لا أحد يستطيع أن ينكر أن أزمة البحث العلمي في وطننا العربي هي أزمة مستفحلة تقوض دعائم الأوطان و تقف حائلاً دون تطورها و ازدهارها، بل إنها من أهم أسباب الترهل الفكري الذي يعتري أقطارنا، كما أننا لا نستطيع أن نتجاهل الواقع البحثي الماثل أمامنا، و نحن ندقق في مفردات هذه الأزمة و مقاصدها، لا رغبةً في مزيد من الإحباط و التشهير و إنما دعوة للتفكير في العلاج و التطوير، و قد أردنا بهذا الكتاب أن يكون قاعدةً للتفكير ننطلق منها إلى مواجهة أزمة البحث العلمي و دراستها.
و انطلاقاً من الحاجة الماسة هذه الأيام إلى بحثٍ علميٍ رصين يتغلب على مشكلات و معيقات البحث العلمي الأصيل و الهادف التي تقف في وجهه، فقد أعلن منتدى البحث العلمي العربي (منبع) عن هذا المؤلف الجماعي حول إشكاليات البحث العلمي في الوطن العربي، خاصةً و أن البحث عن حلولٍ سريعةٍ و جادةٍ لتلك المشكلات هي واجب العلماء و الباحثين و الأكاديميين العرب و المسلمين جميعاً؛ لأن مستقبل البحث العلمي هو مستقبل الإنسان العربي و المسلم، حتى إذا ما عجزت مؤسسةُ ما أو مجتمعُ ما أو تعثرت في أداء مهمتها البحثية فإن من واجبنا كباحثين و أكاديميين أن نبحث عن أسباب هذا العجز و التعثر، و نسهم بالرأي العلمي الرصين و التوجه الصادق الأمين لمساعدتها على النهوض لأداء رسالتها.
إن ما يزيد من أهمية هذا المؤلف الجماعي هو طرحه الفكري لمجموعةٍ من قضايا البحث العلمي ذات الطابع الإشكالي في جل الدول العربية وتعمقه رصدا وتشخيصا وتفسيرا وتحليلا، ويأتي ذلك من منطلق أن جوهر البحث العلمي هو استشعار القضايا المجتمعية الأكثر إلحاحا ومحاولة كشف حقيقتها وأسبابها بهدف اقتراح البدائل الأكثر ملاءمة ونجاعة تمهيداً لعلاجها، لما لذلك من دورٍ جلي وواضح في استقرار حياة الفرد والمجتمع.
هذا الكتاب هو تجمع بحثي مستقل ذو دورٍ رائد في البناء العلمي والمعرفي للمجتمع العربي والمسلم، يرتقي ليكون مرجعاً علمياً رصينا لصناع القرار من خلال تقديم الأفكار النيرة البديلة الجديدة (حتى القديمة المستقاة من القرآن والسنة والتراث يمكن أن تكون بديلة)، والرؤى الإبداعية بالاعتماد على البحث العلمي في رسم السياسات العامة وترشيدها. ويسعى لأن يكون مرجعاً أساساً ورافداً في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية وغيرها.
إن هذا التجمع البحثي يُعنى بالفهم الدقيق والعميق للواقع ومشكلاته من خلال دراساتٍ جادة في فقه الواقع وتحليل أزماته تحليلاً دقيقا شاملاً موضوعيًا وعلميًا يهدف إلى إثارة التساؤلات وضبط الفرضيات. وينتهج المنهجية العلمية المنظّمة القائمة على الضبط العلمي الدقيق والتي تساند المسيرة البحثية للمؤسسات الأكاديمية، ويحقق التكامل المعرفي والغزارة المعلوماتية، ويرسم خارطة الطريق للبحث العلمي وترتيب الأولويات.
إن الوعي بأهمية نشر هذا المؤلف الجماعي يدل على وجود إرادةٍ قوية لدى الباحثين العرب من مختلف الأقطار العربية للتعاون فيما بينهم؛ حيث يلتقون ببعضهم البعض عبر منصات التواصل الإجتماعي ويتحاورون ويتفاعلون فيما بينهم، ويتوحدون ويتوافقون على الرأي السديد لخدمة وطنهم، و إن تعزيز جسور الثقة و التعاون بينهم قد يمكنهم من تغيير أوضاعنا وتحقيق التنمية الشاملة المنشودة.
إن من يقرأ هذا المؤلف الجماعي بعمق يجد أنه يسد الفجوة البحثية الموجودة في مكتباتنا العربية، ويسهم في مساعدة الجيل الصاعد على الإلمام والتطبيق الفعلي لمبادئ البحث العلمي ومشكلاته التي تناولها الكتاب.
وختاماً لا نستطيع ادعاء الكمال، فالكمال لله وحده، وأما النقص فمن صفات البشر، فإذا كنا قد أخطأنا في شيءٍ من محتويات هذا المؤلف فهو بطبيعة الحال بسبب قصورنا أو سهونا؛ فكل من يعمل يخطئ ويصيب؛ لهذا نطلب فضلاً من جميع القراء والمهتمين الكتابة إلينا وانتقاد هذا المؤلف، ونسأل الله العلي القدير أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم، و أن يجعله أداة نفعٍ للباحثين، وأن يُكتب عنده في باب علمٍ ينتفعُ به لكل باحثٍ يريد أن يسير على خطى البحث العلمي الرصين.