تتصاعد فرص التقارب في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، على ضوء التطورات العديدة التي طرأت عليها منذ التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا في 24 فبراير 2022، وهو ما بدا جلياً في إدانة أنقرة التحرك الروسي، وتأكيد سلامة ووحدة أراضي أوكرانيا، وهي خطوات لا تختلف عن المواقف الأمريكية. كما أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 24 مارس 2022، عن تقدم محادثات بلاده مع واشتطن بشأن بحث إمكانية بيع الإدارة الأمريكية إلى تركيا طائرات إف 16 الحربية مقابل الأموال التي دفعتها تركيا في إطار برنامج طائرات إف 35، وأضاف في تصريحات له: “إن وزير الدفاع خلوصي أكار، يُجري محادثات مع الجانب الأمريكي بخصوص شراء وتحديث مقاتلات من طراز (F–16)، وإن المحادثات تشهد مرحلة إيجابية”، وتابع: “قال لي الرئيس الأمريكي بايدن: سأعرض مقاربتي الإيجابية على الكونجرس بشأن هذا الموضوع وسأتابعه”.
تحركات مكثفة
فرضت الأزمة الأوكرانية وطبيعة العقوبات التي فرضتها القوى الغربية وواشنطن على روسيا، أهمية تحقيق اختراق في القضايا الخلافية مع تركيا، خاصةً بعد تسجيل أنقرة، في 28 فبراير 2022، موقفاً نادراً، بمنع السفن الحربية للدول المشاطئة وغير المشاطئة للبحر الأسود من عبور مضيقَي البوسفور والدردنيل، إضافةً إلى إدانة أنقرة،في 26 فبراير 2022، الهجومَ الروسي على أوكرانيا، وَوَصْفِهِ بأنه “حالة حرب”، ومن قبلها إعلان أنقرة، في 22 فبراير 2022، معارضتها اعتراف الرئيس بوتين باستقلال منطقتي دونيتسك ولوجانسك شرق أوكرانيا، ناهيك عن الاستمرار في الالتزام بتوريد المُسيَّرات التركية للحكومة الأوكرانية، وفقاً للعقود المبرمة بينهما، وهيجميعها خطوات نظرت إليها الإدارة الأمريكية بإيجابية، وفتحت الباب أمام إمكانية التوصل إلى حلول فاعلة بشأن الملفات الخلافية بين أنقرة وواشنطن.
في المقابل، اتجهت أنقرة –في الوقت الحالي– إلى تعزيز وساطتها بين موسكو وكييف، وممارسة ضغوط متباينة على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بهدف وقف الصراع العسكري بين روسيا وأوكرانيا. ويتسق هذا الدور مع السياسة الخارجية الأمريكية القائمة في الأساس على إنهاء التدخل الروسي في أوكرانيا، وفي الملفات الإقليمية المختلفة؛ بهدف محاصرة النفوذ الروسي.
تبِع التحركَ السابق، كثافةُ الاتصالات بين مسؤولين أتراك وأمريكيين بشأن الأزمة الأوكرانية، في صدارتها مهاتفة الرئيس التركي نظيرَه الأمريكي، في 10 مارس 2022؛ لبحث المستجدات، بما فيها الأزمة الأوكرانية، والعقوبات الأمريكية المفروضة على تركيا، كما أُجريت اتصالات أخرى على مستوى وزراء الخارجية والدفاع، ومستشاري الأمن القومي، بجانب التنسيق المتزايد في إطار الناتو.
وبالتوازي مع الاتصالات بين مسؤولي البلدين، زارت وفود اقتصادية تركية، في 14 مارس 2022، العاصمة الأمريكية وعدداً من الولايات الرئيسية، في إطار فعاليات “الدبلوماسية التجارية” بين أنقرة وواشنطن، التي تستهدف الوصول بحجم المبادلات التجارية بين البلدين إلى 100 مليار دولار، كما زار وفد أمريكي في 4 مارس 2022 برئاسة مساعد وزير الخارجية أنقرة، وركزت الزيارة على بحث مقترحات جديدة لحل الخلافات بين البلدين، أهمها تجميد تركيا أي مخططات لتفعيل منظومة S400 الروسية مقابل بيع تركيا 40 طائرة من طراز F16 الأمريكية، وتحديث 80 طائرة قديمة موجودة بالأسطول التركي. ولم تكن هذه الخطوة على طريق حل أزمة مقاتلات إف 16 هي الأولى من نوعها؛ ففي يناير الماضي، أعلن وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” عن بدء الأعمال الفنية بخصوص توريد مقاتلات من طراز “إف–16” إلى بلاده من الولايات المتحدة، علاوة على تحديث مقاتلاتها الحالية.
مكاسب تركية
تسعى تركيا إلى استثمار الأزمة الأوكرانية لكسر حالة التوتر مع الولايات المتحدة، خاصةً أن كلاً من أنقرة وواشنطن تُنسِّقان جهودهما وتحركاتهما في الوقت الحالي لممارسة ضغوط على الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”؛ لدفعه إلى إنهاء تدخله في أوكرانيا الذي بدأ منذ 24 فبراير 2022. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى أبرز تداعيات التقارب الأمريكي مع تركيا، التي يمكن بيانها على النحو الآتي:
1– استعادة مركزية أنقرة في السياسات الغربية: إن اتجاه واشنطن نحو فتح قنوات اتصال متعددة مع تركيا، وزيادة التنسيق بشأن الأزمة الأوكرانية، واصطفاف أنقرة بجانب الناتو والقوى الغربية في إدانة التحركات الروسية بأوكرانيا؛ يمثل فرصة لاستعادة أنقرة جانباً من نفوذها لدى مؤسسات صنع القرار في الولايات المتحدة، وهو ما يعني زيادة نفوذ تركيا في واشنطن والدوائر الإقليمية والدولية المرتبطة بالمصالح الأمريكية، ومنها حلف الناتو، كما يتوقع زيادة دور أنقرة في الولايات المتحدة مستقبلاً مع غياب حسم الأزمة الأوكرانية، وإصرار موسكو على الاستمرار في عسكرة الأزمة، ومقاومة الضغوط الغربية. وتعي إدارة “بايدن” أن استمرار الخلاف مع تركيا قد يحولها إلى رئة اقتصادية لموسكو في المرحلة المقبلة.
في المقابل، يُتوقع أن تتجه الإدارة الأمريكية نحو حلحلة القضايا الخلافية مع أنقرة، وتعزيز مساحات التعاون، بالنظر إلى اعتبارات متنوعة؛ أولها تضييق الخناق على روسيا بعد تدخلها عسكريًا في أوكرانيا. وثانيها رغبة “بايدن” في إعادة الاعتبار لحلف الناتو في هذا التوقيت لمحاصرة موسكو. ويعي “بايدن” أن أنقرة تحظى بموقع متقدم في هذا الإطار. وراء ما سبق، تمتلك أنقرة موقعاً جيوسياسياً، يمنحها قدرة على تمديد نفوذها وتأثيراتها داخل أغلب الساحات التي تمثل أولوية للمصالح الأمريكية، وتواجه فيها واشنطن منافسة روسية، وخاصةً في البلقان، والقوقاز، والبحر الأسود، وآسيا الوسطى. ومن ثم، لا يمكن إغفال تركيا في مواجهة النفوذ الروسي الذي يؤثر بشكل أو بآخر على المصالح الأمريكية في هذه المناطق.
2– تهدئة التوتر مع الدول الأوروبية: قد يمهد التقارب الحادث بين أنقرة وواشنطن لدفع العلاقات التركية الأوروبية قدماً، من خلال إقناع الأوروبيين بأهمية التخلي عن الإجراءات العقابية ضد تركيا، وهو ما ظهر في التقارب الحادث مؤخراً بين أنقرة وباريس، وكشف عنه لقاء جمع الرئيس التركي ونظيره الفرنسي، في 24 مارس 2022، على هامش القمة الطارئة لزعماء حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وقد اتفقت أنقرة وباريس على تنحية خلافاتهما، ومواصلة التعاون الوثيق بين بلديهما، في ظل استمرار الأزمة الأوكرانية. وعلى هذا الأساس، فإن كسر حدة التوتر بين أنقرة وواشنطن، قد توفر بيئة خصبة لبناء مواقف أوروبية إيجابية تجاه تركيا، خاصةً أن الولايات المتحدة أكدت أهمية ترطيب العلاقة مع تركيا خلال هذه المرحلة، ودعت إلى ضرورة تبني مقاربة غربية موحدة تجاه روسيا بعد تدخلها في أوكرانيا، تأخذ في الاعتبار مصالح الحلفاء، وبخاصة تركيا.
3– إدراك أنقرة محورية موازنة المصالح الاستراتيجية لواشنطن: على الرغم من استمرار القضايا الخلافية بين أنقرة وواشنطن، خاصةً حصول تركيا على منظومة الدفاع الروسية S400، فإنه يتوقع أن يدفع النهج البراجماتي، الإدارة الأمريكية إلى عدم تصعيد حدة الخلاف إلى درجة غير مسبوقة، والعودة إلى موازنة المصالح، بالنظر إلى حاجة الولايات المتحدة إلى الدور التركي في إفشال التوجه العسكري الروسي في أوكرانيا، ناهيك عن أن استمرار الاحتقان قد يدفع أنقرة إلى تبني خيارات لا تتوافق مع حسابات المصالح الأمريكية والناتو في المرحلة الحالية، لا سيما في ظل الانخراط المكثف له في الأزمة الأوكرانية التي تحظى بأولوية من جانبها. ومن هنا، قد تمثل الأزمة الأوكرانية فرصة لتوفير المزيد من الفرص لمعالجة القضايا الشائكة بين أنقرة وواشنطن، والأخذ بعين الاعتبار المصالح التركية. وثمة اتجاهات عديدة ترى أن التقارب الأمريكي مع أنقرة قد يسهم في معالجة التوتر بين الطرفين بعدما وصل إلى مرحلة غير مسبوقة، ويدفع إدارة بايدن إلى مراعاة المصالح التركية، بهدف استقطابها في مواجهة روسيا، خاصةً بعد رفض أنقرة الالتزام بالعقوبات الغربية المفروضة على موسكو.
4– تقليص الضغوط على الاقتصاد التركي المأزوم: قد ينعكس التقارب الظاهر في العلاقات التركية الأمريكية، على خلفية الأزمة الأوكرانية، على الاقتصاد التركي الذي يعاني أزمة كبيرة بسبب تراجع سعر العملة التركية، والعقوبات الأمريكية المفروضة على القطاع الدفاعي التركي، فضلًا عن تداعيات جائحة كورونا؛ حيث تمثل عوائد الصادرات الدفاعية مصدراً رئيسياً لتوفير العملات الأجنبية، التي وصلت –بحسب بيانات جمعية المصدرين الأتراك– إلى مليارين و793 مليوناً و974 ألف دولار بنهاية عام 2021، محققةً زيادة بنسبة 39.7% عن عام 2020. ومن هنا، فإن التقارب مع واشنطن في هذا التوقيت قد يساهم في تحسين الوضع الاقتصادي، لا سيما أن العقوبات الأمريكية على قطاع الصناعات الدفاعية ألقى بظلاله على قطاعات التشغيل في الاقتصاد التركي.
في المقابل، يُتوقع أن يسفر التقارب في العلاقة عن انتعاشة لافتة في الاقتصاد التركي، خاصةً أن شركات أمريكية وغربية بدأت، بعد تصاعد حدة الأزمة الأوكرانية، لقاءاتها ودراساتها في تركيا من أجل التحضير لنقل مشاريع كبيرة من روسيا إلى تركيا؛ لأسباب مختلفة، أبرزها الفرص الاستثمارية، وأسعار النقل الدولية، والقوى العاملة. ويشار إلى أن السفير الأمريكي في أنقرة “جيف فليك”، طلب من أكثر من 5000 شركة أمريكية تستعد لمغادرة السوق الروسية، بحث إمكانية الانتقال إلى السوق التركية. كما تمثل الاستثمارات الأمريكية أولوية مهمة للاقتصاد التركي؛ فقد بلغ صافي تدفق رأس المال إلى تركيا 174 مليار دولار بنهاية عام 2021، منها 14 ملياراً لشركات أمريكية؛ أي ما يعادل 8.1% من إجمالي الاستثمارات، وهو ما يجعل الولايات المتحدة صاحبة ثاني أكبر استثمارات خارجية في تركيا بعد هولندا التي تحتل المرتبة الأولى بقرابة 27 مليار دولار، كما بلغ عدد الشركات الأجنبية العاملة في تركيا مع نهاية عام 2021 نحو 77 ألف شركة، منها 2030 شركة أمريكية.
في الأخير، تبدو تركيا على أعتاب مرحلة جديدة في علاقاتها مع الولايات المتحدة، خاصةً بعد التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا، وحاجة الولايات المتحدة إلى حشد المواقف الدولية والإقليمية لمحاصرة روسيا، خاصةً أن واشنطن تدرك أن الانتصار العسكري الروسي في أوكرانيا قد يفرز نظاماً دولياً جديداً، وربما تتمتع فيه موسكو بدور أكبر قد يؤثر على مصالح وهيمنة الولايات المتحدة عالمياً.