ونتناول في هذه الترجمة مقالين نشرهما أنتوني بلينكين، وزير الخارجية في إدارة بايدن، أحدهما عن سوريا (2017) والآخر عن العراق (2012).

من هو أنتوني بلينكين؟

يشغل أنتوني بلينكين، أقرب مستشاري السياسة الخارجية السابقين للرئيس الأمريكي جو بايدن وأحد المدافعين عن التحالفات العالمية، منصب وزير الخارجية الأمريكي حالياً. وقد عمل بلينكين قبل ذلك نائباً لوزير الخارجية الأسبق جون كيري وكذلك نائباً لوكالة الأمن القومي أثناء إدارة أوباما. وكان السيد بلينكين قد عمل لمدة ست سنوات في مبنى الكابيتول هيل (2002 – 2008) كمدير للموظفين الديمقراطيين في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، حيث مكّنته تلك السنوات من إقامة علاقات قوية مع مستشاري بايدن المقربين الآخرين الذين كانوا يعملون آنذاك في مجلس الشيوخ.

 وكان السيد بلينكين عضواً في مجلس الأمن القومي للرئيس كلينتون في البيت الأبيض من 1994 إلى 2001. ومن 1999 إلى 2001، كان المساعد الخاص للرئيس والمدير الأول للشؤون الأوروبية. ومن عام 1994 حتى عام 1998، كان بلينكين مساعداً خاصاً للرئيس كلينتون والمدير الأول لكتابة الخطابات ثم التخطيط الاستراتيجي. وكان بلينكين قد بدأ خدمته الحكومية في وزارة الخارجية حيث عمل من 1993 إلى 1994 كمساعد خاص لمساعد وزير الخارجية للشؤون الأوروبية والكندية. وبعد تركه لإدارة كلينتون، عمل بلينكين كباحث أول في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بين عامي 2001 و 2002.

وعلاقات أنتوني بلينكين مع أوروبا عميقة للغاية، فهو من أشد المؤمنين بالتحالف عبر الأطلسي. وكان قد وصف أوروبا بأنها “شريك حيوي” ورفض خطط إدارة ترامب لسحب القوات الأمريكية من ألمانيا، وقال عن ترامب حينها إنه “أحمق، وحاقد، وهو الخاسر الاستراتيجي. إنه يُضعف الناتو، ويساعد فلاديمير بوتين، ويضر بألمانيا، أهم حليف لنا في أوروبا “.

وفي كل القضايا الرئيسية المتعلقة بالسياسة الخارجية، بما في ذلك الإرهاب، والمناخ، والأوبئة، والتجارة، والصين، والاتفاق النووي الإيراني، كان لدى بلينكين شعار طالما ردّده، وهو: “على الولايات المتحدة أن تعمل مع حلفائها وفي إطار المعاهدات والمنظمات الدولية”. ويرى بلينكين أيضاً أن القيادة الأمريكية في المؤسسات متعددة الأطراف ضرورية. حيث قال بلينكين في أوائل 2020: “لا تزال هناك أهمية كبيرة، وفي بعض الجوانب أكثر من ذي قبل، لانخراط أمريكا، ولقيادة أمريكا” في القضايا والمؤسسات الدولية.

وخلال الأدوار التي لعبها في مجلس الأمن القومي في عهد أوباما وكنائب لوزير الخارجية، كان بلينكين يدعو إلى مزيد من التدخل الأمريكي القوي في الصراع السوري، واختلف بشدة مع رئيسه بايدن حيث كان يدعم التدخل المسلح في ليبيا. وكان بلينكين أيضاً مساعداً مقرباً لبايدن في موقفه آنذاك من دعم الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003. ولا يزال بلينكين يعتقد أن الدبلوماسية يجب أن “تُستكمل بالردع” وأن “القوة يمكن أن تكون عنصراً مساعداً ضرورياً للدبلوماسية الفعّالة. ففي سوريا، سعينا عن حق إلى تجنب عراق آخر من خلال عدم القيام بالكثير، لكننا ارتكبنا الخطأ المعاكس المتمثل في القيام بالقليل للغاية هناك”.. وفي هذا السياق يأتي مقال بلينكين عن سوريا (2017) ومقاله الآخر (2012) عن التدخل الأمريكي في العراق.

أولاً: سوريا

في 7 أبريل 2017، كتب أنتوني بلينكين مقالاً نشرته له صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تحت عنوان “بعد الصواريخ، نحتاج إلى دبلوماسية ذكية بشأن سوريا”، وذلك في أعقاب توجيه الولايات المتحدة ضربة صاروخية على قاعدة الشعيرات الجوية السورية جنوبي حمص فجر يوم 7 إبريل 2017، حيث قال مسؤولون أمريكيون حينها إن واشنطن أطلقت 59 صاروخا من طراز توما هوك موجهة بدقة عالية على أهداف شملت مهبطاً للطائرات وطائرات ومحطات  للوقود في القاعدة العسكرية السورية. وكان الهجوم الصاروخي الأمريكي الذي انطلق من مدمرات للبحرية الأمريكية في  شرق البحر المتوسط قد جاء رداً على الهجوم الكيميائي الذي شنه نظام الأسد على المعارضة السورية في بلدة خان شيخون بإدلب في 4 أبريل 2017، والذي أدى إلى مقتل 100 شخص وإصابة 450 آخرين.

وفيما يلي ترجمة نص المقال:

كان الرئيس دونالد ترامب مُحقاً في توجيه ضربة إلى نظام الرئيس السوري بشار الأسد لاستخدامه سلاح دمار شامل، غاز الأعصاب السارين، ضد شعبه. قد لا يرغب السيد ترامب في أن يكون “رئيساً للعالم” ولكن عندما ينتهك طاغية بشكل صارخ قاعدة أساسية للسلوك الدولي – في هذه الحالة، حظر استخدام الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية في النزاعات المسلحة، والذي تم فرضه بعد الحرب العالمية الأولى – فإن العالم يتطلع إلى أمريكا للفعل. وقد قام السيد ترامب بفعل ذلك، ولهذا وجب الثناء على ما قام به.

أما الاختبار الحقيقي للسيد ترامب فهو ما سيأتي بعد ذلك. لقد أظهر ترامب بشكل تام عدم الاهتمام بالعمل على إنهاء الحرب الأهلية في سوريا. والآن، لدى الإدارة الأمريكية نفوذ يجب أن تختبره مع نظام الأسد وروسيا لتقييد نشاط سلاح الجو السوري، ووقف أي استخدام للأسلحة الكيماوية أو البيولوجية، وتنفيذ وقف إطلاق نار فعّال في الحرب الأهلية السورية، وحتى أكثر من ذلك من حيث التحرك نحو انتقال السلطة عن طريق التفاوض – وهي الأهداف التي استعصت على إدارة الرئيس باراك أوباما.

في الوقت نفسه، يجب أن تمنع إدارة ترامب أو تخفف من العواقب المحتملة غير المقصودة لاستخدام القوة، بما في ذلك تعقيد الحملة العسكرية ضد الدولة الإسلامية. كل هذا سيتطلب شيئاً واحداً، لم تُبدِ الإدارة فيه اهتماماً يذكر، وهو: الدبلوماسية الذكية.

تبدأ تلك الدبلوماسية الذكية مع روسيا. وبحسب التقارير الواردة، فإن إدارة ترامب قامت بتنسيق الضربة مع موسكو. قد يستنتج المتشائمون أن هناك تلاعب في الأمر: فالولايات المتحدة تحذر الروس بهدوء، وتوجه للأسد تنبيه، وتطلب منه عدم الرد، والجميع يكتفي بذلك فحسب،. ولكن على الأرجح، أرادت الإدارة الأمريكية التأكد من أن موسكو تعرف بالضبط ما كنا نفعله حتى لا تبالغ موسكو في رد فعلها أو تترك قواتها عُرضة للأذى.

يجب على الإدارة أن توضح لموسكو أنها ستحاسبها على تصرفات بشار الأسد في المستقبل، وتحشد الآخرين لفعل الشيء نفسه، مع شنّ المزيد من الضربات إذا لزم الأمر. وعلى الولايات المتحدة أيضاً أن تشرط التعاون مع روسيا في مكافحة الإرهاب – وهو أمر تريده موسكو – بجهود روسيا لكبح نظام الأسد ودفعه نحو مفاوضات سلام حقيقية مع المعارضة السورية. وسوف تكون الزيارة القادمة لوزير الخارجية ريكس تيلرسون إلى موسكو (بعد أسبوع) محورية في إيصال هذه الرسالة وإدارة أي خطر للتصعيد مع روسيا.

وعلى إدارة ترامب أن تستغل احتمالية أن يكون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غاضباً من الأسد في ذلك الحين. لقد ساعد السيد بوتين الديكتاتور الأسد على أن تكون له اليد العليا في الحرب الأهلية السورية. لكن استخدام بشار الأسد بين الحين والآخر لغاز السارين – الذي منعته الولايات المتحدة وروسيا من استخدامه في عام 2013 من خلال فرض الرئيس أوباما للخطوط الحمراء -المفترى عليها كثيراً- بطريقة دبلوماسية ضد الأسلحة الكيماوية – لم يكن ضرورياً أبداً، بل إنه كان محرجاً بشكل كبير لموسكو.

يعرف الروس أيضاً أنهم يواجهون خطراً متزايداً من ردود الفعل السلبية لدعمهم المستمر لبشار الأسد وتواطؤهم مع وحشيته اللاإنسانية ضد المجتمع السني في سوريا. وقد يشعر جيران سوريا العرب السنة وتركيا الآن بأنهم مضطرون لمضاعفة دعمهم للمعارضة السورية، مما يجعل موقف موسكو أكثر صعوبة. وسوف يزداد غضب المسلمين السنة كذلك في روسيا وآسيا الوسطى والقوقاز من موسكو، ويمكن لبعض الآلاف من المقاتلين الشيشان في سوريا أن يسعوا الآن للانتقام داخل روسيا. والهجوم المروّع الأخير في مترو أنفاق سانت بطرسبرغ – الذي على ما يبدو قام به مواطن روسي من العرق الأوزبكي قد يكون قد دُفع دفعاً إلى التطرف بسبب الحرب في سوريا – قد يكون بمثابة عيّنة للأحداث القادمة إذا لم تبدأ موسكو في إخراج نفسها من المستنقع السوري. وعلى إدارة ترامب أن تساعد السيد بوتين في العثور على مخرج من هذا المنزلق.

ويجب على السيد ترامب أيضاً أن يحذر بشدة من الجوانب السلبية المحتملة لأفعاله، لا سيما فيما يتعلق بالحملة لمحاربة تنظيم الدولة (داعش).

وسيتعين على الإدارة الأمريكية أيضاً إقناع موسكو بعدم تعقيد الأمور على الطيارين الأمريكيين من خلال إعاقتهم بدفاعاتهم الجوية القوية، أو بالانخراط في عمليات طيران خطرة. وسيتعين على ترامب أيضاً تحذير الراعي الرئيسي الآخر للأسد، إيران، من الرد بإطلاق ميليشياتها في العراق ضد القوات الأمريكية. وسيتعين عليه أن يوازن بين الإجراءات الإضافية ضد نظام الأسد والحاجة إلى الحفاظ على تركيز مواردنا على هزيمة تنظيم الدولة.

وسيتعين على الرئيس ترامب السيطرة على سير المهمة. فإذا استمر الأسد في استخدام الأسلحة الكيماوية أو البيولوجية، فسوف يتطلب الأمر انضباطاً غير عادي لتجنب الوقوع في فخ التصعيد الذي قد يتحول من الضربات العقابية المبرَّرة إلى تدخل الولايات المتحدة على نطاق أوسع وأكثر خطورة. وفي النهاية، بدأ التدخل الأمريكي في ليبيا، والذي دافعْتُ عنه، كمحاولة لحماية المدنيين من العنف من قبل حكومة العقيد معمر القذافي. لكنها انتهت بتغيير النظام. إن الاستحواذ على سوريا سيكون أكثر تحدياً لنا أضعافاً مضاعفة من مسؤوليتنا بالفعل في ليبيا ما بعد القذافي.

وهنا في الداخل، يجب على السيد ترامب التحدث مباشرة إلى الشعب الأمريكي حول مهمة البلاد وأهدافها، وإحاطة الكونغرس بإيجاز شامل وطلب دعمه، وتوضيح الأساس القانوني لإجراءات الولايات المتحدة. وفي نفس الوقت، عليه إعادة فتح الباب الذي حاول إغلاقه أمام اللاجئين السوريين. ويجب أن يمتد رد فعل الرئيس الإنساني على معاناة أولئك الذين تعرضوا للغازات من قبل نظام الأسد ليشمل جميع ضحايا الحرب الأهلية في سوريا، بمن فيهم الفارين من عنفها.

ثانياً: العراق

في 1 يوليو 2012، كتب أنتوني بلينكين مقالاً نشرته له مجلة فورين أفيرز الأمريكية تحت عنوان “هل العراق يسير على الطريق الصحيح؟ الديمقراطية والاضطراب في بغداد”. ويأتي مقال بلينكين بعد مرور 9 أعوام على الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل، والذي أدى إلى خسائر بشرية قُدرت بمليون قتيل ومصاب وملايين المشردين، وخسائر مادية للطرفين تقدر بتريليونات الدولارات، بالإضافة إلى انزلاق العراق في عنف طائفي بلغ ذروته خلال 2006-2007. وكان أنتوني حينها من المؤيدين لغزو العراق. وفي هذا السياق يأتي سؤاله في عنوان المقال، بعد مرور 9 سنوات على الغزو الأمريكي، هل العراق يسير على الطريق الصحيح؟

وفيما يلي ترجمة نص المقال:

يُعطي مقال نيد باركر “العراق الذي تركناه وراءنا” (مارس / أبريل 2012) الانطباع بأن العراق مزيج من كوريا الشمالية والصومال، فجزء منه ديكتاتورية لا يرحم وجزءٌ آخر أرض خراب خارج إطار القانون: باختصار، “الدولة الفاشلة التالية في العالم”. وبغض النظر عن التناقض المتأصل في وصف بلد ما بأنه سلطوي وفوضوي في نفس الوقت، فإن العراق اليوم يحمل القليل من التشابه مع الرسوم الكاريكاتورية المصورة في تلك الصفحات والمصاحبة للمقال.

لقد تعامى المقال، أو تجاهل تماماً، التقدم الواضح والقابل للقياس الذي أحرزه العراق في السنوات القليلة القصيرة منذ أن كان على شفا حرب طائفية. فمنذ أن تولى الرئيس الأمريكي باراك أوباما مهم منصبه والتزامه المسؤول بإنهاء الحرب وبدئه بسحب 144,000 جندي بالفعل، انخفض العنف في العراق وظل في أدنى مستوياته التاريخية – وهو اتجاه استمر منذ مغادرة آخر القوات الأمريكية في أواخر العام الماضي. حيث انخفضت الحوادث الأمنية الأسبوعية من متوسط ​​1600 حادث في 2007-2008 إلى أقل من 100 حادث اليوم (يوليو 2012). في غضون ذلك، ومنذ عام 2005، ارتفع إنتاج النفط، شريان الحياة للاقتصاد العراقي، بنسبة 50 في المائة، ليصل إلى ما يقرب من ثلاثة ملايين برميل يومياً، مما وفر الإيرادات التي مكّنت المشرّعين من تمرير ميزانية قدرها 100 مليار دولار في منتصف فبراير 2012. كما شهدت الأشهر الأخيرة خطوات غير مسبوقة نحو إعادة اندماج العراق في المنطقة، بما في ذلك تعيين سفير سعودي في بغداد لأول مرة منذ عام 1990، وزيارات قام بها كبار المسؤولين الإماراتيين والأردنيين إلى العراق، وتسوية النزاع العراقي مع الكويت المرتبط بمصادرة صدام حسين للطائرات الكويتية، واستضافة بغداد لقمة جامعة الدول العربية. حيث كانت القوات العسكرية الأمريكية حاسمة في تهيئة الظروف لتحقيق هذه الإنجازات. لقد نجحوا، حتى ولو بتكلفة باهظة، في استعادة قدر من الاستقرار عندما كان كل شيء يبدو في ضياع، وفي تدريب جيش عراقي يتحدى الآن المشككين ويوفر الأمن للبلاد. خلقت هذه التطورات الوقت والمساحة لما يعتبره نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن أهم تطور في العراق في السنوات الأخيرة: السياسة التي حلت محل العنف كوسيلة مهيمنة للفصائل المختلفة في البلاد لتسوية نزاعاتها وتعزيز مصالحها.

وعلى مدار العامين الماضيين، حذر النقاد مراراً وبشكل خاطئ من أن سلسلة من الأزمات السياسية، بشأن قانون الانتخابات، وعملية اجتثاث البعث، والانتخابات نفسها، وتشكيل الحكومة، ستؤدي إلى تجدد العنف الطائفي. لكن في كل مرة كان العراقيون يحلّون خلافاتهم من خلال العملية السياسية، وليس العنف، بمساعدة هادئة ومستمرة من الولايات المتحدة.

ويشيد باركر بالعصر الذهبي في السياسة العراقية في الفترة من أواخر عام 2007 حتى أواخر عام 2008، وهو ما يعزوه إلى الوجود الكبير للقوات الأمريكية في العراق وتركيز الحكومة الأمريكية على تعزيز الديمقراطية. ولكن خلال تلك الحقبة الذهبية المزعومة، عندما وُجهت تهم الإرهاب إلى سياسي عربي سني قرر أتباع رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر والأحزاب العربية السنية، والموالين للزعيم الشيعي العلماني إياد علاوي، مقاطعة البرلمان لمدة ثمانية أشهر، على الرغم من وجود أكثر من 150 ألف جندي أمريكي هناك. واستمرت مقاطعة مماثلة في وقت مبكر من هذا العام، ولكن لمدة شهرين فقط، عندما رحل كل الجنود الأمريكيين.

لانزال هناك

يدّعي تيد باركر أيضاً أن إدارة أوباما حوّلت انتباهها بعيداً عن العراق بعد الانتخابات العراقية الأخيرة في مارس 2010، وتخلت عن المبادئ الديمقراطية التي طالما حاربت الولايات المتحدة من أجلها. في الواقع، خلال الفترة التي يذكرها باركر، قام نائب الرئيس “الغائب إلى حد كبير”، على حد قوله، بأربع زيارات للعراق، وتحدث عبر الهاتف عشرات المرات مع كبار المسؤولين العراقيين من كل كتلة رئيسية؛ وبناءً على طلب من أوباما، كان يترأس اجتماعاً شهرياً على مستوى مجلس الوزراء حول العراق. وقُمت أنا وكبار المسؤولين الأمريكيين الآخرين المقيمين في واشنطن، بمن فيهم نائب مستشار الأمن القومي دينيس ماكدونو ونائب وزير الخارجية توماس نيديس، برحلات متعددة إلى العراق كل على حدة. والأهم من ذلك، أن السفارة الأمريكية في بغداد، بقيادة السفير جيمس جيفري، كانت منخرطة مع القادة العراقيين، يوماً بعد يوم، كما هو الحال في أي وقت منذ غزو العراق عام 2003. و تقريباً في كل اجتماع وبيان عام كنا نُصدره، كنا نؤكد مراراً التزام الولايات المتحدة بسيادة القانون والدستور العراقي.

وعلى سبيل المثال، فخلال الفترة الطويلة  التي استغرقها تشكيل الحكومة التي أعقبت الانتخابات الأخيرة (خلال 2012)، قام فريق السفارة وكبار المسؤولين من واشنطن بجولات مكوكية بين الأحزاب لعدة أشهر. وكان الرئيس ونائب الرئيس منخرطين بعمق في ذلك. وعندما تم إبرام الصفقة أخيراً لتشكيل الحكومة، كان هناك أربعة أشخاص في الغرفة: رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي؛ إياد علاوي زعيم حزب العراقية؛ ومسعود بارزاني رئيس إقليم كردستان؛ والسفير الأمريكي جيمس جيفري.

وكما يوحي ذلك الموقف، فإن قادة العراق يواصل رغبتهم الشديدة في مشاركة الولايات المتحدة. وتظل الولايات المتحدة الوسيط النزيه الذي لا غنى عنه: والطرف الوحيد الذي تثق به جميع الكتل القيادية ويتم الاتصال به يومياً. في كل اجتماع تقريباً، بما في ذلك عندما زار المالكي أوباما في واشنطن في ديسمبر الماضي، أوضحنا لنظرائنا العراقيين أن استمرار الدعم الأمريكي يتطلب تسوية عبر الخطوط الطائفية، واحترام سيادة القانون، والتمسك بدستورهم.

نحن ندرك جيداً التحديات الأساسية التي لا يزال العراق يواجهها: وهي محاولة إيجاد طرق عملية لتقاسم السلطة وإبقاء جميع الأطراف على التزام بالاتفاقات التي يبرمونها، والقضاء على المتطرفين العنيفين الذين يواصلون شن هجمات فظيعة، وحل النزاعات طويلة الأمد حول الحدود الداخلية في البلاد، والتأكد من وجود الإطار القانوني والترتيبات المالية اللازمة للسماح لقطاع الطاقة بالازدهار.

لكن القليل من هذه السياقات في محلها. فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود، لم يعرف العراق شيئاً سوى الدكتاتورية والحرب والعقوبات والعنف الطائفي. وفي غضون ثلاث سنوات فقط، كان يتقدم نحو وجود سياسي أكثر طبيعية بشكل ملحوظ. ولا يزال أمام العراق طريق طويل ليقطعه، لكنه اليوم أقل عنفاً وأكثر ديمقراطية وازدهاراً من أي وقت مضى في التاريخ الحديث، ولا تزال الولايات المتحدة منخرطة بعمق هناك. إن وصف واشنطن بأنها “غائبة” أمر يتجاهل الحقائق؛ وتسمية العراق بـ “دولة فاشلة” يجعل هذا المصطلح بلا معنى.

Please subscribe to our page on Google News

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15380

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *