محمد عبدالرحمن عريف
في أحد فصول كتاب «المعارك الحربية على الجبهة المصرية» الذى جاء تحت عنوان «كيف جرى التخطيط لحرب أكتوبر 1973؟» مع واحدة من أكثر القضايا إثارة للجدل في التاريخ العسكري المصري المرتبط بحرب أكتوبر، وهي المتعلقة بمن وضع خطة هذه الحرب؟، ذلك أن الفريق أول محمد فوزى، وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة (11 يونيو 1967- 15 مايو 1971) يقول إنه وضع خطة هجومية شاملة لتحرير سيناء، وتنبثق منها خطة مرحلية تستهدف الوصول للمضايق الجبلية الاستراتيجية في عمق سيناء (45 ــ 50 كيلو شرق القناة) وكانت قواته جاهزة لتنفيذها. في حين يقول الفريق سعد الشاذلى، رئيس أركان حرب القوات المسلحة (16 مايو 1971ــ 12 ديسمبر 1973) إنه عندما تسلم رئاسة الأركان لم يكن هناك خطة هجومية موجودة لدى القوات المسلحة لتحرير الأرض، وأنه كان أول من وضع هذه الخطة التي سماها «المآذن العالية» في إطار مفهوم الحرب المحدودة، لا الحرب الشاملة، التي تستهدف تحرير كامل تراب سيناء.
رواية الفريق فوزي
استعرض حماد رواية فوزي، بشأن خطة تحرير سيناء بإسهاب، وقال لقد ذكر فوزي أنه بناء على توجيهات عبدالناصر الصادرة إليه في يوليو 1967 في أعقاب الهزيمة، أصبحت إستراتيجية العمل العسكري للقوات المسلحة المصرية وهي تحرير الأرض المحتلة في سيناء بالقوة، والوصول بالقوات المصرية إلى خط الحدود المصرية الفلسطينية وتأمينها، ثم استغلال النجاح سياسيًا لاسترداد حقوق الشعب الفلسطينى، وكانت الفترة الزمنية التي حددها عبدالناصر لتحقيق ذلك الغرض هي ثلاث سنوات.
نقد رواية فوزي
قدم حماد تفنيدًا مفصلًا لرواية فوزي بشأن خطة العمليات التي وضعها ورجاله لتحرير سيناء، وفي هذا يقول «رغم ما ذكره الفريق فوزي في مذكراته بشأن الخطة الهجومية «200 الشاملة» ومرحلتها الأولى «جرانيت» فإن هناك عدة حقائق مهمة تجعلنا نشك في صحة ما سجله سواء من ناحية الخطة الهجومية التي وضعها أو من ناحية إتمام القوات المسلحة استعداداتها لشن الهجوم في التاريخ الذي حدده. وتتلخص هذه الحقائق فيما يلى:
أولًا: ليس من المعقول أن يعامل عبدالناصر الذي عرف عنه الالتزام وتقدير المسئولية القرار المصيري الذي كان يتوقف عليه مصير بلاده بل مصير عبدالناصر نفسه ونظام حكمه بهذه الخفة والاستهانة اللتين لا مثيل لهما.
ثانيًا: في الوقت الذي سجل فيه فوزي في مذكراته أن قياس قدرات قواتنا مع قوات العدو في أواخر عام 1970 وأوائل عام 1971 كان لصالح قواتنا عددًا وتسليحًا وكفاءة في كل أفرع القوات المسلحة، وأن توقيت معركة التحرير (نهاية عام1970) وتنفيذ الخطة الموضوعة التي تم التدريب عليها عمليًا وهي الخطة «جرانيت» واستكمالها بـ«الخطة 200 الشاملة» كان توقيتًا مخططًا وسليمًا، وأن ميزان القوى كان إلى جانب مصر -نجد أن الفريق سعد الشاذلي يسجل في مذكراته أنه عندما بدأ عمله بعد تعيينه رئيسًا للأركان في 16 مايو 1971 بدراسة إمكانات القوات المسلحة الفعلية ومقارنتها بالمعلومات المتيسرة عن العدو، أتضح له أنه ليس من الممكن القيام بهجوم واسع النطاق يهدف إلى تدمير قوات العدو وإرغامه على الانسحاب من سيناء وقطاع غزة، وأن امكانات القوات المسلحة الفعلية قد تمكنها -إذا احسن تجهيزها وتنظيمها- من القيام بعملية هجومية محدودة تهدف إلى عبور قناة السويس وتدمير خط بارليف، ثم التحول بعد ذلك لإلى الدفاع.
ثالثًا: إن مجريات الحوادث عقب وفاة عبدالناصر وتسلم السادات مسئولية الحكم لا تدل مطلقًا على أن القوات المسلحة المصرية كانت على تمام الاستعداد للمعركة، وأن الفريق فوزي كان جادًا للبدء في حرب التحرير بمجرد انتهاء فترة وقف اطلاق النار المؤقت في 7 نوفمبر1970، فإن وفاة عبدالناصر في 28سبتمبر لا يمكن أن تكون مبررًا معقولًا لمنع القائد العام للقوات المسلحة من شرف البدء في حرب التحرير التي أتم تجهيزاته وأعد خططه لها.
رابعًا: سجل الشاذلي في مذكراته ما يهدم أقوال فوزي من أساسها، فقال «عندما عينت رئيسًا لأركان حرب القوات المسلحة في 16 مايو 1971 لم تكن هناك خطة هجومية. لقد كانت لدينا خطة دفاعية تسمى «الخطة 300»، وكانت هناك أيضًا خطة تعرضية أخرى تشمل القيام ببعض الغارات على مواقع العدو في سيناء، ولكنها لم تكن في المستوى الذي يسمح لنا بأن نطلق عليها خطة هجومية، وكانت تسمى (جرانيت)».
أهداف «المآذن العالية»
يواصل حماد سرده لمراحل التخطيط لحرب أكتوبر فيقول أكد الشاذلي في مذكراته، أن أول خطة هجومية وضعت في القوات المسلحة المصرية كانت خطة «المآذن العالية»، وأن كل ما وضع قبل هذه الخطة لم يكن سوى مشروعات تعليمية تفترض وجود قوات وأسلحة ومعدات لا نملكها، وتذكر فقط في المشروعات لأغراض التدريب. وبالطبع يوجد فرق كبير بين مثل هذه المشروعات التعليمية وخطط العمليات التي توضع على أساس القوات والأسلحة الموجودة بالفعل. ووصف الشاذلي كيف أطلق على الخطة الهجومية الموضوعة اسم «المآذن العالية» فقال: إنه بعد الانتهاء من تجهيز الوثائق الخاصة بهذه الخطة كان المفترض أن يطلق عليها اسمًا كوديًا، وعندما حضر إليه رئيس العمليات وقتئذ اللواء ممدوح تهامى يسأله عن الاسم المقترح سمعنا صوت المؤذن يؤذن لصلاة العصر. وفي وسط هذا الجو الروحاني توصلًا إلى إطلاق اسم «المآذن العالية» على الخطة، وكان الهدف النهائي لها مقصورًا على عبور قناة السويس وتحطيم خط بارليف وإنشاء منطقة رءوس كباري على عمق 10 ــ 12 كم شرق القناة.
دافع الشاذلي عن اقتصار خطته على ذلك الهدف العسكري المتواضع بقوله «لو كان لدى مصر الامكانات العسكرية التي تضمن لنا الاندفاع إلى المضايق واحتلالها فور عبور قناة السويس ولم نقم بتنفيذ ذلك، فإننا نكون قد ارتكبنا خطأ عسكريًا جسيمًا، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل كانت لدينا الإمكانات؟ ويجيب الشاذلي بقوله: إننا لم نكن نملك وقتئذ الإمكانات التي تتيح لنا الفرصة للاندفاع إلى المضايق لضعف قواتنا الجوية وعدم قدرتها على حماية قواتنا البرية في أثناء تقدمها شرقًا في اتجاه منطقة المضايق، وعدم توافر وحدات دفاع جوي صاروخي (سام 6) تستطيع مرافقة القوات البرية في أثناء تقدمها نحو الشرق لصد الهجمات الجوية المعادية التي تهاجم قواتنا على الارتفاعات المتوسطة والعالية، فضلًا عن عدم توافر العربات ذات الجنزير لدى القوات البرية بأعداد كافية تسمح لقواتنا بعدم التقيد بالطرق المرصوفة في أثناء تحركها شرقًا.
الخطة «بدر»
يؤكد حماد في كتابه أنه عقب تعيين الفريق أحمد إسماعيل وزيرًا للحربية وقائدًا عامًا للقوات المسلحة في 26 أكتوبر 1972، عرض عليه الشاذلي الخطة الهجومية لمناقشتها معه، وكان إسماعيل قد سبق له تقديم تقرير عن الموقف العسكري تضمن وجهة نظره عندما كان مديرًا للمخابرات العامة، وذلك في النصف الأول من عام 1972. وعرض فيه اللواء عبدالغنى الجمسي رئيس هيئة العمليات تقريرًا شاملًا عن موقف القوات المسلحة. وعندما عرض الشاذلي على إسماعيل الخطة «جرانيت 2» التي كانت تستهدف الوصول إلى المضايق، و«المآذن العالية» التي كانت تستهدف مجرد إنشاء منطقة روءس الكباري على عمق 10ــ 12 كم شرق القناة، اقتنع إسماعيل بعدم قدرة القوات المسلحة على تنفيذ «جرانيت 2»، واستقر رأيه على التركيز على خطة «المآذن العالية»، وتحدد ربيع عام 1973 كميعاد محتمل للهجوم.
تبعًا لذلك أصبح يطلق على خطة العبور وإنشاء رءوس الكبارى اسم (المرحلة الأولى)، بينما أطلق على خطة التطوير شرقًا للوصول إلى المضايق اسم (المرحلة الثانية)، ولإيجاد فاصل بين المرحلتين كان يقال عند الانتقال من ذكر الأولى للثانية عبارة «وبعد وقفة تعبوية» يتم القيام بتطوير الهجوم شرقًا.