جاءت حادثة مقتل ثلاثة مواطنين جزائريين في المنطقة الحدودية بين موريتانيا والصحراء الغربية إثر قصف جوي مغربي في الثالث من نوفمبر 2021، باعتبارها نقطة تصدع للأزمة المُركبة بين الرباط والجزائر، وتباعدت بصورة كبيرة محاولات تقريب وجهات النظر، كما تسارعت احتمالية التصعيد العسكري بين الجانبين، خاصة وأن تلك الأزمة تأتي في إطار يتسم بالتوتر والاضطراب المستمر لحد قطع العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين.
وتعتبر الاتفاقية الدفاعية التي وُقّعت بين الرباط وإسرائيل في الرابع والعشرين من نوفمبر 2021 بمثابة نقطة تصدع أخرى في خضم المشهد الجزائري المغربي، وتُعزز من فرضية التصعيد العسكري الميداني على جبهة البوليساريو، وهو الأمر الذي يتزامن مع تصاعد وتيرة الخطاب الرسمي في كلا البلدين، مما يُوجِد مشهدًا معقدًا يُرسّخ لحالة قطيعة وعزلة دائمة.
سياقات متغيّرة
إنّ عملية قتل ثلاثة مواطنين جزائريين جاءت لتُضاعف من حدة التوتر بين الدولتين، ولعل هذا التطور يأتي في ضوء سياق متأزم تتمثل مؤشراته في الآتي:
- أزمة دبلوماسية متفاقمة: تأتي تلك الحادثة في ضوء قطع العلاقات الدبلوماسية المغربية الجزائرية في الرابع والعشرين من أغسطس 2021، وقد سبق تلك الخطوة سحب الجزائر لسفيرها من المغرب للتشاور، وذلك في ضوء التباينات المختلفة في الملفات المتشابكة وعلى رأسها قضية الصحراء الغربية. وهذا التصعيد اتخذ منحنى تصاعديًا في أعقاب التطبيع المغربي الإسرائيلي، وتوسع دائرة التعاون بين الجانبين.
- تجاذبات عبر الوكلاء: شهدت الفترة الماضية حالة من الدعم الواضح للحركات ذات الطبيعة التنافسية المتبادلة. فمن جهة، تحظى جبهة البوليساريو بدعم واسع من جانب الجزائر، بينما برز خط آخر مماثل من جانب الرباط، تجلّى في التفاف المغرب حيال مطالب كلٍّ من حركتي “رشاد” ذات الانتماء الإسلامي و”حركة استقلال منطقة القبائل” المعروفة باسم “ماك” ذات التوجه الانفصالي اللتين تم إدراجهما كتنظيمين إرهابيين في الثامن عشر من مايو 2021، خاصة في ضوء اضطلاع تلك الجماعات بالتورط في الحرائق التي شهدتها الجزائر في الفترة الأخيرة، علاوة على تبنيهما ثورة مضادة للنظام الحاكم، وبرز ذلك التأييد من خلال مطالبة السفير المغربي لدى الأمم المتحدة “عمر هلال” ببحث تقرير المصير لمنطقة القبائل، وذلك خلال اجتماع حركة عدم الانحياز داخل الأمم المتحدة، وهو ما ترتب عليه سحب السفير الجزائري لدى المملكة.
- تجميد تصدير الغاز: أحد السياقات الضاغطة أيضًا في إطار الأزمة المغربية الجزائرية يتمثل في قرار الجزائر بعدم تجديد عقد استغلال خط أنابيب الغاز الذي يزود إسبانيا بالغاز الجزائري مرورًا بالمغرب، وذلك في ضوء الممارسات ذات الطابع العدواني من جانب المملكة المغربية.
ولعل ذلك التصدع الدبلوماسي يُرسّخ لمرحلة جديدة في العلاقات الثنائية بين البلدين، ويُرسم خارطة تعامل حرجة بين الجانبين في ضوء القضايا المتشابكة بينهما.
إسرائيل وإخلال التوازن العسكري
تتجلّى إحدى معضلات العلاقات المغربية-الجزائري بصورة واضحة في تنامي الدور الإسرائيلي عبر البوابة المغربية، حيث شهدت العلاقات المغربية-الإسرائيلية تناميًا كبيرًا منذ التطبيع بين الجانبين، وبدأت تأخذ منحى تصاعديًا غير مسبوق وصل لحد عقد الصفقات العسكرية الخاصة، والتي تمثلت في إنشاء مصانع للأسلحة العسكرية، إلى جانب تطوير برنامج الطائرات بدون طيار، وذلك في ضوء مساعيها لتحسين الترسانة العسكرية المغربية لإحداث خلل في موازين القوى العسكرية داخل المنطقة المغاربية. التحدي الآخر فيما يتعلق بوضعية إسرائيل داخل البيئة الإفريقية وتزايد تغلغلها داخليًا، وذلك عودتها كعضو مراقب بالاتحاد الإفريقي في الثاني والعشرين من يوليو 2021 بعدما توقفت تلك الصفة منذ عام 2002، والذي تزامن معه تزايد وتيرة التجسس في المنطقة كما حدث فيما يعرف بقضية بيجاسوس. هذا التحول المتسارع يُمثل ضغطًا متزايدًا على الجزائر التي رفضت بشكل حاسم مسألة التطبيع مع إسرائيل، إلى جانب رفضها فكرةَ عودتها كعضو مراقب بالاتحاد الإفريقي.
ولعلّ الاتفاقية الدفاعية التي تم توقيعها في الرابع والعشرين من نوفمبر 2021 بين المملكة المغربية وإسرائيل 2021، إحدى المحطات الحرجة التي تزيد من وضعية التنافر في المنطقة المغاربية بصورة عامة وبين الجزائر والمغرب على وجه التحديد، خاصة وأن اتفاق إطار للتعاون الأمني يتضمن مجالات الاستخبارات والتعاون الصناعي والتدريب العسكري، وهو ما يُعد بمثابة خطوة غير مسبوقة تقوم بها إسرائيل في الشمال الإفريقي. وبموجب هذا الاتفاق سيتم اقتناء معدات أمنية إسرائيلية عالية التكنولوجيا بسهولة، كما أنها تساهم في تطوير التخطيط العملياتي بين الجانبين. وبقراءة للتطورات المتسارعة في العلاقات بين الجانبين، نجد أنه من المحتمل أن تستفيد المغرب بصورة كبيرة من الاستثمارات الإسرائيلية في المجال العسكري والتصنيع، خاصة أنها تُعتبر من أهم مصدّري الطائرات المسيرة الحربية والتطبيقات الإلكترونية، وهو ما يُحقق تعزيز القدرات العسكرية المغربية في مواجهة جبهة البوليساريو.
إن تلك الاتفاقية التي تُعتبر الأولى من نوعها في الدائرة الإفريقية تُضفي طابعًا رسميًا على التعاون في الشئون الأمنية والدفاعية بين الدولتين، وتساهم في خلق قنوات رسمية بين الأجهزة الاستخباراتية والأمنية بينهما، وهو ما يُعزز من فرص التواجد الإسرائيلي في صورته العسكرية بالعمق الإفريقي.
فرص التصعيد العسكري
يمكن القول إن المغرب والجزائر ستشهدان حالة من الحرب الباردة بين الجانبين ستكون ذات تكلفة عالية على الجزائر أكبر من المغرب، خاصةً في ضوء الاضطرابات التي لا تزال تشهدها الجزائر داخليًا. ولعل فرص التصعيد يمكن قراءتها من المؤشرات أو السياق الآتي:
- سباق التسلح: إن وضعية التسليح داخل البلدين قد باتت تشهد تزايدًا كبيرًا في سباق يُعزز من تطلعات كل طرف لتحقيق الهيمنة على المنطقة، ويُنذر بالانزلاق في حرب باردة، فقد جاءت الرباط والجزائر على رأس صفقات الأسلحة لإفريقيا بما يعادل 70%.
- تطوير التسليح المغربي: الذي شهدته المغرب عقب الصفقات التي تم إبرامها مع إسرائيل، مما يُنذر بأن هناك فرصة واسعة للتصعيد العسكري ليس المباشر وإنما عبر الوكلاء، ومن المحتمل أن تشهد الفترة المقبلة تصعيدًا عسكريًا من جانب الرباط على جبهة البوليساريو، وتركيز تلك الضربات على أماكن تمركز عناصر الجبهة على الحدود الجزائرية وتحديدًا مدينة “تندوف”، وذلك تكرارًا لعملية تصفية قائد الحرس الوطني لجبهة البوليساريو “الداه البندير” في أبريل عام 2021 باستخدام طائرة بدون طيار إسرائيلية الصنع.
- الانسلاخ من اتفاق وقف إطلاق النار: أحد مؤشرات احتمالية اندلاع صراع مسلح هو إعلان جبهة البوليساريو انسحابها من اتفاق وقف إطلاق النار الموقع مع المغرب عام 1991، وما تبعها من تصريحات من أمين عام الجبهة بأنه لن يكون هناك سلام ولا استقرار ولا حل عادل ودائم للصراع المغربي الصحراوي بدون تراجع المغرب عن التوسع في المنطقة وعدم إقرار حق تقرير المصير.
- التعنّت المتبادل: إن المتأمل لوضعية الخطاب الرسمي للجزائر والمغرب يجد أنه ينتهج لهجة تصعيدية غير مسبوقة تمتاز بالتعنت وعدم المرونة في التعاطي مع المتغيرات الإقليمية، ولعل ما جاء في كلمة ملك المغرب الملك “محمد السادس” في السادس من نوفمبر 2021 بمناسبة الذكرى 46 للمسيرة الخضراء، والذي تضمن رفضًا قاطعًا للتفاوض حول ملف الصحراء، وهو ما يقطع الطريق أمام أي حلول سياسية للقضايا العالقة.
- التأييد الداخلي: نتيجة للتطورات الأخيرة بين المغرب والجزائر، جاء بيان المجلس الشعبي الوطني الجزائري لتأكيد دعمه وتأييده في أي مسعى تتخذه السلطات للرد على مقتل ثلاثة جزائريين، ليؤكد حالة الالتفاف الداخلي حول الإدارة السياسية، والدفع في انتهاج أي آلية للرد على ذلك الهجوم حتى ولو كانت عسكرية.
- تدويل الأزمة: دفعت الجزائر في مسار تدويل أزمة مقتل الجزائريين الثلاثة داخل الأوساط الإقليمية والدولية والمنظمات المعنية بهذا الأمر، وعلى رأسها: الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والمتضمن توصيف الحادثة بأنها إرهاب دولة، وهو ما يُفهم منه أن هناك رغبة جزائرية للحصول على شرعية دولية مسبقة قبيل أي عمل عسكري أو عمل تصعيدي.
وفي التقدير؛ إن مسار الأزمة السياسية والدبلوماسية بين المغرب والجزائر سوف تتجاوز أبعاد الأزمة في قالبها السياسي الذي يشهد تعقيدًا واسعًا في ضوء رفض الجزائر وجبهة البوليساريو التعاون مع المبعوث الأممي الجديد “ستافان دي ميستورا”، وهو مؤشر لعرقلة أي مساعٍ أممية محتملة لحلحلة هذا الملف، ليدخل في مرحلة غير مسبوقة من الحرب الباردة بين الجانبين. فمن ناحية، تُعزز المغرب قدراتها العسكرية بالاعتماد على الورقة الإسرائيلية، في مقابل تعاون مماثل بين الجزائر وإيران وجبهة البوليساريو. ولعلّ تلك التجاذبات ستساعد بشكل متلاحق في الانخراط في مواجهة عسكرية بين البوليساريو والقوات المغربية التي ستتركز ضرباتها على قيادات الجبهة عبر الطائرات المسيرة إسرائيلية الصنع. لذا، يمكن القول إن التطورات المتسارعة وسياق الأزمة المغربية الجزائرية يؤشر بصورة كبيرة إلى احتمالية وجود ضربة عسكرية خاطفة من جانب الجزائر.