تطور نظريات العلاقات الدولية

د.عبدالحكيم سليمان وادي

رئيس مركز راشيل كوري الفلسطيني لحقوق الإنسان ومتابعة العدالة الدولية

يعتبر علم العلاقات الدولية علما مستقلا يهتم بدراسة الظواهر المعاصرة التي ظهرت قبل الميلاد، وخصوصا خلال القرن 20 بالولايات المتحدة الأمريكية وبعد الحرب العالمية الثانية بأوروبا. كما تهتم العلاقات الدولية بما هو كائن وترتبط مع العلوم الاجتماعية وعلم السياسة في علاقة تأثر متبادل، كما تتأثر بإيديولوجية صاحبها-الماركسية/الليبرالية وتشرح بشكل العلاقات بين الدول بطرق عديدة وباختلاف نظرة المحللين السياسيين لظاهرة ما داخل المجتمع الدولي. ويتميز علم العلاقات الدولية بحداثة نشأته واتساع مجالات دراسته وبعلاقاته مع باقي العلوم كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وقد ساهم مجموعة من العلماء في تعميمه على مختلف التخصصات.

وتعرف النظرية بكونها مجموعة افتراضات حول ظاهرة معينة، وتهتم من داخل العلاقات الدولية بدراسة الظواهر السياسية الدولية كالحروب والأزمات مثلا(دافيد إدواردز). وتزودنا النظرية بطرق ووسائل مختلفة لترتيب الحقائق وتحويلها لمعلومات وبيانات، وتكون النظرية ناجعة في العلوم الطبيعية لأن الأخيرة استقرائية وموضوعها جزئي، كما تكشف الملاحظة فيها القوانين والعلاقات التي تعد مرتبطة فيما بينها،ويختلف هذا المفهوم في العلوم الاجتماعية التي تدرس الإنسان في علاقاته المتشابكة والمعقدة.وتعود عملية التنظير إلى عشرات القرون قبل الميلاد مع اليونان-أرسطو/أفلاطون- وصولا لإيطاليا مع ميكيافيلي وكتابات الفرنسي بيير ديبوي في القرنين 14-15، من خلال مجموعة أفكار من نشأة الدولة القومية 1648 وإلى الحرب العالمية الأولى 1914.

ويرى كينيت ولتز أن النظرية تختلف عن القوانين نفسها فهي تعتبر مفسرة لها، ويبني هذا المفهوم من خلال أربع طرق هي العزل والتجريد والتجميع والنمذجة والمثالية(التبسيط)، حيث نجد من خلال ما سبق ما هو نظامي ومختزل عن طريق الحديث عن الجانب التحليلي فيما يتعلق بالفرد والدولة-نظريات جزئية- ثم الدولة والمنظمات-نظريات هيكلية بنيوية-. من جانبه يرى جيمس دورتي وروبيرت بالستغراف أن النظرية اختيار ظواهر محددة وتفسيرها تفسيرا عاما، وذلك يتم من خلال أندرو فينسينت من خلال التعريفات والفرضيات ثم الوصف والتحليل في مرحلة لاحقة، كما ينحصر دورها في تنظيم الحقائق والبيانات داخل إطار منطقي حيث يمكن استخلاص مدلول هذه الحقائق والتنبؤ بمستقبلها. ويعرف دافيد إيدواردز النظرية بأنها افتراضات حول ظاهرة معينة، ويقصد بها في العلاقات الدولية وضع افتراضات حول ظواهر السياسة الدولية كالحروب والأزمات.

وقد جاء ظهور النظرية المثالية في ظروف ما بعد الحرب العالمية الأولى سنة 1914 ونهايتها سنة 1917 وما عرفه العالم من خراب ودمار بعدها، وعبرت هذه النظرية عن رؤية تفاؤلية وعن قدرتها على حل النزاعات السياسية بشكل سلمي، واعتبرت حلا بديلا ينتهجه صناع القرار وتجلت إنجازاتها في إنشاء عصبة الأمم.

انهارت آمال المثاليين بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية وظهرت مفاهيم جديدة على المستوى الدولي كالقوة والمصلحة وتغير معها اتجاه العلاقات الدولية، وتبلورت مع هذه التحولات النظرية الواقعية من خلال أفكار ريمون آرون وهانز مورغنتاو، وقد جاءت هذه النظرية لدراسة عامل القوة من خلال الحروب والنزاعات وإضفاء الشرعية على التدخلات الغير القانونية التي حصلت أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها ولم تستطع عصبة الأمم إيجاد حل لها.

وقد ظهرت المدرسة السلوكية خلال الخمسينيات من القرن 20 وهدفت كذلك لمعالجة الظواهر الدولية من خلال سلوك الأفراد والجماعات معنية بصناع القرار وقد تبلورت في الستينيات من القرن الماضي. و تمتد جذور هذه النظرية لفترات سابقة في سيادة المنهجية التقليدية التاريخية الفلسفية القانونية المؤسسية منذ أواخر القرن 19 و أوائل القرن 20. فهي تمثل النموذج التجريبي في مقابل النموذج الميتافيزيقي الذي تمثل البواكير الاولى للاهتمام بالسلوك و التفاعل السياسي بدلا من التركيز الشديد على الوثائق و الدساتير و النظم و المؤسسات، بل ان هناك من يرى أنه منذ الثورة الامريكية 1776 و الثورة الفرنسية 1789 هناك توجهان أساسيان في دراسة التحول الذي حدث في أوربا و الولايات المتحدة الامريكية و أثر الثورة الصناعية و ظهور الدولة القومية الحديثة، هذان التوجهان أفرزا مدرستين في حقل السياسة المقارنة أولاهما ركزت على مواجهة تحدي بناء الدولة و الثانية ركزت على الحراك الاجتماعي و ظهور النخب. . أهم الاسباب التي أدت لظهور المدرسة السلوكية:

1- منذ أوائل القرن 20 رغبة المدرسة الوضعية بالارتقاء بالعلوم الاجتماعية الى حال العلوم الطبيعية من حيث الدقة المنهجية و الحياد و مع ولادة علم النفس و علم الاجتماع في نهاية القرن 19 بدأت اولى مراحل المدرسة السلوكية التي بدأت في صورتها الدولية و الكلاسيكية مع نشر مقالة عالم النفس جون واتسون سنة 1913 و بدأت تحل النظرة السلوكية كنموذج معرفي في علم النفس محل النماذج السابقة و أصبحت مبادئ المنهج السلوكي مثل القانون المنهجي لكل العلوم الاجتماعية.

2- بانتهاء الحرب العالمية الاولى و الفشل الذي أصاب العديد من الدول الاوربية و انتشار النظم السياسية الفاشية و الدكتاتورية لعدم جدوى المقتربات التقليدية و عدم فاعليتها في فهم الواقع و تفسيره، فاتجه العديد من الباحثين الاوربيين الى التوجهات النفسية و في نفس الوقت كان هناك ادراك متزايد لدى الامريكيين بضرورة تبني الاقترابات السلوكية في تحليل الظواهر الاجتماعية و السياسية خصوصا من قبل الجمعية الامريكية للعلوم السياسية و كان يرأسها تشارلز مريام الذي دعا الى تأسيس مجلس أبحاث العلوم الاجتماعية SSRC

 ونشأت في رحم هذه النظرية ما سمي بالمدرسة ما بعد السلوكية، والتي اعتبرت أداة نقد للسلوكيين محاولة كشف ثغراتها وتجاوز أفكار السلوكيين.

وقد ورد بعد ذلك مصطلح نهاية التاريخ بعد إصدار الكاتب والأستاذ الجامعي فرانسيس فوكوياما كتابة سنة 1989، وقد جاء هذا الكتاب وسط اضطرابات سياسية على مستوى النظام الدولي بعد انهيار النظام الاشتراكي، وفرض الولايات المتحدة الأمريكية زعامتها على العالم في إطار نظام اعتبره فوكوياما ليبراليا ديمقراطيا واندحار المعسكر الشرقي الاشتراكي، ويرى أن الإسلام إيديولوجية متجانسة منتظمة. وقد حظيت هذه النظرية باهتمام دولي كبير بفعل غياب مجموعة أسس تتحكم في تحليل الشأن الدولي وأصبح العالم بذلك يعيش في عصر الإنهاك الفعلي، جراء التشويش على الفكر الاستراتيجي والنقص على المستوى التنظيري،حيث عدم قدرة النظريات الكلاسيكية على مواكبة التحولات والتطورات السريعة التي يشهدها العالم ثم ميل التفكير الاستراتيجي الأمريكي إلى مرتكزات فلسفية تخرجه من البراغماتية والواقعية من خلال تقديم رؤية شاملة لأوضاع العالم الجديد في ظل هيمنة أمريكية على العالم، وكانت النظرية تبشر بالليبرالية ونهاية التطور التاريخي والصراع الإيديولوجي.

وجاءت بعدها فكرة صدام الحضارات التي كان لها صدى قوي حيث فتحت سجالات ونقاشات عديدة بعد نشرها صيف 1993 في أنحاء عديدة من العالم، واستقطبت هذه النظرية اهتماما متزايدا عند الباحثين من خلال مجموعة من الحوارات والندوات التي حاولت بناء نظرة تنبؤية للسياسات الدولية لما بعد الحرب الباردة. وعكس هذا الاتجاه بوضوح دوائر التفكير الأمريكي والغربي عامة، وتم تشبيهها بمقالة جورج كينان سنة 1949 حول “مصادر السلوك السوفييتي” وما سمي “سياسة الاحتواء”.

ترتكز المدرسة المثالية على الأخلاق التي تميز الطبيعة الإنسانية وتميل إليها (الخير)، كما تبشر هذه النظرية بالسلام العالمي واحترام الرأي العالمي ودور القانون الدولي العام في ضبط العلاقات بين الدول.ويؤكد المثاليون على وجود مصالح مشتركة متبادلة بين الدول، في إطار علاقات اعتماد متبادل تجعل المجتمع وحدة اجتماعية. ويرى أنصار هذه النظرية أن المجتمع الدولي يفترض فيه أن يكون منظما بعد انتقال الإنسان إلى طور الاستقرار، وينطلق المثاليون من أولوية الأخلاق في علاقات الأفراد في المجتمع سواء داخليا أو دوليا حيث خضوع الفرد للقوانين التي تضعها الجماعة وفي الوقت ذاته يجب على الفرد العمل لصالح الجماعة كما يعمل لذاته. ويعتبر المثاليون أن الدول يجب عليها ان تكون منسجمة واعتبار غير ذلك غير أخلاقيا، وذلك لبناء عالم خال من النزاعات من خلال التفاؤل حول الطبيعة البشرية وانسجام المصالح بين الأفراد في علاقاتهم وبين الدول.

ونجد تيارين في المنهج المثالي يدافعان عن فكرة النظام حيث يدعو الأول إلى فكرة سيادة الدول من خلال مجتمع دول مستقلة ذات سيادة متطابقة تخضع للقانون الدولي، ويؤكد التيار الثاني ضرورة التوفر على مجتمع أمم على خلاف التيار الأول.

يؤكد توماس مور من خلال كتابه “اليوتوبيا” سنة 1516 الرغبة في التوصل إلى مجتمع مثالي. ودافع الفيلسوف البريطاني جيرمي بنتام على معطى الأخلاق، وتبعه جيمس ميل في فكرته حيث الحديث عن مصطلح الرأي العام العالمي، وطرح نظرية الحكومة العالمية بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، من خلال الانسجام بين المصالح الفردية والجماعية لكن ذلك اصطدم بصعوبات جمة تمثلت في مشكلة نزع السلاح وعدم قدرة الحكومات على اتخاذ القرارات الناجعة للإشراف على ذلك.كما دعى آدم سميت إلى إلغاء الحواجز الاقتصادية بين الدول، وعدم تدخلها في الشؤون الاقتصادية الداخلية من خلال مبدأ “دعه يعمل دعه يمر”.

وقد تم تفعيل هذه الأفكار من خلال عصبة الأمم التي عملت على منع قيام الحرب بناء عالم خال من النزاعات والأزمات بهدف خدمة الإنسانية-مايجب أن يكون-، وازدياد الشعور الشعبي بما تخلفه الحرب من آثار سلبية وخسائر على مستوى الأرواح والأموال.وعملت العصبة كذلك على الحد من انتشار الأسلحة وتسوية النزاعات عبر إجراء المفاوضات، وتحسين أوضاع العمل ومعملة سكان المستعمرات بشكل مساو مع موظفي الدول الإمبريالية، والهناية بالصحة وبأسرى الحرب وحماية الأقليات العرقية بأوروبا كما نجد دعوة البابا بينديكت 15 في رسالة موجهة للمتحاربين في الحرب صيف 1917، ورسالة الرئيس الأمريكي ودرو ولسن لمجلس الشيوخ الأمريكي والتي تضمنت 14 نقطة أساسية.

وجاءت المدرسة الواقعية لتضحد أفكار المثاليين حيث نجد ميكيافيلي الذي اعتمد على أربع عوامل أثارت سخطه من انقسام لإيطاليا إلى إمارات واستغلال فرنسا وإسبانيا الفرصة لغزو إيطاليا ،ومعارضة الكنيسة لقيام الدولة القومية واكتشاف أهمية القوة. واعتبر هوبز أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان وأن الجنس البشري تكون لديه الرغبة المستمرة لتحقيق القوة والتي لن تنتهي إلا بالموت، ويرى أن الطبيعة الإنسانية جعلت الناس متساوين في القدرات وهو ما يجعلهم متساوين في الأمل والطموح لتحقيق الأهداف، ويؤدي بهم إلى ارتكاب أعمال عدوانية في سبيل ذلك. كما دعا هوبز إلى الفصل بين الأخلاق والسياسة وهو ما يراه جون دوران. واعتبر ميكيافيلي أن الأخلاق نتاج للقوة. ويرى سبيكمان أن الدولة يجب عليها التركيز على سياستها الخارجية، والحفاظ ومحاولة زيادة قوتها، وبناء الدولة لمؤسسات عسكرية. وترتكز الواقعية على ثلاث مفاهيم أساسية وهي:

-القوة من خلال رأيين: يرى الأول أن الطبيعة البشرية تحكمها القوة وحب السيطرة والهيمنة، ويزداد ذلك عند الانتقال من مستوى الأفراد إلى مستوى الدولة. ويعتبر الرأي الثاني أن البحث عن القوة نتاج للشوق الشديد للأمن في النظام الدولي، بخلق ضغوط كبرى على الدول وبناء قوة عسكرية قادرة على إرجاع الهيبة وبالتالي تحقيق الأهداف المرجوة منها، لكن المشكل يكمن في ازدياد الصراع بين الدول نتيجة ذلك. ويؤكد هانز مورغنتاو على القوة وضرورة زيادتها وإظهارها، ويرى ريمون آرون في السياق ذاته أن القوة تلعب دورا محوريا لتحقيق أهداف الدولة ويرى بأن العلاقات الدولية يديرها شخصان هما الدبلوماسي والجندي.

-المصلحة القومية: استعمل هذا المفهوم ابتداء من سنة 1648 لشرح وتقويم سلوك الدول، وكوسيلة لتبرير أو رفض سياسة معينة. وعدد توماس روبنسون المصالح في عدة أوجه منها الشق المتغير والعام والأولي والثانوي…، وهو ما يحفظ الهوية السياسية والثقافية للدولة ضد الاعتداءات الخارجية.

-توازن القوى: تبذل الدول جهود مدروسة للحفاظ على التوازن بين الدول المتنافسة والكتل المتعارضة، ويعتبر ميزان القوى الوسيلة الناجعة لإقامة السلم والاستقرار مقارنة مع اعتماد المثاليين على القانون الدولي ونظرية الحكومة العالمية.

وهدفت النظرية السلوكية من جانب آخر إلى دراسة وفهم سلوكيات الأفراد ومعها الدول واستخدمت في ذلك المناهج العلمية الصارمة وخصوصا الكمية منها، ويقوم بناء النظرية حسب السلوكيين على القدرة على التعميم و اطلاق الاحكام العامة، من خلال الإنطلاق من التحليل العام وليس التفسير حسب دافيد إستون. و قد قامت هذه المدرسة على المناهج العلمية القائمة على الاحصائيات، حيث استفادت من الحاسب الالكتروني و الرياضيات. و اعتمدت المدرسة السلوكية في كثير من النتائج التي توصل اليها علماء الاجتماع و علماء النفس و علماء الانتروبولوجيا، على الافكار النظيمية و التطورية و المثالية و الاتجاه التوازني التكيفي، و هو يمثل نسخة مصغرة للنموذج العضوي الطبيعي ويعتبر رد فعل لمجموعة من المفكرين البروستانت اتجاه مشاكل التصنيع و التغير الاجتماعي.

ويعد جون واطسون الإطار الأكاديمي الحاصل على الدكتوراه في علم النفس من جامعة شيكاغو سنة 1903 مؤسس المذهب السلوكي حيث كان أول من أجرى التجارب على الجرذان والعصافير، وخلص من ذلك إن اعتبار السلوك البعد الوحيد من جانب الإنسان القابل للمراقبة الخارجية. من جهة أخرى لا ينبغي للعلم حسب واطسون أن يعترف بالعقل أصلا، وأن جسم الإنسان هو الحقيقة الإنسانية الوحيدة وبالتالي يجب إسقاط مفاهيم عديدة كالإدراك والإحساس والتفكير والعاطفة.  ويقول : “اعطوني عشرة اطفال أصحاء أسوياء التكوين، فسأختار أحدهم جزافا ثم أدربه فأصنع منه ما أريد طبيبا أو فنانا أو عالما أو تاجرا أو لصا أو متسولا، وذلك بغض النظر عن ميوله و مواهبه و سلالة أسلافه”.و قد حدد هدفين للسلوكية و هما: التنبؤ بالنشاط الانساني ثم صياغة قوانين و مبادئ يستطيع بواسطتها المجتمع المنظم ضبط تصرفات الانسان و وصف سلوكه بنفس الطريقة التي يتم بها وصف سلوك الحيوان اعتزل واطسون بعد ذلك المجتمع الاكاديمي سنة 1921 و اشتغل بالتجارة و الاعلان. وقد جاءت بعد ذلم محاولات هارولد لاسويل في بداية الثلاثينيات والتركيز من خلال كتابه حول علم الأمراض النفسية والسياسية 1930، على علم النفس الفردس وكيفية استخدامه في تحليل المشاكل السياسية. وقسم بعده سكنر السلوك الحيواني والإنساني إلى الاستجابة والسلوك الإجرائي،  وقد قام بتجارب علمية ناجحة في هذا المجال. ونجد كذلك إدوارد ثورندايك الذي فسر التعليم على أساس حدوث ارتباطات بين المثيرات والاستجابات، يرى أن أكثر أشكاله تميزا عند الإنسان والحيوان هو التعلم عن طريق المحاولة والخطأ أو التعلم بالاختيار والربط. وتحدث ديفيد استون عن نظرية النسق السياسي وانقلب على بعض عناصر المدرسة السلوكية فيما بعد.

واستخدمت المدرسة السلوكية في مقاربتها للظواهر الدولية على الجانب الكمي من خلال المنهج الإحصائي والقياس الكمي الأخير الذي يعتبر وسيلة للحصول على نتائج علمية للبحث، ويتعين اللجوء إلى حساب التفاعلات لدراسة العلاقات بين ممثلين أو مجموعتين من الممثلين، وتمكن النتائج من إقامة علاقات بين الثوابت والمتغيرات وفرزها وتحديد علاقات السببسة. ونجد الجانب الكيفي للمعطيات وتفسير الظاهرة المدروسة عن طريق إعداد النماذج-الألعاب والاتصال-، كما يمكن بناء نماذج تفسيرية لمجموعة من الأوضاع المتقاربة وهو ما ينتج عنه إعداد نظرية عامة بكيفية فعالة ومضمونة على عكس الانطلاق من الكل لشرح الأجزاء.

ويعتمد السلوكيون على مستوى المقتربات النفسية على مفهوم النسق الذي يمكنهم من تحليل العلاقات القائمة بين أعضاء الجسم الاجتماعي(العلاقات بين مختلف الوظائف وأنواع السلوك التي تؤديها هذه الأعضاء).ورسم إيستون نموذجا خاصا بالنسق السياسي، ولاحظ باسكونز أن كل نسق يقوم بأربعة وظائف أساسية:

المحافظة على نموذجية الاصلي الذي به يتميز عن الانساق الاخرى، التكيف مع المحيط الطبيعي و البشري الذي يوجد فيه، تحقيق هدف أو أهداف أو السعي الى انجاز اهداف جديدة، الابقاء على الاندماج أو التكامل الاجتماعي و ذلك بجعل الانشطة المختلفة لاعضائه متناسقة و بالابقاء عبى تطلعات هؤلاء الاعضاء متناسبة مع الادوار التي يجب أن يقومو بها.

ويقتضي ما سبق التفرقة بين النسق ومحيطه والاتجاه إلى دراسة التفاعلات التي تحدث بينهما، لأن النسق مجموعة من العلاقات وهو في تواصل مع محيطه عن طريق مؤثرات داخلية وخارجية والنواتج والتي تعتبر مطالب أو حاجات تنبع من المحيط لتصب في النسق أو العكس. ويمكن تصور هذا النسق في قيام علاقات بين دول مرتبطة بالمحيط التي يتكون من فاعلين دوليين آخرين، وتطبيقه بالصرامة ذاتها على مجموع العلاقات الدولية إن أمكن. وتم مقاربة ذلك في أغلب الأحيان مقاربة جزئية تستهدف العلاقات الدولية الحكومية، وإقران النسق الدولي العام بالنسق الدولي الاستراتيجي الديبلوماسي مع تخليهم عن تمييزه بأي محيط أو تصوره موجودا داخل النسق نفسه. وقد تعرض مورتون كابلان في هذا السياق مباشرة للنسق الدولي في مقاربته للعلاقات الدولية على أساس تصوره لعدد من الأنساق، التي استنتجها من سلوك الممثلين الدوليين دولا وتجمعات بالإضافة إلى المعايير (مجموع القواعد القانونية متمثلة في قواعد السلوك الاجتماعي وهي 6:

نسق توازن القوى: ساد منذ القرن 18 حتى الحرب العالمية الثانية و الذي يتميز بوجود قوى كبرى أساسية تتحكم في الخريطة السياسية و تسعى للحفاظ على الوضع القائم نتيجة على الوضع القائم السلم نتيجة لتوازن القوى.

نسق القطبية الثنائية المرن: و هو الذي أفرزته ظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية حيث نتج عن وجود كتلتين متعارضتين من الدول تقود كل منها قوة كل قطب بما له من امكانات ضخمة و مرجع أحد اسباب مرونته وجود دول غير أطراف في احدى الكتلتين تقوم بأدوار تختلف عن أدوار الاطراف فيهما و منها التخفيف من شدة التعارض بإخضاع أهداف الدول داخل الكتل لاهداف المنظمة العالمية (الامم المتحدة).

نسق القطبية الثنائية الجامدة: و هو يتسم عادة بدرجة عالية بانعدام الاستقرار مرده الى اختفاء الاطراف غير المنحازة و غياب دورها التوسطي و الادماجي الذي هو دور ملطف الحاصل في النسق.

النسق الدولي العالمي: ينتج عن التزايد في أهمية و فعالية دور منظمة عالمية في نسق القطبية الثنائية المرن و سمته الاندماج و التماسك و أسبقية الولاء له على الولاءات القومية و الاقليمية من قبل نخب سياسية و ادارية.

النسق الدولي التراتبي: و هو ينتج اما عن مزيد من الخطوات الاندماجية في نسق عالمي و اما عن انتصار كتلة قوية على الاطراف الاخرى في النسق الدولي و خاصيته أنه مندمج و مستقر للغاية. ذ يتضمن شبكة من الانساق الزظيفية الفرعية المنفعية للدول.

نسق النقص الاحدي: و هو النسق الذي تكون أطرافه قادرة على التدمير المتبادل مما يجعل كل طرف يخشى الاطراف الاخرى فلا يقدم على تدمير أحدها و ان كان الصراع فيما بينها جميعا صراعا دائما.

و تميزت مرحلة ما بعد السلوكية بقيام تنظير في العلاقات الدولية يهتم ببناء النظريات وجعلها أكثر قدرة على التفسير والتنبؤ والتمييز بين الظواهر المحددة والربط بين مستويات التحليل الكلية والجزئية. وأعطت هذه النظرية أهمية قصوى للمتغيرات الاقتصادية وتأثيرها على العلاقات الدولية الاقتصادية من خلال موضوعات اقتصادية لم تكن من صميم الاهتمام التقليدي كما أعطي للبعد السياسي.

ان مدرسة ما بعد السلوكية تنتقد السلوكية الكلاسيكيةفي انها تهتم فقط بدراسة وفهم وصف الظاهرة السياسية دون تجاوزهده الحدود الى إيجاد الحلول للمشاكل التي تعاني منها الانسانية وازمات العلاقات الدولية.ويقول (ديفيد ايستون)في هدا الصدد:”ان مدرسة ما بعد السلوكية تكمن في محاولتها كسر حواجز الصمت التي اقامتها المدرسة السلوكية ودفع العلوم السياسية لمعالجة الحالات الحقيقيةللبشرية في فترات الأزمات”. كما يرى أن البحث السياسي لايمكن إن يكون مجرد من القيم ويدعو إلى عكس دلك,اد يعتبر مثلا ان الباحثين والاكادميين عامة عليهم مسؤولية تاريخية خاصة لحماية قيم الحضارة الانسانيةوداك بوضع المعرفة في خلاصة هدا القيم,وبدلك تتقاطع النظرية ما بعد السلوكية مع الفكر التقليدي للنظرية السياسية الذي عبر عنها( ليوشتاوس) في أواخر الخمسينات عندما اعتبر إن الهدف الأساسي للبحث السياسي وهو الحصول على المعرفة الضرورية لبناء مجتمع العدل والحق.

وقد عدد( سيوم براون) و(ريتشارد )القيم والأهداف التي تهم الإنسانية والتي يفترض العمل على تحقيقها وهي التغلب على العنف للتوصل إلى إلغاء النزاعات والحروب وزيادة الازدهار الاقتصادي والاجتماعي.وبالنظر الى واقع العلاقات الدولية نجد ان هناك فواعل أخرى مؤثرة وموازية للدولة تؤدي أدوارا في بعض الاحيان اكثر تأثيرا من الدولة نفسه. ومن أبرز الكتاب في هذا المجال( روبرت كوهين  وجوزيف كاي وسيوم براون)وقد اعتبر هؤلاء أنه مع تزايد الترابط الدولي والتداخل والاختراقات المتبادلة صار من الصعب إن لم يكن من شبه المستحيل اعتبار الدولة تعمل بوحي المصلحة القومية ,وبالتالي اعتبروا أن هذا المفهوم الأخير لم يعد صالحا لتفسير سلوكية  الدولة نتيجة لازدياد المصالح “غير الدولية”وفوق الدولية”وتشعبها لأن مفهوم المصلحة القومية صار غامضا.

وجاءت النظرية مابعد السلوكية لتعيد التوازن في نظرية العلاقات الدولية وتلطف من تطرف كل من النظرية الواقعية والنظرية السلوكية في تجريدهما لنظرية العلاقات الدولية من الاعتبارات الإنسانية,فهي بدلك تلتقي مع النظرية المثالية في المسلمة الرئيسية التي تقول بأن هناك انسجام  في المصالح بين الأفراد وبين المجتمع الكوني وأيضا بين المصلحة القومية والمصلحة العالمية في شؤون التنمية والأمن والحفاظ على المصادر”فوق قومية” لإداراة النزاعات التي تنشأ بين الدول  والمساهمة في حلها وكذلك لإدارة واستغلال المصادر الطبيعية وتأمين توزيعها بشكل عادل بين مختلف الدول وإعطاء شرعية للحاجة القصوى لإقامة مثل هذه المؤسسات. فيما تشترك هذه المدرسة مع المثالية في تفاؤلهما من حيث الإيمان بإمكانية إقامة حكومة عالمية فهي تمثل نوعا من إعادة إحياء للمدرسة المثالية.

ويؤكد الواقيون الجدد على وجود العاطفة الشريرة والحضور الفاجع للشر من داخل الفعل السياسي، وبالتالي يصبح النواع أمرا محتوما بسبب تواجد هذه العواطف الغير القابلة للاستئصال. ويركز الواقعيون الجدد على الضرورات السياسية الناتجة عن الفوضى الدولية حيث في غياب حكومة دولية موحدة يبقى قانون الأدغال هو السائد.

فالواقعية الجديدة تفسر العلاقات الدولية من  وجهة نظر بنيوية مناسبة للنظام  الدولي خاصة توزيع  القوى,فالواقعية الجديدة لها نظرة سوداوية للعلاقات  الدولية  انطلاقا من افتراض أن الحرب والنزاع ظاهرتان قابلتان للتجنب بسبب فوضوية النظام الدولي وعدم وجود سلطة دولية عليا فوق الدولة.

من ناحية أخرى افترض الواقعيون طبعا في إطار الواقعية الجديدة,أن الدول ليس لديها مصلحة حقيقية تذكر في  الغزو العسكري,على خلاف الواقعيين الهجوميين الذين يركزون على تشجيع نماذج معينة من سلوك الدول في  النظام الدولي.

من أبرز ممثلي  الواقعية الجديدة,يمكن  ذكر روبيرت جيلين  وكينث والتز,ستيفن  كريزيز وروبرت تاكر وجورج مودلسكي. ولقد كان هدف رواد هذه المدرسة هو محاولة إخراج الواقعية من المفهوم الكلاسيكي والتحليلي البديهي إلى مستوى من التحليل أكثر علمية للوصول بها إلى نظرية علمية. وتقوم  الواقعية الجديدة على مجموعة من الافتراضات, حاول كل مفكر من رواد هذه المدرسة أن يختصرها في مجموعة من النقط.

    -النظام الدولي والعالم هو فوضى.

    -النظام الدولي هو المسؤول الأكبر عن سلوك الدولة على المسرح الدولي.

    -الدول تبحث عن الحد الأقصى من القوة والأمن.

    -الشكوكية نحو القوانين الدولية والمؤسسات والمثاليات.

    -القوة هي السمة الأساسية في السياسات الدولية.

    -النظرية لا تخلق التطبيق وإنما التطبيق هو الذي يخلق النظرية.

وعموما يقدم الواقعيون  الجدد تأكيدا على  نحو مميز يقضي بوجود العاطفة الشريرة والحضور الفاجع للشر في كل فعل سياسي  وبسب هذه العواطف غير القابلة للاستئصال يصبح النزاع  أمرا محتوما كما يركزون الواقعيون الجدد على الضرورات السياسية الناتجة عن الفوضى الدولية  ففي غياب حكومة دولية يبقى قانون الأدغال  هو السائد.

ومن ناحية مفهوم الصراع فان الواقعية الجديدة افترضت أن الدولة يجب أن تتعامل مع أسوأ  الاحتمالات,وأن تبني قراراتها بناءا على تقييم الاحتمالات بالنظر إلى التهديدات الأمنية. وفي سبيل تفسيرها لمفهوم صناعة القرار تطرح  الواقعية الجديدة فكرة نظرية التوقع فهي ترى أن الفاعلين يعطون وزنا معتبرا أكثر للخسارة أكثر  منه للربح.

وبالتالي فان الواقعيون الجدد  يركزون على إقامة التحالفات المتوازنة والقوة الدفاعية الرادعة التي تتحقق الأمن الدولي.

ويرى فوكوياما من خلال نظريته حول نهاية التاريخ انتصار الديمقراطية والليبرالية على النظام الاشتراكي، ولن يكون للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ما ينتظرونه من جديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي واعتماد الجمهوريات المستقلة ودول أوروبا الشرقية على النظام الحر. ويرى أن هناك توافق حيث يشكل النظام الديمقراطي منتهى التطور الإيديولوجي للإنسانية والشكل النهائي للحكم الإنساني. هذا النظام رغم ما قيل عنه يعرف مجموعة من المشاكل الخطيرة الناتجة عن قصور في تطبيق مبادئ الديمقراطية مثل مبدأ-الحرية والمساواة- ، ويؤكد فوكوياما أن الليبرالية الاقتصادية هي التي ستسود وهذا ما تأكد من خلال السوق الحرة باعتبارها إحدى نماذج هذا النظام. ويرى أن النظام الذي سيسود نظام ليبرالي و  يتسم بالعقلانية والقدرة على تحقيق المطالب على أساس هوية الفرد باعتباره بشرا وليس عضوا في جماعة عرقية ما يؤدي لخلق مجتمع على أساس إلغاء الفوراق الاجتماعية بين السادة والعبيد.

د. عبد الحكيم سليمان وادي

Please subscribe to our page on Google News
SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15167

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *