المركز الديمقراطي العربي
تمهيد
تعتبر الدولة الألمانية حسب المادة 20 الفقرة 1 من الدستور الألماني دولة اتحادية؛ و هذا يعني أنه بجوار الدولة المركزية تقوم دويلات صغيرة (ولايات) تعنى أيضا بمسائل السّيادة في حدود ما يقره الدستور الألماني.
وقبل الإسترسال في شكل الدولة الألمانية من حيث تكوينها الدستوري لابأس أن نذكر بأن العنصر البشري (الشعب) ،العنصر المادي (الإقليم)، العنصر التنظيمي (السيادة) والإقرار الخارجي (الإعتراف الدولي) من المقومات التي لايمكن الإستغناء عنها لتكوين دولة معينة.
وبذلك يمكن تعريف الدولة على أنها مؤسسة سياسية وقانونية تقوم حيث يقيم مجموعٌ من الناس بصورة مستمرة في رقعة جغرافية معينة ويخضعون لسلطات عليا تمارس سيادتها عليها.
ويمكن للدولة أن تتخذ عدة أشكال من حيث تكوينها الدستوري، فتكون الدولة إما بسيطة أو مركبة.
أما الدولة البسيطة فهي الدولة التي تكون فيها السيادة موحدة غير مجزأة، يسودها دستور واحد يطبق على كل أقاليمها، وتكون لها سلطة تشريعية واحدة وهيئة تنفيذية واحدة. ومن الدول البسيطة نذكر فرنسا، الدانمارك، مصر والعراق قبل دستور 2005.
والدولة المركبة شكلان، الأول: هو الدولة المتحدة (اتحاد الدول) وهو عبارة عن اتحاد عدد من الدول(بسيطة أو اتحادية) تتمتع فيه كل دولة بسيادتها التامة، لتحقيق أهداف مشتركة، بحيث تخضع لسلطة سياسية مشتركة؛ ومن أنواعه الإتحاد الشخصي(اتحاد انكلترا وهانوفر سنة 1714) والاتحاد التعاهدي(وكليهما لا يشكل دولة واحد) والاتحاد الفعلي الذي تنبثق عنه دولة واحدة فاقدة بذلك الدول المكونة للاتحاد شخصيتها الدولية(اتحاد النمسا والمجر سنة 1867.
أما الشكل الثاني للدولة المركبة فهو الدولة الإتحادية (الفدرالية) التي يمكن النظر إليها على أنها النقيض لنظام الدولة الأحادية البسيطة.
سنحاول فيما يلي التعريف بالدولة الفدرالية (الإتحادية) وتبيان أساليب نشأتها، متناولين بعد ذلك الدولة الألمانية كنموذج.
الفقرة الأولى: تعريف و مقارنة
أولا: تعريف الدولة الاتحادية
الدولة الإتحادية أو الدولة الفدرالية هي شكل من أشكال الدولة التي تكون السلطات فيها مقسمة دستوريا بين حكومة عامة اتحادية (مركزية أو فدرالية) وبين حكومات إقليمة (حكومات الولايات أو المقاطعات أو الدويلات)، لتنشأ الدولة الإتحادية من اتحاد هذه الأقاليم، في سبيل التعايش معا دون انفصال، في دولة اتحادية والتي تنهض مثلا بجميع الإختصاصات الخارجية للدولة كالتمثيل الخارجي مع تمتعها بدستورها الإتحادي وسلطاتها الخاصة بها. أما الإختصاصات الداخلية فهي مقسمة دستوريا بين الأقاليم المكونة للدولة الإتحادية مع إمكانية منح بعضها للدولة الإتحادية المركزية.
ويمكن تعريف الدولة الإتحادية أيضا على أنها اتحاد اختياري بين ولايات أو دول أو أقوام تختلف قومياً، أو عرقياً، أو ديانةً، أو لغةً، أو ثقافةً، حتى تتحول إلى شخصية قانونية واحدة أو نظام سياسي واحد مع احتفاظ أجزاء هذه الشخصية المتحدة بخصوصيتها وهويتها ويوجد تفويض للكيان المركزي للاتحاد ببعض الصلاحيات المشتركة مع الاحتفاظ ببعض الصلاحيات لهذه الأجزاء أو الولايات بما يعني توافر الاستقلال الذاتي للولايات والأقاليم المكونة للاتحاد. فالفيدرالية تعني الاتحاد الاختياري والتعايش المشترك بين الشعوب والأقليات وحتى بين الشعب الواحد في أقاليم متعددة. كما هو الحال في ألمانيا الاتحادية. والاتحاد الاختياري هو إحدى ممارسات حق الشعوب في تقرير مصيرها المنصوص عليه في العهود والمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحد ة.
ومن خلاله يمكن القول بأن الفدرالية آلية دستورية لتوزيع السلطة بين مختلف مستويات الحكم، الهدف منها تحقيق السلم والاستقرار والتوافق المشترك في بلدان تتميز بفروق متمركزة إقليميا في العرق أو اللغة أو الدين أو الهوية(فدرالية الهوية)، كما أن الفدرالية وقاية من التمركز الزائد للسلطة وضمان للتخاد أنسب القرارات الموشحة بالمشاركة الديمقراطية الموسعة(فدرالية الكفاءة)، بعيدا عن التفرد في الحكم وحكر السلطات بيد شخص او مجموعة تنتهك القانون وتهدر الحقوق. و بالتالي يمكن القول أن الفيدرالية مبدأ تكامل مفهومه العملي في العصر الحديث مجسدا لأسس الديمقراطية في الحكم والإدارة والقانون.
ثانيا: مثال لدول اتحادية وطريقة نشأتها
يمكن أن تنشأ الدولة الإتحادية عن طريق الدستوركما هو الحال في ألمانيا (مكونة من 16 ولاية) و النمسا (مكونة من 9 ولايات)، أو عن طريق اتحاد تعاقدي للدويلات ومثاله دولة سويسرا (المكونة من 26 إقليمٍ أو كما تُعرف بكانتون) والولايات المتحدة الأمريكية (المكونة من 50 ولاية.
أما بالنسبة للإتحاد الأوربي فقد أقرت المحكمة الدستورية الفيدرالية الألمانية في حكم صدر عام 1993 بأنه لا يمكن اعتباره دولة اتحادية ولا اتحاد دول في شكليهما المتعارف عليه دوليا وإنما اعتبرته نظام سياسي فريد من نوعه يمثل فئة خاصة به سمته Staatenverbund بما يمكن ترجمته ب تحالف الدول أو رابطة الدول.
ويمكن تقسيم أساليب نشوء الدولة الإتحادية إلى ثلاث أساليب.
1: أسلوب الإندماج: وهو انصهار وتجمع دول مستقلة بالأصل في دولة اتحادية، وهو الأسلوب الذي نشأ به اتحاد الأمارات العربية عام 1971 وجمهورية ألمانيا الاتحادية عام 1949 والاتحاد السويسري عام 1874 والولايات المتحدة الأمريكية عام 1787
2: أسلوب التفكك: ويقع نتيجة تفكك دولة موحدة بسيطة إلى دول مستقلة تعقد العزم بعد ذلك على تشكيل دولة واحدة هي الدولة الفدرالية، وفق نظام إداري فدرالي. ومثاله تشيكوسلوفاكيا سنة 1969 والبرازيل سنة 1891 والأرجنتين سنة 1860 والمكسيك سنة 1857.
3:أسلوب حكم الواقع: ومثاله قيام أقلية مضطهدة بثورة تعلن بعدها قيام إقليم فدرالي، خارجة بذلك عن إرادة المركز وفارضة عليه واقع جديد.
ومن ناحية أخرى فإن الواقع الحالي يثبت أن الدول الأحادية المعاصرة هي في الحقيقة فدراليات بحكم الواقع، خصوصا وأن بعض الجهات المتمتعة بالحكم الذاتي في دول أحادية كثيرا ما تتوفر على أرض الواقع على صلاحيات أوسع مما هو مستحق و ذلك راجع بالأساس الى تغلب ما هو متعارف عليه أولا و الواقع السياسي ثانيا على ما هو قانوني أو رسمي ومثال ذلك جمهورية الصين الشعبية واسبانيا.
الفقرة الثانية: الدولة الفيدرالية الألمانية
أولا: الخلفية الدستورية و التاريخية للفدرالية في ألمانيا
الخلفية الدستورية للفدرالية في ألمانيا.1
تشير المادة 20 من القانون الدستوري الالماني الى المبادىء البنيوية للدولة وتقول في فقرتها الاولى: جمهورية المانيا الاتحادية هي دولة فدرالية و ديمقراطية و اجتماعية. فيقر بذلك المشرع الألماني صراحة بتبنيه لمبدأ الدولة الاتحادية.
تبعا لذلك تتمتع الدويلات أو الولايات المكونة للدولة الإتحادية إزاء الدولة الإتحادية ومقابل بعضها البعض، بالقدرة على ممارسة السلطة السيادية داخل أراضيها بواسطة أجهزتها ومؤسساتها الخاصة في إطار ما يسمح به الدستور الألماني. وقد أكد المشرع الألماني تمتع الولايات بالسيادة في الجملة الثانية من ديباجة دستور 1949حيث قال “أن الألمان في الولايات وبمحض حقهم في تقرير مصيرهم بحرية قد أقرو إتمام وحدة ألمانيا بحرية. لذلك فإن هذا القانون الأساسي ساري المفعول لكافة الشعب الألماني.” ويعتبر الفقهاء الألمان أن هذه إشارة واضحة من المشرع بتمتع الولايات بالسيادة. أما الدولة الإتحادية هنا فقد لمح إليها بالشعب الألماني.
ونود الإشارة هنا إلى أن بعض دساتير الدول الفدرالية لا تقدم شرحا أو وصفا محددا للفدرالية في أي قسم من أقسامها، فالدستور الأمريكي مثلا تضمن فقط إشارات متعددة للحقوق والمسؤوليات المناطة بحكومات الولايات ومسؤوليها أمام الحكومة الفدرالية المركزية.
الخلفية التاريخية للدولة الإتحادية الألمانية.2
لم تكن ألمانيا أبدًا دولة مركزية ، فالملك الألماني هو عادة “زعيم” إحدى القبائل! تم اختيار الملك الألماني من قبل “عظماء الإمبراطورية” ، أي زعماء القبائل. بمرور الوقت، أصبح قادة القبائل أسياد أراضي/ ملاك أراضي، أي أمراء على مجال ترابي معين.الشاهد هنا هو أنه على الملك المستقبلي التخلي على حقوق السيادة لهؤلاء الأمراء/ أسياد الأراضي في مقابل دعمهم إياه في الإنتخابات ليصير ملكا. بهذه الصورة تتداعى السلطة المركزية إزاء فرض الأمراء/ ملاك الأراضي لسيادتهم.
تعود الفدرالية الألمانية إلى تأسيس الإمبراطورية الرومانية المقدسة في العصور الوسطى، وإلى الإصلاحات التي جاءت مع صلح وستفاليا1648 ودستور الإمبراطورية الألمانية عام 1871.
نلاحظ أن لهذا الطابع باعتباره اتحادًا للدول الصغيرة تأثير أيضًا على دساتير الإمبراطورية الألمانية/الرايخ الألماني (1871.1945) الذي نص على مايلي: الهيئة التشريعية الأساسية للرايخ الألماني هي مجلس الولايات الأتحادي، الذي يتم إرسال ممثلي الولايات إليه، وليس البرلمان الألماني المنتخب.
وقد استمر تواجد الولايات حتى في مرحلة جمهورية فايمار (1918ـ1933)، التي اتسمت باعطاء الرايخستاغ/ البرلمان الألماني صفة الهيئة التشريعية الأساسية.
وقد استعادت ألمانيا طبيعتها الفدرالية بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن ألغيت فعليا في عهد النازيين.ويحمي الدستور الألماني الحالي، الذي جرى تبنيه في عام 1949، الطبيعة الفيدرالية لألمانيا فيما يسمى بالنص الأبدي وذلك في مادته 79 الفقرة 3: لا تُقبل أي تعديلات على هذا القانون الأساسي تؤثر على تقسيم الاتحاد إلى ولايات، أو على المشاركة المبدئية في عملية التشريع، أو على المبادئ الواردة في المادة 1 والمادة 20.
أي انه لا يجوز أيضا تعديل المبادئ التي جاءت بها المادة 20 التي تقول في فقرتها الأولى مثلا جمهورية ألمانيا الاتحادية هي دولة إتحادية ديمقراطية و اجتماعية.
تتألف الجمهورية الفدرالية الألمانية من ستة عشر ولاية وذلك منذ إعادة التوحيد في عام 1990 (الولايات العشر للجمهورية الفيدرالية قبل إعادة التوحيد («ألمانيا الغربية»)، والولايات الجديدة الخمس من ألمانيا الشرقية السابقة، وبرلين.
ثانيا: أسس مبدأ الدولة الفيدرالية في ألمانيا
اختصاص الولايات1
تتمتع الولايات مبدئيا بجميع الإختصاصات. هذا يعني أن الولايات مسؤولة عن جميع مهام الدولة، وذلك مالم يعطي القانون الدستوري الألماني هذه المهام للإتحاد. حيث أنه ينص في مادته 30 التي تتكلم عن الحقوق السيادية للولايات على مايلي: “تكون ممارسة الصلاحيات الحكومية وإنجاز المهام الحكومية من اختصاصات الولايات، ما لم ينص هذا القانون الأساسي أو يسمح بغير ذلك.
تشكل المادة 30 المعيار العام لترتيب الإختصاصات. إذ يؤخذ بهذا المعيار ما لم ينص على خلاف ذلك في لوائح محددة. يمكن القول ان هذا المعيار متجاوز بسبب التشريعات المختلفة والكثيرة في هذا المجال.
أ. السلطة التشريعية ـ المادة 70 من القانون الدستوري الألماني:
تكون الولايات دائمًا مسؤولة عن التشريع ، إذا لم يعطي الدستور نفسه الإختصاص للإتحاد. حيث أن الماة 71 من الدستور تنص صراحة على أن الولايات لا تتمتع بسلطة التشريع في الشؤون التي تندرج ضمن اختصاص السلطة التشريعية للاتحاد، إلا إذا خُول لها ذلك صراحة في قانون اتحادي، وبالقدر الذي خُول لها فيه.
ب. السلطة التنفيذية ـ المادة 83 من الدستور الألماني
تُنفذ الولايات القوانين الاتحادية بصفتها كولايات، إذا ما لم ينص القانون الأساسي أو يجيز غير ذلك.
ج. السلطة القضائية ـ المادة 92 من القانون الدستوري الألماني ـ
تعتبر الولايات الفيدرالية مسؤولة عن الأحكام القضائية، باستثناء المحاكم الفيدرالية والمحكمة الدستورية الاتحادية.
الولايات كدول في الجمهورية الألمانية.2
تبعا لما سبق فإن الولايات تمارس سلطة الدول، ويمكن القول بأنها تتمتع بتلك السطوة والجودة التي تتمتع بها الدول. ومن الأشياء التي تزكي هذا هو تمتع هذه الولايات بدساتيرها الخاصة.
تقول المادة 20 من القانون الدستوري الألماني في فقرتها الثانية بأن الشعب هو مصدر جميع سلطات الدولة. وتجري ممارسة هذه السلطات من قِبَل الشعب بالانتخاب والتصويت، وعبر هيئات خاصة للسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. وبالتالي فإن الدستور يعطي خطوطا إرشادية لمحتوى دساتير الولايات ، إذ يحتم عليها أن تكون منظمة ديمقراطيا.
ونشير الى أن القاعدة الأساسية لدساتير الولايات هي المادة 28 من الدستور: “يجب أن يتفق النظام الدستوري في الولايات مع مبادئ دولة جمهورية وديمقراطية واجتماعية تحكمها سيادة القانون، بالمعنى المقصود في هذا القانون الأساسي. في كل ولاية، ومقاطعة، وبلدية، يكون للشعب جهة تمثله اختيرت خلال انتخابات عامة، ومباشرة، وحرة، ومتكافئة، وسرية. في انتخابات المحافظات والبلديات، يحق للأشخاص الذين يتمتعون بجنسية أي دولة عضو في الاتحاد الأوروبي أيضا التصويت والترشح للانتخابات وفقا للقانون الجماعة الأوروبية.”
ومما سبق يمكننا استخلاص الإستنتاجات التالية: تتمتع الولايات بنظام دستوري، يلتزم بوجود ممثلين للشعب عن طريق الإنتخابات إضافة إلى وجود هيئات تمثيلية على مستوى البلديات والمقاطعات.
وسنحاول تحليل هذه النقاط في السطور القليلة القادمة.
أ. النظام الدستوري
إن خاصية “النظام الدستوري” ذات أهمية حاسمة، حيث يجب أن يتوافق دستور الولايات الفيدرالية في الواقع مع مبادئ القانون الأساسي ، أي الجمهورية والديمقراطية وسيادة القانون ودولة الرفاهية. يُعرف هذا التقييد على دساتير الولايات الفيدرالية باسم “شرط التجانس”. وهذا يعني أن دساتير الولايات ملزمة بالإعتراف وبدمج القرارات التوجيهية المنصوص عليها في الدستور الإتحادي.
وتبعا لذلك فإن كل دستور ولاية متعارض مع الدستور الإتحادي باطل وملغي.
ب. تمثيل الشعب في الولايات
يستخلص من المادة 28 في فقرتها الأولى (جملة2) وجوب نشوء تمثيل الشعب عن طريق “انتخابات عامة ومباشرة وحرة ومتساوية وسرية.
هذا يعني أن السيادة الشعبية تنطبق أيضًا على الولايات.إذ يتم فيها انتخاب برلمانات تسمى برلمانات الولايات. تستند انتخابات برلمانات الولايات على المادة 28 ، وليس على المادة 38 ق.د (التي تنطبق فقط على انتخابات البوندستاغ). .مع العلم أن المبادئ الأساسية للإنتخابات هي نفسها لا تتغير. إذن فالولايات تحكمها حكومات الولايات المنتخبة “انتخابات عامة ومباشرة وحرة ومتساوية وسرية.
هناك أيضًا هيئة تمثيلية على مستوى البلديات وعلى مستوى المقاطعات. إذ يجب إرجاع سلطة الدولة إلى الشعب وصولاً إلى أدنى المستويات.
ج. حماية دساتير الولايات
ينص القانون الأساسي ، أي دستور الجمهورية الفيدرالية الألمانية ، على أن للقانون الأساسي الأسبقية على دساتير الولايات (المادة 31 ق.د: “القانون الاتحادي يكسر قانون الولاية”). وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال التالي:ألا يمكن،وبتغيير في الدستور الالماني الإتحادي، إلغاء دساتير الولايات (خصوصا المادة 28 الفقرة الأولى من ق.د.الاتحادي)؟
تجيبنا المادة 79 في فقرتها الثالثة على هذا التساؤل بالنفي: لا تُقبل أي تعديلات على هذا القانون الأساسي تؤثر على تقسيم الاتحاد إلى ولايات، أو على المشاركة المبدئية في عملية التشريع، أو على المبادئ الواردة في المادة 1 والمادة 20.
نستخلص مما سبق ما يلي:
ـ يجب الا يتم المس بمسألة تقسيم الإتحاد إلى ولايات. بمعنى اخر، لا بد من تواجد الولايات في الجمهورية الفيدرالية الألمانية. لا يسمح بحل الولايات وهذا يؤثر على جانبين:
أولا: يجب ألا يتم حل الدول “إقليمياً”
ثانيا: يجب عدم تجويف “سلطات” الولايات لتصل إلى تلك المرحلة التي تنخلع عنها هيبة و جودة الدولة.
بناء ا عليه يلزم أن تتمتع الولايات بسلطات تشريعية كافية ، مع الاحتفاظ بالسيادة التنظيمية على سلطاتها الإدارية وموظفيها. ويجب على الولايات المشاركة في التشريع. لا يتعلق هذا فقط بالاختصاصات التشريعية للولايات (المادة 70 ق.د ) ، ولكن أيضًا بالإجراء ات التشريعية في الاتحاد (المادة 50 ق.د) ومشاركة الولايات في المجلس الاتحادي.
د. التمثيل الدولي في الجمهورية الفدرالية الألمانية
بموجب المادة 32 من ق.د. المنظمة للعلاقات الخارجية فإن رعاية العلاقات مع الدول الأجنبية من اختصاصات الاتحاد. نستخلص من هذا أن الحكومة الاتحادية هي التي تبرم الاتفاقيات الدولية. طبعا هذا يطرح مشكل خصوصا أننا قلنا فيما سبق بأن الولايات متمتعة باستقلال ذاتي يعطيها صفات ومكانة الدول.
تأتي الفقرة الثالثة من المادة 32 من ق.د. لتحل هذا المشكلل بإعطائها للولايات الحق في إبرام معاهدات مع دول أجنبية مشترطة في ذلك تمتع الولايات بسلطة سن التشريعات و موافقة الحكومة الاتحادية. يهدف شرط موافقة الحكومة الإتحادية إلى عدم إبرام عقود دولية متناقضة.
نشير هنا إلى أن الرئيس الاتحادي هو من يمثل الاتحاد و يبرم بذلك معاهدات مع دول أجنبية نيابة عن الاتحاد. نذكر أن المعاهدات التي تنظم علاقات الاتحاد السياسية، أو التي تتعلق بموضوعات التشريعات الاتحادية، تستلزم موافقة أو مشاركة الهيئات المختصة بالتشريعات الاتحادية، كل حسب اختصاصها، في صورة قانون اتحادي. وتنطبق الأحكام الخاصة بالإدارة الاتحادية أيضا بالنسبة للاتفاقيات التنفيذية.يستهف العقد مواضيع التشريع الفيدرالي ، إذا كان لا يمكن أن يصبح ساريًا في ألمانيا إلا بموجب القانون. وهذا يشمل جميع العقود التي تحدد التزامات تجاه المواطن.
إضافة إلى ما سبق نود أن نشير إلي أن البنية الفيدرالية في ألمانيا تنعكس أيضا على الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها الولايات الألمانية الستة عشر، وخاصة في مجالات الشرطة والوقاية من الكوارث والقضاء والتعليم والثقافة. وتتفرد ألمانيا في العلاقة الوثيقة والمتداخلة بين الولايات الاتحادية والحكومة المركزية، وهو ما يتيح لحكومات الولايات إمكانية المشاركة في الحياة السياسية الاتحادية بشكل فعال. وهذا ما يحدث بشكل أساسي من خلال مجلس الولايات “بوندسرات”، وهو الهيئة الثانية التي تتكون من ممثلين عن حكومات الولايات، ومقره أيضا في مدينة برلين. الولايات الاتحادية الغنية بعدد السكان تتمتع بتمثيل أكبر من الولايات الصغيرة، في مجلس الولايات. وحتى الأحزاب التي تكون في طرف المعارضة على المستوى الاتحادي، أو حتى غير مُمَثلة في البوندستاغ، يمكنها أيضا التأثير في السياسة الاتحادية، من خلال تواجدها في حكومات الولايات، وبالتالي في مجلس الولايات، حيث أن العديد من القوانين والقرارات والتعليمات الاتحادية تتطلب موافقة مجلس الولايات، إضافة إلى البوندستاغ.
نشير إلى أن المبادئ الهامة للفيدرالية الألمانية هي قبل كل شيء التبعية والتضامن. تعني التبعية أن الحكومة الفيدرالية يجب أن تتولى فقط المهام التي لا يمكن القيام بها على مستوى الولاية أو التي تؤثر على الإقليم الفيدرالي بأكمله. يتم تصور توزيع المهام من الأسفل إلى الأعلى: السياسة القريبة من المواطن لها الأسبقية على القرارات البعيدة عن المواطن. مبدأ التضامن يعني أن الولايات والحكومة الفيدرالية تدافع عن بعضها البعض وتساعد بعضها البعض لمساعدة نفسها. إن العلامة الأكثر وضوحًا لهذا المبدأ هي نظام المعادلة المالية للدولة ، والذي دائمًا ما يكون مثيرًا للجدل إلى حد كبير.
خاتمة
تسعى الفدرالية إلى التوفيق بين الرغبة في الوحدة والتضامن في قضايا معينة والرغبة في التنوع والحكم الذاتي في قضايا أخرى. ويعتبر التوازن بين المصالح أو الهويات المشتركة من جهة والمصالح أو الهويات المتباعدة من جهة أخرى المقياس الذي تحدد به مدى ملاءمة الفدرالية لبلد معين. كما تعتبر الفدرالية حلا مؤسسيا للمشكلات التي ترافق الحجم والتنوع.
على عكس الدول الفيدرالية الأخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية ، حيث يوجد فصل واضح للواجبات بين واشنطن والولايات الفيدرالية ، تتميز الفيدرالية الألمانية بالتعاون الوثيق بين الحكومة الفيدرالية والولايات. تشارك الولايات الفيدرالية في التشريع من خلال البوندسرات ، وتشارك في الأمور التي تمس الاتحاد الأوروبي ، وتنفذ القوانين واللوائح الفيدرالية من خلال إداراتها. توزيع الاختصاصات منصوص عليه في القانون الأساسي. خلال العقود القليلة الماضية ، تمت إعادة توزيع مهام الدولة التي يتعين القيام بها بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات بشكل متكرر من خلال الإصلاحات.
يجدر بنا أن نعترف بأن العلاقات بين الحكومة الفيدرالية والولايات علاقة يسود عليها في كثير من الأوقات التنازع خصوصا في ما يخص الإختصاصات. كما أن الحرية التي تتمتع بها الولايات كثيرا ما تؤدي إلى غياب الإنسجام و العدل بين الولايات نفسها ما يجعل المهمة صعبة على الحكومة الإتحادية في الحفاظ على التماسك ويمكن تلخيص المشكلة بالقول بأن التوتر مسيطر بين مبدأي التنوع والوحدة على الجهود المبذولة لتشكيل الفيدرالية الألمانية. كماأن إيجاد التوازن الصحيح مهمة سياسية واجتماعية متجددة الظهور.
المصادر
مبادئ القانون الدستوري والنظم السياسية – الدكتور كمال غالي منشورات جامعة حلب، 1998
الدولة الاتحادية ((الفيدرالية))… المحامي اسماعيل المحمد, مجلة الحوار – مقالات – العدد /71 / – السنة 25 -2018
الوجيز في القانون الدولي العام – الدكتور محمود مرشحه
Christoph Degenhart, Staatsrecht I. Staatsorganisationsrecht, 36 Auflage, Heidelberg 2020
Schachtschneider Karl Albrecht, Prinzipien des Rechtsstaates, Berlin 2006.