“خطة كولومبيا” … جانب من الاستراتيجية الأمنية للولايات المتحدة الأمريكية في جوارها القاري

لا تزال العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجاراتها في قارة أمريكا الجنوبية والكاريبي تشهد حالات من الشد والجذب بين الحين والآخر، خصوصاً إذا ما أخذنافي الاعتبار صيغة التابع والمتبوع التي دأبت الولايات المتحدة على محاولة فرضها على تلك الدول

بحيث تجعل منها حديقة خلفية لها وامتداداً جيوسياسياً لهيمنتها غير أن سياسات الولايات المتحدة تجاه جيرانها الاقليميين كثيراً ما يتم التعامل معها من قبل تلك الدول بمستويات متفاوتة وفق مقتضيات المصالح والظروف ، فبدءأً من المواجهة الخشنة والتوتر مع بعض الدول ، وصولاً إلى التحالف السياسي والعسكري مع دول أخرى !

كولومبيا هي إحدى دول أمريكا الجنوبية التي ارتبطت بعلاقـات سياسية واقتصادية وطيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية ، كما أنها وبسبب ما مرت به من تحديات كبيرة هددت كيانها كدولة؛ فقد لجأت إلى طلب المساعدة من واشنطن، حيث واجهت كولومبيا أوضاعاً أمنية خطيرة تمثلت في الانتشار الواسع لإنتاج وتجارة المخدرات ، والتهريب والجريمة المنظمة ، وكذلك عانت من التمرد المسلح الذي شنته الحركات الثورية اليسارية على الجيش الكولومبي لعقود من الزمن ، وبالفعل تم الاستجابة لذلك الطلب الذي تقدمت به كولومبيا للولايات المتحدة ، وقدمت لها المساعدةفي إطارما عُرف بخطة كولومبيا .

خطة كولومبيا :

هوالاسم الذي أُطلق على برنامج المساعدة العسكرية والمبادرات الدبلوماسية التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية لدولة كولومبيا في إطار مكافحتها لكارتيلات المخدرات ، وحربها على جماعات التمرد المسلح اليسارية المعروفة باسم حركة ( فارك )، وقد تم وضع الخطة وتفاصيلها باتفاق بين كل من الرئيس الكولومبي السابق ( أندريسباسترانا ) ورئيس الولايات المتحدة الأسبق ( بيل كلينتون ) عام1999، وأُقرّت كقانون بعد أن تم المصادقة عليها من الكونجرس الأمريكي عام 2000.

أهداف الخطة :

1- محاربة وتقليص انتاج كولومبيا من المخدرات وصادراتها .

2- اضعاف حركات التمرد المسلح و دفعها إما للاستسلام أوالتفاوض.

تطور الخطة والانتقادات الموجهة إليها :

كان الغرض الأساسي من وجود الخطة هو تطبيق استراتيجية مكافحة زراعة الكوكايين واتلاف محاصيله ، وايجاد بدائل مفيدة للمزارعين في الأرياف،ويُنسب للخطة الفضل في هبوط إنتاج الكوكايين في كولومبيا بنسبة 72% بين عامي 2001 و 2012، ومن جهة أخرى انصبت جهود الجانب الأمريكي على تقديم الدعم العسكري والاستخباري للجيش الكولومبي في حربه على المتمردين، والذي تطور بمرور الوقت إلى تواجد عسكري أمريكي على الأراضي الكولومبية، الأمر الذي جعل من خطة كولومبيا عرضة للكثير من الانتقادات والتشكيك خصوصاً من بعض دول أمريكا الجنوبية والكاريبي ، والتي يأتي في مقدمتها دول فنزويلا والبرازيل وكوبا ، حيث وصف الرئيس الفنزويلي الراحل (هوجو شافيز) التواجد الأمريكي في كولومبيا بأنه نذر حرب من الممكن أن تندلع في أية لحظة!ّ

لكن المسؤولين الكولومبيين حرصوا دائماً على طمأنة جيرانهم اللاتينيين بأن التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية ليس موجه ضدهم ، وإنماهو عمل يصب في مصلحة كولومبيا وأمريكا الجنوبية ككل !

هذا ويعتبر صانعو السياسات في البلدين – كولومبيا والولايات المتحدة – الخطة دليلًا على نجاح السياسة الخارجية الأمريكية في جوارها الإقليمي ، وينسبون لها الفضل في استعادة الاستقرار والأمن لكولومبيا بالنظر إلى وضعها الهش والمتهلهل الذي كانت عليه مع بداية القرن الحادي والعشرين .

ومن الجدير بالذكر أن خطة كولومبيا – وبحسب مسؤولين من الجانبين – قد أُدخل عليها الكثير من التعديلات التي تمت اضافتها نظراً لتطور الموقف الميداني على الأرض حسب وجهة نظر الجانب الأمريكي ، بحيث زاد حجم الدعم العسكري بشكل كبير لكي يساهم مباشرة  في هزيمة التمرد المسلح ! في الوقت الذي كانت الحكومة الكولومبية تطمح إلى دعمها اقتصادياً بالدرجة الأولى  وتتكفل هي بفرض الأمن والنظام في البلاد ومحاربة المتمردين بالكيفية التي تراها ووفقاً للظروف الخاصة بها ، وقد أقرت هذه الأفكار مبدأياً فيما عُرف بخطة كولومبيا الأصلية ، والتي اقترح الرئيس الكولومبي بأن يكون العمل بها مشابهاً لـ ( مشروع مارشال ) الذي قدمت بموجبه الولايات المتحدة الأمريكية دعماً شاملاً وضخماً لدول أوروبا الغربية في أعقاب الحرب العالمية الثانية لإيقاف التمدد الشيوعي المتمثل في الاتحاد السوفياتي السابق .

كان الرئيس (باسترانا) يريد برنامج دعم متنوع لإنقاذ بلاده ، سواءاً عن طريق الولايات المتحدة أوحتى غيرها من المنظمات الدولية المتخصصة في القطاعات المختلفة ، كالزراعة والاقتصاد والتعليم والرعاية الاجتماعية لإعادة تأهيل مؤسسات الدولة حيث يُعرّف الرئيس الكولومبي برنامجه على أنه” مجموعة مشاريع تنموية بديلة توجه فيها الجهود الإيجابية للمنظمات الدولية والحكومات الاجنبية باتجاه المجتمع الكولومبي “.

خلال المداولات التي جرت قبل إقرار الخطة ، ناقش الجانبان إمكانية الحصول على التمويل الأمريكي من أجل تنفيذ مشاريع مكافحة المخدرات وخلق تنمية اقتصادية مستدامة، وحماية حقوق الإنسانوتقديم الدعم الإنساني، وكذلك التأكيد على ضرورة انضمام الداعمين الآخرين لتعزيز النمو الاقتصادي لكولومبيا.

غير أن هناك مراقبون ومنتقدون لطالما أشاروا إلى الفروقات الظاهرة بين المسودات الأولية والنسخ التالية للخطة !

فمن الناحية الأمنية كان الهدف الأساسي في البداية هو تحقيق السلام وإنهاء حالة العنف ضمن سياق محادثات السلام الجارية بين الحكومة الكولومبية ومسلّحي ( فارك) ،وذلك بالعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ، وإعطاء الأمل في فرصة يحظى فيها الناس بحياة أفضل تبعدهم عن خيارات العنف ، تبنيّاً للرأي القائل بأن جذور العنف تضرب عميقاً في التهميش الاقتصادي وعدم المساواة والفقر، لكن الأمور أخذت منحى آخر بعد شن حملات عسكرية كبرى على المسلحين المتمردين  بدفع من الولايات المتحدة، مما ضاعف من عملية توسيع التواجد العسكري للجيش الأمريكي في كولومبيا .

وللتأكيد على حقيقة التغيير الذي شاب الخطة  يتحدث ( روبرت وايت ) وكانسفيراً سابقاً للولايات المتحدة في العديد من دول أمريكا الجنوبيةقائلاً : ” إذا قرأت خطة كولومبيا الأصلية- وليس تلك المكتوبة في واشنطن- فلن ترى ذكر للحملات العسكرية ضد ثوّار القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك) .على العكس تماماً، فالرئيس (باسترانا) يقول بأن ( فارك ) هي جزء من تاريخ كولومبيا وهي ظاهرة تاريخية يجب التعامل مع ثائريها على أنهم مواطنون كولومبيون …  يأتي الكولومبيون ويطلبون منكم الخبز، ولكنكم كأمريكان تعطونهم الأحجار” !

وحسب بعض الاحصائيات الأولية التي أجريت في نهاية عام 2000 لتقييم العملية ؛ فإن حزم التمويل التي قدّمتها الولايات المتحدة الأمريكية لكولومبيا ذهب منها أكثر من 70% إلى الجيش الكولومبي وشرطة مكافحة المخدرات والعمليات العسكرية ، إلا أن هناك منظمات دولية قدمت أشكالاً مختلفة من الدعم الإنساني والاقتصادي ، وساهمت دول مثل كندا واليابان وبعض الدول الأوروبية بجهود وإمكانيات لوجستية كبيرة بعيداً عن الدعم العسكري.

كيف تم تسخيرالظروف الدولية من قبل الجانبين لخدمة الخطة ؟

حينما تم بدء العملبالخطة عام 2000 كانت الولايات المتحدة تنظر إلى كولومبيا باعتبارها بلد يشتمل على تهديدين متشابكين ينذران بتحولها إلى دولة مارقة وفاشلة في حال غياب الاستجابة العسكرية الأمريكية المناسبة ، ويتمثل هذان التهديدان في المخدرات والتمرد المسلح .

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر والتحول الذي أحدثته في تعاطي الولايات المتحدة الأمريكية مع التحديات الأمنية ؛  تحول العالم في نظر صنّاع السياسة الخارجية الامريكية إلى أخيار هم أصدقاء أمريكا وأشرار هم أعداؤها !

وقد انتهزت الحكومة الكولومبية هذه الفرصة النادرة على صعيد العلاقات الدولية ، وأنهت بعض محاولات التفاوض المتعثرة مع الحركات المتمردة ، وضمتها إلى قوائم الإرهاب المصنفة أمريكياً .

بين عامي 2001 و 2005 تلقت الحكومة الكولومبية ما يُقدّر بأربعة مليارات دولارأمريكي، استطاعت من خلالها القضاء على آلاف الهكتارات من مزروعات الحشيش والكوكا، كما أنها تمكنت من ضرب التجمعات العصابية الضخمة في الغابات والأدغال، والتي أصبحت أضعف أمام القدرات التسليحية والتكتيكية التي أكتسبها الجيش الكولومبي ، أما القوات المسلحة الثورية فقد تعرضت هي أيضاً لضربات موجعة ، حيث انسحبت إلى مناطق صغيرة في الجبال، بعد أن كانت منتشرة على رقعة واسعة من الأرض تصل إلى ما يقارب 20% من مساحة الأراضي الكولومبية .

مع استمرار الضغط العسكري والسياسي الهائل ؛ اضطر تحركة ( فارك ) للتفاوض مع الحكومة ، خصوصا بعد مقتل بعض قيادييها البارزين من أمثال ( راؤول رياس ) وكذلك إدراجها ضمن المنظمات الإرهابية في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي و كندا وبعضبرلمانات أمريكا اللاتينية .

في عام 2016 قام كل من الرئيس الكولومبى (خوان سانتوس ) بتوقيع اتفاق سلام مع ( رودريغولوندونيو ) زعيم منظمة ( فارك ) ، وتحت رعاية الرئيس الكوبى (راؤول كاسترو ) ،حيث تضمن ذلك الاتفاق إعتراف منظمة  ( فارك ) بالحكومة الكولومبية المنتخبة ، مقابل سماح الحكومة للحركة بتشكيل حزب سياسي، ودفع تعويضات للمقاتلين السابقين بعد تسليم أسلحتهم للحكومة ، واحتفاظ حزب الحركة بعدد من مقاعد البرلمان بدون انتخابات لدورتين برلمانيتين متتاليتين .

أما الولايات المتحدة فقد تحصلت على ميزة هامة وإستراتيجية ، ألا وهي القواعد العسكرية التي أنشأتها على الأراضي الكولومبية ، حيث وصل عدد قواعدها إلى سبعة قواعد عسكرية عام 2009، وأضافت الولايات المتحدة وظيفة جديدة لقواعدهاالعسكرية في كولومبيا غير وظيفة التجسس والدعم العسكري ، ألا وهي وظيفة محاربة الهجرة غير القانونية إلى أراضيها، ورصد حركة تهريب المخدرات، ومهام أخرى سرية كمراقبة تجارة النفط والمواد الخام.

أهم نتائج خطة كولومبيا :

  • حدّت إلى حد كبير من نشاط عصابات المخدرات وجعلتها أقل قوة .
  • زيادة قدرات الجيش الكولومبي من ناحية التسليح والكفاءة .
  • أنهت عقوداً من التمرد المسلح الذي قادته الحركات الثورية اليسارية ضد الحكومة الكولومبية.
  • أعطت الولايات المتحدة موطئ قدم في أمريكا الجنوبية وجعلت منه رأس حربة في خاصرتها .
  • رهن القرار السياسي الكولومبي للولايات المتحدة الامريكية بحكم تشابك مصلحة الضعيف بالقوي.
Please subscribe to our page on Google News

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15361

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *