على ضوء المؤشرات الاقتصادية الجارية، والمقارنة المتواصلة مع أزمات الكساد الاقتصادي الكبرى في القرن العشرين، تصبح العودة الى كتاب “حرب العملات.. صناعة الأزمة الاقتصادية العالمية” Currency Wars: The Making of the Next Global Crisis خطوة حتمية، على ضوء حقيقة ان المؤلف هو الاقتصادي الأمريكي جيمس ريكاردز James Rickards الذي يضم ملفه المهني خبرة 35 عامًا في أسواق المال بوول ستريت، وهو مستشار وزارة الدفاع الأمريكية والاستخبارات المركزية الأمريكية فيما يتعلق بالمخاطر الاقتصادية وكيفية التنبؤ والتحكم بها.
الاقتصاد يتضمن ألعابًا قذرة لا يمكن للبعض أن يتخيل وجودها في العالم، ألعاب الاقتصاد تجعلك ترى ألعاب السياسة بل والحرب في بعض الأحيان أفعالًا نبيلة، حرب العملات هي التقاء مصالح دولة أو مجموعة دول، إضافة الى بعض أصحاب المصالح سواء كانوا رجال اعمال او شركات عابرة للقارات في القيام بمغامرة اقتصادية تفضي إلى خفض قيمة العملة مقابل الحصول على امتيازات سياسية واقتصادية أكبر مما سوف يتم خسارته عبر خفض العملة.
أي إنك تضرب عملتك لكي تحصل بخسارتك على مكاسب من الأطراف الأخرى.. تلك المكاسب تعوض خسارتك بل هي أكبر مما خسرت، ما يعني أنه وبرغم خسائرك المعلنة فأنت الرابح الأكبر على المدي البعيد.
لا يوجد حرب عملات اندلعت إلا وكانت سببًا في حربٍ عالمية، أو حسمًا لحرب باردة أو واكبت هذا أو ذاك، حرب العملات الأولى (1921 – 1936) أشعلت الحرب العالمية الثانية، حرب العملات الثانية (1967 – 1987) حسمت الحرب الباردة، حرب العملات الثالثة اندلعت عام 2010 ولا تزال مشتعلة بحسب المؤلف.
ألمانيا تدمر اقتصادها للهروب من فواتير الحرب العالمية الأولى
حرب العملات الاولى بدأت في ألمانيا، إذ بدأ البنك المركزي الالماني “رايخ بنك” فجأة في خفض قيمة المارك الألماني من خلال طباعة الأوراق المالية بإفراط، وكان الغرض هنا هو ادعاء الانهيار الاقتصادي حتى تتهرب ألمانيا من دفع التعويضات المفروضة عليها وفقًا لمؤتمرات الصلح التي أعقبت الحرب العالمية الاولى، كما أن هذا الإجراء سعى إلى زيادة صادرات ألمانيا عن طريق خفض قيمة عملتها؛ لجعل البضائع الألمانية أقل كلفة في الخارج، ولتشجيع السياحة والاستثمار الأجنبي.
كما جرى مع كل من صنعوا أو افتعلوا حرب العملات، انقلب السحر على الساحر وخرج تدهور المارك الألماني عن السيطرة، وبدأ يخسر قيمته بسرعة قياسية، حيث بدأ الألمان في بيع الأثاث والملابس من أجل شراء الغذاء، وانتشر الانتحار الجماعي بين الأسرة الواحدة، ثم عمت أعمال السلب والنهب.
بلغ الأمر حدًا أن البنك المركزي الألماني بدأ يعتمد على مطابع خاصة لطباعة العملة بعيدًا عن المطبعة الرسمية، ثم بدأ يطبع على وجه واحد فقط توفيرًا للحبر، وبلغت قيمة الدولار الأمريكي الواحد حدًا جعل الزائر الامريكي أو صاحب الدولارات الامريكي يلاقي صعوبة في إنفاق الدولار الواحد لأنه لا يوجد ملايين الماركات الكافية، وطلب من رواد المطاعم دفع ثمن وجباتهم قبل الأكل؛ لان الثمن كان يرتفع كل ثانية، وبالتالي سيرتفع ريثما ينتهوا من تناول الطعام.
في نوفمبر 1923 أصدر البنك المركزي الالماني عملة جديدة هي الرنتنمارك، وتم التداول بها في بادئ الأمر جنبًا الى جنب مع المارك، وبحلول عام 1924 ألغي المارك الألماني بعد ان اصبحت العملة الجديدة تساوي ثلاثة تريليون مارك.
يوم الغيت العملة القديمة، أُلقي بها في سلال المهملات ومصارف المياه والمجاري دون أن يعبأ أحد او يحاول أن يلملمها، لم تكن تساوي أي شيء، لاحقًا أصدرت ألمانيا الرايخمارك وتوازن الاقتصاد الالماني.
حقق خفض العملة الألمانية والانهيار الاقتصادي ما بين عامي 1921 – 1924 لألمانيا ما يلي:
- إعفاءات من دفع التعويضات الخاصة بالحرب العالمية الأولى.
- قيام فرنسا وبلجيكا باستغلال الأزمة عبر احتلال منطقة حوض الرور الصناعية الألمانية عام 1923 ما فتح الباب أمام المانيا لإعادة بناء الجيش وهو قرار سياسي لم يكن مرغوب فيه من قبل المجتمع الدولي ولكن امام تسرع فرنسا في غزو أراضٍ المانية لم يعد هنالك مجال للحديث عن بقاء ألمانيا بلا جيش.
شبكات المصالح الألمانية تربح الرهان
الأهم أن هنالك طبقة من الرأسماليين والشركات الألمانية هرّبت رأسمالها خارج ألمانيا أو حولته إلى الذهب عشية الأزمة الاقتصادية، وحينما انهارت العملة وسارع الجميع لبيع كل شيء، قام هؤلاء بشراء المؤسسات والأصول الالمانية بأثمان بخسة، ولما اعتدل الاقتصاد الألماني عام 1924، كانت ألمانيا أمام واقع جديد وملاك جدد لكل شيء، على المستوي السياسي والاقتصادي بل والاجتماعي ايضًا، والأهم أن انهيار المارك الألماني ولّد أزمة اقتصادية عالمية، و ما هي إلا بضعة أسابيع وانهار الفرنك الفرنسي، وبدأت سلسلة من الأزمات الاقتصادية إما المفتعلة أو نتيجة أزمة اقتصادية مفتعلة إلى ان دق الكساد الاقتصادي العظيم أبواب العالم
يوم الاثنين 28 اكتوبر 1929، يوم انهيار البورصة الامريكية.
كيف أنقذ روزفيلت أمريكا من الكساد العظيم؟
حرب العملات أثناء عشرينيات القرن العشرين في أوروبا جنّبت الاقتصادات الأوروبية نفس الكوارث التي سحقت المجتمع والاقتصاد الأمريكي خلال أزمة الكساد الكبير، رغم أن أوروبا نالها الكثير، ولكن أمريكا خصوصًا عام 1932 كانت على شفا الانزلاق إلى ثورة شيوعية جراء الأزمة الاقتصادية التي رفعت نسبة البطالة في أمريكا وقتذاك
الى 20 %.
انتخب فرانكلين روزفيلت رئيسًا في نوفمبر 1932، ولكنه لم يؤد اليمين الدستوري إلا في مارس 1933، وأعلن حالة الطوارئ واستخدم تشريعات طارئة خصصت لتوسيع صلاحيات الرئيس وودرو ويسلون إبان الحرب العالمية الأولى. وفي أيامه الأولى حقق روزفيلت نجاحًا في بث الثقة بالمصارف الامريكية.
ولكن في 5 ابريل 1933 أصدر الأمر التنفيذي رقم 6102 بضرورة قيام كل مواطن أمريكي بتسليم الذهب الذي بحوزته سواء نقود أو سبائك أو سندات مغطاة بالذهب إلى البنك الاحتياطي الفيدرالي أو أي عضو في منظومة الاحتياطي الفيدرالي وذلك مقابل 20.67 دولار للأونصة الواحدة.
وأتى في سياق قرار روزفيلت التاريخي أن أي شخص سوف يكتنز الذهب سوف يغرم بما لا يقل عن 10 آلاف دولار امريكي (ما يوازى 165 ألف دولار بحسابات عام 2001) أو يسجن لفترة قد تصل الى عشر سنوات.
ثم أصدر روزفيلت قرارًا بتاريخ 20 ابريل 1933 يحظر تصدير الذهب خارج أمريكا، وفى 29 اغسطس 1933 أصدر قرارًا يأمر مناجم الذهب في أمريكا ببيع إنتاجها إلى وزارة الخزانة فقط، بسعر تحدده الخزانة، ما يعني فعليًا تأميم صناعة ومناجم الذهب في الولايات المتحدة.
وبحلول عام 1937 شيّدت الحكومة الامريكية خزنة الذهب في فورت نوكس لأن وزارة الخزانة لم يعد بها مكان للذهب الذي راح المواطنون الأمريكيون يبيعونه للدولة، وفي سبتمبر 1936 جرى الاتفاق الثلاثي بين الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا من أجل الكف عن خفض قيمة العملات مع السماح لفرنسا لاتخاذ هذا الإجراء للمرة الأخيرة، وسرعان ما انضمت أغلب الدول الاقتصادية الكبرى الى الاتفاق الثلاثي وانتهت حرب العملات الأولى.
ديجول يشعل حرب العملات الثانية
حرب العملات الثانية (1968 – 1987) اشتعلت أثناء الحرب الباردة، نتيجة تجاوز الرئيس الأمريكي ليندون جونسون للخطوط الحمراء في حرب فيتنام، والتورط إلى ما خلف خطوط اللاعودة، حيث شكل انتخابه للرئاسة في نوفمبر1964 نقطة تحول فيما يخص ملفات فيتنام والشرق الأوسط، فأطلق يد الجيش الأمريكي في فيتنام، ويد الجيش الإسرائيلي مدعومًا بالجيشين الأمريكي والبريطاني في الشرق الاوسط وتحديدًا في حرب 5 يونيو 1967.
ورغم سياسات جونسون التي كلفت الخزانة الامريكية فاتورة باهظة لحروب فيتنام والشرق الأوسط، إضافة إلى مشروع المجتمع العظيم الذي أعلن عنه في خطاب الاتحاد يناير 1965، إلا أن حرب العملات بدأت بتدهور الجنيه الإسترليني البريطاني عام 1964؛ إذ جرت الأزمة الاولى للإسترليني تلاها الأزمة الثانية عام 1965 فالثالثة عام 1966، ولكن الأزمة الرابعة عام 1967 كانت القاضية بقرار الرئيس المصري جمال عبد الناصر غلق الملاحة البحرية في قناة السويس عشية حرب يونيو 1967.
تخوفت أمريكا من أن يكون الدولار هو العملة التالية في التدهور على ضوء تدهور الإسترليني، ثم الآثار السلبية لغلق قناة السويس على الاقتصاد العالمي، خاصة وأن الرئيس الفرنسي شارل ديجول ألقى في فبراير 1965 خطابًا تاريخيًا أعلن فيه أن الدولار انتهي بوصفه العملة الرائدة في النظام الاقتصادي الدولي، وأعلن تحويل 150 مليون دولار من احتياطي فرنسا النقدي إلى الذهب، حيث قال ديجول بالنص “لا يمكن للمرء في الحقيقة رؤية معيار نموذجي آخر غير الذهب ” وتبعت إسبانيا فرنسا في هذا المسعى.
شراء الذهب أرهق احتياطي الذهب الأمريكي، وعرض ديجول في إشارة ذات مغزى أن يرسل البحرية الفرنسية إلى امريكا لنقل الذهب من أمريكا لتيسير الأمر على واشنطن.
ديجول كان يسعى إلى فرملة تصاعد الدولار في أوروبا، ففي الستينيات من القرن العشرين شرعت أمريكا في شراء الشركات الأوروبية، وتوسيع عملياتها في أوروبا بالدولار، مكتسحة أمامها الاقتصادات الأوروبية وعملاتها، ما رآه ديجول مصادرة أمريكية للاقتصاد الأوروبي، ولكن ألمانيا الغربية طمأنت أمريكا في مارس 1967 بأنها لن تتخلى عن الدولار من أجل الذهب، ما عرقل خطوات ديجول على ضوء حقيقة أن الاقتصاد الألماني ظل الحصان الرابح في عموم أوروبا، رغم كل ما جرى لبرلين أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية.
رغم المساعدة الالمانية انهار مجمع الذهب في لندن بحلول مارس 1968، نجحت فرنسا ومن سار في دربها في إرباك العملة البريطانية والأمريكية لصالح الذهب، لولا تحرك ديجول وثورة تحويل الاحتياطي من الدولار للذهب ما أدى الى حرب العملات الثانية لابتلعت امريكا أوروبا وقتذاك، مع الوضع في الاعتبار أن فاتورة حربي فيتنام والشرق الأوسط، إضافة إلى غلق قناة السويس المصرية كانت لهم أدوار مهمة في ضرب عملات المعسكر الغربي.
تم خفض الجنيه الإسترليني البريطاني عام 1967، وأدت الأزمة الاقتصادية العالمية وقتذاك إلى تفشى ظاهرة المظاهرات الطلابية التي تميزت بالعنف المبالغ فيه، إضافة إلى اندلاع الثورة الجنسية الثقافية أواخر الستينات وحتى أوائل الثمانينات، كما أن آثار الأزمة الاقتصادية امتدت إلى الكتلة الشرقية عبر ربيع براغ وغيرها من الاضطرابات التي جرت في دول الكتلة الشرقية، وللمفارقة فإن إحدى تلك الثورات الطلابية قد أطاحت بالرئيس الفرنسي نفسه.
صدمة نيكسون
في 15 اغسطس 1971 أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون حزمة من الإصلاحات الاقتصادية تشمل سيطرة الدولة على تحديد الأسعار والأجور، وفرض ضريبة 10 % على السلع التي تستوردها أمريكا، وكانت قرارات نيكسون تعني في واقع الأمر خفض العملة الأمريكية، وبدأت تلك اللعبة المعقدة حيث رغب نيكسون في أن ينخفض الدولار أمام كافة العملات تقريبًا، ما سبب أزمة للاقتصادات العالمية، وبث انتعاشه للاقتصاد الأمريكي.
كان لإعلان نيكسون أثر طيب على الاقتصاد الامريكي وحظيت الاصلاحات بحفاوة شعبية هائلة، خاصة في كونها أتت فجأة، وأطلق عليها تاريخيًا صدمة نيكسون.
ضريبة الــ 10 %، إضافة إلى خفض قيمة الدولار سببت للاقتصاد العالمي أزمة، وهرول العالم إلى امريكا من أجل حل الأزمة الاقتصادية برمتها، ورغم أن امريكا ظفرت ببعض المكاسب الاقتصادية وقتذاك، ولكن كالمعتاد انقلب السحر على الساحر، خفض قيمة الدولار المصطنع عام 1971 قبل عامين من الثورة النفطية التي جرت على ضوء رفع سعر برميل النفط بسبب حرب أكتوبر 1973 سحق العملة الأمريكية مجددًا، وصنع أكبر حالة كساد اقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية.
أي أن الإجراءات المبهرة لنيكسون والتي أذل بها العالم، كانت في واقع الأمر تمهد الطريق لكي تتلقى أمريكا صدمة كبري خلال الثورة النفطية التي سحقت اقتصاد امريكا وأوروبا عام 1973.
استقال وزير الخزانة الأمريكي جون كونالى في يونيو 1972 بعد أن رُفع إلى مصاف الأبطال لفترة حينما ظن الأمريكيون أن نيكسون قد عبر الأزمة وبدأ العالم في تعويم سعر العملة.
مرت أمريكا في السبعينات بحالة من عدم استقرار السلطة حيث عاصر الأمريكيون ثلاث رؤساء في أقل من عشر سنوات، نيكسون استقال بسبب فضيخه ووترجيت، ونائبه جيرالد فورد استكمل ولايته ثم فشل في الحفاظ على المنصب لصالح جيمي كارتر، أما الاخير فقد غادر البيت الابيض عقب ولاية وحيدة من أربع سنوات لصالح رونالد ريجان وجوقة من رجالات تيار المحافظين الجدد الذين استطاعوا إنهاء حرب العملات الثانية والحرب الباردة لصالح الولايات المتحدة الامريكية.