أعلنت تركيا، في 13 ديسمبر 2021، عن تعيين مبعوث رسمي لها لدى أرمينيا، في سياق السعي إلى تطبيع العلاقات وتصفية حالة العداء التاريخي بين البلدين. ورفعت أنقرة سقف جهودها لتطوير العلاقة مع أرمينيا خلال الأيام الماضية، بعد إعلان يريفان قبول الحوار مع تركيا من دون شروط مسبقة. والأرجح أن رهان أنقرة على تطبيع العلاقات مع أرمينيا يأتي في سياق سعيها إلى تعزيز نفوذها في منطقة القوقاز، والاستثمار في حالة السأم الأرميني من روسيا، خاصةً بعد وقوف الرئيس بوتين على الحياد في الحرب الأخيرة في ناجورنو كاراباخ، إضافة إلى محاولة أنقرة محاصرة نفوذ القوى الإقليمية المتنافسة معها في منطقة القوقاز، وخاصةً إيران، علاوة على تخفيف الضغوط الغربية على السياسة التركية خلال الفترة المقبلة.
مؤشرات محفزة
على الرغم من أن الحدود بين تركيا وأرمينيا ظلت مغلقة منذ عام 1993؛ بسبب إصرار أنقرة على رفض الاعتراف بسيادة حكومة يريفان على إقليم ناجورنو كاراباخ المتنازَع عليه مع أذربيجان –كما أدى التدخل العسكري التركي إلى انتصار أذربيجان في حربها ضد أرمينيا بشأن الإقليم محل التوتر خلال العام الماضي– فإن ثمة مؤشرات محفزة على إمكانية تصفير العداء بين البلدين، يمكن بيانها على النحو التالي:
1– تأثير الدوافع الاقتصادية في جَسْر الفجوة بين البلدين: فبينما يشكل التباطؤ الحادث في الاقتصاد التركي، وانهيار سعر صرف الليرة إلى مستويات غير مسبوقة، دافعاً مهماً في مساعي التطبيع مع أرمينيا؛ فقد طالب بعض النواب الأرمن منذ منتصف العام الجاري، حكومة يريفان بتطبيع العلاقات الاقتصادية مع أنقرة، وفتح الحدود معها، خاصةً أن أرمينيا لم تعد تتوقع تمويلاً من روسيا التي تواجه صعوبات اقتصادية ومالية كبيرة.
2– رغبة الرئيس التركي في الانفتاح على أرمينيا: حيث قال في تصريحات له نهاية أغسطس الماضي، إنه لا مانع لدى بلاده من تطبيع العلاقات تدريجيّاً مع أرمينيا، وتابع: “سنفتح أبوابنا الموصدة أمام أرمينيا إن اتخذت خطوات إيجابية”. كما أبدى الرئيس التركي في فبراير الماضي دعماً لافتاً لرئيس حكومة أرمينيا نيكول باشينيان عشية هزيمة القوات الأرمينية في كارباخ، وما ترتب عليها من مطالبة هيئة الأركان بإقالة باشينيان؛ حيث أكد أردوغان في تصريحات له أن بلاده ترفض الانقلاب الذي نفذه جيش أرمينيا على رئيس الحكومة باشينيان، وأضاف: “إن تركيا ترفض جميع أشكال الانقلابات، وإن كانت هناك حاجة إلى تغيير الإدارة في أرمينيا، فيجب ترك هذا الأمر لإرادة الشعب”.
3– وجود رغبة مشتركة في دعم جهود تطبيع العلاقات: وهي الرغبة التي كشف عنها تبادل الرسائل الإيجابية التي رحبت بإمكانية الحوار، فعلى سبيل المثال، أعلنت تركيا في ديسمبر الحالي عن أنها سوف تبدأ تسيير رحلات جوية غير منتظمة إلى العاصمة الأرمينية. ومن جهتها، أشارت أرمينيا إلى استعدادها الدائم لعملية تطبيع العلاقات مع تركيا “دون شروط مسبقة”، وكذلك يكشف عن تلك الرغبة التغير الذي طرأ على السياسة الخارجية التركية، وتوجه أنقرة نحو طي الكثير من ملفات الخلاف مع دول المنطقة والعالم؛ حيث يقود الرئيس التركي حملة دبلوماسية تهدف إلى إصلاح العلاقات مع الكثير من الدول.
أهداف متنوعة
إن توقيت اتجاه أنقرة نحو تصفير الخلافات مع أرمينيا مهم لكونه لا ينفصل عن المتغيرات المهمة التي طرأت في المنطقة، والتي لها انعكاساتها على المصالح التركية، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
1– استثمار تراجع حضور موسكو لدى يريفان: تسعى أنقرة إلى توظيف تراجع حضور موسكو لدى يريفان، خاصةً أن ثمة شكوكاً أرمينية متصاعدة تجاه استمرار الدعم الروسي. وظهر ذلك في بقاء موسكو على الحياد في الحرب الأخيرة التي وقعت العام الماضي بين أرمينيا وأذربيجان في منطقة ناجورنو كارباخ. وكان المتحدث باسم خارجية أرمينيا “فاهان هونانيان”، قد أكد في تصريحات له في نهاية نوفمبر الماضي أن سلطات بلاده أبلغت الجانب الروسي باستعدادها لبدء تسوية العلاقات مع تركيا دون شروط مسبقة. وفي هذا السياق، تعي أنقرة أن ثمة بيئة خصبة لتعزيز نفوذها في أرمينيا على حساب الدور الروسي، خاصةً أن مكانة روسيا لم تعد كالسابق. وبرغم استضافة أرمينيا قاعدة روسية في “جيومري” ثاني أكبر المدن الأرمينية، فإن مآلات الحرب الأخيرة أثارت شكوك يريفان حيال أهمية تأميم تحالفاتها تجاه موسكو.
2– التمكين الجيواستراتيجي لتركيا بمنطقة القوقاز: لا تنفصل رغبة أنقرة في تصفير حالة العداء مع أرمينيا عن محاولاتها تعزيز نفوذها في منطقة القوقاز. وهنا تبرز أرمينيا كأحد المفاتيح التي يمكن استثمارها في عملية التمكين الجيواستراتيجي لتركيا في الإقليم؛ إذ إن تطبيع العلاقات، وفتح الحدود المشتركة مع أرمينيا، يسمح بالنقل البري، وبناء شبكة جديدة من السكك الحديدية التي تربط تركيا بحلفائها في منطقة القوقاز والجمهوريات الناطقة بالتركية؛ الأمر الذي من شأنه توفير فرص أكبر للتجارة التركية في منطقة القوقاز، ويبسط كذلك نفوذها الاقتصادي على سوق أرمينيا، كما يمكن أن يفيد تعزيز التقارب مع أرمينيا، في مساعدة حكومة العدالة والتنمية على تطوير أراضي تركيا الشمالية الشرقية التي تظل أقل من عموم البلديات التركية من حيث التطور النسبي.
3– موازنة نفوذ المنافسين الإقليميين لتركيا بالمنطقة: تحاول تركيا، عبر تصفية الخصومة مع أرمينيا، موازنة نفوذ القوى الإقليمية في منطقة القوقاز، وخاصةً إيران التي تسعى إلى أن تكون جزءاً من توازنات القوى الجديدة في جنوب القوقاز، من خلال الاستمرار في توثيق التعاون مع أرمينيا. وبرز ذلك في زيارة وزير الخارجية الأرميني إلى إيران في أكتوبر 2021، واتفاق البلدين على تطوير التعاون السياسي، وتوثيق العلاقات الاقتصادية المشتركة، خاصةً أن يريفان يمكن أن يشكل رئة اقتصادية لإيران في سياق التحايل على العقوبات الاقتصادية.
هنا، يمكن فهم حرص أنقرة على دفع العلاقات قدماً مع أرمينيا، خاصةً في ظل تنامي مساحات التوتر بين طهران وأنقرة بسبب العديد من القضايا الخلافية، التي يأتي في صدارتها دعم تركيا حكومة باكو عشية التوترات الحدودية بين إيران وأذربيجان خلال الشهر الماضي، التي وصلت إلى الذروة بعد منع أذربيجان دخول الشاحنات الإيرانية عبر جميع المعابر الحدودية بين البلدين، كما تصاعد منحنى التوتر على خلفية الانتقادات التي وجهتها أنقرة إلى طهران بالسماح للمهاجرين الأفغان بالعبور إلى تركيا بعد سيطرة حركة طالبان على مفاصل السلطة في أفغانستان في أغسطس الماضي.
4– تقليص الضغوط الغربية على السياسة التركية: تدفع الحسابات الأولية للمصالح التركية في منطقة القوقاز، ضرورة التحول نحو التقارب مع أرمينيا في المرحلة الحالية؛ بسبب الضغوط الغربية التي لم تنقطع طوال الفترة الأخيرة على تركيا، حيث صعَّد الاتحاد الأوروبي ضغوطه على أنقرة. وظهر ذلك في قرارات مجلس الشؤون العامة بالاتحاد الأوروبي في 18 ديسمبر 2021، التي تضمنت تعليق مفاوضات انضمامها إلى عضوية الاتحاد، كما تعاني أنقرة توتراً حاداً مع إدارة بايدن على خلفية عدد واسع من الملفات الشائكة. وتأسيساً على ذلك، فإن ثمة قناعة تركية في المرحلة الحالية بأهمية التقارب مع حكومة أرمينيا التي تُبدى انعطافة لافتة نحو الغرب، مقابل تخفيف ارتباطاتها بموسكو؛ لذلك فإن تصفير الخلاف بين البلدين، وفتح الحدود يمنح أنقرة دوراً أكبر في إدارة الوضع الأمني في منطقة جنوب القوقاز، وهي ممر رئيسي لنقل إمدادات النفط والغاز من بلاد القوقاز ومنطقة بحر قزوين إلى الغرب.
إرث الماضي
ختاماً، يمكن القول إنه بالرغم من الأجواء السياسية الإيجابية بين البلدين، فإن إرث الماضي الصعب بين أنقرة ويريفان يمثل عائقاً أساسياً أمام ضرورات المصالح الاقتصادية المشتركة؛ فلا تزال تركيا تصر على رفض الاعتراف بمجازر “الإبادة الجماعية” التي وقعت ضد الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى إبان عهد الدولة العثمانية، ناهيك عن انحياز تركيا إلى أذربيجان في صراعها ضد أرمينيا، واستمرار الدعم العسكري التركي لأذربيجان في منطقة ناجورنو كارباخ، وتأكيد أنقرة وحدة أراضي أذربيجان وسيادتها على الأراضي التي حررتها باكو العام الماضي خلال حربها ضد أرمينيا.