في ظل الأزمة الاقتصادية التي دفعت إلى تراجع دعم الدولة للمجالس المحلية، باتت البلديات أمام تحدي الحصول على تمويل ذاتي لتجسيد أهدافها وبرامجها، لكنها تصطدم في سبيل ذلك بإجراءات إدارية وقانونية وعوامل داخلية لا تمكنها من حل مشكل عجز الميزانية لتبقى بعيدة عن تحقيق التنمية الذاتية.
ويوضح مدني مداغ، رئيس بلدية بودواو، في تصريح لـ”الخبر السياسي”، أن إيرادات البلدية الذاتية مرتبطة في الأصل بعائدات الجباية المحلية والاستثمارات التي تقوم بها وكذا عائدات تأجير واستغلال الأملاك، مستدركا أن: “حوالي 90 بالمائة من عائدات البلديات في الجزائر مرتبطة فقط بالجباية المحلية، وهو ما يجعل البلديات الصغيرة التي لا تحوز على عائدات ضريبية كبيرة تعاني من عجز مالي، وتضطر إلى الموازنة من طرف الدولة حتى تدفع تكاليف التسيير، ما يؤثر سلبا على الميزانية العامة”.
وبدوره، يوضح عضو المجلس البلدي لبلدية أولاد فايت، الهادي زروقي، في تصريح لـ”الخبر السياسي”، أن حالة الانكماش الاقتصادي، والأزمة الاقتصادية التي فاقمها وباء كورونا أدت إلى تراجع رقم أعمال الكثير من المؤسسات الاقتصادية الفاعلة في البلديات، بما يؤثر على الميزانية الأولية التي تشرع البلدية في إعدادها كل شهر أكتوبر، معتمدة في ذلك على ما تحصله من الضريبة المحلية. وأمام هذا الوضع شهدت أغلب البلديات، حسبه، نقصا في ميزانيتها الأولية خاصة فيما يتعلق بنفقات التجهيز، والتزمت بما هو ضروري فقط.
وإضافة إلى مداخيل الضرائب المحلية، يقول مدني مداغ إن “هناك بلديات تحوز على مؤهلات أكثر من غيرها للحصول على مداخيل من النشاطات والاستثمارات التي تنجز على إقليمها، لكنها تصطدم بصلاحيات اللجنة الولائية، حيث لا يمكن لرئيس البلدية وحده أن يتصرف في العقار أو يسير الاستثمار دون تنسيق مع الوصايا”. وتواجه البلدية، حسبه، أيضا مشكلة القوانين عندما ترغب في استغلال أملاكها، حيث أن السعر الافتتاحي لتأجير ممتلكاتها مثلا لا يحدده المجلس البلدي بل هو مرتبط بسلم مصالح أملاك الدولة.
وفيما يتعلق بالاستثمار، يشير المتحدث أن البلدية تواجه مشكل الاستفادة من عائدات الاستثمارات التي تقوم بها الشركات داخل إقليمها في حال كان المقر الاجتماعي للشركات خارج إقليم البلدية، حيث يتحمل سكان البلدية أي آثار سلبية لنشاط الشركة لكن بلديتهم لا تستفيد من العائدات التي تذهب إلى المقر الاجتماعي للشركة.
وفي حديثه عن مصادر التمويل الضائعة، يشير رئيس بلدية بودواو إلى المناطق الصناعية التي أنشئت منذ سنوات لكنه لم يتم استغلالها إلى حد اليوم، قائلا: “هناك ندوات حتى على مستوى الحكومة تتحدث عن تطهير العقار الصناعي لكن نتائجه لا أثر لها”.
ورغم الصعوبات الخارجية التي تواجهها البلدية في تغطية نفقاتها، قد لا يلتزم المسؤولون المحليون في بعض الحالات عند قيامهم بعملية الإنفاق بالتقيد بالاعتمادات المالية المفتوحة، انطلاقا من فكرة أن الدولة سوف تتدخل عاجلا أو آجلا بتحمل ديون البلديات، لكن عضو المجلس البلدي يوضح أن هذا الخيار لم يعد متاحا، حيث أن “البلدية كانت تتلقى تمويلا من الولاية وصندوق التضامن بين البلديات، ولكن في السنتين الأخيرتين كان حجم التمويلات خارج الإيرادات المحلية جد منخفض، لأن الولاية أو الخزينة أصبحت تتكفل بتمويل البلديات فيما هو ضروري فقط”.
وقد يلعب العامل البشري دورا بشكل أو بآخر في انخفاض إيرادات البلدية لعدة أسباب، بينها ضعف التأطير وسوء التسيير. وفي هذا السياق، يعتبر زروقي أن قانون البلدية في صيغته القديمة كان يمنح حيزا من السلطة والمناورة للبلدية قصد إنشاء مؤسسات عمومية واللجوء إلى الاقتراض والتنسيق مع البنوك، ولكن المبادرات كانت تلقى الرفض من الوصايا التي عادة ما لا تقتنع بها نتيجة تجارب سابقة مع مسؤولين لا ترى فيهم الخبرة اللازمة لإدارة المشاريع الاقتصادية التي هي حكر على البلدية، مشيرا أيضا أنه “رغم تعليمة وزارة الداخلية لسنة 2015 التي تهدف إلى تثمين الممتلكات بما يرادف ثمن السوق، إلا أن البلدية كثيرا ما تتجه لكرائها بأثمان بخسة، يضاف إلى هذا عنصر التهاون في تحصيل الإيرادات المتعلقة بالتأجير إلا في حالات الأسواق، حيث يرى المتحدث أن البلديات تهتم فقط بالممتلكات التي تدر عليها أموالا ضخمة وباقي الممتلكات تتهاون في تحصيل عائداتها”.
إضافة إلى ذلك، قد يؤدي ضعف مستوى بعض رؤساء البلديات إلى وقوعهم في فخ الصفقات الفاسدة، عن قصد وغير قصد، حيث شهدت السنوات الماضية تكرار متابعة عدة أميار في معظم ولايات الوطن بتهم الفساد. ولا ينكر مدني مداغ وجود الفساد لدى بعض المنتخبين والأميار، لكنه يحمل منظورا آخر لقضايا الفساد التي ارتبطت بالأميار، حيث يوضح أن البلدية هي شماعة مصالح الدولة التي يتجه إليها المواطن في كل مشكلة يواجهها. ولامتصاص الغضب وتوقيف الاحتجاجات، قد يبادر رئيس البلدية ”بحسن نية” ويستعجل الإجراءات لحل المشكلة المطروحة أو إنجاز مشروع معين، فيعتبر في نظر القانون فاسدا لأنه لم يتبع الإجراءات القانونية والإدارية التي تأخذ وقتا.
وفي موقف مماثل، يعتبر الهادي زروقي أن التهم الموجهة للأميار مقيدة لروح المبادرة، ولذلك يكثر الحديث عن القانون الذي من شأنه رفع التجريم عن أخطاء المسير العمومي، حتى يتاح له القيام بمبادرات في إطار القانون لتحقيق التنمية سواء بالنسبة للبلدية أو المؤسسات العمومية.
ويرى أستاذ القانون الإداري، منير قتال، أن محاولة إيجاد حلول لتحرير البلديات من الحلقة المفرغة التي تعيش فيها ومعالجة عجز ميزانياتها، تقتضي بالضرورة تضافر جهود كل من الدولة والجماعات المحلية من أجل ترقية الموارد المالية للبلديات، حيث أن الدولة مطالبة بالتكفل بإصلاح النظام الجبائي المحلي واعتماد قانون خاص بالجباية المحلية يوفر خيارات أكبر لتمويل ميزانية البلدية.
ويضيف في تصريح لـ”الخبر السياسي” أن تخطي العجز المالي يستلزم إعادة النظر في الترسانة القانونية التي تحكم البلدية، ومنح الاستقلالية التامة للبلدية، وإعادة النظر في التقسيم الإداري الذي أفرز بلديات فقيرة لا تمتلك أي مقومات اقتصادية، معتبرا أنه لابد من تقليص عدد البلديات وإعادة ضمها وتعويضها بالملاحق الإدارية لضمان الخدمة الإدارية.
أما البلديات فهي مطالبة بالاستغلال الأمثل لمواردها المتاحة، ترقيتها، تحسين آليات تحصيلها والبحث عن موارد جديدة، لاسيما من خلال استقطاب الاستثمارات المحلية، دعم المقاولاتية وتشجيع خلق مؤسسات صغيرة ومتوسطة في إطار مختلف أنماط الدعم. البلديات مطالبة أيضا بتحسين أدوات التسيير لاسيما عن طريق اعتماد التسيير الاستراتيجي، تطوير طرق تسير مواردها البشرية.