كتاب “أوهام ما بعد الحداثة”، وهو ترجمة ثائر ديب لكتاب تيري إيغلتون The Illusions of Postmodernism، الذي يستكشف فيه انبثاق ما بعد الحداثة وأصولها، ويكشف عمّا تنطوي عليه من تجاذب وتناقض، لكن اهتمامه الرئيس لا يتركّز على الفلسفة ما بعد الحداثية بصيغها المعقدة بقدر ما يتركز على ثقافة ما بعد الحداثة وبيئتها ككل، مخاطبًا خصوصًا طلاب الفكر ما بعد الحداثي ومستهلكي بضاعته الشعبية. في كتابه هذا، يدافع إيغلتون عن أهمية النظرية الماركسية في الوقوف في وجه التفضيل الحالي بين النقاد لمرحلة ما بعد الحداثة، ويحاجّ أنّ “ما بعد الحداثة”، بنظرها إلى العالم على أنه مجزأ وحقيقي وغير محدد، هي الخلف غير الكافي للماركسية التي يمكن أن تقدم في انتقادها للرأسمالية رؤية أخلاقية أكثر واقعية إلى المجتمع.
يتألف الكتاب (199 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من استهلال وستة فصول. يقول إيغلتون، في “استهلال”، إنّ مصطلح ما بعد الحداثة (Postmodernity) يشير إلى مرحلة تاريخية مخصوصة، أما مصطلح ما بعد الحداثيّة (Postmodernism) فيشير بصورة عامة إلى شكل من أشكال الثقافة المعاصرة. وما بعد الحداثة أسلوب في الفكر يبدي ارتيابًا بالأفكار والتصورات الكلاسيكية، كفكرة الحقيقة والعقل والموضوعية والهوية، وفكرة التقدم الكوني أو الانعتاق، والأُطُر الأحادية، والسرديات الكبرى أو الأسس النهائية للتفسير. وهو نزع إلى التمسّك بالمصطلح المألوف أكثر “ما بعد الحداثيّة” كي يشير به إلى الشيئين كليهما، نظرًا إلى ارتباطهما الوثيق والواضح.
السيار والبدايات
يسأل إيغلتون، في الفصل الأول، “بدايات”: ماذا لو وجد اليسار نفسه فجأةً وقد أزيح جانبًا، وليس مغلوبًا أو مُسْتَنْزَفًا فحسب، ينطق بخطاب نشاز لا ينسجم مع الحقبة الحديثة، حتى إنّ أحدًا لا يكلّف نفسه عناء استكشاف قيمته الحقّة، شأنه شأن لغة الغنوصيّة أو لغة الحبّ الفروسي؟ ما الذي يُحْتَمَل أن تكون عليه ردّة فعل اليسار السياسي على مثل هذه الهزيمة؟
وفي رأيه، لا شك في أنّ كثيرين سوف ينجرفون إلى اليمين، نادمين على ما اعتنقوه في السابق من وجهات نظر مثالية طفولية. ولا شك في أنّ من سواهم سوف يحافظون على إيمانهم بقوة العادة والحنين، متشبثين تشبّثًا قلقًا بهويةٍ خيالية، ومعرِّضين أنفسهم لما يمكن أن يجرّه ذلك من خطر العُصَاب.
يقول إيغلتون إنّ اللاكليّة قد تكون مسألة استراتيجية أكثر منها مسألة نظرية، “بمعنى أنّه قد يكون هنالك نوع من النظام الكلّي، وبما أنّ أفعالنا السياسية لا تستطيع أن تفلَه ككلّ، فإنّ من الأفضل أن ننتصح بأن نخفّف حمولتنا ونلتفت إلى مشاريع أشدّ تواضعًا لكنّها أكثر قابلية للحياة”.
تجاذبات وجدانيّة
يرى المؤلف، في الفصل الثاني، “تجاذبات وجدانيّة”، أن ليس في مقدور أحد أن يستنبط التفكيك أو اللياقة السياسية من تنفيس كفاحية الطبقة العاملة أو من إحباط الحركة الطلابية. فالضرورة التاريخية لا تظهر إلا على نحو استرجاعيّ، كإنشاء أو فرضية بعد الحدث. وبالطبع، فإن ما من شيء ضروري قطّ في ما يختصّ بما بعد الحداثية، الأمر الذي يمكن أن نجزم بأنَ المدافعين عنها يوافقون عليه لسوء حظها، وذلك نظرًا إلى وجود كثير من الخواتيم الممكنة التي يمكن أن تنتهي إليها هزيمة سياسية مفترضة.
يضيف أنه مهما تكن المنابع الأخرى التي يمكن أن تنبع منها ما بعد الحداثية، كالمجتمع ما بعد الصناعي وتسفيه الحداثة نهائيًا وتفشّي الطليعة من جديد وتسليع الثقافة وظهور قوى سياسية جديدة حيّة وإفلاس أيديولوجيات كلاسيكية معينة تتناول المجتمع والذات، فإنّها تظلّ أيضًا وأساسًا ثمرة إخفاق سياسي كان عليها أن تدفع به إلى النسيان، أو أن تضطر إلى أن تخوض مع شبحه صراعًا لا يتوقف.
وفقًا لإيغلتون، لا سبيل إلى إنكار أنّ الموضوعات السياسية المتميزة التي طرحتها ما بعد الحداثيّة هي ضروب الاستبدال بالفعل. وما من أحد وقع على مفهوم الطبقيّة الباهت الذي اختُزِل إلى ضرورة عدم الشعور بالتفوّق الاجتماعي على الآخرين، أو لاحظ الآثار الزَرِيّة التي خلّفها الجهل بالبنية الطبقية والشروط المادية في بعض السجالات ما بعد الحداثية المتعلقة بالجندر أو الكولونيالية الجديدة، يمكنه أن يستخفّ بالخسارات السياسية المريعة الحاصلة.
ما بعد الحداثية والنظر إلى التواريخ
يقول إيغلتون، في الفصل الثالث، “تواريخ”، إنّ ما بعد الحداثية ترى أنّ التاريخ أمر غائيّ؛ أي إنّه يقوم على اعتقاد مفاده أنّ العالم يتحرك على نحوٍ غَرضيّ صوب غاية محدّدةٍ مسبقًا هي غاية محايثة له أو ماكثة فيه، حتى في هذه اللحظة بالذات، وهي ما يوفّر الدينامية اللازمة لما تراه أعيننا من تجلٍّ وظهور لا يلينان. فالتاريخ له منطقه الخاص، وهو الذي ينتخب مشاريعنا التي تبدو حرّةً في الظاهر كي تخدم مراميه الخاصة المستغلقة. وقد تكون ثمّة حالات من التعوّق هنا أو هناك، أما بصورة عامة فالتاريخ أحادي الخطّ، وتقدميّ، وحتميّ. وتمثّل رؤية التاريخ بوصفه متناقضًا دحضًا للأسطورة القائلة بأن الماركسيين هم من المتعصبين السُذّج للتقدم، هذه المغالطة التي يبدو أنّها انحشرت في أذهان بعض ما بعد الحداثيين بحيث بات من المتعذّر استخراجها.
وفي رأيه، من الخطأ أن نعتقد أنّ جميع السرديات الكبرى تقدمية: لا شكّ في أنّ شوبنهاور كان مأخوذًا بواحدة من السرديات الكبرى، مع أنه ربما كان الفيلسوف الأشدّ تشاؤمًا على وجه الأرض. لكن السجال ضد التاريخ بوصفه تقدميًا لا يعني أنه لم يكن هنالك أيّ تقدّم على الإطلاق، فهذا اعتقاد بعيد كلّ البعد عن العقل والمنطق على الرغم مما تبديه ما بعد الحداثية حياله من احتفاء ينمّ على روحها الكلبيّة الشديدة. فليس ضروريًا أن تكون من المؤمنين بعصر ذهبي كي ترى أنّ الماضي كان أفضل من الحاضر من بعض النواحي.
الذات ما بعد الحديثة
يقول إيغلتون في الفصل الرابع، “ذوات”، إنّ الذات ما بعد الحديثة هي ذات يشكّل جسدها جزءًا لا يتجزّأ من هويتها. فالجسد أصبح شاغلًا شديد التواتر من شواغل الفكر ما بعد الحديث. وتراجع الطاقات الثورية ترافق مع ضرب من الاهتمام بالجسد راح يحتلّ مكان هذه الطاقات. فتحوّل الجميع من الاهتمام بالإنتاج إلى الاهتمام بالانحراف. أما اشتراكية غيفارا فأفسحتْ المجال لما جاء به ميشيل فوكو وجين فوندا من اهتمام بالبدن وعناية بالجسمانيات. واستطاع اليسار أن يجد في التشاؤمية الغاليّة الشديدة عند الأول، بخلاف مزاياه السياسية الناشطة، أساسًا منطقيًا رصينًا يبرر الشلل السياسي الذي أصاب هذا اليسار.
وفي اعتقاده، من المهمّ أن نرى، كما لا تفعل ما بعد الحداثية بوجه عام، أننا لسنا مخلوقات ثقافية أكثر منّا مخلوقات طبيعية. فنحن كائنات ثقافية بفضل طبيعتنا؛ أي بفضل ضروب الأجساد التي نمتلكها ونوع العالم الذي تنتمي إليه هذه الأجساد.
مغالطات بين التراتبية والنخبوية
يُخطّئ إيغلتون، في الفصل الخامس، “مغالطات”، من يخلط بين التراتبية والنخبوية، ولا سيما أنّ مصطلح النخبة مصطلح ضبابيّ بما فيه الكفاية، وكثيرًا ما يُخْلَط بينه وبين مصطلح الطليعة التي هي أمر مختلف تمامًا. ويرى أنّ من النمطيّ أن يُبرز بعض ما بعد الحداثيين كيف أنّ أحكامنا، شأنها شأن أي شيء آخر من أشيائنا، مشروطة بثقافتنا إلى حدٍّ بعيد. فنظرًا إلى تكويننا الجمالي على نحوٍ معين، لا نستطيع أن نتمالك أنفسنا عن رؤية ميلتون بوصفه فنًا عظيمًا، إلا بقدر ما نستطيع أن نتمالك أنفسنا عن رؤية نوع معين من الكلاب بوصفه كلبًا.
ويرى، في هذا الفصل أيضًا، أن تؤمن بالجوهرانية لا يعني بالضرورة أن تحمل وجهة النظر البعيدة عن المنطق القائلة إنّ جميع خصائص شيء ما جوهرية بالنسبة إليه. فأن يكون لك وزن ما هو أمر جوهري كي تكون إنسانًا، لكن اتّصافك بحاجبين كثّين ليس كذلك. وأن تؤمن بالجوهرانية لا يعني أيضًا أن تزعم أنّ ثمّة قطيعة حادّة بين الشيء والآخر، وأنّ كلّ شيء منحبس في فضائه الكيانيّ (الأنطولوجي) المنيع عن كلّ شيء آخر.
تناقضات ما بعد الحداثية
يقول إيغلتون، في الفصل السادس والأخير، “تناقضات”، إنّ التناقض الرئيس في ما بعد الحداثية هو تناقض يشبه بعض الشيء ذاك الذي في البنيوية القديمة الطراز. ويسأل: أكانت البنيوية راديكالية أم محافظة؟ إنه لمن السهل أن نرى كيف كانت البنيوية نوعًا من تكنوقراطية الروح، والاختراق الحاسم الذي اخترقتْ به دفعة الحداثة ذات الطابع العقلاني حَرَم الذات الداخلي. إنّ من السمات اللافتة في المجتمعات الرأسمالية المتطورة كونها ليبرتارية وسلطوية معًا، تعددية وأحادية. وليس من الصعب أن نتبيّن سبب ذلك. فمنطق السوق هو منطق لذّة وتعدّد، منطق ما هو زائل لا استمرار فيه، منطق شبكة من الرغبة عظيمة لا مركز فيها ويبدو الأفراد مجرد آثار زائلة لها.
في رأيه، تغرف ما بعد الحداثية بعضًا من منطق الرأسمالية المادي وتحوّله ضدّ الأسس الروحية للرأسمالية على نحوٍ هجومي وعنيف. وهي تبدي في هذا ما يتعدّى التشابه العابر مع البنيوية التي تشكّل واحدًا من مصادرها البعيدة. فالفكر ما بعد الحداثي الخاص بنهاية التاريخ لا يستشرف لنا مستقبلًا يختلف كثيرًا عن الحاضر الذي نحن فيه. والغريب أنّ ما بعد الحداثية تجد في كونها كذلك مدعاةً للفرح والاحتفال. لكنّ هناك في حقيقة الأمر كثيرًا من ضروب المستقبل الممكنة، ومن بينها مستقبل اسمه الفاشية. وأعظم محكّ بالنسبة إلى ما بعد الحداثية، بل إلى كل مذهب سياسي آخر، هو كيف تواجه ذلك.