مفهوم الصراع : دراسة فى الأصول النظرية للأسباب والأنواع

موضوع هذه الدراسة يدور حول ظاهرة الصراع باعتبارها ظاهرة ذات أبعاد متناهية التعقيد، بالغة التشابك، يمثل وجودها أحد معالم الواقع الإنسانى الثابتة، حيث تعود الخبرة البشرية بالصراع إلى نشأة الإنسان الأولى، حيث عرفتها علاقاته فى مستوياتها المختلفة: فردية كانت أم جماعية، وأيضاً فى أبعادها المتنوعة: نفسية أو ثقافية، سياسية أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو تاريخية، … الخ(1). وتستهدف الدراسة تقديم إطار مقارن لفهم وتحليل مفهوم الصراع: طبيعته، أسبابه، وأنواعه. وفى هذا الصدد، فإن هذه الدراسة تتبنى وجهة نظر ترى أن الطبيعة المعقدة والمتداخلة للصراع تجد جذورها فى مصادر متعددة؛ منها ما يعود إلى تعدد أبعاد الظاهرة الصراعية ذاتها، ومنها ما يتعلق بتداخل مسبباتها ومصادرها من جانب، بالإضافة إلى تشابك تفاعلاتها وتأثيراتها المباشرة وغير المباشرة من جانب آخر، هذا فضلاً عن التفاوت فى مستويات الظاهرة من حيث المدى أو الكثافة والعنف(2). وعلى ذلك، فإن الدراسة تعتمد على تقديم تحليل مقارن للاتجاهات النظرية الرئيسية فى مجال الصراع من خلال محاور ثلاثة تشتمل على: التعريف بمفهوم الصراع كظاهرة معقدة، ثم طبيعة الصراع وأسبابه العامة كمفهوم وكعملية مركبة، وأخيراً أنواع الصراع وجذوره كظاهرة متعددة المظاهر تتميز بالاعتماد المتبادل بين جذورها ومظاهرها.

1- مفهوم الصراع : ماهيته وأبعاده
THE CONCEPT OF CONFLICT : DEFINITION & DIMENSIONS
تعكس أدبيات الصراع ثراءً واضحاً فيما تقدمه من تعريفات لمفهوم الصراع، كما تتعدد أيضاً بؤر الاهتمام، ونقاط التركيز التى يوليها المتخصصون أهمية كبيرة عند تناولهم للمفهوم بالدراسة والتحليل. وفى إطار استعراض بعض التعريفات اللغوية التى تقدمها دوائر المعارف والقواميس اللغوية لمفهوم الصراع، فإن دائرة المعارف الأمريكية تعرف الصراع بأنه عادة ما يشير إلى “حالة من عدم الارتياح أو الضغط النفسى الناتج عن التعارض أو عدم التوافق بين رغبتين أو حاجتين أو أكثر من رغبات الفرد أو حاجاته” (3). أما دائرة معارف العلوم الاجتماعية فإن اهتمامها ينصرف إلى إبراز الطبيعة المعقدة لمفهوم الصراع، والتعريف بالمعانى والدلالات المختلفة للمفهوم فى أبعاده المتنوعة. فمن المنظور النفسى، يشير مفهوم الصراع إلى “موقف يكون لدى الفرد فيه دافعُُ للتورط أو الدخول فى نشاطين أو أكثر، لهما طبيعة متضادة تماما”، وهنا يؤكد موراى على أهمية مفهوم الصراع فى فهم الموضوعات المتعلقة بقدرة الفرد على التكيف الإنسانى وعمليات الاختلال العقلى أيضاً(4). أما فى بعده السياسى، فإن الصراع يشير إلى موقف تنافسى خاص، يكون طرفاه أو أطرافه، على دراية بعدم التوافق فى المواقف المستقبلية المحتملة، والتى يكون كل منهما أو منهم، مضطراً فيها إلى تبنى أو اتخاذ موقف لا يتوافق مع المصالح المحتملة للطرف الثانى أو الأطراف الأخرى(5). وبينما يهتم لويس كوزر بالتركيز على الصراع فى بعده الاجتماعى، فإن لورا نادر تتجه إلى إيضاح البعد الانثربولوجى فى العملية الصراعية. ومن ثم فإن الصراع فى بعده الاجتماعى إنما يمثل “نضالاً حول قيم، أو مطالب، أو أوضاع معينة، أو قوة، أو حول موارد محدودة أو نادرة”، ويكون الهدف هنا متمثلاً “ليس فقط فى كسب القيم المرغوبة، بل أيضاً فى تحييد، أو إلحاق الضرر، أو إزالة المنافسين أو التخلص منهم”(6). الصراع فى مثل هذه المواقف، وكما يحدد كوزر، يمكن أن يحدث بين الأفراد، أو بين الجماعات، أو بين الأفراد والجماعات، أو بين الجماعات وبعضها البعض، أو داخل الجماعة أو الجماعات ذاتها. تفسير ذلك يرجعه كوزر إلى حقيقة أن الصراع فى حد ذاته أحد السمات الأساسية لجوانب الحياة الاجتماعية. أما فيما يتعلق بالبعد الأنثربولوجى للصراع، فإن الصراع ينشأ أو يحدث نتيجة للتنافس بين طرفين على الأقل. وهنا قد يكون هذا الطرف متمثلاً فى فرد، أو أسرة، أو ذرية أو نسل بشرى معين، أو مجتمع كامل. إضافة إلى ذلك، قد يكون طرف الصراع طبقة اجتماعية، أو أفكاراً، أو منظمة سياسية، أو قبيلة، أو ديناً (7). وهنا فإن الصراع يرتبط بالرغبات أو الأهداف غير المتوافقة، والتى تتميز بقدر من الاستمرارية والديمومة يجعلها تتميز عن المنازعات الناتجة عن الشطط، أو الغضب، أو التى تنشأ نتيجة لمسببات وقتية أو لحظية. فى هذا الاتجاه، يذهب قاموس لونجمان إلى تعريف مفهوم الصراع بأنه “حالة من الاختلاف أو عدم الاتفاق بين جماعات، أو مبادئ، أو أفكار متعارضة، أو متناقضة”. أما قاموس الكتاب العالمى، فإنه يعرف الصراع بأنه “معركة أو قتال Fight، أو بأنه نضال أو كفاح Struggle، خاصة إذا كان الصراع طويلاً أو ممتداً”.
وبوجه عام، فإن مفهوم الصراع فى الأدبيات السياسية المتخصصة ينظر إليه “باعتباره ظارهرة ديناميكية..” (8). فالمفهوم، من جانب، يقترح “موقفاً تنافسياً معيناً، يكون كل من المتفاعلين فيه عالماً بعدم التوافق فى المواقف المستقبلية المحتملة، كما يكون كل منهم مضطراً أيضاً لاتخاذ موقف غير متوافق مع المصالح المدركة للطرف الآخر” (9). من هنا كان هناك اتجاه ينصرف إلى التركيز على البعد التنافسى فى تعريف الصراع باعتبار أنه “أحد أشكال السلوك التنافسى بين الأفراد أو الجماعات”، وأنه “عادة ما يحدث عندما يتنافس فردان أو طرفان أو أكثر حول أهداف غير متوافقة، سواء كانت تلك الأهداف حقيقة أو متصورة، أو حول الموارد المحدودة”(10). وفى تعريف آخر، فإن مفهوم الصراع يتميز بالبساطة والمباشرة، حيث يوصف الصراع بأنه “عملية منافسة ظاهرة، أو محتملة بين أطرافه” (11). وهنا تثار أهمية التمييز بين الصراع وبعض أنواع المنافسة – كالتى تحدث فى المجالات الرياضية على سبيل المثال -، “ففى المنافسة يتعاون الأفراد أو يتنافسون من أجل المرح وقضاء وقت طيب وممتع”، بينما فى الصراع، فإن “إحداث أو إلحاق الضرر المادى أو المعنوى بالآخرين إنما يعد هدفاً محدداً للصراع نفسه”(12).
أما متغير “الإرادة” عند أطراف الصراع، فإنه يمثل أساساً محورياً فى تعريف الصراع لدى اتجاه آخر من كتاب الأدبيات السياسية. ومن ثم يتم النظر إلى مفهوم الصراع باعتبار أنه فى جوهره “تنازع للإرادات”، ينتج عن اختلاف فى دوافع أطرافه، وفى تصوراتهم، وأهدافهم وتطلعاتهم، ومواردهم وإمكاناتهم، مما يؤدى بهم إلى اتخاذ قرارات، أو انتهاج سياسات تختلف فيما بينها أكثر من اتفاقها”، ومع ذلك، “يظل الصراع دون نقطة الحرب المسلحة” (13).
إضافة إلى ذلك، فإن هناك رأياً ثالثاً يفضل الاهتمام ببنية الموقف الصراعى والمصالح المتضمنة فيه. فى هذا الاتجاه، يذهب كل من لوبز وستول إلى أن مفهوم الصراع يمثل أو يعكس “موقفاً يكون لطرفين فيه أو أكثر أهداف أو قيم أو مصالح غير متوافقة بدرجة تجعل قرار أحد الأطراف بصدد هذا الموقف سيئاً للغاية”، ومن هنا يمكن النظر إلى مفهوم الصراع باعتباره “نتيجة لعدم التوافق فى البنيات والمصالح، مما يؤدى إلى استجابات بديلة للمشكلات السياسية الرئيسية”. وعلى ذلك يخلص الكاتبان إلى “أن الصراع بهذه الكيفية، يعد سمة مشتركة لكل النظم السياسية الداخلية والدولية” (14).
أما الصراع فى مفهوم كوزر فإنه يتبلور فى ضوء القيم والأهداف التى تمثل الإطار المرجعى لأطراف الموقف الصراعى. وعلى ذلك يرى كوزر أن الصراع يتحدد فى “النضال المرتبط بالقيم والمطالبة بتحقيق الوضعيات النادرة والمميزة، القوة والموارد، حيث تكون أهداف الفرقاء هى تحييد أو إيذاء أو القضاء على الخصوم” (15).
إضافة إلى ما سبق، فإن هناك رؤى أخرى تسعى إلى توجيه الاهتمام نحو الأبعاد النفسية المتعلقة بعلاقات القبول والرفض بين أطراف الموقف الصراعى. ومن هنا تتجه تلك الرؤى إلى تعريف الصراع فيها بأنه “ذلك العداء المتبادل بين الأفراد والجماعات أو الشعوب أو الدول فيما بينها على مختلف المستويات” (16).
وعلى ضوء ما سبقت الإضارة إليه من نماذج التعريفات التى تقدمها أدبيات الصراع بصدد التعريف وبأبعاده المختلفة، يمكن الانتهاء إلى التأكيد على الأبعاد الثلاثة التالية كمحاور أساسية فى التعريف بمفهوم الصراع:
1- المحور الأول: ويتعلق بالموقف الصراعى ذاته: ويشير إلى أن مفهوم الصراع يعبر عن موقف له سماته أو شروطه المحددة: فهو بداية يفترض تناقض المصالح أو القيم بين طرفين أو أكثر، وهو ثانياً يشترك إدراك أطراف الموقف ووعيها بهذا التناقض، ثم هو ثالثاً يتطلب توافر أو تحقق الرغبة من جانب طرف (أو الأطراف) فى تبنى موقف لا يتفق بالضرورة مع رغبات الطرف الآخر، أو (الأطراف الأخرى)، بل إن هذا الموقف قد يتصادم مع باقى هذه المواقف.
2- أما المحور الثانى: ويختص بأطراف الموقف الصراعى: بوجه عام، فيمكن التمييز فى الموقف الصراعى من حيث أطرافه بين مستويات ثلاثة: المستوى الأول يتعلق بالصراعات الفردية: أى التى يكون أطراف الصراع فيها أفراداً، ومن ثم فإن دائرة مثل هذا الصراع وموضوعه يتجهان إلى أن يكونا محدودين بطبيعتهما. وفى المستوى الثانى يكون الصراع بين جماعات: وتتعدد أنواع هذا الصراع بتنوع أطرافه، كما أن دائرته ومجالاته تكون عادة أكثر اتساعاً وتنوعاً عن نظيرتها فى دائرة الصراع الفردى. أما المستوى الثالث فإن يختص بالصراع بين الدول، والذى عادة ما يعرف أيضاً بالصراع الدولى، وتكون دائرة (أو دوائر) الصراع فيه أكثر تعقيداً واتساعاً عن المستويين السابقين من الصراعات.
3- المحور الثالث: ويهتم بالصراع الدولى: وهنا تجدر الإشارة إلى أن اتساع دائرة المستوى الثالث من الصراعات، عبر المراحل التاريخية المتعاقبة للعلاقات الدولية، كان من شأنه توجيه وتكتيل قدر متزايد لا يستهان به من الجهود العلمية والأكاديمية لدراسة وتأصيل الظاهرة الصراعية، وذلك بهدف تطوير التفسيرات والنظريات العلمية التى تيسر فهم أسبابه ومحدداته، ومن ثم تقدم البدائل المختلفة التى يمكن من خلالها التحكم فى الظاهرة الصراعية، أو على الأقل التقليل من المخاطر المرتبطة بها والمترتبة عليها، وتحديد أساليب التعامل معها. وفى هذا المجال، فإن هذه الجهود العلمية قد أسفرت عن تراث غنى وأصيل من النظريات والتفسيرات، ولعل من بينها نظريات المعرفة العقلانية، النظرية السلالية، نظريات القوة، نظريات صنع القرار، والاتصالات، والنظم، وغيرها كثير من النظريات المفسرة للصراع فى أبعاده المختلفة: النفسية، البيولوجية، الثقافية والاجتماعية، الاقتصادية والسياسية، ومؤخراً البيئية والحضارية .. الخ.

2- طبيعة الصراع
NATURE OF CONFLICT

تثير محاولة الإجابة عن السؤال “هل يجب أن يكون الصراع مدمراً أو ذا طبيعة تدميرية؟” عدداً من النقاط الجوهرية، ولعل من أهمها ما يتعلق بإمكانية وجود أبعاد أو وظائف إيجابية للصراع، وما يرتبط بذلك من تحديد لعلاقة مفهوم الصراع بغيره من المفاهيم ذات الصلة الوثيقة به كالنزاع، والأزمة، والعنف … إلخ.

أ- طبيعة الصراع:

بوجه عام، تجب الإشارة إلى أن للصراع بعيدين يمكن التمييز فيهما بين بعد سلبى وآخر إيجابى. وإذا كان من اليسير إدراك الجانب السلبى للصراع من خلال ارتباطه العام والمستقر فى الأذهان بما يتضمنه الصراع من “محاولات لتدمير، أو لاستغلال، أو لفرض حل على طرف آخر أو آخرين”، فإن البعد الإيجابى للصراع إنما يشير بوجه عام إلى ذلك الجانب المتمثل فى “الدفع نحو عمل أو إقامة الاتصالات، وحل المشكلات، والتبادل الإيجابى بين الأطراف المعنية” (17). من هنا كانت أهمية النظر إلى الصراع باعتباره، وكما يذكر موراى، “متضمناً لدوافع الإنجاز، والارتباط، والإتباع، وغيرها من الدوافع الإيجابية” (18)، أى أن الصراع فى بعض أبعاده يمثل “عنصراً خلاقاً فى العلاقات الإنسانية: فهو يمثل وسيلة للتغيير يمكن من خلالها تحقيق القيم الاجتماعية المتعلقة بالرفاهية، والعدالة، وفرص تحقيق وتنمية الذات” (19).

وفى هذا الاتجاه، فإنه يمكن التأكيد على بعض المنطلقات الأساسية التى تسهم فى دعم الاتجاه نحو تعظيم الأبعاد الإيجابية للصراع. أهم تلك المنطلقات يمكن إيضاحها على النحو التالى:

أن الطبيعة الهدامة ليست جانباً محتماً فى الصراع، كما أنها ليست سمة ملازمة للطبيعة البشرية لا يمكن السيطرة عليها. فالأفراد – كانوا وما زالوا – يكتشفون إمكانية التوصل إلى وسائل مختلفة للتعامل مع اختلافاتهم، والمنازعات فيما بينهم، ولإدارة الصراع بصورة تؤدى إلى نتائج أفضل بوجه عام(20).

أن الصراع موجود كأحد سمات وخصائص الحياة والعلاقات الإنسانية. ففى التفاعلات التبادلية اليومية عادة ما يسعى كل طرف إلى تعظيم منفعته، والتى لكى تتحقق لابد أن تنخفض منفعة الطرف الآخر، من هنا كانت ضرورة أن يتوصل الطرفان إلى تبادل مقنع يراعى ويحقق بعض القواعد والحدود، وبما يحقق التوافق والاستقرار بدلاً من التصادم والصراع(21).

يرتبط بما سبق أيضاً أن طرفى أو أطراف الصراع فى موقف صراعى، ومن خلال اختيارهم لقنوات الاتصال بينهم، إنما يختاران عادة بين أحد صورتين رئيسيتين: إما إقامة نمط لعلاقة صراعية بينهما a Conflict Set، وفيها يؤدى أحد الأفعال إلى تحقيق فائدة لأحد الطرفين أو الفاعلين على حساب الآخر، أو أن يختارا تأسيس نمط لعلاقة تبادلية a Trading Set للوسائل والغايات. ومن ثم، فإن الحركة بينهما تفيد كلاً من الطرفين بشكل ملحوظ(22).

على ضوء ما سبق، يمكن التأكيد على أن للصراع بعض الوظائف الهامة التى تبيح فى مجملها، – وخلال دورة حياته، وفى مستوياته، وأنواعه المتعددة – إمكانية تحويله من صراع مدمر إلى صراع إيجابى، له دوره ووظيفته كأداة فعالة وذات اتصال وثيق بقضايا التغيير الاجتماعى وضبطه(23). من أهم مجالات تلك الوظائف ما يتعلق بدور الصراع كميسر للتغيير الاجتماعى، وفى تحقيق التكامل والاندماج، واستعادة التوازن والاستقرار، وزيادة كفاءة معدلات التنسيق بين أطرافه. هذا بالإضافة إلى الوظيفة التقليدية للصراع، والتى تدور فى معظم الأحوال حول دعم وتأكيد عمليات السيطرة على الموارد المحدودة أو المرغوبة من قبل أحد طرفيه(24).

ب- مفهوم الصراع والمفاهيم الأخرى:

يتطلب الاهتمام بتعظيم الجوانب أو الوظائف الإيجابية للصراع دفع الباحثين والمتخصصين إلى الاهتمام المتزايد بعمليات التفاوض، والوساطة، وتسهيل حل المشكلات، كوسائل بديلة لتسوية المنازعات. وإذا كان نجاح مثل هذه الوسائل يؤدى، بلا شك، إلى تطوير فرص التعاون والتنسيق بين أطراف العلاقة الصراعية، فإنه من جانب آخر يبرز الحاجة ابتداءً إلى التمييز بين مفهوم الصراع وما عداه من المفاهيم الأخرى المرتبطة به أو المتداخلة معه حتى يمكن التوصل إلى الفهم الصحيح للموقف الصراعى، وبالتالى اختيار الأدوات والآليات المناسبة للتعامل معه من جانب آخر.

1- الاختلاف، عدم الاتفاق، والمشكلة:

هناك بعض من المفاهيم الأخرى مثل الاختلافات، وعدم الاتفاق، والمشكلة، وعلى الرغم من ارتباطها بمفهوم الصراع، وتميزها عنه من حيث الذيوع والانتشار، إلا أنها تتسم بوجه عام بتواضع مضمونها الصراعى مقارنة بمفهوم الصراع (شكل 1) فالاختلافات Differences تشير إلى طبيعة بشرية بين الناس حيث هم مختلفون بالميلاد، ومن هنا يُنظر إلى الاختلافات كأمر من أمور الحياة العادية، إن لم ينظر إليها باعتبارها من الأشياء التى تتسم بنكهة ومذاقٍ خاص للحياة يضفى عليها قدراً من الحيوية والفعالية لم يكن ليتحقق فيما لو تماثل الأفراد فى كل شئ بينهم. ومن هنا فالاختلاف بذاته ليس سبباً للصراع، وإن مثَّل مصدراً له. أما فيما يتعلق بعدم الاتفاق Disagreement فإن حدوثه يرتبط بتعبير الأفراد عن تفضيلاتهم وأولوياتهم مقارنة بتلك الخاصة بالآخرين. وهنا تجب الإشارة إلى أن عدم الاتفاق فى حد ذاته يمكن ألا يرتب أياً من أنواع الأذى أو الضرر أو أى نتائج محددة. وأخيراً، فإن المشكلة Problem تحدث عندما يسبب عدم الاتفاق أو الاختلاف بعض النتائج، على الأقل، لأحد الأطراف. وعلى الرغم من أن المشكلة يمكن تجنب حدوثها، إلا أنها عادة ما تكون مزعجة، ومكلفة، أو كليهما في أن واحد. وبوجه عام، فإن الأفراد عادة ما يواجهون العديد من المشكلات في حياتهم اليومية، كما أن وجود المشكلات يمثل في حد ذاته مصدرا محتملا للتصعيد وبالتالى حدوث أزمات أو اتخاذ قرارات قد يكون من نتيجتها تطور صورة أو أخرى من صور النزاع (25)

2- النزاع: Dispute

يعرف النزاع في دوائر المصادر اللغوية بأنه ” إعطاء أسباب أو حقائق لتأييد أو معارضة شئ ما”، أو أنه “المناقشة” ، أو المجادلة، أو السجال حول شئ ما أو بخصوصه”. كذلك يدور النزاع حول، أو على، أو مع شئ ما، خاصة عندما يكون النزاع غاضبا، وممتدا لفترات طويلة. كما يعرف النزاع أيضا بأنه “جدال أو شجار –يكون بصفة خاصة ذا طبيعة رسمية- بين جماعة أو منظمة، وبين جماعة أو منظمة أخرى”. أما في الأدبيات المتخصصة، فإن النزاع يتم تعريفه بأنه “تعارض في الحقوق القانونية قد تتم تسويته بالتوصل إلى حلول قانونية وسياسية”(26). كما أنه يفترض أيضا وجود طرفين أو أكثر يعترفان بوجود الاختلافات والمشكلات بينهما من جانب، وأن يبدى أحد هذه الأطراف على الأقل استعداده ورغبته فى حل المشكلة(27). على ضوء ذلك، فإن النزاع يشير إذاً إلى موقف صراعى تواجه أطرافه أحد موقفين أحدهما قابل للتفاوض، بينما الأخر لا يحتمل التوفيق، ومن هنا كانت أهمية وحيوية البحث عن إطار لتحليل وحل المشكلة موضع النزاع(28)، وفى هذه الحالة، فإن مفهوم النزاع هنا إنما يشير إلى الأسلوب أو الطريقة التى يتناول بها متخصصو العلوم الاجتماعية الحديث عن الإجراءات القانونية، وشبه القانونية والمؤسسية المتعلقة بتسوية أو حل النزاع من جانب، كما أن منظور النزاع بهذا المعنى إنما يحول الاهتمام عن الأبنية وعن القواعد الرسمية إلى عمليات الصراع، ومظاهرها، وأفعالها(29).
ومن ثم، فإن مقارنة مفهوم النزاع بمفهوم الصراع توضح أن مفهوم الأول يشير إلى درجة أقل حدة وأقل شمولا فى الاختلافات عن الثانى، وأنه قد يمكن احتواؤه والسيطرة عليه من وجود تعارض في القيم أو المصالح بحيث تشعر معه أطراف الصراع أن أهدافها غير متوافقة من جانب. كما أن كلا من أطراف الصراع لا يكون فقط متورطا بصورة أو بأخرى في الموقف الصراعى، ولكنه أيضا يكون مهتما من جانب آخر باستثمار هذا الموقف الصراعى من خلال التصعيد، وذلك بهدف تحقيق الفوز والنصر، أو على الأقل حتى لا يخسر. وأنه قد يمكن احتواؤه والسيطرة عليه ومنع انتشاره(30)

3- الأزمة : CRISIS
يواجه مفهوم الأزمة مشكلة من نوع خاص تتمثل في كونه، وعلى حد تعبير جيمس روبنسون، “مفهوما عاما يبحث عن تعريف، ومعنى علمى متخصص” فالبعض يعاملونه كمرادف للضغط Stress ، أو الانهيارPanic ، أو الكارثةDisater ، أو العنف Violence ، أو الكامنPotential Violence . أما في إطار ممارسات المدرسة الطبية، فإن استخدام مفهوم الأزمة من قبل المنتمين إليها إنما يتم للدلالة على “نقطة تحول بين التحول المحظوظ وغير المحظوظ في حالة الكائن الحى”، أى بين الحياة والموت، خصوصية مفهوم الأزمة تزداد صعوبة إذا أخذ في الاعتبار حقيقة أن المفهوم يكثر استخدامه من قبل العديد من المتخصصين في علوم النفس، والاجتماع، والسياسة، والتاريخ، وفى غيرها من مجالات العلوم الاجتماعية، الأمر الذى يترتب عليه قصور فائدة المفهوم في بناء نظام معرفى حول الأزمة كظاهرة اجتماعية. وعلى ضوء ذلك يرى روبنسون أن هناك اتجاها عاما نحو استخدام المفهوم للتدليل على “نقطة تحول تميز ناتج حدث ما بشكل مرغوب أو غير مرغوب فيه، بين الحياة والموت، العنف أو اللاعنف، الحل أو الصراع الممتد(31).

ومن ثم، ففى إطار السعى نحو التوصل إلى دلالات أكثر دقة وتحديدا لمفهوم الأزمة، فإن الاتجاه العام ينصرف إلى التمييز بين جوانب جوهرية وأخرى إجرائية عند تعريف الأزمة، كما يتم التمييز أيضا فى الأزمة كموقف اتخاذ قرار. وبينما يستند التعريف الجوهرى للأزمة على تحديد محتوى السياسة، أو المشكلة، أو الموقف، فإن التعريف الإجرائى يؤكد على السمات الجوهرية الأساسية للموقف بدون النظر إلى ما إذا كانت حالة خاصة تتضمن على سبيل المثال، أزمة داخلية، أو سياسية، أو حتى أزمة على المستوى الفردى(32). أما تعريف الأزمة كموقف قرار، فإنه يتطلب تحديد عناصر ثلاثة أساسية: أصل الحدث لصانع القرار، سواء كان هذا الحدث داخليا أو خارجيا، الوقت المتاح لاتخاذ القرار أو للاستجابة، وهنا يتم التمييز بين مستويات ثلاثة: قصير، متوسط، طويل، وأخيرا تحديد الأهمية النسبية للقيم موضع الخطر بالنسبة للمشاركين من حيث كونها عالية أو منخفضة(32).

على ضوء ذلك، يمكن الإشارة إلى بعض تطبيقات المعايير فى التعريف بالأزمة. فهناك من يتجه إلى تعريفها بأنها ” فعل أو رد فعل إنسانى يهدف إلى توقف، أو انقطاع نشاط من الأنشطة، أو زعزعة استقرار وضع من الأوضاع، بهدف إحداث تغيير في هذا النشاط أو الوضع لصالح مدبره”(34). كما تعرف الأزمة أيضا “بأنها تحول فجائى عن السلوك المعتاد” بمعنى تداعى سلسلة من التفاعلات يترتب عليها نشوء موقف مفاجئ ينطوى على تهديد مباشر للقيم أو المصالح الجوهرية لأحد أطراف الصراع (أفراد، جماعات، دول)، مما يستلزم اتخاذ قرارات سريعة في وقت ضيق، وفى ظروف عدم التأكد، وذلك حتى لا تنفجر الأزمة في شكل صدام أو مواجهة (خاصة المواجهة العسكرية في حالة كون أطراف الأزمة دولا). وعادة ما تتم مواجهة الأزمة بإدارتها، أو التلاعب بعناصرها المكونة لها، وبأطرافها بهدف تعظيم الاستفادة من ورائها لصالح الأمن القومى(35)

ومن الناحية الاجتماعية تحدد الأزمة بأنها توقف الحوادث المنتظمة، والمتوقعة، واضطراب العادات والعرف، مما يستلزم التغيير السريع لاستعادة التوازن، ولتكوين عادات جديدة أكثر ملاءمة(36).

وبوجه عام، فإن الطبيعة العامة لمفهوم الأزمة تتحدد فى خمس سمات أساسية توجز فيما يلى :
1- الأصول الإدارية للأزمة: ويعنى ذلك أن الأزمة ترجع فى جذورها إلى تصور إدارى حيث تثار مشكلة في أحد مناطق النزاع حول صنع قرار ما، لكن الوسائل الروتينية المتاحة لاتخاذ قرار بشأن هذه المشكلة تكون غير كافية، ومن هنا يزداد الضغط من أجل التغيير.

2- المحور النخبوى: وهو متعلق بالنخبة بمعنى أن أى تغيير في البيئة المحيطة قد يؤدى إلى تولد مشكلة سياسية، ويتوقف ذلك على الجماعة التى تتأثر بالتغيير، وكلما كانت تلك الجماعات أقرب إلى قنوات الاتصال المركزية، وأكثر تنظيما، وأقوى سيطرة على الموارد الهامة، كلما زاد الاحتمال بأن تتحول المشكلة إلى أزمة سياسية، ويعود ذلك إلى نشأة الأزمة داخل النخبة وليس خارجها.

3- الإطار المؤسسى: ويشير إلى أن احتمالات أن تتطور أى مشكلة إلى أزمة إنما يتوقف على المرونة التنظيمية للمؤسسات القائمة. وهذا يعنى ضرورة انتهاج النظام لسلوك إدارى تجديدى من جانب النخبة بما يؤدى إلى تغيير النمط المؤسسى للمجتمع وإلا استدعى الأمر استبدال النخبة ذاتها.

4- الوضع الحدى: بمعنى أن الأزمات المتتالية لا تتضمن حركة صاعدة مستمرة في اتجاه زيادة قدرة النظام السياسى، فليست كل الأزمات تحل بقرارات تجديدية ابتكارية، فقد يؤدى بعضها إلى انهيار مؤسسة أو أخرى من مؤسسات النظام السياسى، أو إلى انهيار مجتمعى شامل .

5- الآلية المتجددة: وتشير إلى أن الأزمات بتتابعها وتداخلها يرجح أن تترك انطباعا عاما بأنها آلية متجددة توحى بالاستمرار وبالتواصل. وتنتج هذه الآلية من الاحتمالات التى تنتظر أى أزمة (37)

3- مفهوما العنف والإرهابViolence & Terrorism

يختلف مفهوما العنف والحرب، فالأخيرة وإن مثلت إحدى صور الأول، إلا أنه –العنف- مفهوم له شموله وخصوصيته عن مفهوم الحرب. فمن جانب، يعد إحداث الضرر، أو إلحاق الأذى، أو استغلال الموارد، كلها تعد أهدافا أساسية للطرف المعنى من أجل تحقيق أهدافه، كما أن مفهوم العنف هنا لا يقتصر على الجانب العضوى فقط، حيث قد يمتد إلى المجالات العاطفية والنفسية (38) . ومن جانب آخر، فإن العنف باعتباره متميزا عن الحدة أو الكثافة التى تميز الصراع فإنه يشير إلى اختيار وسائل تنفيذ الصراع أكثر من إشاراته إلى درجة التورط من قبل المشاركين. أما كثافة الصراع أو حدته يتنوعان بشكل مستقل عن بعضهما البعض. فكلما كانت أطراف الصراع أكثر اندماجا في المجتمع أو الجماعة، كلما قل الاحتمال أن يكون الصراع بينهما عنيفا. في حين أنه كلما ازدادت وكبرت درجة الاندماج، كلما ارتفع احتمال أن تختار الأطراف المتصارعة أسلحة تؤدى بشكل دائم إلى تهديد الروابط المشتركة بينها(39)
إضافة إلى ذلك، فإن العنف من حيث موضوعه أو أشكاله وصوره يتضمن – إلى جانب الحرب- أنشطة وأعمالا أخرى مثل الاغتيالات السرقة، الإكراه، الشغب، والتظاهر غير السلمى أو الصاخب، التجاوزات في بعض أعمال البوليس وممارسته، الأعمال الانتقامية والتدخلات القسرية في شئون الآخرين. أما من حيث أطرافه، فإنها قد تكون أفرادا أو جماعات أو دولاً. كما أن مجاله أو نطاقه يتسم بالشمول والاتساع فيتراوح من مجرد الأعمال الفردية إلى مستوى أعمال العنف على المستويين القومى والدولى من قبل الجماعات المنظمة، كما قد ترتبط هذه الأعمال بدوافع عقيديه أو أيديولوجية سياسية – كما في حالات حركات التحرر الوطنى على سبيل المثال- أو بمصالح سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية معينة، كما تؤثر مصالح الأطراف المعنية على تقييمها ونظرتها لهذه الأعمال، وبالتالى تتنوع المواقف والسياسات إزاء أعمال وجماعات العنف بوجه عام على المستويات الفردية أو الجماعية للأفراد والجماعات والدول وكذلك للأطراف الأخرى كالمنظمات والهيئات الإقليمية أو الدولية وما شابهها.

أما مفهوم الإرهاب فإنه يمثل صورة خاصة من صور الصراع منخفض الحدة، أو إحدى صور الصراع التى تنخفض فيها درجة العنف نسبيا. وعادة ما تتم الأعمال الإرهاببة بواسطة الأفراد أو الجماعات التى تتصرف أو ترتكب أعمالها كنوع من المعارضة لحكومة قائمة، أو نائبة عنها، أو عن سلطة حكومية. وتتمثل السمة المميزة للإرهاب في أن نية التأثير – أو التأثير المقصود- على جماعة محددة كهدف لها، أكثر من التأثير على ضحيتها مباشرة، والتى قد تكون، أولا تكون طرفا في النزاع المباشر. وعلى ذلك، ومقارنا بالصراع، فإن الإرهاب يمثل استراتيجية سياسية قائمة على القهر تستخدم التهديد بالعنف والألم كأداة رئيسية لها (40)

4- مفهوم الحرب WAR

تعد الحرب أكثر صور العنف ذيوعا وشهرة في الصراعات الدولية. وعلى الرغم من الاختلاف حول التعريف الدقيق للمفهوم، أو ما يمكن تسميته التعريف، الجامع المانع للحرب. وفى هذا الصدد يعرف دوكاكى الحرب بأنها حالة قانونية تسمح وبصورة متساوية لعدوين أو أكثر الاستمرار في صراعهما باستخدام القوة المسلحة(41). وفى تعريف مبسط آخر تعرف الحرب بأنها ” أعمال عنف مسلح بين دولتين –أو أكثر – ذواتى سيادة”، أو أنها – أى الحرب- هى “أقصى صور الصراع عنفا وأكثرها وضوحا وسفورا، . كما أن الأطراف، وقد تورطت فعلا في الحرب والصدام، عادة ما تتجه إلى تجاهل اختلافاتها الأساسية، والتطورات التى قادتها إلى الحرب من جانب، كما أنها وقد تورطت فعلا في الحرب، تصبح أولويتها الأولى متمثلة في الإضرار بمصادر قوة الخصم، والسعى إلى تدميرها بما يحقق هدفها في الانتصار أو عدم الخسارة.
على ضوء ما سبق من تعريفات يمكن الإشارة إلى بعض الملاحظات الأساسية حول الحرب كمفهوم، والحرب كعملية. من أهم تلك الملاحظات ما يلى:

أولا : فيما يتعلق بالحرب كمفهوم:

1- توصف الحرب بأنها “حالة قانونية”، الأمر الذى يعنى أن القانون والعرف يعترفان بأنه بمجرد قيام الحرب، فإن هناك أنماطا معينة من السلوك والاتجاهات تصبح مقبولة، أو ملائمة للموقف. فالحرب لا تتضمن فقط انتشار أعمال العنف المسلح بين أطرافها، ولكن أيضا أن يتم الاعتراف بحالة الحرب هذه، مع ما يرتبه ذلك من التزام أطرافها باحترام القواعد التى حددها القانون الدولى لمثل تلك المواقف.

2- إن الربط بين قيام هذه الحالة ووجود ” جماعتين أو أكثر على حالة عداءHostile Groups إنما يشير ضمن عوامل أخرى إلى وجود، وتأثير اتجاهات جماعية أكثر من كونها فردية، وإلى أن هذه الاتجاهات عدائية أكثر من كونها صديقة أو موالية.

3- أن القول بأن الحرب “استمرار للصراع بين الجماعات باستخدام القوة المسلحة “the Groups are carrying on a conflict by armed forces” إنما يعكس الطبيعة الصراعية أو التنافسية للعلاقة بين الأطراف المعنية في الفترة السابقة على اندلاع أعمال العنف المسلح بينهما. من هنا يعد اندلاع الحرب تعبيرا عن وصول الصراع إلى ذروته وسعى أطرافه لتسوية أو حله من خلالها. بعبارة أخرى، فإن اندلاع الحرب يعنى فشل كل الوسائل أو الآليات الأخرى غير العنيفة في التوصل إلى تسوية أو حل مقبول بين أطراف الصراع.
وهكذا يتضح أن مفهوم الصراع، وبصفة خاصة في المجال الدولى، يعد أكثر شمولا عن مفهوم الحرب في نطاقه، وأكثر تعقيدا في طبيعته وأبعاده. فالحرب متى بدأت، تصبح خيارات أطرافها محدودة بالنصر أو الهزيمة، بينما في ظروف الصراع، وفى المراحل السابقة على حدوث الحرب، يكون هناك ثمة مجال أوسع لإدارة الصراع، والتكيف مع ضغوطه في اتجاه أو آخر، مع الاحتفاظ بالمقدرة النسبية على الاختيار بين البدائل المتاحة أمام كل طرف من أطرافه (42)

ثانيا : فيما يتعلق بالحرب كعملية :

فإن الحرب كعملية تشير إلى الارتباط والتفاعل بين مكونات أو سمات أربع أساسية حددها البروفسور كوينسى رايت بأنها تشمل: نشاطا أو عمليات عسكرية، مستوى عالى من التوتر، قانونا غير عادى، ودرجة رفيعة من التكامل السياسى(43)
وهنا يثار عدد من الأسئلة والملاحظات الهامة من بينها على سبيل المثال ما يلى:
1- هل يشترط لقيام الحرب إعلان رسمى من قبل أطرافها المعنية؟ وبافتراض كون الإجابة إيجابية، فهل يجب تورط هذه الأطراف في الأعمال العدائية بصورة فعلية ؟ ولأى مدى زمنى يمكن أن تستمر الحرب ؟ وإلى أى درجة من الحدة والدمار ينبغى أن تصل الحرب ؟

2- ما هى الأهداف الموضوعية للحرب، وما علاقاتها بالآليات أو الديناميكيات التى من خلالها يتم تحديد هذه الأهداف ؟ ثم كذلك ما علاقة الظروف التى تؤدى إلى انفجار الموقف وحدوث الحرب بكل من الأهداف والآليات؟(44)

3- إنه وقد سبقت الإشارة إلى أن الحرب كعملية تمثل صور الصراع عنفا وأكثرها وضوحا وسفورا، فإن ذلك يتضمن الإقرار بأن حدوث الحرب يمثل نهاية لمرحلة في الصراع اتسمت بفشل كل الوسائل والآليات غير العنيفة في تسوية أو حل الصراع بين طرفيه (أو أطرافه)، كما أنها – أى الحرب- تبدأ أيضا مرحلة جديدة يتم فيها اللجوء إلى استخدام العنف كآلية يمكن توظيفها لتحقيق مصالح أو مكاسب محددة لم يكن تحقيقها ممكنا من وجهة نظر أطرافها ما لم يتم اللجوء إلى الحرب لحسم الصراع بينهما.

شكل رقم (1) : الاختلافات والصراع ودرجة القهر

أقل قهرا
Least Coercive
1- الاختلاف
Difference
2- عدم الاتفاق
Disagreement
3- المشكلة
Problem
4- النزاع
Dispute
5- الصراع
Conflict
6- العنف
Violence
7- الحرب
أكثر قــهرا

Most Coercive

3- أسباب الصراع وجذوره
CONFLICT : CAUSES AND ROOTS

تتصف المداخل أو النظريات المفسرة لظاهرة الصراع بوجه عام بالتنوع والثراء. فمنها ما يهتم بتفسير الصراع كظاهرة عامة، ومنها ما يتجه إلى قصر اهتمامه على دائرة الصراع الدولى بوجه خاص. وهنا يمكن القول ابتداءُ، أنه أيا كانت دائرة الاهتمام النظرى في تفسير ظاهرة الصراع، فإن الصراع كظاهرة بالغ التعقيد لتداخل المتغيرات المرتبطة به وتشابكها من جانب، ولتعدد أنواعه ودوائره، ومن ثم مستويات تحليله ودراسته من جانب آخر. ومن هنا كانت ضرورة أن ينهض التفسير الموضوعى لظاهرة الصراع على الاستفادة المتكاملة من الإمكانات التى توفرها تلك المناهج والنظريات مجتمعة، مع الأخذ في الاعتبار السمات الخاصة لكل حالة صراعية.

وفى هذا الصدد، فإنه تنبغى الإشارة إلى أن الأدبيات المتخصصة في تفسير نشأة الصراع وتطوره بوجه عام، إنما تتيح إمكانيات هائلة للتمييز في اتجاهات التنظير بين مداخل متعددة، منها على سبيل المثال كل من : المدخل النفسى أو السيكولوجى، والمدخل الأيديولوجى، ومدخل المصالح، والمدخل الاقتصادى، ومدخل سباق التسلح، ومدخل النظام السياسى، والمدخل الجيوبوليتيكى، والمدخل السوسيولوجى(45) ،والمدخل البيئى(46) وفى إطار الإشارة العامة إلى مجمل هذه النظريات مجتمعة، سواء تعلقت بالصراع بوجه عام أو بالصراع الدولى بوجه خاص، فإن الاهتمام سوف يوجه بصفة خاصة إلى ما يسمى بـ “دائرة الصراع” كأداة تحليلية يتم من خلالها استخدام مجموعة من النظريات – في مستويات متكاملة- لتفسير السلوك الصراعى، والتعرف على جذوره ومسبباته.

أولا : النظريات المفسرة للصراع في بعدية العام والدولى

1- المدخل النفسى أو السيكولوجى :

يعتمد المدخل النفسى أو السيكولوجى في تفسير الظاهرة الصراعية على عدد من الاتجاهات النفسية أو السيكولوجية العامة التى تهتم بتقديم تفسير نفسى أو سيكولوجى لظاهرة الصراع في مستوييها الفردى والدولى.
أ- التفسيرات النفسية للصراع على المستوى الفردى :
بوجه عام، فإن الصراع – طبقا لهذا المدخل- قد يحدث على المستوى السلوكى المعلن أو الواضح Overt عندما يكون لدى المرء دافع للاقتراب من، أو الابتعاد عن الأشياء المحرمة أو الممنوعة في آن واحد. كما يكون على المستوى اللفظى أيضا عندما يود المرء أن يتحدث بصراحة لكنه يخشى الإساءة للآخرين. أيضا على المستوى الرمزى، فإن الأفكار قد تتصادم وتنتج نوعا من عدم الاتزان الفكرى. وهكذا، فإن حدوث الصراع من المنظور النفسى يكون وظيفة لعدو التوافق بين الاستجابات المطلوبة –العلنية أو اللفظية أو الرمزية أو العاطفية أو غيرها- لإشباع دافع معين مع تلك المطلوبة لإشباع دافع آخر(47).
وفى مجملها، فإن إسهامات المدخل السيكولوجى متمثلة في تقديم عدد لا بأس به من المتغيرات أو العوامل النفسية التى تستخدم كأساس أو كمسببات نفسية لحدوث الصراع في مستواه الفردى. هذه المسببات النفسية يمكن الإشارة إليها كما يلى (48) .
النزعات العدائية Aggressiveness ، التحيز والتحامل Bisa ، الإلقاء بمسئولية الذنب على الآخرين Blaming Others ، الحقد Hatred، التعطش للثأر والانتقام Revenge، انعدام الشعور بالأمن Insecurity ، الإحباط االاجتماعىSocial Frustration ، الرغبة في تحقيق الذات Ego Fulfillment الحاجة إلى التقدير والبحث عن المكانة Self Esteem الرغبة في الإخضاع والسيطرة Control Orientation ، الدافع للتضحية Sacrifice، الشعور بأداء رسالةSense of a Mission أما على مستوى الأفراد العاديين، وفى إطار محاولاتهم العامة لتفسير أسباب حدوث الصراع، فإنهم عادة ما يتجهون إلى أن ينسبوا وجود الصراع إلى الطبيعة البشرية. هذا الاتجاه عادة ما يعكسه مضمةن تعليق شهير، كثيرا ما يتردده هؤلاء هم الناس، أو هذه هى طريقتهم..، وبعدها ينسحب المرء المعنى ليعيد حساباته بطريقة جديدة ليتمكن من هزيمة منافسة أو خصمه في جولة قادمة. وعلى الرغم مما قد يتضمنه مثل هذا التعليق من قدر نسبى من صحة، إلا أن استمرار مثل تلك الاتجاهات في السيطرة على تفسير الإنسان لظاهرة الصراع، وقصرها بالتالى على الطبيعة البشرية، إنما هو أمر من شأنه أن يحجم فرصة الإنسان المهتم بالتوصل إلى إحداث تغيير جوهرى بصدد النزاعات التى لم يستطيع كسبها أو الفوز فيها، أو بمعنى آخر التى قهرته، ومن ثم. فإن إمكانياته في فهم الصراع، وبالتالى قدراته على تحليل أبعاده، واتخاذ القرارات المناسبة بصدد مواجهته، سوف تظل قاصرة.

ب- التفسيرات النفسية للصراع على المستوى الدولى :

في مجملها، تستند التفسيرات النفسية أو السيكولوجية العامة لظاهرة الصراع على المستوى الدولى إلى مجموعة العوامل النفسية أو السيكولوجية التى يمكن الإشارة إلى أهمها في إطار الاتجاهات الأربعة التالية :

الاتجاه الأول : ويربط بين النزعة العدوانية وبين الطبيعة الإنسانية . ومن أبرز دعاة هذا المنهج كل من عالم النفس الشهير سيجموند فرويد، واستاذ العلاقات الدولية المعروف كينيث والتز.
في هذا الخصوص، فإن فرويد يذهب إلى القول بأن “الدوافع المحركة لعملية التنازع والتصارع إنما ترجع إلى غريزة حب التسلط والسيطرة، وكذلك إلى الدافع نحو الانتقام والتوسع والمخاطرة”. واستنادا إلى ذلك، رأى فرويد ان الصراعات والحروب إنما تمثل فرصة مثلى لإرضاء مثل هذه الدوافع والنزعات الكامنة في أعماق الطبيعة الإنسانية ذاتها(49).

أما كينيث والتز فإن الصراعات والحروب في مفهومه إنما تنتج عن “مشاعر الأنانية والغباء الإنسانى” من جانب، وكذلك عن “سوء توجيه النزعات العدوانية” من جانب آخر. ويضيف والتز أن “ماعدا ذلك من عوامل إنما يعد ثانويا لا ينبغى النظر إليه إلا في ضوء هذه الحقيقة السيكولوجية الأساسية”.
ومع التسليم بأهمية المتغيرات النفسية كأحد المصادر الأساسية لتفسير ظاهرة الصراع، إلا أنها لم تحُل دون ظهور بعض الانتقادات الأساسية لاستخدام النزعات العدوانية كمحدد لتفسير الصراع، والتى يتمثل أهمها فيما يلى:

أ- أن القول بأن الصراعات تسببها نزعة غريزية للعدوان لا ينطبق على كل من حالات الصراع، فالصراعات الدولية على سبيل المثال لا تتسبب عن ” تلك النزعة الغريزية للعدوان” ، ولكنها تنشأ بسبب تراكم مشاعر الحقد والكراهية التى تخلفها الدعاية العدائية المتطرفة. إضافة إلى ذلك، فإن الاستناد إلى تلك ” النزعة الغريزية للعدوان” لا ينطبق أيضا في العديد من حالات الصراع التى اضطر فيها قادة العديد من الدول إلى انتهاج وسيلة الصراع المسلح بعد استنفاد كافة السبل والبدائل الأخرى، وإخفاقها في حماية المصالح الوطنية لدولهم، أو في التوصل إلى تسوية الموقف النزاعى بطريقة مقبولة .

ب- أن العدوان وكما يقول لينز Lentz لا يقوم لوجود غرائز عدوانية ….، وإنما يرجع إلى العادة وإلى أن العدوان هو التعود على الهجوم (50).

الاتجاه الثانى : ويمثل ما يسمى بنظرية الإخفاق أو الإحباط Frustration:
ويقوم هذا الاتجاه على النظر إلى الصراع على أنه نتيجة لعامل الإحباط ووصوله إلى ذروة تأثيره في ظروف الأزمة التى يمر بها أطرافه، وبصفة خاصة عندما تصاب خططهم بالإخفاق. ومن أبرز دعاة هذا الاتجاه عالم النفس فلوجل Flugel واريك فروم Fromm .
وفى تفسيره للصراع، يقول “فلوجل” بأن الدول التى تحقق فيها الحاجات الأساسية لشعوبها بصورة معقولة تكون أقل استعدادا من الناحية السيكولوجية للصراع والحرب من تلك الدول التى يسيطر على شعوبها الشعور بعدم الرضا أو الضيق. أما أريك فروم فيرى فيقول بأن ” العنف والميل إلى التدمير إنما يمثلان الناتج التلقائى والحتمى للشعور بالإحباط الذى ينشأ عن الصدمة الناتجة عن خذلان الآمال والتطلعات القومية لسبب أو لآخر”.
وبدوره، فإن الاتجاه إلى تفسير الصراع كنتيجة لعوامل الإخفاق والإحباط قد استثار بدوره بعض الانتقادات، والتى تمثلت في غياب الموضوعية والواقعية في هذا الاتجاه، حيث إن معظم الدول العدوانية في التاريخ لم تكن دولا فقيرة، بل على العكس من ذلك، كانت في أغلب الأحوال من أكثر الدول ثراء ورفاهية، ومن ثم فإن التركيز على عامل الإحباط وحده كقوة محركة للصراعات الدولية يخلو من الواقعية والموضوعية (51)
الاتجاه الثالث : والتركيز على الشخصية القومية National Character :

ويفسر هذا الاتجاه ظاهرة الصراع على أساس من وجود ما يسمى “بالسيكولوجية القومية العدوانية” أو “الطابع العدوانى لبعض الطبائع والسمات القومية العامة”، والتى تشكل في تصور القائلين بهذا الاتجاه ” القوة الرئيسية المحركة للصراعات والحروب الدولية”. وعلى ذلك يرى هذا الاتجاه “ضرورة مواجهة تلك الأمم ومحاصرتها كوسيلة فعالة للحيلولة دون تفجر الحرب نفسها” .

وينتقد هذا الاتجاه على أساس أنه لا يمكن القول بوجود اتفاق عام حول وصف بعض الشخصيات القومية بالميل للعدوان، فالأمر كله يتوقف على الاتجاه العقائدى أو السياسى أو القومى لمن يقوم بتصنيف الدول إلى مجموعات عدوانية وأخرى محبة للسلام (52)

الاتجاه الرابع: المعتقدات القومية كسبب للصراع: ويقوم هذا الاتجاه على التفرقة بين أنماط المعتقدات القومية وعلاقتها بظاهرة الصراع الدولى على النحو التالى:

النمط السلبى : ويقوم هذا النمط على الاحتفاظ باتجاهات سلبية إزاء الدول الأخرى، ويأتى في مقدمة العوامل الدافعة لذلك إعادة توجيه الشعور بالإحباط الداخلى إلى بعض الدول التى ينظر إليها نظرة عدائية، ومحاولة إفراغه فيها، الأمر الذى يدفع بالعلاقات المتبادلة لهذه الأطراف إلى مستوى أعلى من التوتر والصراع.

النمط الثابت: ويتمثل في الاتجاهات الناتجة عن استمرار الاحتفاظ بفكرة نمطية ثابتة عن الأمم الأخرى، ودون محاولة تغيير سمات أو مضمون هذه النظرة بما يتلاءم والواقع. ومن الطبيعى أن يؤدى هذا التصور غير الواقعى إلى مضاعفة احتمالات سوء الفهم، والتحيز وتوليد المشاعر العدائية غير المستندة إلى أسباب أو حقائق موضوعية.

النمط بالغ التبسيط : ويشير إلى قيام تصور مبالغ فيه عن طبيعة مسببات التوتر الدولى والحلول الممكنة في مواجهتها. وعادة ما يحدث ذلك نتيجة التغافل عن التركيب المعقد للعلاقات الدولية، والاتجاه نحو إلقاء مسئولية التوترات على النوايا السيئة، أو على التصرفات التى تنسب إلى دولة أجنبية معينة، ومن ثم الدخول معها في حرب بدلا من متاعب الحلول الواقعية للمشكلات الداخلية (53).
وعلى ضوء ما سبق يمكن الانتهاء إلى القول أيضا بأن القوة الحقيقية للتفسير النفسى للصراع إنما تكمن في إمكانات التنبؤ بالنتائج المتعددة للمواقف الصراعية على أساس من المعرفة بالعوامل التى يفترض أن لها تأثيرا على قوة الاتجاهات الاستجابية المتنافسة، ومدى تأثيرها على اتجاهات أطراف الصراع بالاستجابة والتفاعل أو بالتجنب والابتعاد.

2-المدخل الأيديولوجى:

يستمد المدخل الأيديولوجى دعاماته الفكرية من المنطلقات الأيديولوجية الماركسية باعتبار أن منهجها في صميمه يعد منهاج صراع. ويستهدف هذا المدخل من وراء ذلك إثبات وبرهنة قوة منطقة من جانب، وإثبات خطورة الصراع الأيديولوجى من جانب آخر. وفى هذا الصدد، يؤسس المدخل الأيولوجى تفسيره لظاهرة الصراع، خاصة على المستوى الدولى، على التناقضات الأيديولوجية بين الدول. فالحرب، كما يرى دعاة هذا المدخل، تمثل نقطة الذروة في تفاعل أى صراع، وأن الفهم الصحيح لأبعاده لا يتحقق إلا من خلال التصنيف الطبقى لقواه وأطرافه، ومن خلال تحديد علاقات القوى الطبقية بينها، وبالتالى يتم تحديد الدوافع المحركة للصراع من جانب، والمصالح المستترة ورائه من جانب آخر.

من هذا المنطلق، فإن حدوث الصراع طبقاً لهذا المدخل يترتب على التناقض في الرؤى الأيديولوجية والنتائج المرتبطة به، والتى تجعل من غير الممكن تسوية أو حل هذه الصراعات من خلال عملية المساومة. بل إن الأمر يصبح أكثر صعوبة عندما يتعلق الموقف بصراعات المصالح المرتبطة بتشعب الاختلافات الأيديولوجية بين طرفى أو أطراف الصراع، حيث يضيف البعد الأيديولوجى وضعا خاصا على الصراع يزيد من تعقيده فيصعب بالتالى على طرفيه-أو أطرافه- التوصل إلى حلول مرضية لكليهما(54)
وهكذا، فإن دعاة هذا المدخل يخلصون إلى أن أى نظرية معاصرة للصراع يجب أن تستند أدواتها الأساسية إلى فكرة الصراع الأيديولوجى، ومنها يمكن أن تنطلق كافة أبعاد التحليل لظاهرة الصراع عامة، والصراع الدولى بوجه خاص(55)

3- مدخل المصالح:

في إطار تعريفه للصراع باستخدام مدخل المصلحة، يرى البروفسيور ماننج العميد السابق لمدرسة الحقوق بجامعة ستانفورد الأمريكية أن ” صراع المصالح يختص بمصلحتين فقط: مصلحة الفرد كموظف عام مسئول عن أداء واجبه، ومصلحته الاقتصادية الخاصة كفرد أو مواطن عادى”. ومن ثم ، فإن قواعد تنظيم صراع المصالح إنما تسعى إلى منع حدوث مثل هذه المواقف، أو الإغراء بها. بهذا المعنى، يذهب مدخل المصالح إلى التمييز بين أشكال ومجالات متعددة لصراع المصالح. فهى قد تحدث في أو بين أى من السلطات الثلاث” التشريعية، والتنفيذية، والقضائية وقد ينجم عنها إثارة طرح الثقة بالحكومة في دولة ما. كذلك فإن مجالا حيويا لحدوث هذه الصراعات إنما يتمثل في القطاع الحكومى، والجهاز البيروقراطى، الشركات الكبرى، ومجالات الأعمال الدولية، كما يحدث صراع المصالح بين أى من هذه الجهات وبعضها البعض(56)

وبوجه عام، فإنه يمكن التمييز بين مستويين عاميين لصراعات المصالح. في دائرته الفردية، فإن صراع المصالح في جوهره إنما يدور بوجه عام حول الإجابة عن التساؤل حول كيفية وإمكانية قيام طرف ما بأداء مهام واجباته كما ينبغى، في الوقت الذى يؤثر فيه ذلك بشكل سلبى على مصالحه. أى أنه يشير إلى موقف صراعى يجد الفرد فيه أن مصلحته وولاءه في تناقض وتعارض مع مصالحه وولائه في موقف آخر(57) . ومما يزيد من أهمية هذا النوع من الصراعات ارتباطه بقضية الالتزام الاخلاقى لدى الفرد عندما تتعارض مصالحه الفردية كفرد أو كمواطن مع المصالح العامة التى يمثلها بصفته الوظيفية العامة. ففى هذا الموقف، قد يذهب الفرد إلى استغلال وضعه العام وسلطاته الوظيفية ولأسباب متعددة – كالطمع والمنافسة والجشع والانتهازية وعدم التأكد وضعف الوازع الأخلاقى أو الدينى أو لغيرها من الأسباب- في تحقيق مصالح خاصة أو ذاتية على حساب المصلحة العامة (58). من هنا كانت أهمية وضرورة حماية المصالح العامة من جراء هذا التعارض. في هذا الاتجاه، يؤكد مدخل المصالح في دراسة الصراع على خطورة هذا النوع من الصراعات نظرا لاعتبارات متعددة تدفع كلها باتجاه زيادة فرص حدوث هذا الصراع في الحياة العامة نتيجة لأحد الاعتبارات التالية:

اتجاه الحكومات للاعتماد على مهارات المتخصصين من الأفراد في المجالات العلمية والتكنولوجية.

تزايد دور الحكومة وتنامى دورها المؤثر في عمليات تراكم الثروة.

تصاعد دور الأفراد ونمو مصالحهم مع القطاع الخاص بمجالاته وأنشطته المتعددة، وبالتالى تزايد فرص واحتمالات حدوث التعارض بين العام والخاص بصدد تلك المصالح.

تزايد التداخل والتعقد في شبكة العلاقات الحكومية بالقطاع الخاص، وتنامى اعتماد الحكومات على هذا القطاع في التمويل والمشاركة في المشروعات التنموية المختلفة.

ضخامة القدرات والمتطلبات الاستهلاكية الحكومية واعتمادها على القطاع الخاص للوفاء بقدر لا بأس به من تلك المتطلبات.

وعلى ضوء هذا التزايد المطرد في احتمالات حدوث التعارض بين المصالح العامة والخاصة، فإن اقتراح الحلول لهذا التناقض المحتمل في الدائرة الفردية لصراع المصالح يمكن أن يتم في ضوء القواعد التالية:

أن الموظف الحكومى لا ينبغى أن يشارك في عمل حكومى يكون من شأنه التأثير على مصالحه الاقتصادية الخاصة.

منع الموظف العام من قبول التحويلات ذات القيمة الاقتصادية من القطاع أو المصادر الخاصة (كالهدايا، الهبات، وما شابه ذلك).

عدم السماح للموظف العام أو الحكومى بالتغاضى عن المقتضيات الوظيفية والمهنية لدوره ووظيفته في إطار علاقاته بالأفراد أو الهيئات أو المنظمات التى تقع في نطاق معاملاته وعلاقاته الوظيفية.

وضع ضوابط وقيود زمنية وموضوعية تنظم عملية انتقال الموظف العام إلى القطاع الخاص، وبصفة خاصة إلى المجالات التى يكون بينها ارتباط بشكل أو آخر مع وظيفته السابقة.

وضع الضوابط والقواعد التى تحكم علاقة الموظف العام بما يكون في حوزته بصفته الوظيفية من معلومات، ولا يجب السماح له باستخدامها في تحقيق نفع أو عائد خاص.

أما في دائرة صراع المصالح بين الدول، فإن الفرض الرئيسى لهذا المدخل يتمثل في أن “القوة الرئيسية المحركة لسياسات الدول الخارجية تتمثل في السعى المستمر نحو حماية وتنمية المصالح القومية” وأن السبيل إلى تحقيق ذلك إنما يتمثل في “مضاعفة الدولة لمواردها من القوة”. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مفهوم المصلحة هنا، وكما عرفه مورجانزو في هذا الخصوص، “يصبح مرادفا وقرينا للقوة”، وأن القوة هنا تشتمل-بالإضافة إلى الأدوات العسكرية- على التأثير السياسى الدولى، وكذلك قوة الضغط الاقتصادى، ووسائل الحرب النفسية والدعائية، وأساليب التفاوض الدبلوماسى،…الخ”.

وعلى ذلك، يرى القائلون بهذا المدخل، ومن أبرزهم كينيث تومسون، وفردريك شومان، وريمون آرون، أن “الصراع على القوة باعتبارها الركيزة التى تستند عليها المصلحة القومية، يعد حقيقة ثابتة تتجاوز المعتقدات الفردية والمذهبيات والأحزاب السياسية، وأشخاص الحكام”. وهكذا يصبح “الصراع وليس التعاون هو الطابع المميز للعلاقات الدولية، وأن الدولة تستمد مقدرتها على البقاء من قوتها الذاتية أو من الحماية التى يوفرها الآخرون لها إذا عجزت منفردة عن تأمين حق البقاء لنفسها”(59)
وبوجه عام، فإن مما يسهم في نجاح محاولات حل صراعات المصالح بين الدول أن تتجه جهود الحل والتسوية نحو إمكانية، وكيفية إحداث تغيير في العملية الذهنية أو العقلية المهتمة بالتوصل إلى اتفاقات. في هذا الاتجاه، قد يكون من المفيد الاهتمام بالتركيز على التفكير الابداعى أكثر من التفكير التحليلى من جانب، وتبنى منهج “حل المشكلات” أكثر من تبنى ” منهج تنافسى” في إطار مناقشة الاختلافات بين طرفى الصراع من جانب آخر.

4- مدخل النظام السياسى:

وينطلق هذا المدخل من الافتراض القائل بأن “النظام السياسى الدولى المرتكز في أساسه على مبدأ السيادة القومية يشكل المصدر الأساسى لكل أشكال الفوضى والصراعات الدولية” ومن ثم، فإن القضاء على هذه الصراعات بصورة إيجابية وفعالة يستلزم التعديل في هذا الأساس عن طريق إذابة الإرادات أو السيادة القومية وإدماجها في إدارة واحدة تتولى لغرض السلام وتدعيم فرص الاستقلال”
يضاف إلى ذلك، أن الاتجاه العام للدول للبحث عن مصادر إضافية أو بديلة لدعم قوتها وقدراتها الوطنية على استعادة أو تصحيح التوازن في علاقاتها مع الأطراف الأخرى، يؤدى بدوره إلى تقوية وتعضيد الاتجاه نحو الصراع بين الدول، أو على الأقل زيادة احتمالات تورطها بدرجة أو أخرى في هذا الصراع. ومن هنا يخدم التعرف على الأهداف القومية للدول كأحد مؤشرات تمييز الأسباب المؤدية إلى الصراع الدولى، والتى يمكن بصددها التمييز بين الأهداف ذات الطبيعة المحدودة، وتلك ذات الطبيعة المطلقة(60)
5- المدخل الاجتماعى:

يعد المدخل الاجتماعى أحد أهم المقتربات النظرية في دراسة ظاهرة الصراع في مستوياتها المتعلقة بالأفراد أو الجماعات على حد سواء. وبينما اتجه هذا المدخل في مراحله الأولى إلى الاعتماد على المقتربات المتعلقة بتحليل الصراع الطبقى – ماركس وانجلز-، أو على نظريات التطور الاجتماعى – داروين وأنصاره-، أو على مجمل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية – ماكس فيبر- ، فإن نطاق الاهتمام في هذا المدخل قد اتسع بدوره ليشمل المتغيرات المتنوعة التى تمثل روافد الظاهرة الصراعية في جذورها المتعددة كالإدراك، والقيم، والأصول العرقية أو الأثنية، والأيديولوجية، والثقافة بوجه عام.

وفيما يتعلق بالإدراك ودوره في الصراع الاجتماعى، فإن الفرضية الرئيسية للمدخل الاجتماعى إنما تقوم على الاعتراف بالدور المحورى الذى يلعبه سوء الإدراك في الصراع الاجتماعى. ذلك أن التصارع في سبل الفهم والمدركات يكتسب أهميته وتأثيره من حقيقة أنه يشير إلى “الاختلافات بين الذات والآخرين حول أفضل طرق تحقيق الأهداف المشتركة”(61) من هنا كان الارتباط وثيقا بين الإدراك والصراع الاجتماعى حيث يتطور الصراع نتيجة لإدراك أحد أطرافه لخصومة أو لأعدائه بشكل لا يتوافق مع مصالحه، الأمر الذى يسهم بدوره في تبنى الطرفين لسبل غير متوافقة لتحقيق أهدافهم(62)

إضافة إلى الإدراك، فإن المدخل الاجتماعى يوجه النظر أيضا إلى حقيقة أن أسباب الصراع الاجتماعى عادة ما توجد في مصادر متعددة، وبصفة خاصة في إطار عضوية الجماعات العرقية، الطبقات الاجتماعية، الفرق والجماعاات الدينية، وغيرها من الجماعات المشابهة، وعلى ضوء وجود قنوات عادلة لتوزيع وتوصيل الموارد بكافة أنواعها: الاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والقانونية أو أى موارد أخرى يمكن أن توجد في المجتمع، أو تكون مرغوبة من قبل الغالبية في المجتمع (63).

أما فيما يتعلق بالقيم فإن الصراع الاجتماعى يمكن تعريفه بأنه” نضال أو كفاح حول القيم، أو المطالب المتعلقة بالوضع أو المكانة، أو القوة، أو الموارد النادرة، والتى يكون هدف الأطراف المتصارعة فيها ممتدا إلى تحييد، أو إلحاق الضرر، أو إزالة المنافسين أو التخلص منهم، إضافة إلى كسب، وتحقيق القيم المرغوبة”(64) .

إضافة إلى ما سبق، فإن البعد الأنثربولوجى – وبما يمثله من تطور وتفاعلات بين الأجناس والأعراق البشرية- إنما يشكل بدوره أحد الأبعاد الهامة للصراع من المنظور الاجتماعى، حيث يتم النظر إلى الصراع بإعتباره “عملية اجتماعية معقدة متعددة الأبعاد، تنشط في محتويات عديدة مختلفة، وينتج عنها عديد من النتائج المتنوعة”. وفى تفسيرها لهذه الرؤية، فإن لورا نادر ترى بأن الصراع والعدوان يشكلان جزءا هاما، من النموذج العام لتطور الكائنات الحية وقدرتها على التكيف بوجه عام ، والإنسان وقدرته على التكيف السلوكى وبجه خاص. من هنا، فإن الكاتبة ترى أنه ليس من الممكن إغفال البعد الأنتثربولوجى في دراسة الصراع الاجتماعى فالإنسان، من جانب قد طور الثقافة والقدرة على تطويع رموزها، كما أن فهم الصراع ودراسته لا تحتاج لأن ترتبط بشكل دائم بالسلوك العدوانى باعتبار أنه ليس نوعا سلوكيا في حد ذاته بقدر ما هو تعبير عن موقف ناتج عن عدم التوافق في المصالح أو القيم من جانب، وبالعديد من الخصائص والسمات المميزة لهذا الموقف من جانب آخر. من هذه السمات ما يتعلق بعناصر الاجتماع أو الاتحاد Associative Aspects ، التناقض في نظام القيم، عناصر الإحباط والعدوانية، الأبنية والهياكل الوظيفية، آليات الاتصال، والسيطرة، والحل، وغيرها من الخصائص التى تميز موقفا صراعيآ بذاته(65).
أما المتغير الأيديولوجى كأحد عناصر المدخل الاجتماعى لفهم وتحليل الصراعات، فإنه يشير إلى التناقض في الرؤى الأيديولوجية والنتائج المترتبة عليه، والتى تجعل من تسوية أو حل الصراعات أمرا غاية في الصعوبة والتعقيد. فمن جانب، هناك التأثير الموضوعى للالتزام الأيديولوجى على أنواع الصراعات الأخرى خاصة صراعات المصالح والقيم باعتبار ما تمثله الأيديولوجيات عادة من رؤى محددة للغايات والوسائل، كما أن هناك أيضا بعض الأبعاد النفسية والذهنية والإدراكية المرتبطة بالاختلافات الأيديولوجية، الأمر الذى يؤدى ولا شك إلى تعقيد الموقف الصراعى وصعوبة التوصل إلى حلول موضوعية في غياب الفهم الكامل لأبعاد الموقف الاجتماعى(66).

على ضوء ما سبق، يمكن الانتهاء إلى أن المدخل الاجتماعى- وبما يتطلبه من دراسة للروافد الصراعية المتنوعة- إنما يجعل من الممكن ليس فقط إمكانية التوصل إلى رؤية شاملة ومتكاملة للظاهرة الصراعية في أبعادها المتنوعة، ومستوياتها المختلفة، بل أنه أيضا ييسر من سبل تحليل وحل هذه النوعية من الصراعات من خلال فك الارتباط delink بين مكوناتها أو متغيراتها المختلفة – القيمية والثقافية والأيديولوجية-، وبين المصلحة أو المصالح المتضمنة في الموقف الصراعى موضع الاهتمام أو الدراسة، ومن جانب آخر التخفيف من حدة الأوزان النسبية لمصادر الصراع –وقد تم التعرف عليها وتحديدها بدقة، هذا فضلا عن إدخال التغييرات الجوهرية والهامة على بيئة التسوية بما يجعل من الممكن خلق أو دعم مناخ التعاون والتفاهم بصدد التوصل للحل أو التسوية المشتركة.

6- مدخل سباق التسلح بين الدول:

ويرى هذا المدخل أن المصدر الرئيسى للصراع فى دائرته الدولية إنما يتمثل في السباق على التسلح. وعادة ما يشار إلى المتغيرات التالية لدعم وتقوية هذا الرأى :

الثورة التكنولوجية في ميدان الأسلحة ، وما تؤدى إليه من حدوث فجوة في نظم التسلح بين الدول المتقدمة وما دونها، مما يدفع الأولى إلى المبادرة بشن الحرب قبل أن تفقد الدولة مزايا التطور التكنولوجى الذى تمتلكه في مواجهة الأطراف الأخرى.

إن التفوق التكنولوجى في نظم التسلح يدفع أيضا لاستعراض القوة كوسيلة للضغط بصدد التسوية الدبلوماسية مما يؤدى إلى شحن الصراعات بمزيد من التوتر والعنف بصرف النظر عن الأسلوب المقصود أو غير المقصود الذى قد يحدث.
إن إطار السرية المرتبط بسباق التسلح يخلق مناخا من الشك والخوف وعدم التيقن لدى الأطراف المعنية، الأمر الذى لا يساعدها على حل المنازعات السياسية، بل قد يكون سببا في الدفع نحو الصدام والصراع.
إن استمرار التطور التكنولوجى في مجالات ونظم التسلح يدفع بدوره مجموعات المصالح المرتبطة به نحو مواصلة ضغوطها على دوائر صنع القرار للإبقاء على كل أو بعض بؤر التوتر والصراعات ساخنة وملتهبة بما يضمن مصالح هذه الجماعات بأقصى درجة ممكنة.

وتتمثل أهم الانتقادات الموجهة إلى هذا المدخل في أن سباق التسلح في حد ذاته لا يمكن أن يكون سببا بمفرده في خلق الصراع الدولى ، فهو وإن أدى إلى زيادة التوتر وشحن أجواء الصراعات إلا أنه لا ينتج بذاته صراعا، فالصراع سوف يستمر ، حتى في ظل إمكانية التوصل إلى إجراءات نزع السلاح ، وذلك لأن جذور الصراع لازالت قائمة دونما حل، ومن ثم يصبح المطلوب هو تصفية أو تسوية هذه الجذور مما يبرر إضعاف اللجوء إلى سباق التسلح
وعلى ضوء ما سبقت الإشارة إليه من استعراض لبعض اتجاهات التنظير المتنوعة في تفسير الصراع ومسبباته المختلفة، فإنه يمكن الانتهاء إلى النتيجتين الأساسيتين التاليتين :

النتيجة الأولى : وتتعلق بكون الصراع – بوجه عام – ظاهرة مركبة بالغة التعقيد من حيث مكوناتها وأبعادها ومستوياتها. ومن ثم، فإن محاولة تفسير الصراع استنادا إلى تأثير متغير وحيد تؤدى غالبا إلى قصور خطير في فهم الظاهرة الصراعية من جانب، كما أنه سيرتب آثاره السلبية على قرار مواجهته والتعامل معه من جانب آخر، الأمر الذى يفرض ضرورة تبنى رؤية تكاملية للصراع كأمر ضرورى، إن لم يكن شرطاً أساسياً ليس فقط لفهم وتحليل الظاهرة الصراعية، بل أيضا لنجاح استراتيجية مواجهة الموقف الصراعى موضع المواجهة أو الدراسة .

النتيجة الثانية : وتتعلق بمصادر الصراع على المستوى الدولى. وهنا أيضا يمكن القول بأنه أيا كانت المصادر المباشرة للصراع في هذه الدائرة ، فإنه عادة ما يرتبط بسعى أطرافه وتنافسهم فيما بينهم لدعم تطلعاتهم في زيادة قوتهم أو الإحتفاظ بها، والعمل على زيادتها ودعمها، والسيطرة على موارد أو مصادر جديدة لتعضيد تلك القوة وبالتالى، فإنه من المتصور أن يؤدى نجاح أحد أطراف الصراع في تحقيق درجة أو أخرى من النجاح في هذا المجال إلى زيادة مخاوف الأطراف الأخرى، وسعيها بالتالى إلى البحث عن طرق أو مصادر بديلة للقوة تستطيع من خلالها استعادة أو تصحيح التوازن في علاقات القوى مع تلك الأطراف، الأمر الذى قد يؤدى بطبيعة الأمور إلى تقوية وتعضيد الاتجاه نحو الصراع بين الدول أو توريطها فيه بوجه عام .
ثانيا : دائرة الصراع: المستويات والأنواع
يشير مفهوم دائرة الصراع ( شكل 2) إلى أداة تحليلية يتم بمقتضاها دراسة وتحليل جذور السلوك الصراعى ومسبباته. فباستخدام دائرة الصراع تتم دراسة وتقييم الصراع طبقاً لخمس مجموعات من المتغيرات (العلاقات ، المعلومات، المصالح ن البنية أو الهيكل ، والقيم). على ضوء تلك المتغيرات ، يتم تقسيم الصراعات إلى صراعات جوهرية أو ضرورية، وأخرى غير جوهرية أو غير ضرورية. النوع الأول يتضمن صراعات المصالح ، والقيم، والصراعات البنيوية . أما الصراعات غير الجوهرية فتشمل صراعات المعلومات وصراعات العلاقات. إضافة إلى ذلك وعلى ضوء تلك المتغيرات الخمسة، يمكن أيضا تحديد مسببات الصراع أو النزاع والدور والوزن النسبى لكل منها في الصراع، بصرف النظر عن مستوياته (المستوى الشخصى، والجماعى – داخل المنظمة أو الجماعة الواحدة ، أو بين هذه الجماعات-، والقومى أو المجتمعى) أو سياقة، وبالتالى يتيسر اتخاذ القرار المناسب بصدد استراتيجية التعامل مع هذا الصراع( 68).

إضافة إلى تعقده المتناهى، فإن مفهوم الصراع يتميز بالإشارة في كل مكان في المجتمع حولنا. أينما ينظر المرء فعادة ما تكون هناك إحدى صور أو دوائر الصراع، أو مستوى من مستوياته. فمن جانب قد تكون صورة الصراع كامنة مستترة ، أو في مرحلة التطور والظهور، وقد تكون سافرة واضحة. ومن جانب آخر فإن دوائره أو مستوياته قد تتحدد عند مستوى أو أكثر على نحو ما يلى :
أ- ففى الدائرة الفردية أو الشخصية عادة ما يوجد الصراع بين الأقران والأزواج، والأبناء ، والأصدقاء، والجيران. والملاحظ أن السمة الخاصة بالصراعات والنزاعات في هذا المستوى، أنه غالبا ما يؤدى إلى حدوث أنواع من الخسارة في العلاقات الشخصية أو الفردية لأطرافها قد تمتد على المدى الطويل.
ب- أما على المستوى المجتمعى فقد تحدث الصراعات داخل أكثر من دائرة: فالمنظمات الاجتماعية بطبيعتها تمثل ساحة أو مجالا للاحتكاكات ذات الصبغة العاطفية العالية. فعلى سبيل المثال، فإن الكنائس ، والنوادى، واتحادات ملاك المساكن والجيران، والاتحادات المهنية، وما شابهها إنما تشهد كلها نماذج للصراع بين الأفراد والجماعات، كذلك أيضا في أماكن العمل تثار المنازعات بين العاملين، والمديرين، والمشرفين، والموظفين وأصحاب الأعمال، كما أن هذه المنازعات قد تتطور وتتسع فتصل إلى مستويات أعلى بين كبار المديرين أو أعضاء مجلس الإدارة. وفى هذا السياق ، فإن هناك العديد من الشركات التى تضطر لتحمل أعباء وتكاليف مالية باهظة في محاولاتها لتسوية الدعاوى القضائية المرفوعة ضدها من شركات أخرى أو من أطراف داخلها.

ج- وفى القطاع العام أيضا يحدث الصراع بصورة منتظمة بين رجال الصناعة، وبين أعضاء جماعات حماية المصالح العامة ، والهيئات الحكومية، بل أيضا بين المستويات المتعددة من السلطة أو الحكومة الوطنية الواحدة. وبالطبع فإن العديد من هذه المنازعات قد يكون لها آثارها الخطيرة والمدمرة، والتى قد يتراوح مداها بين مجرد المشكلات النفسية والصحية للأطراف المتورطة فيها ، وبين الخسائر المالية والمادية للموارد المالية والبشرية والوقت المستهلك والجهد المستنزف للأفراد .

د – إضافة إلى ذلك ، فهناك المستوى الدولى حيث نماذج الصراعات الدولية اكثر وضوحا في أشكالها ومستوياتها، وإن اتسمت غالبا بالتعقيد والتداخل الشديدين.

أما فيما يتعلق بموضوع الصراع وتنوع آلياته ، فهو قد يكون صراعا سياسيا أو اقتصاديا أو مذهبيا أو اجتماعيا أو حتى تكنولوجيا .كما أن أدوات الصراع يمكن أن تتدرج من أكثرها فاعلية إلى أكثرها سلبية , ومن نماذجها على سبيل المثال :الضغط , والحصار, والاحتواء والتهديد والعقاب والتفاوض والمساومة والإغراء والتنازل والتحالفات ، والتحريض ، والتخريب، والتآمر. أما الحرب فهى التصادم الفعلى بوسيلة العنف المسلح حسما لتنقضات جذرية لم تعد تجد لحلها الوسائل الأكثر لينا أو الأقل تطرفا. ولذلك ، تعد الحرب نقطة النهاية في بعض الصراعات الدولية (69) .

2-أنواع الصراع

تتنوع التقسيمات المختلفة للتميز بين الصراعات بتعدد المعايير أو المؤشرات المستخدمة من قبل الباحثين . وفى هذا الصدد، يمكن الإشارة فيما يلى مجموعة من معايير التمييز بين الأنواع المختلفة للصراعات. فمن المنظور المتعلق بمصدر الصراع، فإنه يمكن التمييز بين صراع بنيوى وصراع مدركى. أما فيما يتعلق بمسببات الصراع فتقسم الصراعات إلى صراعات العلاقات، وصراعات المعلومات ، وصراعات المصالح، وصراعات البنيات، وصراعات القيم. كذلك فإن درجة ظهور الصراع يتم على أساسها التمييز بين الصراع العلنى أو المسافر ، والصراع الكامن والمستتر، والصراعات المقهورة أو المقموعة. إضافة إلى ذلك فهناك أيضا موضوع الصراع ، وعلى ضوئه يتم التمييز بين صراع سياسى، واقتصادى، واجتماعى، وثقافى، ….إلخ أما المتغير الخاص بأطراف الصراع، فعادة ما يستخدم في تقسيم الصراعات إلى ثنائية ومتعددة. وأخيرا ، فهناك درجة العنف المرتبطة بالصراع والتى يتم على اساسها التمييز بين الصراعات العنيفة ، والأخرى غير العنيفة .
2-أ- أنواع الصراع طبقا لمسبباته:
باستخدام مفهوم دائرة الصراع، فإن أنواع الصراع طبقا لمسبباتها يمكن التمييز فيها بين المجموعات الخمس الرئيسية التالية: أ) صراعات تنشأ بسبب العلاقات بين الأفراد أو الناس ، ب) صراعات تنتج عن مشكلات المعلومات، ج) صراعات تسببها المصالح ، د) الصراعات البنيوية أو الهيكلية ، هـ) صراعات بسبب القيم.

صراعات العلاقات:

وتنشأ هذه الصراعات بسبب وجود انفعالات سلبية قوية، سواء نتجت عن سوء فهمن أو نتيجة لوجود صور نمطية معينة، أو لسوء الاتصالات أو فقرها، أو لتكرار أنماط سلوكية سلبية . وغالبا ما تؤدى هذه المشكلات إلى ما يسمى بالصراعات غير الواقعية (70)، أو غير الضرورية(71) لأنها من الممكن أن تحدث عندما تتوافر الظروف الموضوعية للصراع، مثل قصور الموارد المحدودة، أو قصور الأهداف المتبادلة وهكذا، فإن صراعات العلاقات، وعلى نحو ما سبق ذكره ، غالبا ما تشعل المنازعات وتؤدى بشكل غير ضرورى، إلى تصعيد الصراعات المدمرة.

صراعات المعلومات:

تحدث هذه الصراعات عندما تفتقد الأطراف المعلومات الضرورية اللازمة لاتخاذ القرارات الحكيمة، أو عندما يتم تزويدهم بمعلومات غير صحيحة، أو عندما يختلفون حول أهمية المعلومات، أو الاختلاف في تفسيرها ، أو عندما يصل الأفراد إلى تقييمات مختلفة بصورة جذرية لنفس المعلومات. وهنا تجب الإشارة إلى أن حدوث صراعات المعلومات قد لا تكون ضرورية الحدوث لأنها تقع نتيجة سوء الاتصالات أو انعدامها بين أطراف الصراع. كما أن البعض الآخر من صراعات المعلومات قد تكون صراعات حقيقية وقوية بسبب أن أن المعلومات أو الإجراءات التى استخدمها الأفراد في جمعها، أو كلا من المعلومات والإجرات قد تكون غير متوافقة .

ج- صراعات المصالح:

يرى دروكمان أن صراع المصالح إنما يشير إلى “اختلاف أو اضطراب في النتائج المفضلة للذات أو النفس وللآخرين” (72).
والصراع حول المصالح غالبا ما يحدث عندما يتبنى طرف أو أكثر من أطرافه موقفا يسمح بحل واحد لمواجهة حاجاتهم. ففى سبيل إشباع حاجتها يحدث أن يعتقد طرف الموقف الصراعى أنه تجب التضحية بمصالح الآخرين. وهكذا، تحدث هذه الصراعات ذات الأسس المتداخلة حول : قضايا موضوعية (النقود، الموارد الطبيعية، الوقت ،..إلخ) ، أو موضوعات إجرائية (كأسلوب حل النزاع) ، أو حول موضوعات نفسية (مدركات أو تصورات الثقة، العدالة، الرغبة في المشاركة، الاحترام، ..الخ) ويزداد الأمر تعقدا عندما تكون مصالح أو مكاسب شخص ما نسبية بشكل لخسائر شخص أخر، وهو ما يشار إليه أحيانا بتعبير المكسب خسارة Zero – Sum، أى أن مكسب طرف يعد خسارة للطرف الأخر أما الحالة العكسية هنا فتتمثل في تساوى العوائد بالنسبة للطرفين، والتى يشار إليها بالعائد أو الناتج الإيجابى Positive – Sum وبين هذين النموذجين ، فإن هناك نماذج عديدة تتوافر فيها عناصر للمنافسة والتعاون ويشار إليها بالدافع المختلط Mixed – Motives.
وبوجه عام ، فإن صراعات المصالح عادة ما يمكن تحقيقها أو إشباعها بطرق عديدة (73) و يتطلب حل صراع المصالح وجوب مناقشة عدد كبير وهام من مصالح الأطراف المعنية، وأن يحققوا أو يتوصلوا إلى نقاط التقاء مشتركة في المجالات الثلاثة السابقة ( الموضوعية، الإجرائية ، النفسية).
وهكذا ، فإن هذا النوع من الصراعات تسببه المنافسة حول المصالح والحاجات غير المتوافقة سواء كانت تلك المصالح أو الحاجات حقيقية أو متصورة . وغالبا ما يتخذ صورته الظاهرة في التتنافس من أجل الحصول على الموارد أو الجوائز ذات القيمة ، كما أن حله يكون بطرق عديدة تتبلور في جوهرها حول كيفية إحداث تغيير في العملية الذهنية أو العقلية لأطراف الموقف الصراعى، وبما يساعد على التوصل إلى اتفاق بينهم. ولعل من أهم الوسائل في هذا الاتجاه، أن يتم التركيز على التفكير الابداعى أكثر منه على التفكير التحليلى، وتبنى منهج حل المشكلات Problem Solving بدلا من الحل التنافسى في مناقشات أطراف الموقف الصراعى لاختلافهم.
د- الصراعات البنيوية أو الهيكلية
ويحدث هذا النوع من الصراعات بسبب نماذج القهر في العلاقات الإنسانية(69)، ومن ثم، فإنها تتعلق بتأثير تلك الأبنية والهياكل الاجتماعية على الصراعات، ودور الصراع في التأثير عليه أيضا.

وبوجه عام، فإن نماذج هذه التأثيرات عادة ما تشكلها قوى خارجية عن الأفراد في الصراع. فالموارد الطبيعية المحدودة، والقيود الجغرافية (كالبعد أو القرب على سبيل المثال) ، الوقت (من حيث كونه محددا أو متسعا) ، الأبنية التنظيمية ، وما شابه ذلك من متغيرات غالبا ما تدفع نحو، أو تمهد باتجاه السلوك الصراعى. كذلك ، فإن تأثير تلك القوى إنما يختلف من مجتمع إلى آخر طبقا لبنية أو هيكل الجماعة أو طبيعة المجتمع نفسه بحيث يمكن التمييز بين الأنماط التالية :

في المجتمعات ذات الأبنية أو الهياكل الفضفاضة أو الواسعة – غير المحددة – كما في المجتمعات المفتوحة، والتعددية، فغن الصراع الذى يهدف إلى حل التوتر بين الأطراف المتخاصمة من المحتمل أن يكون له وظائف استقرارية ، بمعنى دعم الاستقرار.

في المجتمعات ذات الأبينية أو الهياكل الاجتماعية المحددة، والجماعات المغلقة، فإن تأثير الصراع من المحتمل أن يكون مختلفا. فكلما كانت الجماعة أكثر انغلاقا كلما ازداد تورط الأطراف بشكل كبير في الصراع، وبالتالى يزداد تأثير الصراع عليهم(75)

هـ- صراعات القيم :

وهى الصراعات التى ترتبط بالقيم، وتسببها المعتقدات القيمية أو النظم العقيدية المتصورة أو الفعلية ، وذلك لعدم توافقها أو لعدم التوافق بينها، ولما كانت القيم عبارة عن معتقدات يستخدمها الأفراد لإعطاء معنى لحياتهم ، تشرح ما هو جيد أو سيئ ، صواب أو خطأ ، عادل أو ظالم، فإنه تنبغى الإشارة إلى أن القيم المختلفة في حد ذاتها لا تشكل صراعا، فالأفراد يمكنهم العيش معا في انسجام مع وجود نظم قيمية مختلفة . بينما الصراعات القيمية تثار عندما يحاول أحد أطراف النزاع فرض مجموعة محددة من القيم على غيره من الأطراف، أو عندما يدعو إلى اتباع نظام قيمى محدد لا يسمح بالاختلافات العقيدية(76) .

من هنا ، فإن لصراعات القيم أهمية تجعلها من أهم صراعات القرن العشرين، كما أنها استحوذت على قدر كبير من اهتمامات الدارسين في مجالات علم النفس والعمليات الذهنية وذلك بهدف الربط بين حجم الصراع والسلوك المرتبط بحل الصراع. وفى هذا الصدد ، فإن فك أو حل الارتباط بين القيم والمصالح، والعمل المشترك على اكتشاف الاختلافات القيمية، والأيدلوجية، والتركيز على إيجاد، واستخدام الصيغ التوفيقية والحلول الوسط تعد من أهم سبل حل الصراعات القيمية.
3- أنواع الصراع من حيث درجة ظهوره:

ويقصد بذلك التمييز بين أنواع الصراع على أساس من وجود مظاهر سلوكية علنية من قبل أطراف الصراع ترتبط به، ومن ثم تعد دالة على وجوده من جانب ، كما تستخدم في تحديد نوعه من جانب آخر. وفى هذا الصدد، يتجه بعض المتخصصين إلى التميز بين الصراعات السافرة، والكامنة، والمقموعة أو المقهورة (77) وتتحدد أهم سمات كل منها على النحو التالى:

أ- الصراع الظاهر أو السافر Manifest Conflict:

ويقصد به ذلك النوع من الصراعات التى أنتجت، أو ارتبط بها مظاهر سلوكية من قبل أطرافه(أو أطرافها) مثل أعمال العنف ، أو التهديدات باستخدام القوة، أو إعلان مطالب محددة بصددج الصراع القائم. ومن هنا فإن مثل المظاهر تعكس مرحلة متطورة ومتقدمة من مراحل الصراع، ومن ثم تستخدم هذه المظاهر المرتبطة بالصراع كاساس لوصفه بأنه صراع ظاهر أو سافرا تمييزا له عن النوعين التاليين: الكامن ، والمقموع.

ب- الصراع الكامن أو المستتر Latent Conflict:

وهذا النوع من الصراعات وإن اشترك مع سابقه في وجود أساس أو قاعدة موضوعية للصراع بين طرفيه (أو أطرافه) ، فإن السمة المميزة له إنما تتمثل فى عدم تبلور أى مظاهر سلوكية ملموسة أو محسوسة يمكن الإشارة إليها كدلالة على وجود الصراع. وفى عبارة أخرى، إن هذا النوع إنما يعتبر عن صراعات ذات مستوى أقل نضجاً وتطوراً عن النوع السابق.

ج- الصراعات المكبوتة أو المقهورة Suppressed Conflict:

هذا النوع من الصراعات يشترك مع سابقيه فى تبلور أساس موضوعى للخلاف والتنافس بين طرفيه أو أطرافه، كما يتشابه مع الصراع الكامن فى عدم تبلور مظاهر سلوكية دالية عليه، لكن سمته الأساسية تتمثل فى وجود اختلال واضح فى علاقات القوة بين طرفيه (أو أطرافه) لصالح طرف عل حساب الطرف الأخر، كما أن الطرف الأقوى لا يضطر إلى استخدام قوته ليحقق أهدافه في الصراع، حيث قيامه بالتهديد باستخدامها يصبح كافيا لإحداث الاستجابة المطلوبة أو المرغوبة من الطرف الثانى .

ففى دولة يستند نظامها الحاكم على درجة عالية من القمع والبطش الشديدين إزاء المواطنين بوجه عام ، فمن المتوقع على سبيل المثال أن تقوم بقمع أشكال التظاهر والاحتجاج السياسى بدرجاتها المتفاوتة من المظاهرات وحتى الثورة. من هنا فإن المواطنين – حتى وإن توافرت لديهم المبررات الكافية للاختلاف ، والصدام مع السلطة الحاكمة – لا يقومون بعمل جماعى محدد إزاءها ومن ثم لا توجد مظاهر سلوكية ترتبط بهذا الصراع . تفسير ذلك يرجع بداية إلى إقرار المواطنين بقوة الدولة وبطشها ،وخشيتهم ثانيا من انتقامها وما يتضمنه من إجراءات قمعية تعسفية وعنف رسمى. وهكذا يصبح من المقصور أن قيام الدولة بالتهديد صراحة أو ضمنا باستخدام قوتها يصبح كافيا لقهر وقمع الإمكانيات الصراعية لدى المواطنين ومن هنا كانت التسمية بالصراع المقموع أو المقهور.

وهنا تجدر الإشارة إلى وجود بعض التشابه مع دائرة الصراع الدولى وتحديدا مع ما يعرف بتأثير ،الردع، والذى يتمثل في إحجام أو امتناع أحد أطراف الصراع عن اللجوء إلى استخدام القوة لتحقيق مصالحه، وذلك لأسباب متعلقة بقوة الخصم أو الطرف الأخر، اقتناعا بأن استخدام القوة المسلحة لن يكون في صالحه.

خاتمة
على ضوء ما سبق من استعراض مقارن لعدد من الاتجاهات النظرية العامة بصدد ظاهرة الصراع ومفهومه، يمكن الانتهاء إلى التأكيد على نتيجتين هامتين لما لهما من دلالة خاصة في دراسة وتحليل وفهم ظاهرة الصراع، وبالتالى في التعامل معها واختيار الآلية المناسبة لكل موقف صراعى. وتحدد هاتان النتيجتان فيما يلى:

أولا: ضرورة التمييز في دراسة الصراع بين دراسته كمفهوم ، وكظاهرة، وكعملية: إن الصراع كمفهوم له طبيعته المركبة التى تستمد خصائصها من الموقف الصراعى ذاته، ومن طبيعة وعلاقات القوى التى تحكم أطرافه وموضوعه. أما الصراع كظاهرة فإنه يتسم بالتعقد البالغ ، فظاهرة الصراع وإن كانت تجمع – وعلى الأقل بشكل كامن ومحتمل – بين مزيج من الأبعاد الإيجابية والسلبية معا، فإن التكييف النهائى للظاهرة الصراعية إنما يتوقف إلى حد كبير على مجموعة المتغيرات التى تتشكل أولا طبقا لمتغير الإدراك الخاص بأطراف الصراع، ثم ثانيا بمتغيرات التوقيت، الموضوع ، البدائل المتاحة، وغيرها من متغيرات بيئية تسهم بشكل متداخل في تحديد مدى وكثافة الظاهرة الصراعية. وأخيرا، فإن الصراع كعملية إنما يجد جذوره في روافد متعددة، كما أن أشكاله ، ومظاهر التعبير عنه إنما تتداخل وتتقاطع فيما بينها بشكل يعكس قدرا لا بأس به من الاعتماد المتبادل بين منابع العملية الصراعية ومظاهرها.
ثانيا: محورية دور الإدراك في فهم ظاهرة الصراع : ويندرج تحت ذلك الاهتمام مجموعة المتغيرات المتنوعة المشكلة للعملية الإدراكية، والمحددة لها فتأثير وأهمية الإدراك لا تتوقف فقط عند فهم وتوصيف الظاهرة الصراعية ، بل إنها تتجاوز ذلك إلى التحليل الدقيق لأسبابها ، واختيار لآلية الحل أو التسوية المناسبة . وهنا تجدر الإشارة أيضا إلى محورية المتغيرات الثقافية في فهم المواقف الصراعية وأهميتها لتجاوز ما قد يرتبط بها من أبعاد ذات تأثير إيجابى أو سلبى في فهم ظاهرة الصراع، وبالتالى في اختيار آلية الحل المناسب.

الهوامش
1- حول تعقد مفهوم الصراع وتداخل أبعاده والمتغيرات المؤثرة فيه ، أنظر :
“International Encyclopedia of the Social Sciences, (Later refferd to as IESS) edited by David L. Sills, The Macmillan Company and the Free Press, 1968, Vol. 3 ., pp.220-242.
2- د. إسماعيل صبرى مقلد : العلاقات السياسية الدولية: دراسة في الأصول والنظريات، الكويت : جامعة الكويت ، 1982، ص. 213.
3- “ The Encyclopedia Americana International Edition, “ Danbury , Connecticut: Gerolier Incorporated , 1992: 537.
4- Edward J. Murray , “Conflict : The Psychological Aspects “, in IESS, pp. 220 –225 .
5- Robert North “Conflict: Political Aspects “ in IESS , (1968: 226-232) , P.228 .
6- Lewis A. Coser, “Conflict: Socail Aspects “, in IESS, (1968:232-236), pp.232-233.
7- Laura Nader ,”Conflict: Anthorpological Aspects” , in IESS, (1968 :236-242) , pp236-237.
8- Dennis J. Sandole “Paradigm, Theories, and Metaphors in Conflict and Conflict Resolution : Coherence or Confusion?” in “ Conflict Resolution: Theory and Practice..” edited by Dennis J . Sandole and Hugo van der Merwe, Manchester and New York: Manchester University Press , 1993: 3-24, pp.6-7 .
9- North, Ibid.,
10- K. Boulding, “Conflict and Defense, “ New York : Harper and Row, 1962. See alse: Boulding. K , in North, IESS., 1968: 226-228.
11- Charles O. Lerch and Abdul A. Said, “Concepts of International Politics, ” New Jersey: prentice Hall, Inc., 2nd. 1970.
12- د. مقلد : 1982 – 213 .
13- George A. Lopez & Michael s. Stole, “ International Relations: Contemporary Theroy and practice “, Washington D. c., Congressional Quartery, 1989: 429.
14- Mohammad Abu Nimr, Conflict Resolution ,Cairo: National Center for Middle East Studies, 1994:2-3.
15- د. أحمد فؤاد رسلان: نظرية الصراع الدولى ” القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب ، 1968: :18 .
16- د. عبد المنعم المشاط، ماهر خليفة : تحليل وحل الصراعات : الإطار النظرى” القاهرة : المركز القومى لدراسات الشرق الأوسط ، يناير 1995: 4.
17- In this regard, See: Coser, L., “ The Function of Conflict, “ New Yoek: Free Press 1956, and Deutsch, M., “ The Resolution of Conflict.” New Haven: Yale University press, 1973.
18- Murray , Op. Cit., p.221
19- J. W. Burton, “ World Society” , Cambridge & New York: Cambridge University press, 1972, pp. 137-138 Quoted in Sandole and Merwe (eds) ,1993:6.
20- Burton, Ibid.,..
21- North, op., Cit., p.226.
22- Kenneth E. Boulding, “ Organization and Conflict,” Journal of Conflict Reolution, 1957, Vol. 1:111-121, Quoted in Robert C. North, “ Conflict: Political Aspects” , in IESS, 1968:226-232,p228.
23- On the role of Conflict as a facilitor of social change, See Jean M. Bartunek et . al., “ Bringing Conflict Out From Behind the Scenes: Private, Informal, and Nonrational Dimensions of Confilct in Organization”, in “ Hidden Conflict in Organizations: Uncovering Behind the Scene Disputes”, edited by Deborah M. Kolb & jean M. Bartunek, Newbury park, London, and New Delhi: Sage publications, 1992:2009-228, pp.86-89.
24- Laura Nader,” Conflict: Anthorpological Aspects” , in IESS, 1968: 236-242, pp.236-241.
25- Abu Nimr, Op. Cit., p. 27.
26- د. السيد عليوه: “إدارة الصراعات الدولية: دراسة في سياسات التعاون الدولى” ، القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1988: 256.
27- Abu Nimr, Ibid.,
28- For further illustration, See Deborah & Kolb(eds). “ Introduction: the Dialectics of Disputing” in their edited “Hidden Conflict in Organizations…, 1992: 1-31, p.11
29- Lopez* Stole,Op . Cit., p.435.
30- Ibid.,
31- James A. Robinson, “ Crisis”, in IESS, 168:10-513, p.51.
32- Ibid.,
33- Ibid., p. 33.
34- د. عباس رشدى العمارى : ” إدارة الأزمات في عالم متغير” ، القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشرـ 19: 1993.
35- د. عليوه ، مرجع سابق ، 406.
36- د. السيد عليوه”صنع القرار في منظمات الإدارة العامة القاهرة : الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987: 256.
37- أنظر كلا من : المرجع السابق ص. ص 256- 258، د. العمارى 13-16 ، وأيضا:
Robinson, pp. 511-512.
38- Abu Nimr, Op. Cit., p.28.
39- Coser, Op., Cit., 1968:234.
40- Lopez & Stole, Op. Cit., p.435.
41- Ivo D. Duchacke (ed.),”Conflict and Cooperation among Nations, “ New York: Holt, Rinehart, and Winston, 1963: 442.
42- د. إسماعيل صبرى مقلد : ” العلاقات الساسية الدولية : دراسة في الأصول والنظريات ” القاهرة: المكتبة الأكاديمية 1991: 223-224.
43- Duchacke, Op. Cit., p. 441
44- Lopez& Stole, Op. Cit., p. 433.
45- د. مفلد، 1991: 224-225.
46- In this respect, See: James A. Winnefeld and Mary E. Morris, “ Where Environmental Concerne and Security Strategies Meet: Green Conflict in Asia and the Middle East” , Santa Monica, California: RAND, 1994.
47- IESS, Op., Cit., p. 220
48- د. مقلد 1991: 221-223.
49- حول مزيد من التفاصيل عن الآراء المتعلقة بالبعد النفسى في تفسير الصراع الدولى، أنظر كلا من:
Grigg, 1992:536-537 in Encyclopedia Americana International Edition , IESS 1968: 220-222, and Sandole, Op., Cit., .
50- د. مقلد، 1991: 224-225.
51- د. مقلد 1991:226، وأيضا أنظر: IESS, 1968, Op., Cit.,
52- المصدر السابق ص.226-227
53- المصدر السابق .
54- Daniel Drukman , An Analytical Research Agenda for conflict and conflict Resolution”, in Sandole and Merwe (eds).) 1993: 25-42,pp.28-29 .
55- Lopez& Stole, Op Cit., p. 435.
56- Bayless Manning, “Conflict of Interest” , in EAIE., Vol. 7., 1992:538.
57- In this regard, See: j. Keith Murnighan, “ Bargaining Games: A New Approach to Strategic Thinking in Nogotiation,” NewYork: William Morrow & Company , Inc., 1992:219-222.
58- Clement E. Vose, IESS, 1968:242-245, p.242. Also, see: Bayless Manning, “Conflict of Interst “ in EAIE. Vol.7,1992:538
59- المصدر السابق ص 229-231.
60- Lerch & Said, Op.., p. 143-145.
61- Drukman, pp. 27-28.
62- Robert j. Robinson, “ The Conflict Competent Organization: A Research Agenda for Emerging Organizational Challenges,” in Roderick M. Kramer& David M. Messick (eds.)” Negotiations as Social Processes”, Thousands oaks, London,& New Delhi: Sage Publiations, 1995: 186-207, p.188..
63- Sandole, Op. Cit., 1993:12.
64- Coser, Op., p.232.
65- Nader. Op. Cit., pp. 236-238.
66- Drukman, Op., cit., pp.28-29.
67- د. مقلد 1991: 231 -233.
68- Abu Nimr, Op., Cit., p.21.
69- Abu Nimr, Op., Cit., 28.
70- Coser, Ibid.,
71- For Further details, See, C. Moore, “The Mediation Process: Practical Strategies for Resolving Conflict,” San Francisco, CA.,: jossey-Bass, 1986.
72- Drcukman, Op., Cit., p.26-27.
73- Fisher,R. and Ury, W., “Getting to yes: Negotion Agreement Without Giving In”, NewYork: Penguin Books, 1983.
74- On Structural Conflict, See. J. Galtung, “ Is Peaceful Research Possible? On the Methodology of Peacful Research.” In Peace Research, Education and Action, Denmark: Eiders. Copenhagen, 1975.
75- Coser, 1968:233-234.
76- Abu Nimr, Op., Cit., p.5.
77- Lopez & Stole, Op., pp. 431-432.

********

د. منير محمود بدوى

 

Please subscribe to our page on Google News

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15380

3 تعليقات

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *