محددات العلاقات الروسية.. روسيا وإيران نموذجًا

تشمل علاقات التعاون بين روسيا ودول غرب آسيا وشمال إفريقيا (التي يشار إليها أيضًا باسم الشرق الأوسط) جمهورية إيران الإسلامية، التي تعد كيانًا نشطًا في العلاقات الدولية في المنطقة. من المعروف أن هناك بعض الخلافات والتناقضات بين عدد من دول الخليج وإيران، خاصة بين السعودية والإمارات من جهة، وإيران من الجهة الأخرى. كما أن لإيران تأثيرًا قويًّا في السياسة في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن.

في السنوات الأخيرة، نما التعاون بين روسيا وإيران نموًّا ملحوظًا. ويرجع ذلك- جزئيًّا- إلى العقوبات الغربية المفروضة على كلا البلدين. لقد أصبحت إيران مشاركة في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في إطار منطقة التجارة الحرة، وأعلنت عزمها على أن تصبح عضوًا كامل العضوية في الاتحاد في المستقبل القريب. مع ذلك فإنه يوجد لدى البلدين اختلاف في نهج السياسة الخارجية، كما أن لكل منهما مصالحه الوطنية الخاصة به.

في هذه المقالة سوف يتم بحث تلك العوامل، مع مراعاة الاستمرارية التاريخية، والوضع الجيوسياسي الحالي، والسيناريوهات المحتملة. كما ستؤخذ في الحسبان جوانب الإسلام السياسي، والصراعات المختلفة في المنطقة، والأيديولوجية الأوراسية. بشكل عام، يعتمد النهج التحليلي على نظرية الواقعية السياسية، بالاستعانة بمفاهيم الهيمنة، ومذهب التعددية القطبية.

الأوراسية الكلاسيكية والإسلام

بادئ ذي بدء، تجدر الإشارة إلى أن الأوراسية الكلاسيكية- بوصفها نظرية غير غربية متعلقة بالعلاقات الدولية- لم تهتم في الواقع بالدول الإسلامية. تم وضع الأوراسية– بوصفها رؤية خاصة- من مؤسسيها على أنها معقل للمسيحية الأرثوذكسية التي تعرضت للاضطهاد في روسيا السوڤيتية في عشرينيات القرن الماضي. باستثناء الفترة المتأخرة، عندما انضم إلى الأوراسية إرينجين خارا داڨان، مؤلف كتاب “جنكيز خان”، كان جميع مؤلفيها الرئيسيين من أتباع المسيحية الأرثوذكسية، الذين تفاعلوا مع تغييرات السياسة العالمية وفقًا لذلك. تم انتقاد الكاثوليكية بشكل خاص، حيث كانت الكتلة الروسية المهاجرة تقع- جزئيًّا- في البلدان الأوروبية ذات التقاليد الكاثوليكية، ما كان له تأثير معين. بالطبع كانت لديهم فكرة عن الإسلام، والهندوسية، والطوائف الوثنية، لكنهم ركزوا- أولاً وقبل كل شيء- على الأرثوذكسية، وبشكل أكثر دقة، على إحياء التقاليد الروسية السابقة لفترة الانشقاق.

في الوقت نفسه، كان هناك فهم واضح للإسلام بوصفه قوة سياسية محركة في منطقة جنوب أوراسيا؛ فقد أدّى انهيار الإمبراطورية العثمانية، مثله مثل انهيار الإمبراطورية الروسية، إلى ظهور تشكيلات جديدة لديها تقاليدها الإثنية الفريدة، وتنتمي إلى العقيدة الإسلامية.

في هذا الصدد، يهمنا أن نشير إلى ما نُشر عام 1925 لأحد مؤسسي الأوراسية، الأمير نيقولاي تروبيتسكوي، بعنوان “حول شعوب القوقاز”، حيث ذكر أن الأذربيجانيين يعدون- من حيث عددهم- أهم عنصر في منطقة ما وراء القوقاز، فلديهم نزعة قومية قوية، كما أنهم الأكثر ثباتًا على مواقفهم المعادية للروس من بين شعوب القوقاز. تلك الروسوفوبيا (معاداة الروس) تسير- جنبًا إلى جنب- مع التركوفيليا (الولاء لتركيا)، التي تغذيها أفكار الوحدة الإسلامية، ومفهوم البانتورانية. إن الأهمية الاقتصادية لأراضيهم (النفط في باكو، وتربية دودة القز في نوخا، ومزارع القطن في موغان) كبيرة جدًّا إلى درجة أنه لا يمكن السماح بانفصالهم، لكن في الوقت نفسه، من الضروري الاعتراف بقدرٍ- وإن كان كبيرًا إلى حد ما- من الاستقلال للأذربيجانيين. ويعتمد القرار هنا أيضًا- إلى حد كبير- على طبيعة النزعة القومية الأذربيجانية، ويعد إنشاء نموذج أوراسي أذربيجاني قومي، مهمة ذات أهمية قصوى. في هذه الحالة، يجب طرح المذهب الشيعي ضد الوحدة الإسلامية.

لذلك، نرى هنا تحليلًا سياسيًّا براغماتيًّا إلى حد ما، يتحدث عن توليفة محتملة بين القومية التركية والإسلام السني، قد تشكل تهديدًا لمصالح روسيا. مع أن أذربيجان تعد الآن دولة مستقلة، فإننا نرى التطبيق العملي لتلك التوجهات التي حذر منها الأمير تروبيتسكوي منذ نحو مئة عام. تستخدم تركيا فكرة القومية التركية والتراث المشترك، وفي الوقت نفسه تروج للنسخة العثمانية من الإسلام في أذربيجان. وبما أن سكان أذربيجان هم من الشيعة اسمًا؛ لكونهم علمانيين في غالبيتهم، فإن كثيرًا منهم يقعون بسهولة تحت تأثير المشروع التركي، خاصة إذا كان الأمر مدعومًا بمصالح مادية.

بالإضافة إلى ذلك، تجدر الإشارة إلى وجود نهج مناهض للغرب بشكل عام في فترة الأوراسية الكلاسيكية، وهو ما كان قريبًا جدًّا من رؤية المعلم الروسي المسلم إسماعيل غازبرنسكي. وما يجمع الأوراسية وغازبرنسكي هو فكرة رفض الغرب بصفته حاملًا للانحلال والليبرالية، وكذلك إشارتهما إلى أهمية التوليف بين الشعوب السلاڨية والتركية.

يجب أخذ هذه العوامل في الحسبان عند تحليل العلاقات الحديثة، خاصة إذا كانت هناك عوامل دينية.

موقف روسيا الرسمي

هناك عدد غير قليل من العناصر المقيدة والجوانب المعقدة في العلاقات بين روسيا وإيران، منها على سبيل المثال العداء التاريخي؛ فقد خاضت بلاد فارس والإمبراطورية الروسية عدة حروب. وفي القرن العشرين، احتلت القوات السوڤيتية جزءًا من إيران. في هذه المنطقة، لم تخض روسيا حروبًا مماثلة إلا مع الإمبراطورية العثمانية، وخلال حقبة الحرب الباردة كانت تركيا تعد عدوًا للاتحاد السوڤيتي. ولا يمكن قول الشيء نفسه عن الدول العربية التي لم يدخل الاتحاد السوڤيتي في حروب معها قط، بل كان يساعد كثيرًا منها في تحقيق الاستقلال، ويدعم سياساتها. تغير الوضع مع انهيار الاتحاد السوڤيتي؛ ففي التسعينيات لم تتمكن روسيا من تقديم المساعدة إلى كثير من البلدان، ولكن بعدما استعادت عافيتها في العقد الأول من القرن الحالي، ظهر التوجه نحو العودة إلى الساحة الجيوسياسية في الشرق الأوسط.

اتسمت هذه العملية ببعض الغموض؛ نظرًا إلى عدم وجود أيديولوجية يمكن الاعتماد عليها في السياسة الخارجية، حيث اتخذت روسيا نهجًا براغماتيًّا. هناك عدة خطوط عامة تتبعها الدبلوماسية الروسية على وجه العموم:

  1. ترفض موسكو النهج الذي يستخدمه الغرب تحت اسم “الصداقة ضد الآخر”. وهذا يعني أن روسيا تجد نقاط التقاء مع الخصوم دون الضغط على القضايا التي تمثل أهمية حيوية لمصالحهم الوطنية (ولكن مع أخذها في الحسبان) من ناحية، وداعية إلى تطبيع العلاقات من ناحية أخرى. ومن الأمثلة على ذلك علاقاتها الرسمية مع كل من إسرائيل وكذلك فلسطين وسوريا ولبنان. وفي الوقت نفسه، فإن موقف موسكو الرسمي هو الاعتراف بدولة فلسطين المستقلة، وعاصمتها القدس.

من المهم ملاحظة أنه في الخارج كثيرًا ما يتعرض مفهوما العلاقات التحالفية والعلاقات التعاهدية للتشويه المتعمد؛ فعلى سبيل المثال، يمكننا أن نسمع كثيرًا عن العلاقات التحالفية القائمة بين الاتحاد السوڤيتي (أو روسيا) والهند، ومع ذلك، لم تكن الهند عضوًا أبدًا في أي تحالف مع الاتحاد السوڤيتي (أو روسيا). يمكن للعلاقة التعاهدية أن تكون ودية، أو مجرد تتبع خط رسمي يفي فيه الطرفان بالتزاماتهما. يتوصل بعض الكتاب أحيانًا إلى هذه الاستنتاجات الخاطئة عن “تحالف” روسيا وإيران، مع أن روسيا إن كانت قد أجرت مناورات مشتركة مع إيران، فهي كذلك أجرت تدريبات مماثلة مع كثير من الدول، بما في ذلك الدول المعادية بعضها لبعض، مثل الهند وباكستان. إضافة إلى ذلك، فإنه في عام 2021، شاركت السفن الروسية في التدريبات البحرية (AMAN-2021)، التي شهدت كذلك مشاركة سفن من دول حلف الناتو.

هذا مع أن الناتو يشكل خطرًا على أمن الاتحاد الروسي. وإذا اعتُبر التعاون العسكري قمة العلاقات التحالفية، فكيف يمكن تفسير هذا النهج؟ إنه لا يوجد تعاون مباشر بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، لكن المشاركة ممكنة بدعوة من طرف ثالث إذا كانت الأهداف تتماشى مع المصالح الوطنية.

وعلى ما يبدو، تتفق المصالح الوطنية للدول العربية وإيران قليلا، فعلى الرغم من وجود خلافات بين المملكة العربية السعودية وإيران، فإنه يربط بينهما نوع من العلاقات “التحالفية”، حيث إن كلا البلدين (والعديد من الدول العربية الأخرى) عضو في حركة عدم الانحياز. بعض هذه الدول مدرجة أيضًا في مجموعة الدول الثماني بمنظمة التعاون الاقتصادي، التي أٌنشئت عام 1996، وهي: (بنغلاديش، ومصر، وإندونيسيا، وإيران، وماليزيا، ونيجيريا، وباكستان، وتركيا).

  1. تنتهج روسيا سياسة عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. إذا كان هناك نوع من الخلاف بين طرفين، فغالبًا ما يُنظر إليه على أنه شأن داخلي لهذين البلدين؛ ولهذا السبب تتجنب موسكو القيام بأي خطوات دبلوماسية فيما يخص قضية كشمير في الهند وباكستان، أو النزاع على الجزر بين الإمارات وإيران، لكنها في الوقت نفسه تؤكد ضرورة حل النزاع من خلال المفاوضات. غالبًا ما تعرض روسيا مساعدتها بالتوسط في هذه المواقف.

يثير موقف روسيا من الجماعات السياسية- التي تعدها دول أخرى إرهابية- بعض التساؤلات أحيانًا. في الشرق الأوسط ينطبق هذا- على وجه الخصوص- على حزب الله اللبناني، وحركة حماس الفلسطينية، وحزب العمال الكردستاني. هذه المنظمات غير محظورة في روسيا؛ لأنها لا تشكل أي تهديد للمواطنين الروس أو الدولة، في حين تعد حركة “طالبان” و”الإخوان المسلمون” من المنظمات المحظورة. لكن في الوقت نفسه، لا يوجد حظر على إجراء اتصالات معينة مع هذه الهياكل، حيث كانت طالبان تتفاوض في موسكو على عملية السلام في أفغانستان. قد يكون هذا النهج محيرًا، لكنه يعتمد على تقييم التهديد. فيما يخص الأمن القومي الروسي، فإن “طالبان” لا تشكل تهديدًا له؛ لأن نشاطها مقتصر على الأراضي الأفغانية فقط، مع أنه قد يشكل خطرًا على أرواح المواطنين الروس الموجودين في أفغانستان، وكذلك “الإخوان المسلمون”. مع أن هذه المنظمة عبارة عن مظلة لمجموعات مختلفة بينها خلاف بشأن عدد من القضايا ذات الطبيعة الروحية، أو الاجتماعية، أو السياسية، فإن روسيا تراها نقطة انطلاق محتملة لنشر أفكار الإسلام السياسي. وبعد النزاع المسلح في شمال القوقاز والهجمات الإرهابية في عدد من المدن والمناطق الكبيرة، يتم الاشتباه في أي شكل من أشكال الإسلام السياسي تلقائيًّا.

أما مسألة حزب العمال الكردستاني فهي أكثر تعقيدًا، حيث تم استخدام تشكيلاته في العهد السوڤيتي في أنشطة تخريبية ضد تركيا. حصل العديد من أعضاء حزب العمال الكردستاني على حق اللجوء في روسيا، كما حصل العديد من أعضاء الحركة السرية المسلحة في شمال القوقاز على حق اللجوء في تركيا. وعلى الرغم من وجود علاقات متوازنة ومعتدلة بين روسيا وتركيا، فإن القضية الكردية لا تزال خارج الخط الرسمي.

  1. تُمنح الأفضلية فيما يخص المسائل الأمنية للبلدان التي أثبت التفاعل معها كفاءته. في هذا الصدد، استندت المعركة ضد العصابات السرية في شمال القوقاز إلى بيانات الأجهزة الاستخباراتية المختلفة التي قدمت المساعدة لروسيا. تم تلقي بعض هذه المعلومات من إيران، وهو ما يفسر ثقة موسكو بطهران. ومع أن إيران تحاول القيام بالتبشير الشيعي على الأراضي الروسية، فإن السلطات الرسمية لا ترى في ذلك أي مشكلة ما دام يتم الالتزام بجميع قوانين الاتحاد الروسي. من ناحية أخرى، فإن جهاز الأمن القومي الروسي لديه بعض التحيز واللاانتقائية؛ فهو لا يعدّ أعمال الوهابيين المتطرفين فحسب من بين الأدبيات المحظورة؛ ولكن أيضًا كتب آية الله الخميني. وقد لاحظ المتخصصون في الأمور الدينية والخبراء هذه الحقيقة مرارًا وتكرارًا.

منذ أن بدا تورط السعودية وقطر في إطلاق العنان للحرب الأهلية في سوريا ودعمها، ترك ذلك بصمة معينة على نظرة موسكو إلى نشاط هذه الدول. إذا أضفنا إلى هذا الاتصالات مع الولايات المتحدة، وخاصة وجود قواعد عسكرية على أراضي دول المنطقة، فإن خيار روسيا هنا سينصب أيضًا على تلك الدول التي لا يوجد فيها وجود عسكري أمريكي.

البحث عن التوازن

كما قال المحامي الألماني كارل شميت: “السياسة في ذاتها صراع، وأعداء وأصدقاء”. لكن الأصدقاء والأعداء لا يمكن أن يدوموا إلى الأبد، خاصة إذا كانوا جيرانًا في منطقة واحدة، والمثال على ذلك هو التنافس بين فرنسا وألمانيا على مر القرون، الذي تحول إلى تعاون خاص داخل الاتحاد الأوروبي. يمكن قول الشيء نفسه عن المنطقة الممتدة من شمال إفريقيا إلى آسيا الوسطى، التي حاولت الولايات المتحدة إعادة تنظيمها وفقًا لرؤيتها الخاصة في إطار مشروع يعرف بـ “الشرق الأوسط الكبير”. ومن الممكن أن يتمثل السيناريو البديل في إنشاء أقطاب مترابطة، مدعومة بخطوط التعاون مع روسيا والصين. وفي هذا الصدد، نرى أن بكين تنفذ مبادرة الحزام والطريق في كثير من دول المنطقة رغم الخلافات الموجودة.

في ظل تغير النموذج الجيوسياسي للعلاقات الدولية، وهيكل السياسة العالمية، فإن روسيا مستعدة كذلك لبدء التفاعل، وإن كان من الصفر.

إن مشاركة إيران في منطقة التجارة الحرة مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي مهمة في الوقت الحالي كإجراء جماعي للتصدي للعقوبات الغربية. ومع ذلك، فإن مشروع التكامل الأوراسي مفتوح أيضًا للدول العربية.

هناك محاولات معروفة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لمنع أي تعاون مع الاتحاد الاقتصادي الأوراسي للحفاظ على هيمنتهما وسيطرتهما على صنع القرارات الإستراتيجية. ومع ذلك، تأمل موسكو أن تلقي رد فعل ملائمًا، وموقفًا سياديًّا لقادة الدول الأخرى بشأن هذه القضية.

من ناحية أخرى، غالبًا ما تكون تصرفات موسكو رد فعل. فعلى سبيل المثال، الإصلاحات الجارية في المملكة العربية السعودية لم تُقيَّم تقييمًا صحيحًا بعد، مع أن محاولات إجراء محادثات بين الرياض وطهران بوساطة عراقية تعد موضع ترحيب.

وفي مثال آخر، تم التعاون مع دولة الإمارات العربية المتحدة في عدد من المجالات، مثل التعاون في مجال التقنيات العالية بين موسكو وأبو ظبي. كما أبرم صندوق الاستثمار المباشر الروسي عددًا من الاتفاقيات مع الشركة السيادية الإماراتية للاستثمار “مبادلة”، لكن هذه الشراكة تكون محدودة، مع أنها تتم لأهداف إستراتيجية.

الحركة الأوراسية ونظام العلاقات المعقدة في منطقة المشرق العربي

الحركة الأوراسية هي منظمة فريدة تجمع بين الفلسفة السياسية والتحليل الجيوسياسي من ناحية، والسياسة الواقعية ونمذجة العلاقات الدولية من الناحية الأخرى.

نعتقد أنه من المستحيل اعتبار وجود اتصالات أو مشاركة لممثلي الحركة الأوراسية الدولية في أي فعاليات تضم أحزابًا سياسية أو مسؤولين، كمشاركة في العملية (المشروع) الخاصة بهم؛ لأن هذا- أولاً- يعد تقديرًا لتقاليد الضيافة التي تتشابه كثيرًا في مختلف أنحاء أوراسيا. فحضور قيادة الحركة في أربيل المؤتمر الكردي لا يعني اتخاذ موقف متشدد مؤيد للأكراد، كما أن المشاركة في المؤتمرات التركية لا تعني اتخاذ موقف معادي للأكراد.

ثانيًا: معظم الأحكام المبنية على تقديرات تكون غير موضوعية، ومن الجانب النفسي يمكن تفهم حيرة الناس الذين ليسوا على دراية بالموقف، وكذلك ما توصلوا إليه من استنتاجات. ترجع صعوبة الفهم- أولاً وقبل كل شيء- إلى عمل تقييمات خارجية وسطحية. لاحظنا ذلك مرات عديدة في صربيا، عندما كانت مختلف أحزابها وجماعاتها المتعارضة تؤكد باستمرار موقفها الجيد تجاه روسيا، ثم يظهر في ردود فعلها نوع من الغيرة إذا تواصلت روسيا (سواء من مسؤوليها، أو من شخصياتها العامة) مع أشخاص آخرين غيرهم. ومع ذلك، فإنه من المستحيل الحصول على الصورة الكاملة إذا لم يكن هناك تفاعل مع أطراف مختلفة.

ثالثًا: نظرًا إلى أن الحركة الأوروآسيوية مجبرة على إجراء تحليل دقيق وشامل للعمليات الجيوسياسية، فنحن بحاجة إلى وجود اتصالات مع أطراف مختلفة من أجل فهم مواقفهم ونيّاتهم. في بعض الأحيان، تتم تلك الاتصالات حتى مع ممثلي الولايات المتحدة على أراضٍ محايدة في إطار المشاركة في حدثٍ ما. ومع ذلك، لا يمكن القول إن هذا الأمر ليس مفيدًا؛ لأنه يسمح باختبار الوضع الحالي، والتحقق من الفرضيات مرة أخرى، وتوضيح المسائل المختلفة.

رابعًا: هناك علامة واحدة مهمة يسهل على أساسها تحديد موقف الأوراسيين، ألا وهي تعددية الأقطاب، وإنكار الهيمنة الأمريكية على العالم. نحن لا ننكر إمكانية مشاركة الولايات المتحدة في الشؤون العالمية، لكن لا ينبغي لواشنطن أن تستمر في لعب دور شرطي العالم، وأن تتحكم في تصرفات الدول الأخرى، فإننا في الوقت الحالي نرى أن الولايات المتحدة تتلاعب بالرأي العام بالكامل في مختلف البلدان، باستخدام تأثيرها المعلوماتي والاقتصادي القوي (وفي أحيان كثيرة عن طريق استعراض القوة العسكرية كذلك).

في هذا السياق، نرى أن العالم العربي ومنطقة جنوب أوراسيا سوف يتحرران في المستقبل من النفوذ الأمريكي، وسيستعيدان هويتهما. وبشكل عام، يمتلك المغرب والمشرق العربيان، وكذلك غرب آسيا وشمال إفريقيا، إمكانات كبيرة، فليس من قبيل المصادفة أن تستضيف موسكو قمة “روسيا– إفريقيا” الدولية عام 2019، وأن تشارك بنشاط في شؤون الشرق الأوسط.

في الوقت نفسه، إذا تحدثنا عن الدول الإسلامية، فليس هناك أفضلية لطرف معين على أساس ديني؛ “فالشيعة والسنة مهمان على حد سواء بوصفهما طائفتين إسلاميتين رئيسيتين وراسختين، على الرغم من وجود انقسامات داخلهما، وهناك أيضًا طوائف أخرى غير تقليدية، مثل الدروز (الموحدين) والإباضية”.

فيما يتعلق بالصراعات، دائمًا ما أيدت روسيا والحركة الأوراسية نمط التسوية المتعددة الأطراف، حيث تبين أن دور الولايات المتحدة غالبًا ما يكون عديم الفعالية، بل يكون ضارًّا (على سبيل المثال، محاولاتها لحل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني في عهد باراك أوباما). إن التسوية المتعددة الأطراف، كما أظهرت مباحثات أستانا بشأن سوريا، تعد أكثر عملية من الحوار الثنائي.

في ختام المقالة، من الضروري ملاحظة عدد من العوامل التي تبطئ وتعقد العمليات التي تحدث في إطار العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف. بالإضافة إلى التفسير الخاطئ للأحداث المختلفة، من الضروري مراعاة تأثير الحرب المعلوماتية والنفسية التي يشنها الغرب ضد روسيا من خلال وسائل الإعلام الخاضعة لرقابته والقنوات الأخرى (نموذج الاتصالات الإستراتيجية). تقع وكالات الأنباء الرئيسية في الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى، حيث تخضع المعلومات للتشويه المتعمد، ثم تُنشر من خلال فروعها وشركائها في العالم العربي. ومع أن القناة الروسية “روسيا اليوم” (RT) العربية تعد بديلاً، فإنها لا يمكنها منافسة أجهزة حرب المعلومات الغربية.

ثانيًا: لا تمتلك روسيا كمًا كافيًا من المعلومات عن العمليات الجارية في العالم العربي. ولسوء الحظ، عادة ما تعيد وسائل الإعلام الرئيسية طبع الأخبار أو المقالات (بما في ذلك بعض وكالات الأنباء الغربية المذكورة أعلاه)، دون أن يكون لها موقفها الخاص، ودون الخوض في جوهر القضية. ينعكس هذا النهج على جودة الصحافة، ويجعلها لا تحمل أي قيمة، أو أي أهداف إستراتيجية لتحسين العلاقات.

ثالثًا: على الرغم من الجودة العالية- إلى حد ما- لمدرسة الدراسات الشرقية في روسيا، وبالتحديد الدراسات العربية، فإن هناك نقصًا معينًا في الكوادر. يؤدي التخصص في كثير من الأحيان إلى رؤية ضيقة للأشياء، حيث غالبًا ما يفتقر المتخصصون في الأمور الدينية إلى الخلفية السياسية، تمامًا كما قد يجهل الخبراء في مجال الأسلحة التوازن الجيوسياسي للقوى. في هذا الصدد، تقدم الحركة الأوراسيةأ- بقدر الإمكان- خدمات استشارية في هذا القطاع للأطراف المعنية، وتُعِد تقارير الخبراء لصناع القرار في الهياكل الحكومية الروسية، لمساعدتهم على فهم أفضل لواقع السياسة العربية

Please subscribe to our page on Google News

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15371

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *