لم تتوقف متاعب مركب الحجار للحديد والصلب على مدار أكثر من ثلاثين سنة. وعلى الرغم من الإجراءات التي ما فتئت الدولة تتخذها لإنقاذ هذه القاعدة الصناعية التي تعد مفخرة الجزائر، إلا أن أيادي الفساد والتخريب ظلت تعبث بها وحولت الحجّار إلى عملاق بأرجل من طين، وهو ما أدى إلى تقلص الإنتاج في 2021 إلى 500 ألف طن، في وقت قاربت الديون المتراكمة مليار دولار.
يعد مركب الحجار للحديد والصلب أكبر إنجاز اقتصادي حققته الجزائر المستقلة حديثا، ويتربّع هذا العملاق على مساحة إجمالية تقدر بـ800 هكتارا في إقليم بلدية سيدي عمار بولاية عنابة، بطاقة إنتاج نظرية تبلغ مليوني طنا من الفولاذ السائل. وقد بلغ عدد عماله سنة 1982 27 ألف عامل، ليتقلّص العدد إلى 5818 عامل، حاليا، بإنتاج لم يتجاوز 500 ألف طنا سنة 2021 بسبب العديد من الظروف والتغييرات.
وضع الحجر الأساسي لبناء المركب الرئيس الأسبق أحمد بن بلة سنة 1964، وانطلق المشروع سنة 1965 على يد الرئيس الراحل هواري بومدين، حيث دشن وحدتي الفرن العالي رقم 1، والوحدة الحلزونية يوم 19 جوان 1969. وفي أواخر سنة 1978، شرع في إنجاز مشروع التوسع الذي يشتمل على مختلف الوحدات المتواجدة على مستوى المركب، وانتهى بوضع المخطط الإداري للصيانة، تم على إثره توظيف آلاف الشباب، خاصة المتخرجين من مراكز التكوين الثلاثة التابعة للمؤسسة الوطنية للحديد والصلب، تبعا لسياسة التشغيل المنتهجة، حينذاك، ووصل عدد العمال حدود 27 ألف عامل على مستوى التراب الوطني، حيث بلغ الإنتاج 700 ألف طن من الفولاذ السائل، ليرتفع في غضون 3 سنوات إلى 1.5 مليون طن سنة 1985، كأكبر نتيجة سجلت في تاريخ المركب بفعل توفر جميع الإمكانيات، بما فيها المساعدات التقنية للمتعاونين الأجانب.
ثم عرف الإنتاج هبوطا حادا في السنوات الثلاث الموالية، ليبلغ 700 ألف طن سنة 1988 بسبب تقلص المساعدات التقنية للأجانب الذين انتهت مدة عقودهم، وتأثير الأزمة الاقتصادية التي عرفتها الجزائر سنة 1986، التي أدت إلى توقيف استيراد قطع الغيار، ما أدى إلى التوقف الجزئي لبعض ورشات الإنتاج، إضافة إلى كبر حجم المركب وتوزع فروعه، ما صعب من التحكم في مهام التسيير.
وقد أفرزت الأحداث التي عرفتها الجزائر في 5 أكتوبر 1988 نقابة قوية بمركب الحجار للحديد والصلب، خاصة مع عودة النقابيين القدماء الذين حرمتهم السلطات من ممارسة نشاطهم، استنادا للمادة 120 من النظام الداخلي للحزب الواحد التي تشترط الانخراط في الحزب العتيد لممارسة أي نشاط نقابي، كما هو الحال بالنسبة للمرحوم دراجي ديلمي.
وعرف المركب حينئذ مرحلة اللااستقرار بفعل الأوضاع المهنية الصعبة التي يعاني منها العمال، وتهديدات النقابة بالدخول في إضرابات، الأمر الذي كان له التأثير الكبير على اتخاذ قرار إعادة هيكلة جديدة للمؤسسة في إطار الإصلاحات الكبرى للقوانين التي اتخذت في عهد حكومة مولود حمروش، حيث أصبحت “سيدار” مؤسسة ذات أسهم لها قانون أساسي، ولها فرعان هما “كوبروسيد” التي تزود المركب بالمواد الأولية و “تي أس أس” لصناعة الأنابيب غير الملحمة، كمؤسسات مستقلة بذاتهما. وهنا انخفض عدد العمال إلى 12 ألف عامل للمؤسسة الأم “سيدار” و6 آلاف عامل لفرعيها، وبقي الإنتاج في تلك الفترة يتراوح بين 700 ألف و900 ألف طن.
كما كان للتحولات التي عرفتها الجزائر بين سنتي 1991 و1996 أثر كبير على المركب، في إطار ما عرف آنذاك بتطبيق المخطط الهيكلي للمؤسسات في المفاوضات التي جرت بين الجزائر وصندوق النقد الدولي، خاصة ما عرف بمسألة التفريع أو التفريق التي عرفت التطبيق سنة 1998، بتحويل “سيدار” إلى مجمّع وإنشاء 24 فرعا جديدا، وتسريح 7 آلاف عامل من مجموع 18 ألف عامل، مقابل حصول كل واحد على 300 ألف دينار وإحالته على صندوق البطالة.
مع تواصل العجز المالي بالمركب بعد أن استنزف من الخزينة العمومية ما معدله 7 مليارات دينار سنويا منذ 1992، وكذا الصعوبات التي أصبحت تواجه وحدات الإنتاج فيما يخص انعدام الصيانة، فكرت الدولة في التخلي عن المركب وفقا لالتزاماتها مع صندوق النقد الدولي، وهي الفترة التي عرفت الزج بعدد من إطاراته في السجن، تم تبرئتهم فيما بعد في محاكمة تاريخية جرت وقائعها في أكتوبر 1997.
وفي نهاية 1999 وبداية 2000، وقع خناق كبير على المركب، حيث رفضت الخزينة تمويل أجور العمال بخطوط القرض، وكذا الأمر نفسه بالنسبة لمختلف البنوك العمومية لاستيراد المواد الأولية، كالفحم الحجري وقطع الغيار، ما دفع بالحكومة إلى نشر إعلان عن مناقصة دولية تضمنت فتح رأس مال مجموعة “سيدار” للحديد والصلب، وتقدم 3 متعاملين، من بينهم المتعامل الهندي “إسبات” الذي التزم بحماية مناصب الشغل لمدة 4 سنوات، مقابل تخفيض الدولة لأسعار استهلاك الماء والكهرباء ونقل المواد المنجمية بنسبة 30 بالمائة عن الأسعار المعمول بها، وأيضا تخفيض التكاليف الناجمة عن تسديد المستحقات تجاه مصالح الضرائب وصندوق التأمينات الاجتماعية بنسبة 17 بالمائة، إضافة إلى التزامه بتطبيق برنامج استثمار بغلاف مالي بقيمة 175 مليون دولار لمدة 5 سنوات.
بدأت متاعب العملاق العالمي في الحديد والصلب في الجزائر بعدما شعرت الدولة بإخلال الهندي بالاتفاقية التي تحتوي على 3 بنود المتعلقة ببرنامج الاستثمار والتركيب المالي، والثالث الخاص بالعقد الاجتماعي والاقتصادي، لضمان الاستقرار.
وتجسدت المتاعب مباشرة بعد الاجتماع الذي عقده الوزير السابق للصناعة الشريف رحماني مع لكاشمي ميتال في 2021، تم خلاله مراجعة عقد الشراكة بين الطرف الجزائري والهندي، ووضع بندين اثنين ضيّق من خلالهما الوزير الخناق على مسؤولي أرسيلور ميتال، وأولهما أنه يحق للدولة الجزائرية فسخ عقد الشراكة في حال عدم التزام الشريك الأجنبي بشرط تحقيق الأهداف الإنتاجية المتفق عليها، علاوة على أن الحكومة لن تعوض الشريك الهندي في حال طلبه مغادرة الشراكة قبل عام 2020، فاختار الأجنبي المغادرة سنة 2015 تاركا وراءه المركب في حالة “كارثية”، وغارقا في ديون بقيمة 12 ألف مليار سنتيم.
صراعات نقابية لا تزال قائمة إلى اليوم
تنوعت أساليب العبث بهذا العملاق الاقتصادي طيلة الثلاثين سنة الأخيرة، خاصة منذ أن قررت الحكومة خيار الشريك الأجنبي لتسيير المركب، فكان دوما رهينة المناورات الداخلية والخارجية، وكان المجلس النقابي للمؤسسة دوما في قلب المعركة؛ بل قل كان نقابيون بالمركب هم صناع تلك المناورات وفاعليها الحقيقيين، ثم تحولت فيما بعد لتصبح المناورات الخارجية هي المسيطرة على الأداء النقابي بالمركب، على حد تعبير قيادي في نقابة المؤسسة في تصريح إعلامي “قوة النقابة المستمدة من قوة الهاتف التي كانت أقوى من القانون”.
موازاة مع ذلك، شهد المركب، خلال هذه الفترة، العديد من العثرات والفوضى، غير أنه كان بداخله من العمال من رفع التحدي وأنهى سنة 2018 بإنتاج قدر بـ 700 ألف طنا، وهو رقم لم يبلغه المركب منذ 11 سنة. وتواصلت المتاعب بوجود أزمات أخرى؛ منها أزمة التزود بالحديد الخام من منجمي بوخضرة والونزة بولاية تبسة، اللذين عرفا، وقتئذ، إضرابا للعمال لأسباب مهنية واجتماعية، ما أدى إلى توقف الفرن العالي ثلاث مرات، ناهيك عن المشاكل الأخرى المتعلقة بالتموين بالماء.
ورغم تنظيم انتخابات وتشكيل مجلس نقابي معترف به في نوفمبر 2018، على أن تنتهي عهدته في نوفمبر 2022، إلا أن “خفافيش الظلام” ظلوا أوفياء لصنيعهم، بدليل ما يعرفه المركب، حاليا، من عمليات فساد وتخريب ممنهجة.
وفي هذا الصدد، ذكر مصدر نقابي “أن المركب يشهد صعوبات مالية لم تسمح له حتى بشراء قطع الغيار أو تجديد بعض الوحدات التي تعاني من القدم، ناهيك عن وجود عتاد تم اقتناؤه من الخارج لا يزال عالقا على مستوى موانئ العاصمة وعنابة ووهران بسبب عدم وجود أموال لجمركته”، مؤكدا على “عدم وجود ترشيد في النفقات، بدليل الاعتماد على المناولة في العديد من النشاطات داخل المركب، بدلا من اللجوء إلى التوظيف بعقود محددة المدة”.
وأضاف “إن السنوات الأخيرة عرفت عدة عمليات سرقة؛ منها إتلاف الكابل الكهربائي الذي يبلغ طوله ثلاثة كيلومترا من وحدة تحضير المواد الملبدة وسرقته، ما تسبب في توقف العمل بهذه الوحدة، وبالتالي توقف المنطقة الساخنة بأكملها، حيث فتحت مصالح الدرك تحقيقا في الحادثة، ناهيك عن عمليات التخريب التي مست، خلال الأيام الأخيرة، السجاد المتحرك بالوحدة نفسها، ما عرقل إمداد الفرن العالي بالحديد الخام”.
إمدادات بـ 80 مليار دينار منذ 2014 ومشاكل مالية عديدة
كشف وزير الصناعة في زيارته إلى المركب، في سبتمبر الماضي، أن مركب الحجار للحديد والصلب يواجه مشاكل مالية عديدة لتمويل دورة الاستغلال، مضيفا أن الاعتماد على الموارد المالية التي تقدمها الدولة لمساعدة المركب لم يعد ممكنا بالنظر إلى الظروف المالية للبلاد، وقدم جملة حلول للخروج من الوضعية الحالية.
وأضاف الوزير “إن أهم معالم مخطط التطوير الذي استفاد منه المركب، يتضمن مرحلتين أساسيتين؛ الأولى بين سنتي 2014 إلى 2017، حيث استفاد المركب من مبلغ إجمالي يقدر بـ 34 مليار دينار لإعادة تأهيل الوحدات والمنشآت داخل المركب، والثانية أطلقت ابتداء من سنة 2018 بمبلغ إجمالي قدر بـ 46 مليار دينار موجه لتأمين المركب ضد الحوادث، وتعزيز إنتاج مادة حديد الزهر والمواد المسطحة”.
وأكد “أنه رغم هذه الجهود، وبغض النظر عن بعض النتائج المسجلة، إلا أن المركب لم يرتق إلى مستوى التطلعات، حيث لم يتمكن من تعزيز مكانته في السوق الوطنية، ناهيك عن السوق الجهوية والخارجية، وهذا لا شك راجع إلى عوامل متعلقة بالسوق والمنافسة؛ لكن أيضا وخصوصا إلى عوامل داخلية تتعلق بنمط التسيير وإستراتيجية التطوير”.
وذكر “الوضعية تتطلب تطوير مقاربة جديدة لتدارك النقائص المسجلة، والرقي بمستوى التسيير بالمركب بالاعتماد على الكفاءات الموجودة، والتركيز على مجموعة محاور تتلخص في العمل على تقليص تكاليف الإنتاج بالاعتماد على هندسة مالية من أجل تعزيز القدرات التنافسية، وتثمين الأصول غير المستغلة في إطار نظرة تعتمد على المردودية الاقتصادية، وتنويع المنتوجات وتطويرها، والقيام بدورات للصيانة الوقائية للمحافظة على وسائل الإنتاج، وتطوير الشراكة مع الفروع والوحدات التابعة لمختلف المجمعات والشركات القابضة العمومية الصناعية، بالإضافة إلى ترقية الحوار مع الشركاء لمواجهة التحديات”.
نقابة الحجار.. “الوضع هش وكورونا فعلت فعلتها”
وكانت النقابة قد أصدرت بيانا في 26 ديسمبر الأخير، أكدت فيه على صعوبة الظروف المالية التي يعاني منها المركب منذ سنوات جراء الديون المتراكمة التي تركها الشريك الأجنبي، وكذا بسبب التواصل جائحة كورونا، التي زادت الوضع سوءا، وطالبت باعتماد خطط أكثر شفافية وتنافسية في منح الصفقات من حيث الأسعار والجودة، ما يعود بالإيجاب على المركب بصفة خاصة والعمال بصفة عامة. كما جددت طلبها بإلحاح للجهات الوصية بالتسريع في ضخ أموال الشطر الثاني من مخطط الاستثمار، ومنح المركب امتيازات الصندوق الوطني لدعم الاستثمار.
للإشارة، تفيد المعلومات بأنه رغم الوضعية المالية الصعبة التي يمر بها المركب، إلا أنه تمكن سنة 2021 من تصدير ما قيمته 70 مليون دولار من منتجات حديدية إلى كل من مصر، واسبانيا، وايطاليا، وتونس، وسوريا وتركيا، في وقت قاربت فيه الديون المتراكمة مليار دولار.