تراجع الدور الأمريكي وسيناريوهات مستقبل المنطقة العربية

في 25 أكتوبر 2021 نشر المعهد المصري للدراسات دراسة لي بعنوان: ما بعد الهزيمة الأمريكية في أفغانستان – المسارات المستقبلية للمنطقة العربية، واستعرضت الدراسة النصر الكبير الذي حققته حركة طالبان في مقابل الهزيمة الساحقة لأميركا وحلفائها الأفغان وللمنظومة الغربية بشكل عام، وهو ما يشكل منعطفا هاما سيترتب عليه مجموعة من الآثار والتداعيات الكبيرة ليس حصرا على المستويات المادية والسياسية بل على المستويات الفكرية والفلسفية. واستعرضت الدراسة دلالات الهزيمة الأميركية في محاولة لاستشراف مآلات بعض التحولات الإقليمية والدولية المترتبة على ذلك، وعلى وجه الخصوص في المنطقة العربية، مع وضع سيناريوهات لما بعد التراجع الأميركي.

و قد اعتمدت الدراسة على متابعة الكتابات وردود الأفعال الغربية، من خلال الرجوع إلى مجموعة كبيرة من الدراسات والتقارير ومقالات الرأي التي نشرتها كبريات الصحف والمجلات الغربية، وقد أظهرت معظم هذه الدراسات بوضوح هبوط أسهم هيمنة أمريكا على كل ما يحدث في المناطق المختلفة في العالم، وتراجع دورها الامبراطوري بشكل عام وهو ما يستتبعه بطبيعة الحال أثار كبيرة على مستقبل المنطقة العربية التي خضعت لمظلة الهيمنة الأمريكية لفترة طويلة.

ويأتي هذا التقرير عرضاً لأهم ما تناولته الدراسة السابقة، ونتائجها الرئيسية، مع التركيز على السيناريوهات المستقبلية للمنطقة في ضوء تراجع الدور الأميركي.

أولا: الدور الأميركي في أفغانستان-عشرون عاما من الفشل

أظهرت الكيفية السريعة وغير المدروسة للانسحاب الأمريكي من أفغانستان أن حقيقة ما جرى لا يمكن حصره في المشهد الختامي فقط بل على امتداد عشرين عاما من التواجد والهيمنة.

من نهاية التاريخ لنهاية الهيمنة الأمريكية

في أعقاب الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، كتب فرانسيس فوكوياما في العام 1989 “نهاية التاريخ”، كما قام بتأليف كتاب تحت عنوان” نهاية التاريخ والرجل الأخير”، بحيث تمحورت كتاباته على فكرة مركزية مفادها أن التاريخ يوشك أن يصل إلى نهايته بانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المعسكر الشيوعي، متنبئا بميلاد نظام عالمي جديد يقوم على أساس التوافق حول القيم الديمقراطية بقيادة أمريكية ممتدة.

لكن في قراءة لما حدث في أفغانستان على إثر الانسحاب الأمريكي كتب  فوكوياما مقالا بعنوان لافت: نهاية الهيمنة الأمريكية،  ذكر فيه أن المشهد الأفغاني بعد الانسحاب الأمريكي يعد منعطفا ابتعدت فيه أمريكا عن العالم وأدارت ظهرها له، وأن التحدي الراهن الذي يواجه مكانتها الان هو الاستقطاب السياسي في الداخل الأمريكي. ويؤشر هذا على أثر التغيرات الكبرى في السنوات القليلة الماضية على قناعات حتى من كانوا من أشد المنظرين للهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم.

فائض القوة

عقب تفكك الاتحاد السوفيتي في العام 1991 وانتقال النظام العالمي إلى نظام القطب الأوحد بزعامة الولايات المتحدة، هيمنت أمريكا على النظام الدولي من خلال الاعتماد على “فائض القوة” المتوافر لديها، وقادت ودعمت التدخلات العسكرية في أفغانستان والعراق وسوريا واليمن، خلفت وراءها خسائر فادحة في الأرواح في تلك الدول، كما تكبدت أيضا خسائر بشرية ومادية كارثية.

و قد أدى منطق القوة الأمريكي إلى تجنب جميع الحلول التفاوضية والإصرارعلى تقديم التنازلات من جانب الأطراف الأضعف، واعتمدت على الاستخدام المفرط للقوة العسكرية ، وهذا ما تم ترجمته واقعيا من قبل المحافظين الجدد من خلال غزو أفغانستان والعراق تحت ذريعة “الحرب على الإرهاب”.

إلا أن ما حدث كان على غير هذا المنطق، وتحدث الكثير من المفكرين والسياسيين الغربيين عن أسباب الفشل الأمريكي في أفغانستان، سواء في دحر طالبان أو تحويل البلاد إلى دولة ديمقراطية، ومن أهمها عدم فهم طبيعة الدولة والشعب الأفغاني، بحيث كان هناك إغفال للعديد من العوامل وعلى رأسها العامل القبلي في إدارة الأمور.

الباب الدوار

كشفت العديد من الدراسات أن التصعيد العسكري واستمرار الحرب لفترات زمنية طويلة كان ممنهجا ومتعمدا في سبيل تحقيق مصالح الشركات الكبرى لتصنيع السلاح في الولايات المتحدة، وهو ما يشكل فسادا قانونيا وسياسيا، من خلال ما يطلق عليه “سياسة الباب الدوار”.

تتمثل هذه السياسة بالسماح للمسؤولين السابقين سواء في الإدارة أو الجيش الأمريكي بالعمل في كبرى شركات السلاح الأمريكية، ثم العودة بعد سنوات من خلال مناصب كبرى في الإدارة الأمريكية، هذا الأمر يخلق شبكات معقدة من المصالح سواء من هؤلاء الأشخاص أو السماسرة أو من الشركات، الذين يستخدمون جماعات الضغط للدفع باستمرار الحروب والإنفاق العسكري الهائل.

وتشير المعلومات بأن أكبر مبالغ الاعتمادات المخصصة للحرب في أفغانستان ذهبت لخمس شركات كبرى لإنتاج الأسلحة وذلك بما يزيد عن 2.02 تريليون دولارعلى مدار 20 عاما. وتنتهج جماعات الضغط أيضا وجها آخر من سياسة “الباب الدوار” عبر تمويل سلسة من مراكز الفكر والأبحاث. ويؤدى هذا الإنفاق في النهاية ليس للفوز بالحرب بل استمرارها إلى ما لا نهاية لتستمر معها الأرباح الضخمة لهذه الشركات.

دلائل على الهزيمة الأمريكية وانعكاساتها على منظومة الهيمنة الغربية الاستعمارية

يعترف الجانب الأمريكي أن انهيار الجيش الأفغاني والقوات الأمنية التي أشرف على تدريبهم وتسليحهم ومن ثم سقوط كابول في أيدي طالبان لم يكن مخططا له، بل شكل صدمة وضربة قوية للقوى الغربية ودليلا على فشل أجهزتها الاستخباراتية. وقد عرضت الدراسة العديد من ردود الأفعال لقادة وسياسيين وعسكريين غربيين يظهر منها حجم الضربة التي تلقتها المنظومة الغربية الاستعمارية ككل.

هل تحققت الأهداف المعلنة وغير المعلنة؟

كانت الأهداف الأمريكية الرئيسية المعلنة لغزو القوات الأمريكية وحلفاؤها لأفغانستان هي الإطاحة بحكم طالبان والقضاء عليها تماما، وتفكيك تنظيم القاعدة والقضاء عليه، وإقامة حكومة ديمقراطية، ودولة حديثة بجيش قوي يحفظ الأمن ويحمي مصالح الغرب هناك.

ومن الواضح أن هذه الأهداف لم تتحقق، وذلك بالإضافة للأهداف غير المعلنة التي لم تتحقق، من أبرزها الحصول على حصة كبيرة من ثرواتها المعدنية النفيسة والتي تقدر قيمتها بين واحد وثلاثة تريليون دولار، ولكن بدلا من ذلك فقد تكبدت أمريكا خسائر هائلة من خلال إنفاقها لأكثر من تريليوني دولار، بالإضافة إلى الخسائر التي تكبدتها على مستوى العتاد العسكري والبشري من خلال مقتل نحو 2500 من القوات الأمريكية.

ومن بين الأهداف الاستراتيجية للتواجد الأمريكي لأكثر من خمسين عاما بحسب ما ذكره الكولونيل المتقاعد لورانس ويلكرسون والذي حصرها في ثلاثة أهداف، أولها التواجد بالقوة الصلبة في قلب ممرات طرق التجارة الصينية المخططة (الحزام والطريق) والتي تشكل آلية للتوسع الاستراتيجي للصين، ثانيها التواجد بجوار أكبر قوة نووية مخرنة في باكستان، ثالثها التواجد بجوار 20 مليون من أقلية الإيغور والتي يمكن للمخابرات الأمريكية استخدامهم للتأثير على استقرار الصين، وأكد بذلك أن الخروج من أفغانستان يضيع فرص تحقيق هذه الأهداف ويفقد أمريكا مركزها وثقلها الاستراتيجي ويفسح المجال للقوى المتنافسة كالصين وروسيا.

الفشل الاستخباراتي وطريقة الخروج من أفغانستان

ظهر بشكل واضح تخبط الاستخبارات الأمريكية ما كان له الأثر البالغ في الانسحاب الفوضوي من أفغانستان بما يعكس عدم وجود خطة مدروسة لترتيبات هذا الانسحاب، وقد فرضت طالبان كذلك رؤيتها على عملية التفاوض بعدم قبولها أنصاف الحلول وحصر التفاوض على خروج قوات الاحتلال من البلاد. وفي النهاية نجحت الاستراتيجية المزدوجة التي نهجتها طالبان، القتال والتفاوض في إخراج الاحتلال الأمريكي وإلحاق هزيمة ساحقة به.

و تجدر الإشارة إلى أن الهزيمة  في أفغانستان لا تعد الهزيمة العسكرية الأولى في التاريخ الأمريكي الحديث، فقد هزمت في أغلب التدخلات العسكرية عقب الحرب العالمية الثانية، فقد هزمت في فيتنام في حرب استمرت زهاء 15 عاما، وأيضا في الصومال وأمريكا الوسطى، ثم العراق التي شكلت أبرز محطات انحسار النفوذ الأمريكي، لتنتهي بأفغانستان على يد حركة طالبان، وقد ساهمت هذه التدخلات العسكرية في تأزيم الأوضاع لا إصلاحها بحسب المبررات الأمريكية.

ثانيا: مستقبل الهيمنة الاستعمارية الغربية بقيادة الولايات المتحدة

لم يبدأ انحسار الدور القيادي للولايات المتحدة في ظل إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب، لكنه يرجع إلى عصر إدارة باراك أوباما، بل الأبعد من ذلك هناك من يرجعه إلى عهد جورج بوش الإبن، خاصة عندما امتنعت الأخيرة عن الرد بقوة إبان غزو روسيا لجورجيا عام 2008، هذا التغيير الذي يشكل تراجعا كبيرا عن القيادة العالمية وتجاهلا للقيم الأمريكية التي تذرع بها الساسة الأمريكيون على الدوام، وقد ظهر انحسار الدور الأمريكي الخارجي وغياب السياسة الخارجية الأمريكية عن العديد من القضايا الدولية بشكل جلي في عهد ترامب، من خلال رفعه شعار” أمريكا أولا” وذلك من خلال:

  • الحد من مشاركة الولايات المتحدة في المفاوضات والاتفاقيات متعددة الأطراف والانسحاب من بعضها.
  • تراجع دور الولايات المتحدة كقوة دولية فاعلة، مع بروز أزمة الثقة بينها وبين الشركاء والحلفاء.
  • العمل على إضعاف النظام الدولي الذي من المفترض أنها هي من تقوده.
  • التقاعس في نشر مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، في مقابل دعم الأنظمة الاستبدادية.
  • ترك فراغات في القيادة العالمية خاصة في حل النزاعات، التي بدأت تبرز من خلالها دول وقوى أخرى.

ما بعد أفغانستان ومستقبل الهيمنة الأمريكية

يمكن القول أن الهزيمة الأمريكية في أفغانستان تشكل علامة ومحطة على طريق تسارع انهيار منظومة الهيمنة الاستعمارية الغربية بقيادة الولايات المتحدة، وهو ما أشار إليه العديد من الكتاب والمحللين الغربيين. وقد أظهرت هذه الكتابات أنه من غير المرجح أن تستعيد الولايات المتحدة مكانتها المهيمنة السابقة، كما توقع البعض سيناريوهات للتدهور الأمريكي ومنها خسارة الدولار كعملة احتياطية للعالم، بحيث ستؤدي هذه الخسارة إلى إغراق الولايات المتحدة في كساد كبير وطويل الأمد، كما سيؤدي إلى تقلص البصمة العسكرية الأمريكية، وتدهور المشهد الاقتصادي والاجتماعي. وأشار أخرون أنه في ظل حالة الفوضى التي آلت إليها الأوضاع في أفغانستان، فإن تراجع أمريكا يعكس الحالة التي وصلت إليها بريطانيا قبل قرن من الزمان، وقارنوا أيضا بين الانسحاب المهين لأمريكا من أفغانستان وانسحاب الاتحاد السوفيتي من هذا البلد في عام 1989، وهو الحدث الذي ساهم بشكل كبير في نهاية إمبراطوريته وانتهاء الحكم الشيوعي.

فقدان الثقة

تواترت العديد من الكتابات الغربية حول موضوع فقدان ثقة حلفاء الولايات المتحدة بها، وظهرت العديد من التصريحات الرسمية لحلفاء لأمريكا لتعبر عن هذا، حيث ينظر إلي أمريكا أنها تخلت عن القتال في أفغانستان، وعن دعم الديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان.، وهذا ما أدى إلى انهيار أسهم الثقة في الحليف الأمريكي.

طالبان نموذج للصمود

لقد برهنت حركة طالبان، في رأي الكثير من المحللين، على مدى قدرة حركات المقاومة على الصمود والثبات في سبيل تحقيق النصر على المنظومة المهيمنة، وعلى الحكومات العميلة لها، وجسد هذا انتصار النزعة الجهادية في معركة رئيسية ضد الديمقراطية، بما يشكل دفعة قوية لحركات المقاومة في المستقبل للسير على نفس النهج في سبيل إنهاء السيطرة الاستعمارية على الشعوب المستضعفة.

موقف الصين من الانسحاب من أفغانستان

يرى بعض المحللين الصينيين أن ما حدث للولايات المتحدة في أفغانستان دليل على أن المنظومة الغربية ليست لها القدرة في فرض أسلوب الحياة والنظام الذي تريده، وعدم قدرتها على تحقيق الأهداف عن طريق القوة العسكرية، في مقابل الأسلوب الصيني الذي يعتمد على عامل الاقتراب من الشعوب عن طريق الدعم المالي والتنمية الاقتصادية، هذان العاملان يحملان في طياتهما دلالة هامة، من وجهة النظر الصينية، وهي أن تراجع المنظومة الاستعمارية الغربية يصب في خانة المكانة الصينية في إطار التنافس الدولي مع الولايات المتحدة.

التراجع الأمريكي العام

إن الباحثين في علوم المستقبليات لم يتفاجأوا بالانسحاب الأمريكي من أفغانستان، حيث تنبأوا بهذه النتيجة في إطار نظرية التراجع الأمريكي العام في جل المجالات سواء العسكرية، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية. ورغم أن خصوم هذه النظرية يرون بأن أدبيات التراجع باءت بالفشل بانهيار القوى التي راهنت عليها كبديل للمكانة الأمريكية، في مقابل انتصار النموذح الرأسمالي التي توجد على رأسه الولايات المتحدة والذي يستند بحسبهم على مؤشرات التفوق العلمي والاستقلال الطاقوي، إلا أن هذه الأدبيات تركز الان على التنامي في المكانة الصينية وعلى الفجوة الفاصلة في أغلب المؤشرات بين الولايات المتحدة والصين التي تتقلص باستمرار نتيجة تسارع التطور الصيني قياسا بالتسارع الأمريكي في المجال نفسه.

وعلى الرغم من وضوح التراجع الأمريكي العام، فلا يعني هذا بأن نهاية العصر الأمريكي تحمل في طياتها تفكك الولايات المتحدة على غرار ما حصل في الاتحاد السوفياتي، ولكن المغزى من ذلك هو تراجع النفوذ الأمريكي والهيمنة المنفردة على مقدرات العالم وتراجع التواجد العسكري في مناطق مختلفة من العالم.

ولا يمكن حصر الأسباب التي كانت وراء تنامي التراجع الأمريكي العام إلى العوامل الخارجية، بل أثرت العوامل الداخلية التي أصبحت تهدد بتقويض استقرار الدولة في ذلك أيضا، ومن أهم هذه العوامل الاستقطاب الحاد الذي يعد في مقدمة أسباب التراجع الأمريكي، بالإضافة إلى مجموعة من العوامل المدمرة كالتمييز العنصري والتفرقة والظلم الاجتماعي وارتفاع معدلات الفقر وغيرها من العوامل التي تنخر المجتمع الأمريكي.

ثالثا: التداعيات الدولية والإقليمية للتراجع الأمريكي

إن حجم المتغيرات المصاحبة للهزيمة الأمريكية في أفغانستان، ودلالاتها على مستقبل الهيمنة الأمريكية العالمية، يفرض تداعيات ضخمة على كافة المحاور الدولية والإقليمية، وهذا بالطبع ليس مستغربا حيث أن المرحلة الحالية هي تلك التي يحدث فيها الانتقال من النظام العالمي الذي فرضته الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وانتهت به إلى وضع أحادي القطبية، تتحكم من خلاله بشكل يكاد يكون منفردا في كافة متغيرات الساحة الدولية، وذلك إلى نظام عالمي جديد لازال في طور التشكل، ولمّا تتضح بعد ملامحه النهائية، وهذا بالضرورة سيفرض طبيعة حادة لما يحدث من متغيرات،  وقد يصاحبها درجة مرتفعة من الفوضى والاضطراب.

التنافس الأمريكي الصيني والنظام العالمي الجديد

سيتيح الانسحاب الأمريكي من أفغانستان الفرصة لتنامي التقدم الاستراتيجي للصين من أجل كسب مساحات نفوذ جديدة جيوبوليتيكيا واقتصاديا، بحيث ستسرع الصين من السعي لتقاسم النفوذ مع الولايات المتحدة بهدف التأسيس لنظام عالمي متعدد الأقطاب يراعي التغيرات الراهنة.

وتفاديا لتوسع النفوذ الصيني على حساب مصالح الولايات المتحدة في المنطقة، ستحاول الأخيرة تدارك الأمر عبر تجميع ما تبقى من قوتها لمواجهة النفوذ الصيني في عدة مناطق، مثل تقوية التحالف مع الهند واليابان وأستراليا المعروف باسم “كواد Quad”، كما تمثلت أحدث الخطوات في هذا السياق الإعلان في منتصف سبتمبر 2021 عن الشراكة الأمنية الجديدة بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا  المسماة بأوكاس AUKUS، والمتمثلة في تحالف عسكري- استخباراتي وذلك من أجل حماية مصالح الدول الثلاث في المحيطين الهادي والهندي، ومن خلاله تسعى الولايات المتحدة إلى تبني استراتيجية نقل التكنولوجيا العسكرية دون نقل المعدات والقوات لتخفيف العبء على ميزانيتها العامة. هذا التحالف اعتبرته فرنسا خيانة ستكون لها تأثيرات كبيرة على المفهوم الاستراتيجي الجديد لحلف شمال الأطلنطي “الناتو”، وهو ما يحيل على تراجع ثقة الشركاء الأصليين في أوروبا كفرنسا وألمانيا مما سيؤدي إلى حدوث شروخ واسعة بين أمريكا وحلفائها الأوروبيين.

و بالتأكيد فإن تحالف الأوكاس غرضه الأساس مواجهة الصين عسكريا وردعها، ويدشن لمرحلة جديدة من الدخول في حرب باردة بين الولايات المتحدة والصين، تشتعل فيها سباقات التسلح، وتعيد الأطراف المختلفة في العالم التموضع على أساسها، بما في ذلك القوى الإقليمية الكبيرة كالهند وباكستان وتركيا وإيران، بالإضافة إلى التموضعات الروسية واحتمالات تحالفها مع الصين، وستتنامى بذلك احتمالات اندلاع عسكري بين أمريكا والصين أكثر من أي وقت مضى، خصوصا مع بروز طموحات الصين في السيطرة على منطقة بحر الصين الجنوبي أو غزو جزيرة تايوان. وتسعى الصين في نفس الوقت عن طريق منظمة شنغهاي إلى تقوية تحالفاتها وعلاقاتها التجارية في ظل توسعها في السوق العالمية، ليس هذا فقط، بل تمكنت من إزاحة الولايات المتحدة من موقعها كالشريك التجاري الأول لأوروبا واحتلت هي هذا المكان!

كل هذا يؤشر على أن ملامح النظام الدولي الجديد يتجه إلى نظام لا يقتصرعلى نظام القطب الواحد تهيمن فيه الولايات المتحدة الأمريكية حصرا، وهو ما يؤكده عدد من الكتاب البارزين  الذين أكدوا أيضا على أنه سيكون من الصعب جدا على الولايات المتحدة الدخول في أية مغامرات عسكرية جديدة على غرار العراق وأفغانستان في المدى المنظور لما ستواجهه من معارضة داخلية، فضلا عن تشكك حلفائها في المشاركة معها في هذه الجهود بالنظر للتجارب المريرة السابقة.

كما توقع البعض الألية التي ستحكم علاقات القوى الكبرى في الغرب في المستقبل بحيث يسود التنافس بين مراكز العمل الرئيسية الثلاثة في صراع القوى العالمي الجديد: أوروبا الشرقية، والشرق الأوسط وأفريقيا (شمال وجنوب الصحراء الكبرى)، المحيطين الهندي والهادئ. وهذه النتيجة الهامة تمثل تغيرا جوهريا في العلاقة بين القوى الغربية الرئيسية وتحالفاتها القائمة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث أصبح مثلا حلف الناتو في حالة من التداعي التي توشي باقتراب نهايته، وسيكون مؤدى ذلك بكل تأكيد تغيرات جوهرية في التعامل مع المشكلات السياسية والعسكرية في المناطق المختلفة بما فيها المنطقة العربية.

المنطقة العربية والترتيبات الجديدة بعد التراجع الأمريكي

إن المنطقة العربية تعيش منذ انهيار الاتحاد السوفيتي تحت الهيمنة المنفردة للولايات المتحدة على معظم الدول باستثناء الدول المارقة أي الخارجة عن دائرة النفوذ الأمريكي، والآن، بعد تراجع الدور الأمريكي في المنطقة وعدم قدرة الولايات المتحدة على التمدد والسيطرة ورغبتها في التركيز على الجبهة الصينية في الإندو باسيفيك، يظهر فراغ كبير في تماسك المنظومة الراهنة، مما دفع دول المنطقة والدول المعنية للدخول في عمليات تفاوضية لحماية مصالحها، وبدأت الدول العربية الأساسية في عقد شراكات وتحالفات فيما بينها.

و من الواضح أن التقييم الاستراتيجي الأمريكي، فضلا عن الدافع الصيني، قد توجه إلى تقليل التواجد في المنطقة في أعقاب الهزائم التي تعرضت لها فيها، بالإضافة إلى تراجع أهمية البترول بالنسبة للولايات المتحدة التي أصبحت أكثر الدول إنتاجا له، وكذلك تنامي علاقات التطبيع المباشرة بين إسرائيل والعديد من الدول العربية، فضلا عن التراجع الواضح للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية التي وصلت إلى الحكم في كل من مصر والسودان وتونس والمغرب والجزائر والعراق، فضلا عن حالة التفكك الداخلي والخلافات التي تعاني منها جماعة الإخوان المسلمين، بما يشكل تسكينا، ولو بشكل وقتي لأية مشاريع تهدد الهيمنة الغربية على المنطقة.

وفي هذا الإطار، فمن المنتظر أن يستمر تقليل التواجد العسكري الأمريكي المباشر في منطقة الشرق الأوسط، ليكون هذا التواجد حصرا من أجل حماية المصالح الحيوية (بالشكل الذي أوضحته الدراسة بالتفصيل)، دون الحاجة إلى التواجد الأمني والعسكري المكثف بما في ذلك في العراق وسوريا اللذان تم تركهما للنفوذ الروسي (سوريا) والإيراني (العراق)، مع الاحتفاظ بقواعدها الجوية والبحرية الرئيسية في كل من قطر والبحرين، كما أنه من المحتمل أن يستمر الدعم الأمريكي لتحالفات جديدة أو متجددة، وذلك بما يحفظ لها مصالحها بالمنطقة.

وفي محاولة لترتيب الأوضاع في المنطقة لما بعد الانسحاب الأمريكي حاولت بعض دول المنطقة اتخاذ بعض التدابير بهدف تقليل تأثير الانسحاب الأمريكي على استقرارها، وقد جاءت أولى هذه الخطوات عبر قمة بغداد التي عقدت في أغسطس 2021 التي حضرها قادة كل من فرنسا ومصر وقطر والأردن والعراق، مع تمثيل عال المستوى من السعودية والإمارات وإيران وتركيا، وفي غياب لافت للجانب الأمريكي. وعلى الرغم من أن الأهداف المعلنة للقمة لم تكن واضحة، إلا أن سياقاتها جاءت لتكشف الأهداف الحقيقية والمرتبطة بالتراجع الأمريكي، في مقابل الحضور الفرنسي اللافت، وهو ما يؤشر إلى محاولة فرنسا ملئ الفراغ القيادي الأمريكي في المنطقة.

ويعتبر لقاء أمير قطر مع الرئيس المصري من أبرز اللقاءات التي تمخضت عن القمة، وقد جاء في إطار تكريس مسار تقوية العلاقات المصرية-القطرية في محاولة لاحتواء نقاط الخلاف بينهما، ولا يقتصر الهدف في مسار المصالحة فقط بل يتعداها إلى حدوث تقارب وتعاون في ملفات إقليمية مشتركة من بينها ملف غزة والقضية الفلسطينية، مع إمكانية دخول الجانب المصري على محور الملف الأفغاني عبر البوابة القطرية.

كما جاء اللقاء السعودي-الإيراني حاملا أهمية خاصة في هذه القمة، لأن ذلك يحمل في طياته حدوث مساعي لتقريب وجهات النظر بين الطرفين، والتي بدأت فعليا أوائل العام بوساطة عراقية، وعلى ضوء ذلك ظهرت مؤشرات التهدئة في علاقة البلدين من خلال عدد من التصريحات الرسمية للعاهل السعودي وولي عهده بأن “إيران دولة جارة تأمل المملكة أن تتمخض المباحثات معها إلى تقدم إجراءات بناء الثقة وإرساء أسس التعاون المشترك”، وهذا ما يشكل خطوة هامة في الطريق نحو التهدئة في ظل الحديث عن اقتراب إيران من إمكانية إنتاج سلاح نووي، مما يضطر معه دول المنطقة للسعي إلى تسكين علاقاتها في ظل تراجع التواجد الأمريكي في المنطقة.

وفي نفس الإطار، فقد ظهرت مجموعة من المؤشرات التي تفيد تغيرا في الموقف الأمريكي من النظام السوري، فقد جاءت نظرة الإدارة الأمريكية مغايرة لسابقاتها التي كانت تنادي إلى ضرورة خروج الأسد من المشهد السوري، بحيث تم بناء وجهة النظرالواقعية الحالية ليس من خلال ارتباط الأمر بالدور الروسي أو الضعف الذي يعتري المعارضة السورية، بل على أساس أن الأسد هو الطرف الوحيد الذي بإمكانه الحفاظ على المصالح الأمريكية في سوريا في حال سيطرته عليها بشكل شبه كامل، وعلى نفس النحو تسير مواقف بعض الدول العربية التي تغيرت من معارضة بقاء الأسد إلى دعم عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية.

وفي إطار التغيرات الحاصلة في المنطقة، تأتي تهدئة الخلافات التي نشأت بين بعض دولها والاتجاه نحو بناء علاقات جديدة، وأبرز مثال على ذلك التوجه المصري نحو تحسين العلاقات مع كل من قطر وتركيا، اللذان كان يعتبرهما النظام المصري خلال السنوات الماضية أبرز خصومه في المنطقة. ففيما يخص العلاقات المصرية- القطرية فهناك تطورات إيجابية ومتسارعة، أما العلاقات المصرية-التركية فلا يتسارع نموها بوتيرة مناظرة للعلاقة مع قطرعلى الرغم من استجابة الجانب التركي لبعض المطالب المصرية وتنامي العلاقات الاقتصادية، إلا أن سقف هذه العلاقات يبقى محدودا وذلك لتأثيرات بعض الملفات والقضايا على عودة العلاقات إلى طبيعتها الكاملة.

ومن التطورات اللافتة أيضا ما يبدو، ظاهريا على الأقل، من تراجع الاستراتيجية الهجومية التي كانت تعتمدها الإمارات، بحيث تسعى الأخيرة إلى ترميم علاقاتها مع بعض دول المنطقة وعلى رأسها تركيا وقطر وإيران، وذلك على ضوء التراجع الأمريكي وتداعيات هذا الفراغ على المنطقة. وهي تبدو بذلك ساعية على ضوء المتغيرات الجديدة إلى تغيير استراتيجيتها، مع عدم التخلي عن طموحاتها الإقليمية، لكن ضمن محددات السياسة الأمريكية التي تفرضها إدارة بايدن.

وفي نفس السياق، فإن التراجع الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط سيصاحبه المزيد من الاعتماد على إسرائيل كحليف استراتيجي للولايات المتحدة، تستعيد من خلاله دورها الحيوي في المنطقة، خاصة على ضوء تقارب أغلب الدول العربية معها. بالإضافة إلى ذلك تسعى الولايات المتحدة إلى إخماد عدد من ساحات الصراع المفتوحة في المنطقة، من خلال دعمها للتسوية السلمية في ليبيا، ولعب دور في حث الأطراف المتصارعة في اليمن للجلوس على طاولة المفاوضات، وتقريب الطرفين المتصارعين، المدني والعسكري، في السودان، مع محاولة التدخل لوأد النزاع الداخلي المتصاعد في إثيوبيا.

سيناريوهات مستقبل المنطقة

أثار موضوع التراجع الأمريكي العديد من النقاشات حول تداعيات الوضع الراهن خصوصا على منطقة الشرق الأوسط، وفي هذا الصدد ناقشت دراسة معمقة نشرها معهد الشرق الأوسط في مارس 2021 تحت عنوان” كيف يبدو الشرق الأوسط في العام 2030-وجهة نظر إسرائيلية”، بحيث حددت مجموعة من العوامل الأساسية التي سيكون لها تأثيرات على مستقبل الشرق الأوسط ، وكذلك التطورات المؤثرة Game Changers التي يمكن أن تقلب الأوضاع، إلا أن الدراسة  قد اعتمدت في النهاية على متغيرين رئيسيين في بناء السيناريوهات، الأول مرتبط بمدى استعداد أمريكا للعب دور قوي في الشرق الأوسط بما يحتاجه من موارد بشرية ومادية لدعم حلفائها سياسيا وعسكريا، أما الثاني فمرتبط بالاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، بحيث يمكن لهذا العامل أن يعيد رسم خريطة التحالفات داخل المنطقة وخارجها.

وبناء على هذه العوامل والمتغيرات، فقد قامت الدراسة بتقديم أربع سيناريوهات رئيسية وهي:

  • السيناريو الأول: تداخل أمريكي قوي مع وضع مستقر في المنطقة.
  • السيناريو الثاني: تداخل أمريكي قوي في منطقة غير مستقرة.
  • السيناريو الثالث: تراجع أمريكي في منطقة مستقرة.
  • السيناريو الرابع: تراجع أمريكي في منطقة غير مستقرة.

وانطلاقا من هذه السيناريوهات، ومن المتغيرات الحاصلة في المنطقة والتي تم استعراض حيثياتها وتفاصيلها، فإنني أرجح في ظل الوضع القائم حاليا وضعا ما بين السيناريوهين الثاني والثالث، بحيث تقوم الولايات المتحدة بتقليل تواجدها العسكري في المنطقة بالتدريج، مع المحاولات الجارية لفرض الاستقرار وملئ الفراغ.

إلا أن هذا الوضع لا يمكن استمراره، من وجهة نظري، إلا فقط لمدى قصير، يعقبه الانتقال لوضع ما بين السيناريوهين الثالث والرابع ويكون الحسم للوصول للسيناريو الرابع بشكل كامل مسألة وقت، وذلك في ظل استمرارية التراجع الأمريكي بالتوازي مع اضطراب الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالمنطقة.

وانطلاقا مما سبق، فقد قمت بدراسة ثلاث سيناريوهات فرعية محتملة لمسار مستقبل المنطقة في أعقاب تراجع الدور العسكري الأمريكي في الوضع الراهن:

  1. نجاح المساعي الأمريكية في تسكين الأوضاع، بالرغم من تراجع تواجدها العسكري، وأيضا في إعادة تموضع بعض الدول والقوى الإقليمية بما يخدم المصالح الأمريكية في المنطقة في حدها الأدنى على الأقل، مع استقرار نسبي في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بما يحفظ تماسك النظام الإقليمي.
  2. عدم نجاح الولايات المتحدة في هذه المساعي، ما يضطرها للاستمرار في الانخراط الجزئي في المنطقة حفاظا على مصالحها، ودرءا لازدياد النفوذ الصيني والروسي فيها.
  3. دخول المنطقة في حالة من الاضطراب وتنامي النزاعات وبروز صراعات جديدة بعد تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة مع سقوط بعض الأنظمة القائمة أو وقوعها في حالة ضعف شديد، وتقرر أمريكا حينئد زيادة وتيرة تراجعها وعدم انخراطها في صراعات المنطقة، بما قد يؤدى بالمنطقة إلى الدخول في أتون الفوضى الجزئية أو الشاملة.

وأنا  أرى أن إمكانية تحقق السيناريوهين الأول والثاني غير ذات حظوظ قوية في ظل الترتيبات الجديدة على ضوء التراجع الأمريكي الواضح (مثلا فشل الولايات المتحدة في منع الانقلاب السوداني الأخير أو تحقيق اتفاق بين القوى المتصارعة يعتبر مثالا حيا على هذا الأمر)، في مقابل ترجيح السيناريو الثالث المتمثل في الفراغ المتبوع بازدياد وتيرة الفوضى والاضطراب سواء بشكل جزئي في بعض البلدان، أو بشكل شامل في جل أنحاء المنطقة. ولا تبدو طبقا للمعطيات الراهنة، من وجهة نظري، إمكانية لتجنب هذا السيناريو الكارثي، ما لم تحدث متغيرات جوهرية مفاجئة تفرض أوضاعا مختلفة.

إن مراقبة الوضع الإقليمي على جميع المستويات تشي بحالة شديدة السيولة، من الصعب التنبؤ بمساراتها ومألتها؛ فأسباب الصراعات وتفجر الأوضاع لازالت كامنة في جميع الملفات، ولا يبدو أن هناك أفقا واضحا لتسويتها بشكل عادل وداعم للاستقرار في المدى المنظور. وتبدو الشواهد لترجيح السيناريو الثالث قوية، في رأيي، خاصة مع حالة التراجع الأمريكي، فيما يلي:

  • الأوضاع في سوريا شديدة المأساوية، وهي تؤول إلى فرض استعادة سيطرة نظام الأسد على معظم التراب السوري، مع تواجد عسكري روسي دائم، وتصاعد نفوذ الميليشيات المدعومة إيرانيا، وظهور تعارض في المصالح بين روسيا وإيران في ترتيب الأوضاع النهائية.
  • تقع العراق حاليا تحت حكم الميليشيات المسلحة المدعومة إيرانيا، مع وجود حالة من الفشل السياسي الكامل المصحوب بقدر غير مسبوق من الفساد، فضلا عن الأزمات الاقتصادية الحادة. 
  • ·         تستمر الأوضاع المأساوية في اليمن مع تراجع القوى الداعمة للشرعية على الجبهات المختلفة، وذلك في ظل مأساة إنسانية شديدة يعاني منها الشعب اليمني على الصعيد الصحي والاقتصادي وكافة مناحي الحياة.
  • لاتزال هناك حالة من عدم التأكد حول ما ستؤول إليه الأوضاع في ليبيا، حيث لا يعني إجراء الانتخابات بالضرورة الوصول لحالة من الاستقرار المنشود.
  • و في السودان فإن حالة عدم الاستقرار السياسي تتصاعدبعد الانقلاب الأخير، ولا يبدو أن الاستقرار قريب المنال.
  • لا يمكن اعتبار منطقة المغرب العربي، في تونس والجزائر والمغرب، بمنأى عن حالة عدم الاستقرار المتوقعة في المنطقة.
  • أما في مصر، فالأوضاع تبدو في ظاهرها أكثر استقرارا من باقي المنطقة نظرا للسيطرة التامة للسيسي ونظامه على الأوضاع السياسية والأمنية، إلا أن هذه السيطرة راجعة بالأساس لمنظومة أمنية قمعية شديدة البطش، دون ترك أي مساحة لأي نوع من الحراك أو التعبير السياسي والمجتمعي، ومثل هذه المنظومة لا يمكن لها التماسك لفترات طويلة وتكون معرضة للانهيار في أي وقت.
  • و في فلسطين المحتلة، فحالة الاحتقان المستمرة منذ سنوات لا تنقطع، وتظهر دائما إمكانية تفجر الأوضاع من جديد، وهو ما يمكن أن يضع المنطقة كلها على حافة فوهة بركان.
  • تدهورت الأوضاع في لبنان بشكل غير مسبوق وازداد التضخم وأزمات الوقود بشكل جنوني، ووقع أغلب اللبنانيون تحت خط الفقر، هذه الأزمات تدفع عددا من المحللين لتوقع انهيار الأوضاع في لبنان بشكل كامل ووقوعها في حالة الفوضى في أية لحظة.
  • أما في منطقة الخليج، التي تبدو في حالة استقرار نسبي خاصة بعد تسوية الخلافات مع قطر، مع تقدم المباحثات الإيرانية-السعودية، إلا أن توسع الدور الإيراني في المنطقة وعدم وجود رادع حقيقي له في ظل التراجع الأمريكي العسكري في المنطقة، مع اقتراب إيران من إنتاج السلاح النووي في ظل عدم الوصول لاتفاق سريع مع الولايات المتحدة، فضلا عن قدراتها الصاروخية المتنامية، يجعل المنطقة تقع تحت تهديد شديد.
  • إن الأزمات العالمية المنتظر تفاقمها في أواخر العام 2021 ستلقي بظلالها على المنطقة العربية بشكل ضخم، خاصة أزمتي الطاقة والاقتصاد المتصاعدتين بقوة، ولن تستطيع الدول المأزومة الإفراط في طباعة النقد حيث لا تستطيع تحمل التضخم المتعلق بذلك، فلا بديل لديها لتغطية عجزها المالي إلا المزيد من الاقتراض، لكن في ضوء بدء البنوك المركزية الغربية في التخلي التدريجي عن سياسات التيسير الكمي المتعلقة بفترة ما بعد الكورونا، فستقل الأموال المتاحة للاقتراض، وسترتفع أسعار الفائدة على الاقتراض بشكل كبير، كما سيسهل خروج الأموال الساخنة التي كانت تستثمر في تجارة أدوات الدين استفادة بفرق سعر الفائدة الكبير نسبيا عن السعر العالمي . وبالنظر لارتفاع حجم القروض في كثير من البلدان العربية، فإن الوصول إلى نقطة عدم قدرتها على السداد ستكون فقط مسألة وقت، وسيصبح من الوارد تكرار سيناريو لبنان في بلدان عربية أخرى.
  • وفي ظل الأدوار التي تأمل أمريكا من حلفائها القيام بها لتعويض غيابها ولو جزئيا، سيصعب تصور قيامها بضغوط جدية أو مؤثرة في ملفات مختلفة على بلدان مثل إسرائيل ومصر والسعودية (في القضية الفلسطينية وقضايا حقوق الإنسان وغيرها، عدا بعض الحراك الإعلامي)،  واستمرار هذه الأوضاع سيؤدي بالضرورة لتصاعد حالات الاحتقان الداخلي في ظل استمرار حالة القمع الشديد وعدم القدرة على حلحلة ملفات حقوق الإنسان، مما يجعل تحول المنطقة إلى حالة من الاضطراب قد تصل إلى العنف متصورا، وذلك لغياب أي أفق سياسي للإصلاح أو المعارضة بطرق سلمية.
  • لا يجب إغفال أثر تصاعد الجرأة على تحدي أمريكا بعد التدهور المستمر في الصورة الذهنية عنها، مما سيشجع بعض التنظيمات “الجهادية”، المحلية أو العابرة للدول، للتخطيط لتحدي الولايات المتحدة في مواقع نفوذها، وتحدي “الحكومات الفاسدة” المتواطئة معها (على غرار حكومة أفغانستان السابقة) وهو ما سيساهم في إذكاء حالة عدم الاستقرار في المنطقة بشكل عام.

الخلاصة:

في سياق حالة التراجع العام وتقلص الهيمنة الامبراطورية للولايات المتحدة، وبدء مرحلة جديدة من الثنائية/ التعددية القطبية وانتهاء عصر الأحادية للولايات المتحدة، هذه المكانة التي استغلتها للتدخل في العديد من الصراعات والحروب على مستوى العديد من مناطق العالم وبالخصوص في منطقة الشرق الأوسط والتي انتهت جميعها بالفشل في تحقيق أهدافها، في مقابل تنامي الصعود الصيني وتصاعد تهديداته التوسعية في تحد واضح للهيمنة الأمريكية، هذا الواقع الذي فرض على الجانب الأمريكي تقليص تواجده العسكري في المنطقة الشرق الأوسط، في هذا السياق تحدث تغيرات هامة في إطار تشكيل النظام العالمي الجديد، بما سيؤثر حتما على المنطقة العربية، إلا إن هناك عددا من المحاولات الأمريكية لإعادة ترتيب الأوضاع عقب تراجع دورها من خلال ضمان الاستمرار في تحقيق مصالحها في وضع مستقر نسبيا.

واستعرضت الدراسة مجموعة من السيناريوهات المحتملة بناء على المتغيرات التي فرضتها هذه الحالة، بحيث رجحت سيناريو الفوضى والاضطراب، ما لم يتم معالجة المشاكل الكبرى التي تواجهها دول المنطقة كافة، أو إذا لم تحدث أي متغيرات جوهرية تكبح جماح هذا السينايو السوداوي.

لقد أظهرت تجربة أفغانستان أن هزيمة النظام الدولي حين يستبيح إرادة الشعوب هو أمر ممكن، وأن تحرر الشعوب والأمم من التبعية الغربية ليس بالأمر المستحيل، وأن تطورات التداعيات المترتبة على المتغيرات الدولية والإقليمية من خلال السيناريوهات المختلفة لن تعتمد حصرا على حركة القوى الدولية وصراعاتها وخططها ودينامياتها، ولكن ستمتد بالأهم إلى مدى استيعاب الشعوب المستضعفة للدروس وقدرتها على تطبيقها لتحقيق أهدافها.

Please subscribe to our page on Google News

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15204

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *