مقدمة :
إنّ صيرورة التاريخ الإنساني حددت هوية كلّ أمة وميزت جوهرها بخصائص وملامح تميزها عن غيرها من الأمم، فالهوية الحضارية التي هي ”الآنا” أو الذات لا تتحدد إلا عبر الأخر؛ سواء تعلّق الأمر بالفرد أو الجماعة، وإن أيّ تصوّر للمستقبل في جزء منه على الأقل، هو عبارة عن محاولة ترمي إلى إعادة ترتيب العلاقة مع الأخر، وفق أسس ومبادئ واضحة وحيادية وغير منحازة لحضارة ما، وتأتي العلاقات الدولية كعلم يؤسس لنمط التعامل مع تلك الحضارات والدول، من خلال الاستناد على القانون الدولي، والمشترك الحضاري والإنساني للدول، إذ تعدّ مفاهيم الحوار والتعايش، التضامن، الاحترام والتسامح…، كقيم واردة في جلّ الحضارات الإنسانية التي يمكن أن تتفق في مواطن وتختلف في مواطن أخرى.
غير أن تعاقب الأحداث وتعقدها افرز للعالم ظواهر أخرى يصعب التحكم فيها أو حتى التنظير لها، وذلك جرّاء الممارسات التعسفية لبعض الدول الغربية، والتي تحاول أن تجعل من العالم المتنوع والمتعدّد في هوياته وثقافاته …، مختزلا ومندمجا في قالب واحد، من خلال التوظيف الأيديولوجي والعقيدي الصامت للعولمة، مستفيدة من ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات، وتقنيات الإعلام المتطورة…، بغية التأسيس لخطاب إيديولوجي يعبّر عن هيمنة القوى الكبرى على بقية العالم، متخذة من شعار البقاء للأقوى منهجا للتعبير عن سياسة التفوق.
علاوة على ترويج وسائل الإعلام الغربية لمبادئ الكراهية على حساب مبادئ التسامح والاختلاف في خطابتها وبرامجها الثقافية، كما سعت إلى صناعة عدو وهمي لها ونسبته للإسلام، لكن ذلك العدو تحول من العالم الافتراضي إلى واقع وأضحى يهدد العالم برمته.
فتلك الممارسات والأفكار قائمة على فكرة استبعاد وإقصاء وكذا تشويه قيم وثقافات باقي الحضارات، مما أفرز في النهاية سيادة الصراع، ومنطق القوة في كثير من المواقف والقضايا ما بين الدول…، وغيرها من الآليات التي وظفها الغرب من خلال صناعة الفكر المتطرف ونسبه للإسلام.
وبناء على ما سلف؛ صحيح نرى أن الغرب يبدو وكأنه لا يفهم إلا لغة المصالح المادية؛ بحكم تبنيه واعتماده الكامل على المفهوم الرأسمالي المادي، وتغليب المصلحة المادية على المصالح الأخرى في تعاملاته مع بقية الدول والقوى، مما يعني أن الواقع ينبئ بأنه لا أمل للدول المتخلفة بالبقاء، حيث سيتم ابتلاع وطمس معالمها الثقافية والحضارية إذا لم تتمكن من الصمود والمقاومة لإثبات الذات، هذا التصور هو ما سعى بعض مفكري الغرب إلى الترويج له أمثال كل من فرنسيس فوكوياما وصمويل هنتغتون.
غير أنه توجد في الأفق مبادرات مناقضة لأطروحات الصراع وتؤسس للتعايش واحترام الاختلاف ما بين الدول والشعوب في سياق حضاري وقانوني ، فقد تضمن القانون الدولي عدّة أسس تلزم الدول على احترام خصوصيات الدول الأخرى، وقد تبنت ذلك عدة منظمات دولية ووطنية، ويعد ذلك كمؤشر لتبني منطق الحوار والتسامح بدلا من الصراع والمواجهة.
لكن يبقى الإشكال على مستوى الممارسة حيث الواقع يثبت وجود مفارقات كبيرة ما بين الطرح والممارسة. وهو ما نسعى إلى معالجته من خلال إشكالية ومحاور هذا المؤتمر.
تحميل الكتاب