أثبت بالبرهان صحة الأطروحة القائلة: إننا نفكر بلغتنا ونتكلم بفكرنا
***إستقصاء بالوضع***
____إن الإنسان في حياته اليومية قد يمر بالتجربة التالية: وهي التردد أثناء كتابة رسالة, فيتوقف أثناء التعبير ليفكر, هل الكلمات تناسب المعنى الذي يجول بخاطره, ومن هنا فاللغة هي عبارة عن مجموعة من الألفاظ والإشارات والرموز التي يستعملها الإنسان كأداة للتواصل, ويعرفها عبدالقاهر الجرجاني بقوله [هي كل مايعبر به كل قوم عن أغراضهم] وتتصف بأنها ظاهرة إجتماعية, أما الفكر فهو مجموعة من المعاني والتصورات الذهنية الباطنية لهذا فهو نشاط ذاتي لأنه إنعكاس لشخصية الفرد, ولقد كانت الفكرة الشائعة لدى الفلاسفة أن اللغة والفكر منفصلان أي لايوجد تناسب بين القدرة على التغيير والقدرة على الفهم, ولكن هناك فكرة أخرى تناقضها وهي أن اللغة والفكر متصلان أي أن هناك تناسب بينهما, فهما شيء واحد لهذا نطرح السؤال التالي: كيف يمكن الدفاع عن هذه الأطروحة؟ وهل يمكن إثباتها بحجج؟ وبالتالي الأخد برأي مناصريها.
____إن منطق هذه الأطروحة يدور حول موضوع العلاقة بين اللغة والفكر حيث يرى بعض الفلاسفة وخاصة الفيلسوف الأمريكي “واطسون” بأن اللغة والفكر متصلان وقد إعتمدوا على مسلمات: لا فكر بدون لغة, ولا لغة بدون فكر وأكدوا ذلك بحجج وبراهين أهمها: لا يوجد فكر بدون لغة أي أن اللغة هي حاملة الفكر إلى الخارج فهي تصبغه بصبغة إجتماعية موضوعية, تنقله من طابعه الإنفعالي الذاتي ليصبح معرفة إنسانية قابلة للإنتقال بين الأفراد, وبالتالي فالفكر من دون لغة يبقى حوارا صامتا أي مونولوج داخلي بين الذات ونفسها, لهذا يقول “ميرلوبونتي” [إن الفكر لايوجد خارج الكلمات]. وهذا ماجعل الفيلسوف الألماني “هيجل” يعتقد بأن الكلمة تعطي للفكر وجوده الأسمى وأن الرغبة في التفكير بدون كلمات محاولة عديمة المعنى. لذلك يقول أحد المفكرين [عندما نفكر فنحن نتكلم بصوت خافت, وعندما نتحدث فنحن نفكر بصوت عالي]. وبذلك فاللغة هي ذاتها الفكر.
___أما الحجة الثانية فتتمثل لا لغة بدون فكر لأن الكلمات والعبارات التي لا تدل على معاني وتصورات هي في الحقيقة كلمات ميتة لا حياة فيها لذا يقول “إدوار سايير” [فالفكر بالنسبة إلى اللغة يمكن تعريفه بأنه المضمون المستتر أو أعلى طاقة كامنة للكلام].
___للأطروحة السابقة خصوم وهم أنصار الإتجاه الثنائي وخاصة الفيلسوف الفرنسي “برغسون” الذين يميزون بين اللغة والفكر ويفصلون بينهما فصلا كاملا واضحا لأنهم يعتقدون بأن الفكر سابق عن اللغة وأوسع منها, فالإنسان يفكر بعقله أولا ثم يعبر بلسانه ثانيا, فقد تتزاحم الأفكار في ذهن الإنسان لكنه يعجز عن التعبير عنها, مما يجعل اللغة عائقا للفكر, وبالتالي فاللغة عاجزة عن إبراز المعاني والتصورات الفكرية إبرازا كاملا حيث يقول “برغسون” [اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر, وبالتالي المعاني أسرع من تطور الألفاظ].
___لكن هذا الموقف تعرض لانتقادات عديدة لأنه ينطوي على سلبيات أهمها: لقد بالغ هؤلاء الفلاسفة في موقفهم حين ميزوا بين اللغة والفكر وفصلوا بينهما فصلا تاما لأنه إذا الفكر سابق عن اللغة من الناحية المنطقية فهو ليس سابق عنها من الناحية الزمنية بدليل أن الإنسان يشعر بأنه يفكر ويتكلم في نفس الوقت. كما أنهم بالغوا في تمجيد الفكر والتقليل من شأن اللغة الأمر الذي جعل الفكر نشاطا أخرس, والواقع يؤكد أن التفكير لا يتم بدون لغة, فالفكر بدون لغة مجرد مجرد شعور باطني لا معنى له, لهذا فالمشكلة ليست في اللغة إنما في الإنسان الذي لايمتلك قاموس لغوي للتعبير عن أفكاره بدليل أن المعنى الواحد قد نعبر عنه بعده ألفاظ وكلمات خاصة الأديب الذي يمتلك ثروة لغوية أكثر من بقية الناس.
___يمكن الدفاع عن هذه الأطروحة القائلة بأن اللغة والفكر متصلان بأدلة شخصية أهمها: اللغة تستطيع التعبير عن كل أفكار الإنسان, لأن هناك تطابق وتناسب بين الأفكار التي تشير إليها الألفاظ وبين دلالتها الحقيقية.
___كما أن علم النفس يؤكد بأن الطفل يكتسب المعاني والأفكار والصور حين يتعلم اللغة أي أنه يتعلم اللغة في وقت يتعلم فيه التفكير, وما يؤكد ذلك تجارب اللغوي الروسي “فيغوتسي” التي أكدت أن نمو فكر الطفل ولغته يكونان متوازيين لمدة سنتين ثم يصبحان متطابقين بعد ذلك, أي لهما نفس النمو مما يدل على وحدة اللغة والفكر وهذا ما أكده أنصار الأتجاه الأحادي ومن بينهم “واسطون” الذي يقول [إننا نتكلم بفكرنا] و “دولاكروا” في قوله [اللغة تصنع الفكر, في نفس الوقت الذي يصنع فيه من طرف اللغة].
___إذن نستنتج بأن الأطروحة القائلة {إننا نتكلم بفكرنا ونفكر بلغتنا} أطروحة صحيحة, لأن اللغة والفكر متصلان, لأن التفكير لغة داخلية واللغة تفكير طاهر, وبالتالي يمكن تدعيم هذه الأطروحة والأخد برأي مناصريها لذلك يقول الدكتور “زكي نجيب محمود” [الفكر تركيب لفظي أو رمزي لا أقل ولا أكثر].