محمد عبدالرحمن عريف
رحل الرئيس السابق المشير “عبدالرحمن سوار الذهب” بالمملكة السعودية، نعم انتقل لجوار ربه اليوم بالمستشفى العسكري بالرياض، إنه المشير عبدالرحمن محمد سوار الذهب الرئيس الاسبق للسودان، عن عمر يناهز الـ(83عاما)، كان قد استلم سوار الذهب السلطة أثناء انتفاضة نيسان/ أبريل 1985 بصفته أعلى قادة الجيش وبتنسيق مع قادة الانتفاضة من أحزاب ونقابات ثم قام بتسليم السلطة للحكومة المنتخبة في العام التالي. وتسلّم مقاليد السلطة بعد انقلاب عسكري في السودان بإمرة ضباط على رأسهم اللواء حمادة عبدالعظيم حمادة والعميد عبدالعزيز الأمين والعميد فضل الله برمه ناصر وبعد تردد تقلد رئاسة المجلس الانتقالي إلى حين قيام حكومة منتخبة وارتقى لرتبة المشير. فما هي قصة وصول سوار الذهب للحكم، والأحداث الي سبقت ذلك، ليُعلم العالم.. إنه الحاكم العربي الذي تنازل عن السلطة.
بدأت المؤسسة العسكرية في توسيع نفوذها عبر إقامة مؤسسات اقتصادية فأنشأت المؤسسة الاقتصادية العسكرية التي أدارة أعمالًا اقتصادية متنوعة للقوات المسلحة امتد أثرها للمدنيين. استمرت أوضاع الحكومة المايوية متأرجحة في تحالفاتها مع القوى السياسية، لكن ظلت شخصية الرئيس نميري هي المحورية. وبدأ أداء النظام في التدني، مع ازدياد انعزاله تدريجيًا. وتعرض لعدد من المحاولات الإنقلابية الفاشلة أهمها حركة حسن حسين في 1975 وحركة محمد نور سعد في 1977.
في عام 1983 اندلعت مرة أخري الحرب في الجنوب الأمر الذي جعل القوات المسلحة تنخرط في قتال المتمردين، وقد كان لهذه الحرب تأثيرات سياسية كبيرة على النظام. انتهت عزلة النظام السياسية المتنامية بسقوطه في ذروة انتفاضة الرابع من نيسان/ أبريل 1985 واستلام الجيش للسلطة. وقال سوار الذهب إن قرار استلام السلطة اتخذ بإجماع قيادات الجيش، إثر زيارات قام بها لوحداتهم المختلفة. وقال إن الجميع تأكد لهم بأن نميري «بات لا يملك شعبية»، بعد الانتفاضة التي نظمت ضده، واستمرت من أواخر آزار/ مارس وحتى أوائل نيسان/ أبريل. وذكر أن قرار إقصاء نميري، الذي كان في رحلة علاجية في الولايات المتحدة، كان من أجل «حقن دماء السودانيين ولمنع حدوث انقلاب عسكري من ضابط صغير في الجيش، كما يحدث في بلدان أفريقية».
نعم كانت واحدة من أحداث السياسة السودانية ذات الحراك والدهشة، وبل السرعة التي من فرط جنونها جعلت حكومة من أعتى وأقوى الحكومات في المنطقة الإفريقية تذهب الى غير رجعة. وأقرب تشبيه لهذه الانتفاضة هو الإعصار المفاجئ الذي محا كل ما كان أمامه وهو ما تم لأسباب منطقية وموضوعية.
الحقيقة أن بدايات نهايات حكم النميري لم تكن في نيسان/ أبريل 1985، بل كانت في تاريخ سابق للانتفاضة وتحديدًا في 1982، حين زادت حالات الإضراب المتواصلة من قبل عدد من النقابات العمالية في عدد من مناطق البلاد، كان أشهرها بالطبع إضراب القضاة في 1982م ومن ثم كان إضراب عمال المهن الصحية الذي كان لثلاث مرات في الفترة منذ أيار/ مايو 1982 حتى أيلول/ سبتمبر 1984. استشعرت قطاعات كبيرة من المواطنين خطورة الأوضاع التي يعاني منها الشعب فكان تاريخ يوم 2 نيسان/ أبريل 1984م يوماً مشهوداً في تاريخ السودان، إذ أعلن النميري قانون الطوارئ الذي أباح تأسيس محاكم للعدالة الناجزة لإسكات صوت المعارضين. وكان هذا القانون يهدف في المقام الأول لتحريم التجمعات والتشهير بالمعارضين عبر الإذاعة والتلفاز والصحف، فكان أن امتلأت جلسات المواطنين بالكثير المثير عن حملات الاعتقال وقفز الحائط من قبل أصحاب السلطة في أمر الاعتقال، فكان الأمر أشبه بسجن كبير اسمه دولة السودان.
أحداث مارس وأبريل 1985
في صبيحة يوم السادس والعشرون من آزار/ مارس 1985 كانت شوارع أربع مدن سودانية تمور وكأنها مرجلاً يغلي فكانت المظاهرات في توقيت واحد في كل مدن الخرطوم، الأبيض، ودمدني، وعطبرة. بيد أن أكثر التظاهرات التي أقضت مضاجع الحكومة يومها كانت تظاهرة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم التي طافت منطقة وسط الخرطوم مما جعلها مظاهرة بها من جموع الطلاب والحرفيين والتجار كذلك. حين أتت الساعة الثانية عشر ظهراً كانت مدن العاصمة الثلاث قد خرجت هي الأخرى في مواكب هادرة وهي تهتف بسقوط النظام.
على الفور تم تشكيل غرفة عمليات من داخل جهاز أمن الدولة برئاسة اللواء عمر محمد الطيب الذي وجد نفسه فجأة في منصب الرجل الأول بالدولة بعد سفر الرئيس نميري لأمريكا. زائداً مهامه التي كانت في الأساس إدارة جهاز أمن الدولة. فكان وفق آلية جهاز أمن الدولة المتطورة من التحرك لقمع هذه التظاهرات والحد منها حتى لا تكون متعددة ومنتشرة بالقدر الذي يهدد النظام في استمراريته وهو ما كان حدوثاً في قابل الأيام. على الفور تم تحديد أسماء بعينها للاعتقال فكان من ضمنهم الجزولي دفع الله نقيب الأطباء وبكري عديل.
تسارعت الأحداث عاصفة لتصل مرحلة التظاهرات غير المخطط لها في جميع أرجاء البلاد وهو ما أربك السلطات يومها وهي التي كانت تنوي الانتشار في مناطق محددة دون غيرها فكانت تظاهرات عفوية ينظمها المارة وجموع المواطنين دون تخطيط من أية جهة سياسية، وهو الشيء الذي جعلها تبدو وكأنها واحدة من مدهشات تلك الأيام. أتى يوم الثلاثاء الثاني من نيسان/ أبريل 1985، وهو اليوم الذي أعلن فيه إضراب ثلاث فئات عمالية هي الأكثر في تاريخ السودان. وهي نقابة المهن الصحية ونقابة عمال السكة الحديد والقضاء. وهو ما جعل هذا اليوم الثاني من نيسان/ أبريل يكتب نهاية حكم استمر ستة عشر عاماً والدليل على ذلك سارعت عدد من نقابات العمال والموظفين بإعلان الإضراب زائداً ما كان من أمر تلك الأحداث التي وصلت مرحلة أن حبس العالم أنفاسه في انتظار ما سيحدث لاحقاً وذلك عبر إذاعات كل من لندن ومونتي كارلو وراديو صوت أمريكا.
في يوم الأربعاء الثالث من نيسان/ أبريل وعند الساعة العاشرة صباحاً تدفقت جموع المواطنين الذين كانوا في شوق لذهاب النظام نحو شوارع المدن وهو ما كان أمراً ذا ربكة لجهاز أمن الدولة الذي لم يجد بُداً من الانتظار عما ستسفر عنه الأحداث. فقوة جهاز أمن الدولة لم تكن بالقدر الكافي الذي يمكنها من التصدي لمظاهرات مثل هذه التي تفوق قدراته. كانت مسيرة هادرة عبرت بجلاء عن كل المكنون في الصدور تجاه حكومة لم تقم بواجبها نحو مواطنيها على الوجه الأكمل. فكانت جموع لمواطنين تبدأ من محطة السكة الحديد وهي تتجه نحو شارع القصر ومن جامعة الخرطوم على طول شارع الجامعة حتى مقر السلطة القضائية.
هنا برزت شخصيات داخل حراك أيام تظاهرات نيسان/ أبريل 1985، كان لها الدور الأكبر في نجاح المسعى الحتمي لها وهو نجاح الثورة نحو مبتغاها. الأول هو العميد عز الدين هريدي والذي تحرك سريعاً نحو وحدة جبل أولياء العسكرية التي كان قائدا لها تلك المنطقة العسكرية التي كان من الممكن أن تتحرك لتجهض أي نجاح للانتفاضة، فكان تصرفه السريع بعد اجتماع قادة الوحدات العسكرية نحو منطقة جبل أولياء العسكرية وهو السبب الذي جعله خارج حسابات الشخصيات التي تم اختيارها لدخول المجلس العسكري الانتقالي. والشخصية الثانية هي شخصية الفريق شرطة إبراهيم أحمد عبد الكريم الذي كان يعمل حينها مدير لشرطة ولاية الخرطوم (المعتمدية) والذي أصدر توجيهاته بعدم التعرض للمواطنين المتظاهرين وذلك بعد حادثتي إطلاق نار من عناصر مجهولة على المتظاهرين كان من نتيجتها استشهاد اثنين من المواطنين بأحياء الديوم والصحافة.
صراع الأجنحة الأمنية بين التدخل والحياد
نعم التزمت القوات المسلحة وطيلة أيام التظاهرات الحياد باعتبارها مؤسسة قومية التوجه. وهو ما جعلها تنأى عن المشاركة في عمليات قمع التظاهرات حتى أتى يوم الجمعة الموافق 5 نيسان/ أبريل 1985، فكان اجتماع قادة القوات المسلحة بالقيادة العامة مع الفريق عبد الرحمن حسن سوار الذهب القائد العام للجيش ووزير الدفاع لبحث كيفية تعامل قوات الشعب المسلحة مع الأوضاع السياسية المقبلة وهي أوضاع كانت معلومة حتى لصغار التلاميذ بالمدارس. كان اجتماع قادة الأسلحة بالانحياز للشعب في اجتماع استمر سبع ساعات كاملة للحسم فكانت الساعة الثالثة والنصف صباح يوم السبت السادس من نيسان/ أبريل هي لحظة إعلان انحياز الجيش للشعب.
في الوقت الذي كانت فيه قيادة الجيش تسعى للخروج برأي موجد حول الانتفاضة الشعبية، كان اللواء عمر محمد الطيب مدير جهاز أمن الدولة أكثر رجال الرئيس نميري تشبثاً ببقاء النظام. فكان يعلم حقيقة اجتماع قادة القوات المسلحة بالقائد العام.. وهو ما جعله في تشاور مع مساعديه في أمر خطوات من شأنها تطيل عمر النظام حتى عودة الرئيس من أمريكا. ظلت جموع الشعب تنتظر المأمول حدوثه وهو يوم السبت الموافق 6 نيسان/ أبريل 1982. وعند الساعة التاسعة وسبع دقائق أعلن الفريق عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب انحياز القوات المسلحة للشعب ونهاية عهد الرئيس نميري ومنظومة مايو. لتسمى الأحداث وتداعياتها الأخيرة بانتفاضة أبريل.
هنا يبقى الفيصل بين الانقلاب العسكري والثورة أمرين هامين، الأول من سبق بالنزول للشارع الشعب أم الجيش؟، والثانية ماذا سيفعل الجيش عقب استلامه السلطة؟. الحقيقة هنا أنه جاء التزم المجلس العسكري الذي نفّذ استلام السلطة برئاسة عبدالرحمن سوار الذهب بفترة زمنية استمرت سنة واحدة، وسلّمت السلطة لحكومة منتخبة. لم تسفر الانتخابات التي جرت في 1986 عن حزب أحرز أغلبية تمكّنه من تشكيل الحكومة بمفرده.
الفريق عبد الرحمن سوار الذهب يعلم العالم
إذا كان استيلاء الجيش على الحكم بقيادة جعفر نميري قد جاء مفاجئًا، على الأقل للبعض، فإن مجيء الفريق عبد الرحمن سوار الذهب إلى سدة الحكم في 6 ابريل/ نيسان 1985، لم يكن مفاجئًا بل كان الحدث الذي توقعه كثيرون على الأقل منذ فترة قبل وقوعه. وتمامًا كما بدأت احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأول 1964، عفوية بسيطة سرعان ما تطورت إلى عصيان مدني شامل أجبر العسكر على التنازل عن السلطة، بدأت احتجاجات ابريل/ نيسان 1986، بمظاهرات بسيطة عفوية ضد التسعيرة الجديدة المرتفعة التي وضعتها الحكومة لبعض السلع، سرعان ما تطورت إلى إضرابات واحتجاجات متواصلة رغم تراجع الحكومة عن التسعيرة الجديدة، حتى اضطرت القيادة العامة للجيش التدخل لتفادي تردي الأوضاع الأمنية وتفشى الفوضى أمام عجز الحكومة التي كان يرأسها نائب الرئيس عمر محمد الطيب
في صباح يوم السبت 6 أبريل/ نيسان 1985، أذاع الفريق أول عبد الرحمن سوار الذهب وزير الدفاع والقائد العام لقوات الشعب المسلحة بيانًا أعلن فيه الاستيلاء على السلطة وإنهاء حكم الرئيس نميري. وجاء في تبرير تلك الخطوة بأن «قوات الشعب المسلحة وبعد أن ظلت تراقب الموقف الأمني المتردي، في أنحاء الوطن وما وصل إليه من أزمة سياسية بالغة التعقيد، قررت بالإجماع أن تقف إلى جانب الشعب واختياره، وأن تستجيب إلى رغبته بالاستيلاء على السلطة ونقلها إليه عبر فترة انتقالية محددة».
حسبما جاء في بيان الفريق عبد الرحمن سوار الذهب. وصدرت بعد ذلك عدة قرارات نصت على تعطيل العمل بالدستور وإعلان حالة الطوارئ في البلاد، وإعفاء رئيس الجمهورية ونوابه ومساعديه ومستشاريه ووزرائه وحل الاتحاد الاشتراكي، إلا أن أهم ما جاء في تلك القرارات والأوامر هي أهداف مرحلة التغيير التي وصفت بأنها “مرحلة انتقالية، لا تهدف إلى استبدال نظام عسكري بآخر”، بل أنها جاءت من أجل احتواء كل الآثار المترتبة في فترة الحكم الماضي في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى إعداد ميثاق عمل سياسي وطني يقوم على مرتكزات أساسية (الاستقلال التام، الحفاظ على الوحدة الوطنية)، أي باختصار التمهيد لحكومة تعمل على حل مشاكل السودان السياسية وفي مقدمتها مشكلة الحكم والحرب في الجنوب. وفي 9 أبريل/ نيسان 1985، أعلن عن تشكيل مجلس عسكري انتقالي لممارسة أعمال السلطتين السلطة التشريعية والتنفيذية برئاسة الفريق أول عبد الرحمن سوار الذهب والفريق أول تاج الدين عبد الله فضل نائبًا له، وعضوية 13 من كبار ضباط الجيش من بينهم اثنان من أبناء جنوب السودان. وشكلت حكومة مدنية برئاسة الجزولي دفع الله.
نعم أنجز الفريق عبد الرحمن سوار الذهب وعده بعد انقضاء مهلة العام في سابقة فريدة من نوعها في أفريقيا والعالم العربي. ولأول مرة يتخلي قائد انقلاب عسكري عن السلطة طواعية وبعد وعد قطعه على مواطنيه دون أن أي مقابل سياسي أو مادي خاص. وجرت الانتخابات في موعدها وفاز فيها حزب الأمة الجديد بزعامة الصادق المهدي، متقدمًا على غيره من الأحزاب وتولى رئاسة مجلس الوزراء، بينما جاء الحزب الإتحادي الديمقراطي في المرتبة الثانية الذي كان يتزعمه أحمد الميرغني وتولى رئاسة مجلس رأس الدولة، فيما خرج منها حزب الجبهة الإسلامية القومية وزعيمه حسن الترابي ليتصدر صفوف المعارضة في البرلمان.
سلم سوار الذهب السلطة إلى الحكومة المدنية الجديدة. اتسمت فترة الديمقراطية الثالثة بعدم الاستقرار، إذ تم تشكيل خمس حكومات ائتلافية في ظرف أربع سنوات. قام الحزب الإتحادي الديمقراطي الذي خرج من الحكومة الائتلافية بتوقيع اتفاق سلام مع الحركة الشعبية لتحرير السودان التي حققت انتصارات عسكرية نتيجة للمساعدات العسكرية والدعم السياسي الذي تلقته من إثيوبيا وبعض الدول الأفريقية المجاورة للسودان، والمنظمات الكنسية. ونص الاتفاق على وقف لإطلاق النار إلى جانب رفع حالة الطواريء بغية تمهيد الطريق أمام مؤتمر دستوري عام، على أن يسبقه تجميد العمل بالعقوبات الحدية (الشريعة الإسلامية أو قوانين سبتمبر كما كان يطلق عليها) أو استبدالها بقوانين جديدة مماثلة.