكة العقل. بل إن الدراسات التي قام بها العالم النفساني فروم أكدت أنه حتى الحيوان ليس عدوانيا إلا في لحظة البحث عن الغداء أو مواجهة خطر خارجي فكيف يتنازل الإنسان عن قيمه الإنسانية إلى مرتبة الحيوانية . كما أن العنف لا يولد إلا العنف و هذا ما يعني الصراع الدائم .

نقيض القضية : ( يمكن مقابلة العنف بالتسامح )
شرح و تحليل : يذهب أنصار هذا الطرح للتأكيد على فكرة أساسية مضمونها أنه ينبغي مقابلة العنف بالتسامح كفضيلة أخلاقية تعبر عن سمو الإنسان . هذا الطرح وجد في الوقت الذي حدث فيه إقتناع أنه ينبغي التخلي عن فكرة الحقد و الصراع لأن العنف لا يولد إلا العنف كما لا تطفئ النار نارا . لا يمكن فهم التسامح أنه ضعفا مادام وجد في مجمل الديانات السماوية و رحبت به المجتمعات .

البرهنة :

1 – إن الله عز و جل خلق الإنسان في أحسن صورة و فضله على الخلق لكن لا ينتظر الشكر من أحد بل نجد من يطغى و يصل إلى حد الجحود بنعم ربه . لكن رحمة الله بعباده أوسع من رحمة إلام بإبنها . فالرحمة هي التسامح وعدم الإكراه . و يتجلى ذلك من خلال قوله تعالى ( لا إكراه في الدين , قد تبين الرشد من الغي ) سورة البقرة – 256 – و يقول تعالى ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )صدق الله العظيم . هذا يعني أن القوي ( الله ) يدعو إلى التسامح و ذلك الإنسان الذي يساوي لا شيء مقارنة بحجم الكون يدعو إلى العنف فهذا غير معقول. إن هذه الآيات من التنزيل الحكيم تجسدت في حياة الأولين حيث يتجلى ذلك من خلال التعامل الأخلاقي مع السجناء و كذلك السماح لأهل البلد بممارسة عقائدهم مقابل الجزية في مرحلة الفتوحات الإسلامية .

2 – أكد إيمانويل كانط على ضرورة إعتماد التسامح و فعل الخير لأن الواجب يقتضي ذلك ” إفعل الخير لأنه خير و ابتعد عن الشر لأنه شر ” و هذا يعني أن الاحترام دين لا بد من تأديته لمن يستحقه . التسامح هو قانون أخلاقي مقدس فكل إنسان يجب أن يحاط بالاحترام بوصفه غاية مطلقة بذاته ” هذه الأفكار طرحها في كتابه مشروع السلام الدائم وتتماشى مع اعتقاد برترند راسل حيث عايش الحرب العالمية الأولى و الثانية فاستنتج انه ينبغي التخلي عن فكرة الصراع والحرب لأن مواجهة العنف بالعنف تؤدي إلى عنف أشد و فتنة أعمق . و إذا كان الإنسان هو كائن عاقل فإن العقل يصنع الحكمة و الحكمة تعني العمل بالتسامح. في ذلك يقول برترند راسل ” الشيء الذي يحرر البشر هو التعاون , و أول خطوة فيه إنما تتم في قلوب الإفراد , و المألوف أن يتمني المرء الخير لنفسه , وينبغي كذلك أن يتمنى الخير للآخرين “.

3 – أكد فولتير في كتابه ” مقالة في التسامح أنه ينبغي التخلي عن العنف في كل المجالات وبوجه أخص في مجال الدين و العقيدة و في ذلك يقول ” إننا أبناء من نفس الأب و مخلوقات من نفس الإله . و إننا عجين من النقائص و الأخطاء, إذن فلنتسامح فيما بيننا “.

4 – أكد رجي غارودي على فكرة الحوار الحضاري واعتماد التسامح و المحبة من أجل التعايش دون صراع . رحب المجتمع الدولي بفكرة التسامح فخصص يوم 16 نوفمبر من كل سنة يوما للتسامح بمبادرة من منظمة اليونسكو سنة 1995 .
استنتاج جزئي : إذن يمكن مقابلة العنف بالتسامح .
النقد : على الرغم من أهمية هذا الطرح إلا أنه من الناحية المنطقية لا يمكن الجمع بين النقيضين( مبدأ عدم التناقض ) أي لا يمكن الجمع بين العنف و التسامح . كذلك عبرت بعض الدراسات المعاصرة أنه لا يمكن التخلي عن منطق القوة لأن الأخلاق من صنع الضعفاء وظفوها كوسيلة لحماية أنفسهم من طمع الأقوياء.

التركيب : من خلا م تقدم يتبن لنا أن الإنسان العقل ينبغي أن يطبق الحكمة في تعامله مع الغير أي لابد أن يطبق العنف بالمعنى الإيجابي عند الحاجة و التسامح من باب الفصح في الحالات التي تقتضي ذلك و هذا يعني انه يمكن مقابلة العنف بالتسامح لكن ليس التسامح الذي يكون نوعا من الخوف بل التسامح الذي يعد إحتراما للغير .

الخاتمة 

ختام القول يمكن التأكيد أن الإنسان طبق العنف من أجل البقاء في مرحلة أرغمته الظروف على ذلك . لكن التحولات التي عرفها التجمع البشري أصبحت تميل أكثر إلى التنظيم و الحضارة مما يعني ضرورة التخلي عن فكرة الصراع, و من ذلك الإيمان بفكرة التسامح و الحوار الحضاري. هذا كله لا يخدم الفرد فقط بل يخدم المجتمع الدولي الذي يهدف إلي مشروع القرية الكونية التي يتم من خلالها إلغاء كل الحدود و كل أسباب التعصب .

راجع أيضا المواضيع التالية:

Please subscribe to our page on Google News

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15380

7 تعليقات

  1. هل تكون مقالة العنف و التسامح جدلية دائما

    • ممكن تكون استقصاء لاكن ميقولش دافع علا العنف دائما الدفاع يكون علا التسامح

  2. شكرا على المقالة لكن المرجو هناك خطا في الاية الثانية المرجوا تصحيحها “سبيل”
    تجنبا للتحريف وشكرا

    • لقد تم التصحيح
      بسم الله الرحمن الرحيم “ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله” – صدق الله العظيم

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *