تتميزت العصور القديمة والوسطى بغياب مفهوم الدولة بشكلها الحالي، حيث انتشرت مسميات مختلفة منها، الإمبراطورية، والسلطنة، والممالك. إلا أن أغلب الممالك التي حكمت في العصور الوسطى في أوروبا حكمت باسم الدين، كفرنسا على سبيل المثال، وكان لسلطة الكنيسة أثر سلبي في التحكم بالدولة وسياستها، وإمكانها في عزل الملوك والأمراء عن طريق سحب الثقة منهم وفصلهم من الكنيسة، ما يعني إفتقادهم لثقة وطاعة الشعب الذي يثق بالكنيسة لما كانوا يروا من أنَّها تطبيق لإرادة الرب، فانتشرت الحروب الدينية لمدة ثلاثين عاماً وانتهت في عام 1648 بتوقيع اتفاقية وستفاليا في أوروبا؛ واضعة حداً للحرب الدينية وسلطة الكنيسة على الحكم؛ بإنشاء نظام جديد للدول في أوروبا عرف فيما بعد باسم الدولة الحديثة وتَعَمَّمَ في أنحاء العالم فيما بعد.
وتعتبر الدولة منذ نشأتها الحديثة في أعقاب مؤتمر وستفاليا، إحدى حقائق الحياة السياسية المعاصرة التي رسخت تدريجيَّاً حتى أصبحت تشكل اللبنة الأولى في بنية النظام الدولي الراهن. وبالرغم من اعتبار الدولة مؤسسة عالمية ضرورية، إلا أن تعريفها واسع ومتنوع لا يكاد يجمع عليه اثنان، بل ويمكن أن يُقال أَنَّ إيجاد تعريف واحد لمفهوم الدولة هو صراع إيديولوجي بحد ذاته؛ كون التعاريف المختلفة ناتجة عن نظريات مختلفة لوظيفة الدولة، مما يولد استراتيجيات سياسية ونتائج مختلفة، فمصطلح “الدولة” يشير إلى مجموعة من النظريات المختلفة والمترابطة والمتداخلة في كثير من الأحيان، حول مجموعة معينة من الظواهر السياسية.
تعريف الدولة الحديث:
تعود جذور كلمة الدولة للغة اللاتينية لكلمة Position التي تعني الوقوف، كما ظهر مصطلح الدولة في اللغات الأوروبية في مطلع القرن الخامس عشر، وفي القرن الثامن عشر تطور مصطلح الدولة واستخدم تعبير Publicae اللاتيني والذي يعني الشؤون العامة.
وللدولة عدة تعريفات وُضِعت من قبل العديد من المؤسسات ولاسيما الأوروبية منها، إلا أن التعريف الأكثر شيوعاً لمفهوم الدولة هو تعريف المفكر الألماني ماكس فيبر – Max Weber إذ عرَّفها بأنها منظمة سياسية إلزامية مع حكومة مركزية تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة في إطار معين الأراضي.
كما عرَّفت موسوعة لاروس – Larousse الفرنسية الدولة بأنها: “مجموعة من الأفراد الذين يعيشون على أرض محددة ويخضعون لسلطة معينة”.
في حين رأى العديد من فقهاء القانون الدستوري أن الدولة: “كياناً إقليمياً يمتلك السيادة داخل الحدود وخارجها، ويحتكر قوى وأدوات الإكراه”.
وثمة تعريف آخر مقبول عموماً للدولة هو التعريف الوارد في اتفاقية مونتيفيديو – Montevideo بشأن حقوق وواجبات الدول في عام 1933. وقد عُرِّفَتْ الدولة بأنها: مساحة من الأرض تمتلك سكان دائمون، إقليم محدد وحكومة قادرة على المحافظة والسيطرة الفعَّالة على أراضيها، وإجراء العلاقات الدولية مع الدول الأخرى.
وبالرغم من البساطة التي يَتَمَيَّزْ بها تعريف الدولة إلا أن مفهوم الدولة والبحث في تحديد أصل نشأتها واساس السلطة فيها يثير في الواقع عدداً هائلاً من الإشكاليات؛ فالدولة هي حقيقة سياسية؛ لأن المجتمع الدولي يتكون أساساً من وحدات سياسية يحمل كل منها لقب “دولة”، والدولة أيضاً مفهوم قانوني قُصِدَ منها ابتكار أداة ملائمة لتنظيم العلاقة بين وحدات سياسية غير متكافئة في القوة على أساس من العدالة والمساواة. فالعلاقات بين الدول يجب أن تؤسس من وجهة نظر القانون الدولي على مبدأ أو قاعدة المساواة في السيادة. والدولة فوق هذا وذام هي فكرة فلسفية مجردة؛ لأن نشأة المجتمعات السياسية المنظمة ليست معروفة أو مُوَثَّقَة تاريخيَّاً. وفي غياب هذه المعرفة التاريخية المُوَثَّقَة توجد نظريات أو رؤى أو أفكار ذات طبيعة فلسفية تحاول تفسير نشأة الدولة، أو بعبارة أدق نشأة أهم ركن من أركانها وهو السلطة السياسية المنظمة. والدولة أخيراً هي كائن اجتماعي؛ لأن أحد أهم مقوماتها هو البشر الذين تجمعهم روابط خاصة تجعلهم قادرين على الحياة المشتركة. لذا سنستعرض وإياكم لمحة موجزة عن مفهوم الدولة ونشأتها وما تثيره من قضايا وإشكاليات إذا ما نُظر إليها من أي من مختلف الجوانب.
مفهوم الدولة كحقيقة سياسية:
تعتبر الدولة ومنذ نشأتها الحديثة في أعقاب مؤتمر وستفاليا لعام 1648، هي إحدى حقائق الحياة السياسية المعاصرة التي رسخت تدريجيّاً حتى أصبحت تشكل اللبنة الأولى في بنية النظام الدولي الراهن. وليس أدل على هذه الحقيقة من أن عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة قد ناهز الـ 185 دولة، في حين عدد الدول الأعضاء في عصبة الأمم لم يتجاوز في أي لحظة من لحظات وجودها في مرحلة ما بين الحربين 40 دولة.
كما تلعب الاعتبارات السياسية عادةً دوراً رئيسياً في نشأة واختفاء الدول. وعلى سبيل المثال، فقد تغيرت الخريطة السياسية للعالم ثلاث مرات خلال القرن العشرين. فقد ترتب على الحربين العالميتين الأولى والثانية اختفاء دول وظهور دول أُخرى كثيرة على المسرح الأوربي، وأدت حركات مناهضة الاستعمار في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية إلى حصول عدد كبير جدَّاً من الدول في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية على استقلالها ومن ثم إلى ظهورها لأول مرة على مسرح السياسة الدولية.
وقد تنشأ الدول الجديدة عن طريق الوحدة، وهو ما حدث لبعض الدول الأوربية مثل ألمانيا، وإيطاليا خلال القرن التاسع عشر، ولدول أخرى عديدة منها دول عربية مثل اتحاد سورية ومصر في دولة واحدة (الجمهورية العربية المتحدة) في عام 1958، واتحاد ست إمارات عربية خليجية ليشكلوا معاً دولة الإمارات العربية المتحدة.
وكما تنشأ الدول الجديدة نتيجة للوحدة والاندماج فإنها يمكن أن تنشأ نتيجة للتفكك والانفصال. وهذا هو ما حدث عندما انهار الاتحاد السوفيتي وتفكك إلى مجموعة كبيرة من الدول التي ظهر بعضها لأول مرة كدول مستقلة على المسرح الدولي. وقد يتم الانفصال نفسه بطريقة سلمية كما حدث بالنسبة لدولة تشيكوسلوفاكيا السابقة، وقد يتم بوسائل عنيفة أو بالحرب، كما حدث بالنسبة لدولة يوغسلافيا.
والواقع أن التقسيم السياسي للعالم لم يستقر على شكل لا يمكن اعتباره نهائياً بعد، فلا تزال احتمالات الوحدة والاندماج بين الدول وكذلك احتمالات التفكك والانقسام والانفصال داخل الدول القائمة حالياً أمراً وارداً. ورغم التسليم، نظريّاً على الأقل، بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وهو ما يعني الاعتراف لكل شعب بحقه في إقامة دولته المستقلة، إلا أن وضع هذا المبدأ موضع التنفيذ واجه، ولا يزال يواجه صعوبات عديدة، فهناك شعوب مجزأة ومقسمة وتطمح في الاندماج معاً داخل دولة موحدة، وهناك شعوب أُخرى خاضعة لإرادة تعتبرها أجنبية وتريد التحرر والانفصال عنها وتشكيل دولتها المستقلة. ويشكل استمرار هذا الوضع أحد مصادر عدم الاستقرار في الحياة الدولية.
مفهوم الدولة كمفهوم قانوني:
لا يكفي أن تتمتع وحدة سياسية ما بالمقومات الثلاث اللازمة لقيام الدول (الأرض، الشعب، السلطة)؛ لكي يصبح بمقدورها أن تمارس نشاطها بصورة طبيعية دون معوقات، وخاصة على الساحة الدولية. فاعتراف المجتمع الدولي بالدولة الوليدة يعتبر أمراً ضروريّاً لتمكينها من القيام بوظائفها في سهولة ويسر.
والاعتراف هو عملية يتم بموجبها إضفاء الشخصية القانونية على إحدى الوحدات السياسية والاعتراف بحقها في الانضمام إلى المجتمع الدولي كدولة جديدة لها ما للدول الأخرى من حقوق وعليها ما على هذه الدول من واجبات. غير أنه يتعين التمييز هنا بين الاعتراف بالدولة والاعتراف بالحكومة. فالاعتراف بالدولة عادة ما يتم لمرة واحدة ويظل قائماً طالما ظلت الدولة متمتعة بشخصيتها وأهليتها القانونية الدولية. أما الحكومات فتتغير. ولا تثور الحاجة للاعتراف بكل حكومة جديدة، خصوصاً إذا تم التغيير بالطرق السلمية والديمقراطية. لكن مسألة الاعتراف بالحكومة الجديدة تصبح واردة في أعقاب التغييرات الكبرى والمفاجئة التي تتم عادة من خلال ثورة شعبية أو انقلاب عسكري مفاجئ. ويأخذ الاعتراف بالحكومة الجديدة أي شكل من أشكال التعبير عن رغبة دولة ما في الدخول في علاقات رسمية مع هذه الحكومة. والاعتراف بالحكومة ينطوي ضمناً على الاعتراف بالدولة، لكن العكس ليس صحيحاً. فالاعتراف بالدولة ليس معناه بالضرورة الاعتراف بأي حكومة يمكن أن تسيطر على هذه الدولة في أي وقت. غير أن الحكومة التي لا تنجح في تأمين اعتراف دولي كاف بها عادة ما تواجه بمصاعب كبيرة في تسيير شؤونها الخارجية. والاعتراف بالحكومات قد يكون صريحاً إذا صدر إعلان خاص بذلك، وقد يكون ضمناً بتبادل البعثات الدبلوماسية والقنصلية.
ويثير موضوع الاعتراف بالدول قضايا خلافية عديدة في القانون الدولي، فالاعتراف ليس ركناً من أركان قيام الدول الجديدة، وبالتالي فهو لا يعد من القواعد المنشأة وإنما هو قبيل القواعد المقررة لوجود هذه الدول أو الكاشفة عن حقيقة هذا الوجود. وتكمن أهمية الاعتراف بالنسبة لدولة أو حكومة ما، في التحليل النهائي، في أنه يعني اعترافاً من جانب المجتمع الدولي بسيادة هذه الدولة وممارسة حكومتها للسلطة الفعلية. والسيادة هي أخص خصائص الدولة وأهم سماتها.
وكلمة سيادة Sovereignty مشتقة من الأصل اللاتيني Superanus ومعناه الأعلى أي صاحب القول والفصل النهائي، وحين نقول إن الدولة صاحبة سيادة فإننا نقصد بذلك أمرين على جانب كبير من الأهمية.
الأول: هو أن للدولة سلطة مطلقة في مواجهة رعاياها في الداخل.
الثاني: أي أن الدولة لا تخضع لسلطة أعلى منها في مجتمع الدول.
وكان المفكر الفرنسي جان بودان Jean Bodin هو أول من استخدم هذه الكلمة للدلالة على المعنى السياسي المتداول حتى وقتنا هذا. غير أنه ربما يكون من المفيد هنا أن نميز بين السيادة بمعاناها القانوني وبين السيادة بمعناها السياسي. ويقصد بالسيادة بالمعنى القانوني، ذلك الشخص الذي يخوله القانون، أو الهيئة التي يخولها القانون سلطة ممارسة السيادة أي سلطة إصدار الأوامر النهائية التي لا معقب عليها ولا راد لها. أما المعنى السياسي للسيادة فنقصد به شرعية السلطة التي تمارس السيادة باسم الدولة ولحسابها. فالسيادة بالمعنى السياسي، هي للشعب الذي يختار بإرادته الحرة، من خلال صناديق الاقتراع حكامه الذين يمارسون السلطة، أي مظاهر السيادة، نيابة عنه. كذلك فقد يكون من المفيد هنا أيضاً أن نميز بين السيادة القانونية، وبين السيادة الفعلية. فالسيادة الفعلية تجسدها السلطة التي يخضع لها المواطنون ويطيعون أوامرها بالفعل، بصرف النظر عمّا إذا كانت هذه السلطة شرعية أم غير شرعية، أي قانونية أم غير قانونية.
ولأن السلطة القانونية هي السلطة ينص عليها القانون أو الدستور فمن السهل تحديدها، بعكس السلطة الفعلية التي يصعب تحديدها أحيانا والتي قد تكون خفية أو مستترة. ولذلك قد توجد فجوة في بعض الأحيان بين السلطة الفعلية والسلطة القانونية أو الشرعية. غير أن السلطة الشرعية أو القانونية التي لا تستطيع فرض سيطرتها يصبح مصيرها إلى زوال، وتتحول السلطة الفعلية تدريجيّاً، وبحكم الأمر الواقع إلى سلطة قانونية، خصوصاً إذا ما تم إصدار قوانين تمنح سلطة الأمر الواقع مركزاً قانونياً ثابتاً. وفي جميع الأحوال فإن مركز السيادة هو الدولة بصرف النظر عن شرعية أو عدم شرعية من يمارس السلطة الفعلية فيها.
وعندما تمارس الدولة سيادتها في الداخل فإن هذه السيادة تسري على الشعب داخل الحدود السياسية للإقليم الذي يقطنه، أي أن لها جانباً يتعلق بالشعب وأخر يتعلق بالإقليم. فالسيادة الداخلية معناها حرية الدولة في اختيار نظام الحكم الذي يلائم أوضاعها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية الخاصة، وفي السيطرة على مواردها الطبيعية داخل حدودها الإقليمية في البر والبحر والجو، وفي فرض قوانينها على كل المقيمين على أرضها، سواء كانوا مواطنين أو أجانب. أما السيادة الخارجية فتتجلى مظاهرها في حق الدولة في إدارة شؤونها الخارجية بحرية ودون تدخل أحد في شؤونها الداخلية، عدم خضوعها لسلطة دولة أخرى أو منظمة دولية. واستقلالية الدولة في ممارسة مظاهر سيادتها الخارجية لها مظاهر متعددة كالدخول في علاقات دبلوماسية أو قطع هذه العلاقات مع من تريد من الدول، والإنضمام أو عدم الانضمام إلى المنظمات الدولية، والاشتراك أو عدم الاشتراك في المؤتمرات الدولية. بل لها أن تستخدم القوة للدفاع عن مصالحها .. الخ.
غير أن مفهوم السيادة ليس سوى مدرك قصد بها في واقع الأمر تنظيم علاقة الدولة بمواطنيها في الداخل وبغيرها من الدول في الخارج. فهذه السيادة ليست مطلقة وإنما هي مقيدة بطبيعتها. وربما كان من الممكن إبداء قدر من الفهم لدوافع المطالبين بفكرة السيادة المطلقة التي لا تحد حدود في عالم كانت الدول فيه تبدو كوحدات منفصلة ومتوازية وقائمة بذاتها تماماً. أما في ظل تداخل وتشابك وتعقد المصالح والعلاقات في الحياة الدولية المعاصرة، فقد أصبح من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، الدفاع عن فكرة السيادة المطلقة سواء في الداخل أو في الخارج.
مفهوم الدولة كفكرة فلسفية مجردة:
إذا كان من الممكن تتبع النشأة التاريخية لبعض الدول، وخصوصاً تلك التي ظهرت حديثاً، إما كنتيجة لاتحاد إمارات إقطاعية أو تكوينات سياسية صغيرة أو كنتيجة لانهيار أو اضمحلال إمبراطوريات كبيرة، إلا أن الكيفية التي ظهر بها المجتمع المنظم إلى حيّز الوجود لأول مرة (وما صاحب هذا الظهور من نشأة السلطة كظاهرة سياسية) ليست معروفة أو موثقة تاريخيَّاً. ولذلك ظهرت نظريات كثيرة تفسر نشأة الدولة. من هذه النظريات نظرية النشأة المقدسة التي ترى أن الله هو الذي خلق الدولة، وأنه هو الذي ينتخب الملوك ويمنحهم السلطة حين يرضى عنهم وينتزعها منهم إذا غضب عليهم. وهذه النظرية هي أساس نظرية الحق الإلهي التي سادت في بعض المراحل التاريخية التي جمع فيها الحاكم بين السلطة الزمنية والسلطة الروحية. وهناك نظريات أخرى كثيرة منها نظرية القوة، التي ترى أن الدولة نشأت وتطورت نتيجة الصراع وعلاقات القوة التي تسفر دائماً عن خضوع الضعيف للقوي، ومنها النظرية التاريخية، التي ترى أن نشأة الدولة ترجع إلى ما قبل التاريخ وأنها نمت نمواً تاريخيَّاً وطبيعيَّاً بمساعدة عوامل ثلاثة هي: علاقة الدم، والدين، والوعي السياسي. غير أن نظرية العقد الاجتماعي هي أكثر النظريات الفلسفية تأثيراً في الفكر السياسي على مدى الزمن.
وتقوم نظرية العقد الاجتماعي على أساس فرضين رئيسيين:
الأول: أن الأفراد كانوا يعيشون فيما بينهم حالة الفطرة أو الطبيعة قبل أن ينتقلوا إلى حالة المجتمع الذي يخضع لسلطة سياسية منظمة.
الثاني: أن الانتقال من حالة الفطرة أو الطبيعة إلى حالة المجتمع المنظم أو الدولة تم بموجب عقد اجتماعي.
وهذه النظرية قديمة ويمكن تتبع جذورها وإرهاصاتها الأولى في الفكر الروماني وفي كتابات العديد من فلاسفة ومفكري العصور الوسطى وخاصة كتابات سانت اوجستين Saint Augustine و توماس الأكويني Thomas Aquinas. لكن الفيلسوف البريطاني هوبز Thomas Hobbes، كان أول من بلور هذه النظرية بشكل واضح ومتكامل وصاغ فرضيها الرئيسيين على نحو متكامل ومتماسك. ثم تعاقب عليها كبار المفكرين بالنقد والشرح والتحليل والإضافة ابتداءاً من جون لوك John Locke، مروراً بجان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau، وحتى إيمانويل كانت Immanuel Kant كانت ومن بعده الكثيرون.
وقد دار جوهر الجدل الذي فجرته نظرية العقد الاجتماعي حول عدة أمور أو محاور رئيسية مثل: حالة الفطرة، أو الطبيعة، وهل كانت حالة سلم وأمان أم صراع وعدم استقرار، وحول أطراف العقد الاجتماعي وهل هو عقد أبرم بين الأفراد وحدهم أم بين الأفراد من ناحية والأمير من ناحية أخرى، وحول مضمون هذا العقد وشروطه وإجراءات فسخه.. الخ.
فبينما كان هوبز Thomas Hobbes يرى أن حالة الفطرة أو الطبيعة هي حالة وحشية يسودها قانون الغاب وتتميز بالفوضى وعدم الاستقرار وانتفاء الأمن، فيما رأى جون لوك John Locke أن هذه الحالة كانت على العكس تماماً، حالة تسودها الحرية والمساواة التي يمنحها القانون الطبيعي كحقوق ثابتة للأفراد والممتلكات، ولكنها حالة تتميز بعدم الاستقرار في الوقت نفسه نظراً لعدم وجود شخص غير متحيز يحمي الأفراد. أما جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau فقد صور حالة الطبيعة أو الفطرة الأولى على أنها حالة مثالية حصل فيها الفرد على كل ما يطمح إليه من حقوق، ووصل إلى أعلى مراتب السعادة والطمأنينة، لكنه اضطر إلى العيش في جماعة بسبب تزايد السكان.
وبينما كان هوبز Thomas Hobbes يرى أن القانون الطبيعي حتم على الأفراد أن يبحثوا عن مخرج من حالة التعاسة المطلقة التي كانوا عليها في مرحلة الفطرة، وهو ما دفعهم لإبرام عقد لإنشاء الدولة تنازلوا فيه عن جميع حقوقهم ووضعوها في يد جهة واحدة تتركز فيها السلطة بشكل مطلق مقابل مصولهم على الأمن، رأى جون لوك John Locke أن الأفراد تعاقدوا فيما بينهم أولاً لإقامة المجتمع أو الدولة ثم تعاقدوا بعد ذلك مع الحاكم وتنازلوا له عن جزء من حقوقهم، وليس عن حقوقهم كلها، للقيام بالوظائف أو المهام التي يطلبونها منه. أي أن جون لوك John Locke ميز بين الدولة وبين الحكومة واعتبر أن سلطة الحكومة ليست مطلقة وإنما محدودة ومقيدة وأن هذه السلطة يمكن استردادها عند الضرورة. أما جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau فقد رأى أن الإنسان الفرد الذي اضطر، بسبب زيادة السكان، إلى التخلي عن حرياته الطبيعية التي منحته السعادة بموجب عقد أبرمه مع الأفراد الآخرين، لم يتخل عن هذه الحقوق لفرد وإنما للمجموع. وفي هذه الحالة فإن السيادة لا يمكن التنازل عنها وإنما تظل في يد الإرادة العامة. ولأن الحكومة ليست سوى خادم لهذه الإرادة، وما تتمتع به من سلطة حصلت عليها من الشعب صاحب السيادة وبطريق التوكيل، فإن هذه السلطة يمكن سحبها في أي وقت إذا ما أخل الموكل إليه بشروط العقد أو التوكيل. وفقاً للمنطق الكامن وراء هذا التحليل كان من الطبيعي أن يعتبر جان جاك روسو Jean-Jacques Rousseau أن إصدار القوانين لا يدخل ضمن مهام الحكومة أو السلطة التنفيذية، وأن هذه الوظيفة الحيوية والخطيرة يجب أن تظل بالكامل في يد ممثلي الشعب من السلطة التشريعية.
وأياً كانت طبيعة الخلافات التي دارت حول نظرية العقد الإجتماعي أو الانتقادات التي شككت بعد ذلك في أسس النظرية نفسها، وخاصة بعد ظهور المدرسة النفعية أو المدرسة الماركسية (والتي قدمت تفسيراً مختلفاً لنشأة الدولة نفسها من خلال جدلية الصراع الطبقي)، فمن البديهي أن الانتقال من حالة الفطرة أو الطبيعة إلى حالة الدولة أو المجتمع المنظم لم يتم، كما يقول إيمانويل كانت Immanuel Kant وفقاً لعقد إبرامه بالفعل ووقع كحدث موثق زماناً ومكاناً، لكنه مفهوم مهم جدّاً، وضروري جدّاً، رغم ما يكتنفه من تجريد لتنظيم العلاقات الاجتماعية على أساس من احترام وسيادة القانون.
مفهوم الدولة ككيان اجتماعي:
وصف الكثير من المفكرون والفلاسفة الدولة بالكيان الاجتماعي، لسبب بسيط وهو أن العنصر الأساسي فيها يكمن في الرابطة المشتركة التي تجمع بين الأفراد الذين يتكون منهم شعب هذه الدولة. وهنا يتعين أن نميز بين مفهوم الشعب، ومفهوم الأمة. فالشعب عبارة عن مجمومة من الأفراد تربطهم رغبة مشتركة وقوية في العيش معاً، بصرف النظر عن تجانس هؤلاء الأفراد أو عدم تجانسهم من النواحي العرقية أو الدينية أو اللغوية..الخ. أما الأمة فتتكون أيضاً من مجموعة من الأفراد الذين تجمعهم الرغبة في العيش معاً، ولكنهم يرتبطون فيما بينهم براوبط طبيعية ومعنوية مثل وحدة الأصل العرقي ووحدة اللغة والدين والعادات والتقاليد والتاريخ والثقافة المشتركة… الخ، ومعنى ذلك أن ما يربط بين أفراد الأمة الواحدة يكون في العادة أقوى وأمتن وأكثر كثافة مما يربط بين أفراد الشعب الذي لا يشكل في مجمله أمة واحدة. لكن ليس معنى ذلك أنه يشترط أن تتوافر في الشعب كافة عناصر ومقومات الوحدة الطبيعية التي تتوافر في الأمة لكي يصبح له الحق في إقامة دولته المستقلة. فليست كل أمة دولة وليست كل دولة أمة.
وهناك نظريات عديدة تفسر نشأة الدولة كتطور طبيعي لعلاقات اجتماعية معينة أساسها رابطة الدم والقربى..الخ. وتؤكد هذه النظريات أن العائلة ظهرت أولاً، ومن تعدد العائلات نشأت القبائل والعشائر، ومن صراع القبائل والعشائر وتداخلها بالمصاهرة والزواج أو بالدمج والاستعباد، تبلورت التكوينات الأولى للدول، ككيانات اجتماعية أكثر تعقيداً وتشابكاً، كما ظهرت بشكل تدريجي سلطة من نوع مختلف عن سلطة رب الأسرة أو شيخ القبيلة، وهي السلطة السياسية المنظمة بمفهومها الحديث.
ففي إطار العائلة ظهرت سلطة رب الأسرة بصفة عامة. والعائل هو الشخص المسؤول عن توفير الطعام والحماية لأفراد أسرته. وفي مقابل ذلك أصبح على جميع أفراد الأسرة أو العائلة طاعة عائلها والالتزام بتنفيذ ما يأمر به وما ينهى عنه؛ كي تحافظ الأسرة أو العائلة على تماسكها وقوتها، سواء في مواجهة الآخرين، الذين قد يهددون الأسرة في طعامها أو في أمنها، أو لتوفير المناخ الطبيعي اللازم لتمكين رب الأسرة من القيام بوظائفه الحيوية. وباتساع الأسر وتعدد وتشعب فروعها ظهرت العشائر والقبائل ومعها ظهرت سلطة شيخ العشيرة أو القبيلة وتميزت عن سلطة رب الأسرة. ثم أدت عوامل كثيرة، من بينها الحاجة إلى التوسع والحصول على مصادر أكبر للرزق، إلى إندلاع الصراع بين العشائر والقبائل المختلفة. وفي الصراعات والحروب يوجد منتصرون يصبحون عادة قادرين على فرض سطوتهم وسلطتهم، ومهزومون يخضعون لإرداة المنتصر وأوامره. ومع تطور الصراع اتسع نطاق المجتمعات وظهرت السلطة السياسية.
وإذا كانت العلاقة بين رب الأسرة ومن يعولهم من الأزواج والأبناء والأحفاد قد اتسمت إلى حد كبير بالتكافؤ بين الحقوق والواجبات بسبب روابط الدم والقربى، فقد أصبح من الصعب المحافظة على علاقات التكافؤ هذه في إطار المجتمعات الأوسع التي أفرزتها التفاعلات الصراعية بين العشائر والقبائل. فقد أدى وجود منتصرين ومهزومين إلى ظهور طبقة من العبيد والأرقاء أصبح للأسياد عليهم حق المنح والمنع بل وحق الحياة ذاتها. وكما كانت هناك صراعات وحروب بين بعض القبائل كان من الطبيعي أن يصبح هناك تعاون وتحالف بين بعضها الآخر إما لدرء أخطار الطبيعة أو للتغلب على عدو مشترك. وهكذا ظهرت المدن والقرى ثم المجتمعات الإنسانية الأكبر والأكثر تعقيداً حتى وصلنا إلى شكل الدولة التي ظهرت فيها سلطة سياسية تختلف في طبيعتها وفي أدواتها عن سلطة رب الأسرة أو شيخ القبيلة أو العائلة أو حكام الإمارات الإقطاعية القديمة.
وبصرف النظر عن دقة ما تنطوي عليه هذه الرؤية من تفسير لنشأة الدولة أو نشأة السلطة السياسية، إلا أن الدولة تحولت في نهاية المطاف إلى أداة لضبط علاقات اجتماعية أصبحت شديدة التنوع والتعقيد. فهناك دول لا تزال التوازنات القبلية والعشائرية تلعب فيها دور المحرك الأساسي لسياساتها وأنشطتها، وهناك دول أخرى زراعية وصناعية حديثة برزت فيها قوى وطبقات اجتماعية مختلفة كلياً، ومن ثم فقد تطلب الأمر اللجوء إلى أساليب وطرق مختلفة عن الأساليب السائدة في حياة القبيلة لإدارة العلاقات فيما بينها. ولا شك أن طبيعة السلطة وطبيعة النظام السياسي في الدولة تعكسان حقيقة الاختلاف في طبيعة وأوزان القوى والفئات الاجتماعية المختلفة التي تتكون منها.
في النهاية يمكن القول يمكن القول أنَّ مفهوم الدولة ذو تاريخ من الصراع لم ينقطع أو يتوقف؛ بهدف الوصول إلى أفضل صيغة ممكنة لشكل الدولة والحكم؛ لتكون قادرة على تلبية طموحات الشعب، وتنطوي في الوقت نفسه على الآليات والضوابط التي تمَّكن أي حكومة منتخبة من إدارة شؤون الدولة بأعلى قدر من الكفاءة.
المصادر والمراجع:
أ.د حسن نافعة، مبادئ علم السياسة، جامعة القاهرة، كلية الإقتصاد والعلوم السياسية، قسم العلوم السياسية
د. هادي الشيب، د. رضوان يحيى، مقدمة في عل السياسة والعلاقات الدولية، إصدار المركز الديمقراطي العربي، طبعة 2017.