بقلم: أ. د. محسن محمد صالح
يُصدم المتابعون والدارسون من تصريحات القادة السياسيين الغربيين التي تركز على إدانة قتل “المدنيّين اليهود”، وتتجاهل بالكامل إدانة قتل “المدنيين الفلسطينيين” مهما كانت طريقة قتلهم بشعة، ومهما كان حجم المجازر وعدد الضحايا أطفالاً أو نساءً أو مُسنِّين.
ويعجب المتابع من تغطية وسائل الإعلام الغربية الكبرى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وضرب ستار من التعتيم والتضليل حول المجازر المنهجية البشعة التي يرتكبها.
لنأخذ على سبيل المثال الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي بقدر ما كان صارماً في إدانة حماس وعملية “طوفان الأقصى”، بقدر ما لم ينبس بكلمة واحدة تدين المجازر اليومية المرتكَبة على مدى نحو شهر في غزة، التي أدت لاستشهاد أكثر من 9 آلاف مدني، ودمار كبير في قطاع غزة.
بل وصل الأمر بالرئيس الأمريكي إلى التشكيك في تقارير وزارة الصحة الفلسطينية التي ترصد يومياً أعداد الشهداء والجرحى والمفقودين الفلسطينيين، وانحاز إلى الرواية الإسرائيلية المتهافتة في نفي مسؤوليتها عن المجازر، ومن ضمنها مجزرة المستشفى المعمداني، رغم أنّ جميع الأدلة تشير إلى المسؤولية الإسرائيلية عنها.
ثمة نموذج أمريكي آخر هو جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، الذي سبق أن قال عقب الهجوم الروسي على أوكرانيا، إنّه “من الصعب لأي مسؤول لديه قيم أو أخلاق أن يبرّره”، ولكن عندما نفّذت “إسرائيل” عدوانها ومجازرها في القطاع تحدّث بـ”واقعية”، مُدعياً أنّ “هذه هي طبيعة الحرب، فهي بشعة دموية فوضوية ويسقط فيها أبرياء، لكنها يجب أن تحدث”، وهكذا تنصّل كيربي من كل القيّم التي كان يعظ الآخرين بالتزامها.
ولا يخرج القادة الأوروبيون في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا عن هذه المواقف المزدوجة.
فقد تحدثوا عن فزعهم لسقوط “ضحايا مدنيين إسرائيليين”، وأدانوا بشدّة “إرهاب حماس”، وتحدثوا عمّا سمّوه “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، لكنهم لم يذكروا حرفاً واحداً يُدين جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
جرائم إسرائيلية موثّقة:
من ناحية أخرى، فإنّ السياسيين الذين يُبرّئون الاحتلال من جرائمه، لا يتجاهلون فقط أرقام وزارة الصحة الفلسطينية، وإنّما يتجاهلون كذلك تقارير منظمات حقوقية دولية معتمدة وموثوقة في العالم الغربي، مثل منظمة العفو الدولية (أمنستي) وهيومن رايتس ووتش.
وقد كشفت الأخيرتان على مدار سنين طويلة عن ارتكاب “إسرائيل” جرائم حرب وانتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان الفلسطيني، وهو ما عادتا لتأكيده خلال العدوان الحالي على القطاع غزة.
كما أكدت منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) التابعة للأمم المتحدة والمختصة في الشأن الإنساني الفلسطيني، صِحّة أرقام وزارة الصحة، وأن تجربتها تشير إلى مصداقية هذه الوزارة في جولات الحروب الماضية.
هذا الموقف المؤكد لمصداقية الإحصاءات الفلسطينية تشاطرته أيضاً منظمة هيومن رايتس ووتش ووسائل إعلام من قبيل جريدة واشنطن بوست الأمريكية.
ومباشرةً بعد اعتراض بايدن على أرقامها أصدرت وزارة الصحة الفلسطينية قائمةً من 212 صفحة تتضمّن أسماء جميع الشهداء وأرقام هوياتهم بحيث يسهل التأكد منها.
عقدة الهولوكوست:
ثمة خمسة عوامل تدفع السياسيين الأمريكيين والغربيين، بدرجات متفاوتة، إلى تجاهل المجازر الفظيعة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني، بل تبرئته منها.
تُعدّ “عُقْدة الهولوكوست” والشعور بالذنب الغربي عمّا حدث من مذابح في حق اليهود، خصوصاً على يد ألمانيا النازية، والنظر إلى المستوطنين الصهاينة في فلسطين بوصفهم فارّين من الاضطهاد، و”عائدين لأرضهم”، بمثابة العامل الأول.
في الوقت نفسه، تمكّنت إسرائيل من تعميق هذه العقدة في الوجدان الغربي، واستخدمت سلاح الاتهام بـ”العداء للسامية” لإسكات أي شخصية سياسيّة أو عامة تعارضها.
لذلك، انتشر على نطاق واسع الخوف من توجيه أي اتهامات بحقها، مهما كان سلوكها عدوانياً. وفي الوقت نفسه، يُنظر إلى الفلسطينيين على أنّهم معادون للسامية، ويريدون طرد اليهود من “ملجئهم الوحيد والأخير”!
تمثيل الحضارة الغربية:
يتجلّى العامل الثاني في اعتبار التجمّع الاستيطاني الاستعماري الصهيوني في فلسطين المحتلة، جزءاً من “عالم الإنسان الأبيض” وممثِّلاً للحضارة الغربية، و”واحة للديمقراطية” في بيئة متخلفة.
ويُراد من هذه الفكرة القول إنّه حتى وإنْ كانت إسرائيل قوّة قهر واحتلال، فإنّها في محلّ “الدفاع عن النفس”، وإنّ أي تصرّف إسرائيلي عدواني سواء أكان عسكرياً أو أمنياً ومهما كان قاسياً ووحشياً يُعدّ “تصرفاً مقبولاً”، ما دام يحمي هذه “الواحة” في مواجهة السلوك “المتوحّش” للفلسطينيين وغيرهم.
وعلى هذا تصبح المقاومة وحركات التحرر الوطني “إرهاباً”؛ وبناءً عليه صنّفت أمريكا ودول غربيّة عدة حماس “حركة إرهابية”.
وبناءً على هذا أصبح الساسة الغربيون على استعداد دائم للتجاهل والنسيان وتبرئة الصهاينة من جرائمهم.
وحدث هذا في المجازر والتطهير العرقي في حرب 1948، التي أدت إلى تشريد الشعب الفلسطيني واغتصاب أرضه، وفي كل الحروب والانتفاضات التالية.
إنّ التعامل مع “إسرائيل” كدولة فوق القانون ظل سيد الموقف في الأمم المتحدة ومجلس الأمن طوال 75 عاماً الماضية؛ وظل حق النقض (فيتو) جاهزاً دائماً لتغطية جرائم الاحتلال الإسرائيلي.
البُعد الديني الحضاري:
يرتكز العامل الثالث على البُعد الديني خصوصاً لدى البروتستانت الإنجيليين الذين يدعمون إنشاء الكيان الإسرائيلي لأسباب دينية، ويرون في ذلك تحقيقاً لنبوءات مثل نزول المسيح والعهد الألفي السعيد.
وتمتزج مع هذا البُعد خلفيّات الصراع التاريخية والحضارية والثقافية لدى العالم الغربي في مواجهة العالم الإسلامي لمئات السنين.
ومَن يتأثر بهذا البُعد، لا يتعامل في دعمه لإسرائيل مع منطق الحق والعدل والقانون الدولي، وإنما يلغي عقله لصالح عصبيّته الدينية أو عدائه الحضاري والتاريخي.
وعند ذلك يصبح استقرار إسرائيل وأمنها “قيمة عظمى” تتضاءل في مقابلها قيمة قتل المدنيين من الأعداء، ويصبح سحقها خصومها سلوكاً “طبيعياً” و”ضرورياً”، وعملاً “مبرَّراً أخلاقياً ودينياً”، ما دام ذلك يوفر لها الحماية ويفرض هيبتها وهيمنتها. وسيرى الباحث خلفيات دينية للكثير من القادة السياسيين مثل رونالد ريغان وجورج بوش الابن، ورونالد ترامب وغيرهم.
المصالح الاستراتيجية:
أما العامل الرابع، فهو المصالح الاستراتيجية الغربية في وجود الكيان الصهيوني كقلعة متقدّمة في قلب العالم العربي والإسلامي، تضمن مصالح القوى الغربية الكبرى في المنطقة، وتضمن ضعف البيئة الاستراتيجية المحيطة بها وتشرذمها وتخلفها، وبقاءها في دائرة التبعية.
هذا التوجه يريد أن تكون الدول العربية منتجة للمواد الأولية وسوقاً استهلاكية للسلع الغربية؛ فيما يتحول الكيان الإسرائيلي إلى شرطي للمنطقة، وهذا هو حال منطقتنا العربية على مدى العقود الماضية.
لذلك، ظلت “إسرائيل” حجر الزاوية في السياسة الأمريكية الغربية في المنطقة، فكان من الطبيعي التغاضي عن تجاوزاتها وجرائمها، باعتبار ذلك من المتطلبات المتوقعة لأداء مهامها المطلوبة.
نفوذ اللوبي اليهودي الصهيوني:
أما العامل الخامس فهو النفوذ العالمي الهائل لـ”لوبي إسرائيل”، خصوصاً في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.
يتمتع هذا اللّوبي بتأثير كبير على صناعة القرار بسبب نفوذه السياسي والاقتصادي والإعلامي، خصوصاً إذا تعلق الأمر بسياسات هذه الدول تجاه الشرق الأوسط والصراع العربي الإسلامي مع “إسرائيل”.
ويصعب أن ينجح أيّ مرشح أمريكي للرئاسة أو للمناصب العامة من دون دعم من هذا اللوبي، فعلى سبيل المثال فإنّ نحو 60% من تمويلات الحملات الانتخابية في الحزب الديمقراطي ونحو 30% في الحزب الجمهوري تأتي من متبرعين يهود؛ رغم أنّ نسبة اليهود في الولايات المتحدة لا تزيد على 2% فقط.
ويعلق كثير من القادة السياسيين في العالم الغربي مستقبلهم السياسي على استرضاء اللوبي الصهيوني، والتسابق في تقديم أوراق الاعتماد لديه، والأمثلة على ذلك لا تكاد تُحصر.
لذلك، فإنّ السّكوت عن جرائم الاحتلال أو تبرئته يصبح أمراً متوقعاً من هؤلاء السياسيين، وإلا فسيتعرّضون للتشويه الإعلامي والطرد من العمل السياسي وتُقطع عنهم مصادر الدعم.
وأخيراً، فإن تجاهل المسؤولين الغربيين للمجازر التي يرتكبها الاحتلال، هو من قبيل “حالة الإنكار” التي يعيشونها، ومن قبيل المناكفة، انتصاراً للرواية الإسرائيلية التي هي أوهى من خيوط العنكبوت، وتوفيراً للغطاء لاستمرار الاحتلال في جرائمه ضد الشعب الفلسطيني وأرضه ومقدساته.