كتاب الديمقراطية كما هي من الديمراطية المجردة الي الديمقراطية المؤدلجة

قد يظن البعض أن مفهوم الديمقراطية أوضح من أن يبذل في تشريحه مزيد مداد، وذلك باعتباره المصطلح الأكثر تداولا في الخطابات والكتابات في عالمنا المعاصر الذي يعتبر  الديمقراطية إحدى ميزاته الأساسية على ما سبقه من عصور، وهذا وهم كبير، فمصطلح الديمقراطية على كثرة تداوله واتساع رقعة ممارساته ما يزال غامضا وغير محدد بشكل دقيق.

إن أسئلة كثيرة تلزم الإجابة عليها في طريق تفكيك وتشريح هذا المصطلح الجذاب الذي يسمى “الديمقراطية”، أسئلة تبحث في النشأة والمراحل التاريخية التي شكلت التطور الدلالي للمفهوم، وهل الدمقراطية آلية سياسية أم مذهب مؤدلج، وما إذا كان هذا المصطلح نسبيا أم مطلقا، وما المعايير التي يجب توافرها حتى نسمي نظاما سياسيا ما ديمقراطيا.

لقد حاول نايف بن نهار في كتابه “الديمقراطية كما هي” أن يقدم إجابات على هذه الأسئلة الشائكة، وذلك من خلال عملية تفكيك دقيقة لمفهوم الديمقراطية من أجل عزل عناصرها الذاتية عن العناصر الطارئة عبر سرد لتاريخ الديمقراطية وتفصيل لمقتضياتها في كل مرحلة من مراحل التاريخ، ويبين نايف في مقدمة الكتاب أنه لا يسعى لجعل الديمقراطية الأثينية هي المثال وما سواها إيديولوجيات طارئة وإنما يسعى لتصحيح الوهم القائم بأن بعض الديمقراطيات الحديثة تمثل النموذج المثالي للديمقراطية وسواها غير ديمقراطي، مع أنها تلك الديمقراطيات ليست سوى تكييف للمفهوم الأصلي للديمقراطية مع بيئة معينة.

“غايتي أن أقف ضد اختيار إحدى صور الديمقراطية ثم تعميميها على سائر المجتمعات والثقافات بحيث يعَلَّق الوجود الديمقراطي على وجود تلك الصورة، فلا مشكلة في تطور المنتج الديمقراطي أفقيا من خلال تباين الثقافات، أو رأسيا من خلال تطور الثقافات، فكل صور الديمقراطية يمكن تبنيها إذا ناسبت المجتمع الذي يريدها، لكن المشكلة حين نختار صورة واحدة –كالديمقراطية الليبرالية- ثم ندعي أن من لم يأخذ بها يكون خارجا عن المنطقة الديمقراطية”.

تناول المؤلف النظم السياسية من حيث علاقتها بالشعوب مقسما لها إلى نظم ترى أهلية الشعب (الديمقراطية – الفوضوية) ونظم لا ترى أهلية الشعوب (الأوليغاركية – الأرستقراطية – الثيوقراطية – الإتوقراطية – الميرتوقراطية – الفلاسفقراطية)، ومبينا أن الديمقراطية الغربية من العهد الأثيني إلى القرن العشرين كانت تعطي للشعب مفهوما يحصره في طبقة الرجال الأحرار مقصيا شريحة كبيرة من المجتمع هي الأطفال والنساء والعبيد، ويصل الكاتب بعد حكاية كثير من الوقائع التاريخية إلى أنه يمكن تسمية الديمقراطية الغربية إلى أقرب من منتصف القرن العشرين بـ”ديمقراطية الرجال الأحرار الأغنياء” لأنها تقصي النساء والعبيد والفقراء، ولعل مما لا يعرفه كثير من القراء أن سويسرا  لم تمنح المرأة حق التصويت إلا سنة 1971، وفرنسا قبل ذلك بقليل.

ناقش المؤلف في مبحث طريف فكرة (الفوضوية) مدققا المصطلح أولا حيث بين أن ترجمته بـ”الفوضوية” ليست دالة على مفهومه الغربي المقصود، فكلمة (Anarchos) تعني (اللا حكم) ولكن رفض الحكومة لا يعني رفض مبدأ النظام، فينبغي أن تكون ترجمتها في نظر المؤلف (لا حكم).

ثم بين المؤلف أن أصل الفكرة وجد في الفكر السياسي الإسلامي قبل المفكر الروسي باكونين ميخائيل (1814 – 1876) حيث طرح حاتم الأصم (237 هـ) الفكرة قائلا بعدم وجوب تعيين إمام وأنه “لو تكافَّ الناس عن التظالم لاستغنوا عن الإمام”، وقد نقل الجويني رأي الأصم بعبارات تدل على المقصود بصورة أوضح، قال: “ترك الناس أخيافا يلتطمون ائتلافا واختلافا، لا يجمعهم ضابط، ولا يربط شتات رأيهم رابط”، ومبدأ الفوضوية طريف رغم تهافت حججه عن النظر والسبر العميق.

ومن المفاهيم الديمقراطية المهمة التي ناقشها المؤلف مفهوما (الإرادة والسلطة)، وهما مفهومان يخلط بينهما كثير من الممارسين للديمقراطية والمنظرين لها، ويبين المؤلف أن (إرادة الشعب) ليست مرادفة لـ(سلطة الشعب)، ذلك بأن تحقق (إرادة الشعب) تنتج عنه مقبولية النظام وتحقق (سلطة الشعب) ينتج عنه ديمقراطية النظام، وضرب مثلا بإيران وقطر  حيث تحقق الإرادة الشعبية، على الأقل لحظة إقرار الدستور، لكن تحقق إرادة الشعب في بلد لا يعني أن نظامها أصبح ديمقراطيا، فالنظام في إيران ليس ديمقراطيا حتى وإن كانت فيه انتخابات؛ لأن السلطة العليا لا يمارسها إلا النخبة الدينية فقط.

وقد صوت الفرنسيون بأغلبية ساحقة على أن يظل نابليون رئيسا لفرنسا مدى الحياة، فتحققت إرادة الشعب الفرنسي ولكن هذا لا يجعله نظاما ديمقراطيا.

كما فصل المؤلف في الفرق بين الديمقراطية المجردة والديمقراطية المؤدلجة، مبينا أن أصل الديمقراطية هو أنها آلية للتداول والاختيار فقط، ولكن الزمان والمكان أثرا في طبيعتها وألبساها أفكار وإيديولوجيات متعددة ومتباينة مما جعل البعض يظن أنها ولد هكذا، فطالما الشعب هو صاحب السلطة فتلك الديمقراطية بغض النظر عن تبنيه نظاما اقتصاديا رأسماليا أو اشتراكيا أو غير ذلك، فتلك إرادته واختياره.

وقد توسع المؤلف في النصف الأخير من كتابه في الحديث عن الأطر السياسية المختلفة، وتوصل بعد شرح مستفيض لأنواع الأطر السياسية الملكية والجمهورية إلى أنه ليس للديمقراطية إطار سياسي محدد، فيمكنها أن تعيش تحت ظل إطار ملكي دستوري مثل ما في بريطانيا وهولندا وإسبانيا، وقد تعمل في ظل نظام جمهوري رئاسي كالولايات المتحدة الأمريكية، أو نظام جمهوري برلماني كجمهورية لبنان، لكن من المؤكد أنها لا يمكن أن تعمل في ظل ملكية شمولية أو تشاركية، وكذلك لا تعمل الديمقراطية في ظل نظام جمهوري استبدادي غير ديمقراطي.

الاطلاع على الكتاب

Please subscribe to our page on Google News

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15504

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *