تحليل مفهوم وقوانين علم السياسة وطبيعة السلطة السياسية

إعداد الأستاذ الدكتور كمال محمد الأسطل 

علم السياسة يدور حول ظاهرة السلطة فما معني ذلك؟

كل خبرة علم الاجتماعيات علمتنا أن الانتماء إلى جماعة يعني دائما الخضوع للسلطة وأن أي جماعة منظمة يجب أن تنقسم إلى فريقين، أحدهم يعلو الآخر، وظاهرة السلطة بهذا المعني هي وليدة ظاهرة القانون بغض النظر عن مصدرها ومتى شعرت الجماعة بحاجتها لأن تكون أولئك الذين يحترمون تلك القاعدة  القانونية، فإن ذلك الوضع يترجم بوجود هيئة أو شخص من حقه ،ومن واجبة أن يكره الفرد على الخضوع لسلطان القانون ، أو بعبارة أخرى تتكون سلطة حاكمة ، فالقانون إذن ظاهرة سياسية. وكل منا ينتسب إلى جماعات متعددة،  البعض يتحدد بالانتماء إليها بالإرادة الحرة المختارة ،أي القبول نتيجة شعور بالحاجة للانتماء إلى تلك الجماعة كالنقابة ، أو الطائفة المهنية ،أو الجمعية الإدارية ، أو النادي الرياضي،  أو الحزب السياسي، على أن هناك أيضا جماعات نجد أنفسنا ننتمي إليها بحكم الميلاد في ظروف مادية معينه تكرهنا على أن نعتبر أنفسنا خلية في تلك الجماعة: كالأسرة، والطبقة الاجتماعية، والطائفة الدينية ،والأمة.

ونتيجة هذا العلاقة التي تربط الفرد بالجماعة هو وجود التزام على الفرد بأن يندمج في تلك الجماعة: يحترم قواعدها ويعكس ضميرها ووعيها الجماعي، هذا الالتزام يجب احترامه، وهكذا يترجم الالتزام السياسي من الناحية الواقعية بأن الجماعة تنقسم إلى طائفتين: طائفة تحكم وطائفة محكومة، بعبارة أخرى في كل جماعة نجد من جانب أولئك الذين يصدرون الأوامر، أولئك الذين يديرون دفة الأمور العامة أي أولئك الذين يوجهون، ومن جانب آخر أولئك الذين عليهم أن يطيعوا ويتبعوا إنما يخضعوا للسلطة.

هذه الظاهرة أي ظاهرة السلطة هي موضوع علم السياسة وهي التي تضفي عليه الوحدة إلى تجعل منه علما بكل ما تتضمنه تلك الكلمة من معان.

مامعنى السلطة؟ The Meaning of Power/Authority

هناك اتجاه فرنسي يربط علم السياسة بالسلطة، سلطة الأمر في المجتمع وعلى أساس أن السلطة تعني ظاهرة الاحتكار الفعلي لأدوات الإكراه والعنف (البوليس والجيش) مقرونة بتمثل ضميري جماعي لهذا الاحتكار على أنه أداه تحقيق الانسجام الجماعي. أي أن السلطة ذات بعد مادي وبعد فكري قيمي. شرعية السلطة ترتبط بالرضا الشعبي ، والتعبير عن القيم الجماعية والدستورية،  والسلطة مركب من عنصرين،- وفقا لما يراه الأستاذ الفرنسي جورج بوردو G. Burdeau

السلطة = القوة المادية Force  + الفكرة Idea (التي تربط السلطة بالغاية الإجتماعية)

وهو مايعبر عنه الأستاذ الفرنسي موريس ديفرجيه M. Duverger   أن السلطة تتمثل في علاقات التسلط والسيطرة والدوام، مقترنا بعالم القيم، والقوة الفعلية.

علم السياسة علم السلطة دون إغفال دراسة نظرية الدولة ٍState and Power

التعريف بأن علم السياسة هو علم السلطة يعني أننا نستبعد كلية ذلك الاتجاه الذي ظل سائدا حتى وقت قريب والذي يجعل من علم السياسة مرادفا لنظرية الدولة،  ولن نكثر من التفصيل في هذا الناحية ،فعلماء السياسة المعاصرون يجمعون على أن التعريف يتضمن خلطا واضحا بين علم القانون وعلم السياسة والواقع أنه منذ قدم لنا العالم الألماني “ايللنك” تعريفه لعلم السياسة كعلم الدولة،  لا تصادف في الفقه المعاصر من ظل متمسكا بهذا التعريف،  إلا من كان إما جاهلا بعلم السياسة،  أو قانونيا يريد أن يلغي علم السياسة ذاته ، وقد يكون في الظرف التي ارتبطت المعرفة الاجتماعية خلال القرن التاسع عشر في المجتمع الألماني ما يفسر مثل هذا التعريف ففي غمرة النهضة القومية التي كان لابد وأن تؤدي إلى تأكيد وتأليه الطابع الوطني للدولة .

والخلاصة أن علم السياسة أن أراد أن يكون علما بمعناه الحقيقي يجب أن يحدد له موضوعا كظاهرة مستقلة تبعد عن أن تكون فرضا غامضا، هذه الظاهرة هي ظاهرة السلطة ومن ثم فهو علم السلطة، وهذا لا يعني أن علم السياسة يرفض نظرية الدولة. على أنه يتخذ من دراسته للدولة عنصرا من عناصر التلخيص ونقطة بدء في تقديمه للنظام العام الذي يبني عليه المفاهيم الأساسية لعلم السياسة.

ورغم وضوح هذا الاتجاه فلا يزال “بريلوه” في فرنسا “وكلش” في ألمانيا “رودي” في أمريكا يصرون على تعريف علم السياسة بأنه علم الدولة.

 ثم يأتي من بعدهم: “ايستون” فيعرف علم السياسة بأنه علم التوزيع الإكراهي للقيم Coercive allocation of Resources في الجماعة مؤكدا بذلك العودة عن طريق خلفي إلى تعريف علم السياسة بأنه علم الدولة.

ولكن ما المقصود أولا بالسلطة؟  Definition of Authority

كلمة السلطة يقصد بها التوجيه والأمر، السلطة بهذا المعني تتصف بصفات أربعة:

هي أولا ظاهرة نسبية؛

 وهي ثانية ظاهرة شرعية؛

 وهي ثالثا تفترض عنصر الإكراه؛

 وهي  رابعا وأخيرا تعبر عن حقيقة بيولوجية.

1-السلطة والإكراه المادي والمعنوي والنفسي Coercive

السلطة في أوسع معانيها وفي ابسطها تتضمن دائما عنصر الإكراه .. والإكراه أي الضغط الذي منه يتولد الخضوع والانطواء قد يكون ماديا وقد يكون معنويا. الإكراه المادي أي الجسدي في الجماعة المنظمة،  أدواته عديدة ابتداء من البوليس والجيش والسجون دون الحديث عن التعذيب وأساليبه،  على أن الإكراه المعنوي الذي هو نتيجة للخوف والرهبة وهو الذي يمثل الفارق بين الجماعة الإنسانية والجماعة الحيوانية هو الذي يميز المجتمع المعاصر، فلم يقدر للبشرية أن تعرف تعدد واتساع صور الإكراه المعنوي.

 الصورة الثانية من صور الإكراه المعنوي ما نسميه بالإكراه عن طريق الاستيعاب الجماعي- ونقصد بذلك خضوع الفرد واضطراره للانسياق في اتجاه معين نتيجة لانتسابه والمثل الواضح لذلك هو نظام الحزب الشيوعي في البلاد الديمقراطية الغربية إثناء الحرب العالمية الثانية. والصورة الثالثة والأخيرة من صور الإكراه هي ما يسمى بالإكراه النفسي وهي صورة حديثة تفشت في الجماعة المعاصرة بفضل الطرق المتعددة من طرق الدعايات التي تنشرها أدوات الأعلام الجماهيري: الصحافة، الراديو، السينما، التليفزيون، الانترنيت…الخ. هذه الصورة من صور الإكراه كان أول من استخدمها بطريقة واسعة النظام النازي في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية على أنها اليوم تستخدم بطريقة أكثر اتساعا وأكثر تنظيما من جانب جميع الحكومات دون استثناء.

2– السلطة نسبية Relative

السلطة أيضا تعبر عن حقيقة نسبية فهي تتحدد لا فقط بصاحبها بل وأيضا بمن توجه إليه. السلطة ليست مجرد طاقة، أنها علاقات اجتماعية تدور حول تنظيم مواقف يتجاوب فيها حاكم ومحكوم على أن هذه العلاقات دائما تصاعدية فكل حاكم محكوم, كل محكوم حاكم في آن واحد ، وهكذا يصير محصل الضرائب هو صاحب سلطة بالنسبة لمن يجب أن يدفع الضريبية, ولكنه محكوم وليس حاكم بالنسبة لوزير المالية ، والعسكري أو الغفير يصير كذلك حاكما بالنسبة للمواطن العادي، ولكنه محكوم بل يكاد يكون في نهاية السلم التصاعدي لعملية الضبط النظامية.

3– السلطة تتصف بصفة الشرعية Legitimate

الصفة الثالثة التي تميز السلطة وتعكس حقيقتها السياسية هي أنها يجب أن تتصف بصفة الشرعية، والشرعية تعني القبول والتسليم لا فقط بمفهوم السلطة، وإنما أيضا بمن يستخدمها وحدود استعمالها، فمما لاشك فيه أن فكرة السلطة تستند أساسا إلى مجموعة من المعتقدات تسود كل جماعة سياسية بحيث يتحدد فيها بطريقة أو بأخرى أسلوب الوصول إلى السلطة. السلطة تصير شرعية عندما تعكس تلك المجموعة من المعتقدات السائدة ، وهكذا لا يمكن الحديث عن شرعية واحدة وإنما عن شرعية تحددت بالمكان والزمان،   فالشرعية السياسية في خلال القرن السابع عشر وحتى أوائل القرن التاسع عشر كانت تتحدد بالأصل الملكي، بالدم الأزرق، الشرعية اليوم تدور في فلك فكرة السلطة الشعبية،  أو بعبارة أخرى الانتخاب أو الاقتراع العام ثم تأتي النظرية الشيوعية وأحزاب الإسلام السياسي وتضيف فكرة الانتماء للحزب والولاء للعقيدة كمصدر للشرعية السياسة.

4– السلطة والخصائص البيولوجية (السلطة للأقوى) Biological Character of Authority/Power

ويتساءل البعض أخير من مدي تعبير ظاهرة السلطة وارتباطها بخصائص بيولوجية هذه الناحية يهملها عادة رجال علم الاجتماع ولكن التحليل المعملي للظاهرة السياسية أبرز خصائص ومميزات عضوية لظاهرة السلطة عن مواصفات بيولوجية بحته، ففي دراسة تجريبية للمجتمع من الدواجن حيث يوجد أكثر من ديك واحد لوحظ أن هذه الديوك تنام ليلا في ترتيب دائما يكون عادة في أعلى الحظيرة ، وهذا الترتيب يراعي فيه أنه يبدأ بأقوى الديوك وأكثرها سيطرة ، كما لوحظ أنه عندما يحدث نزاع حول تلك السيطرة بين الديك رقم(1) والديك(2) وينتهي الديك الأول، انتقل الديك الثاني إلى موضع الأول وتبعه تغير في موضع الديوك الأخرى ، في أغلب الأحيان كانت القوة البيولوجية هو مصدر هذا  دفع بعض علماء الأنثروبولوجيا بأن يقرب الجماعة الإنسانية من جماعة  الطيور ولو بمواصفات خاصة تعيد إلى الذهن بعض مظاهر التعبير عن هذه الطبيعة البيولوجية للسلطة.

والخلاصة أن علم السياسة يتناول ظاهرة السلطة من نواح ثلاث:

أولا: الناحية الشكلية، Formal دراسة قانونية هيكلية تدور حول النظم السياسية، أي الإطار الذي يحتضن الحقيقة الاجتماعية، فيه تختلط الدراسة السياسية بالدراسة القانونية.

ثانيا: ناحية ديناميكية Dynamic تتناول الواقع السياسي أي التطبيق الفعلي للنظم، أي دراسة ما هو قائم وليس ذلك الذي يفترض أن يكون . وهنا يكون الارتباط بالنواحي الاجتماعية والنفسية أكثر وضوحا ولو من حيث التحليل الميكروكزمي (الجزئي)  للمادة السياسية.

ثالثا: النواحي الوظيفية، Functional أي الأهداف التي تسعى إليها الجماعة السياسة في كلياتها أو في جزئياتها، كحقائق عقيدة مطلقة أو كأهداف محددة بدواعي الأمن القومي، الدراسة هنا تتطرق إلى ميدان القيم محمولة هذه على أوسع معانيها.

علم السياسة علم دينامكي الثابت فيه هو المتغير The Political Science is a Dynamic not Static  

بالإضافة لما سبق ذكره يمكن أن نسجل الملاحظات الآتية فيما يتعلق بعلم السياسة:

أولا: من النواحي المنهاجية فتح علم السياسة المجال أمام عملية التحليل العلمية التجريبية القائمة على الملاحظة المباشرة بل وفي بعض الأحيان المفتعلة والمتحكم في تطورها وفي نتائجها وهكذا أدخلت الأسلوب المعملي في تحويل ظاهرة التطور السياسي.

ثانيا: أبرز علم السياسة مدي أهمية القوي المستترة والمختلطة بغيرها والتي يعبر عنها بالرأي العام كقوة حقيقية متحكمة في تطور الظاهرة السياسية بعبارة أخرى خلقت ميدانا جديدا في علم السياسة يعبر عنه اليوم بكلمة: political dynamics كمرادف لكلمة الحياة السياسية بما في ذلك نظرية الرأي العام والحياة الحزبية أن وجدت.

ثالثا: قادتنا دراسة علم السياسة إلى دراسة الشخصية السياسية، وفتحت لنا بهذا الخصوص آفاقا جديدا سواء على مستوي القيادة السياسية:political leadership ، أو على مستوي تحليل الطابع القومي: national character

رابعا:  أوضح علم السياسة كيفية تحليل التطور القراري Decision-makingأو بعبارة أخرى علاقة القوي التي تسبق مواجهة الموقف السياسي بإدخال واقعة جديدة في تطور الحياة السياسية تعني وضع حد لذلك الموقف وبدء موقف جديد.

خامسا:  يشمل علم السياسة دراسة التنبؤات السياسية  Political Predictionعلى مستوي الفرد أي توقع الفعل من حيث مواصفاته ونتائجه المرتبط بالقرار السياسي الذي لم يتخذ بعد أو بالموقف السياسي الذي لم تتحدد أبعاده بعد.

خامسا: يشمل علم السياسة علم الحركة والسلوك السياسي والتفسير النفسي والسلوكي للظاهرة السياسية، وطالما كنا نسلم بأن علم السياسة هو علم السلطة، وطالما كنا نري السلطة حقيقة ديناميكية ووظيفية، واحد العناصر التي تعكس هذا الحقيقة هو العنصر المعنوي، فأننا نكون مخالفين لا نفسنا لو رفضنا العناية بالعنصر النفسي في تحليلنا للظاهرة السياسية.

علم السياسة علم شامل ديناميكي Political Science is a Comprehensive Science

من خلال العرض السابق واللاحق يتضح لنا أن علم السياسة علم شامل. فهو:

علم السياسة علم الدولة State بشموليتها

علم السياسة هو علم السلطة Authority  بجميع مظاهرها وتطبيقاتها.

أولا: السلطة الجماعية المباشرة: مثل السلطة في الجماعات البدائية مثل العشائر وسلطتها الجماعية على الفرد الذي إن خالف تقاليدها وعاداتها يتعرض للعنة والنبذ أو لعنة الطوطم (اله) عند البدائي وهي لعنة السلف أو الألهة أنه حكم إعدام الذي لاحاجة به إلى قاضي أو مقصلة.

ثانيا: السلطة المشخصة: وتتمثل هذه الصورة في المجتمع القبلي حيث يختص رئيس القبيلة بالسلطة السياسية، وفي المجتمعات ذات السلطة الفردية المطلقة حيث السلطة من خصائص فد واحد لايخضع في ممارسته لمظاهرها لنظام معين، أو المجتمع الإقطاعي الوسيط في أوروبا حيث كانت من خصائص القادة الإقطاعيين.

ثالثا: صورة السلطة الأبوية :أو سلطة رجل الدين أومدير المدرسة أو سلطة الأسد في الغابة أو صور الديك في حظيرة الدجاج  والتطبيقات المختلفة.

رابعا: السلطة المنظمة: وهي تعبير عن السلطة المنظمة في المجتمع السياسي أو الدولة

علم السياسة هو علم القوة Power  بعلاقاتها المختلفة.

علم السياسة هو علم الحركة السياسية

علم السياسة هو علم القيم السياسية

علم السياسة علم متعدد المجالات والموضوعات

علم السياسة متطور متجدد منفتح لايعرف الانغلاق.

علم السياسة هو علم يمثل أم العلوم ويتداخل مع غالبية العلوم.

التعريف بالمادة السياسية والمادة الاجتماعية of Political and Social Subjects Definition

المادة السياسية هي المادة الاجتماعية منظور إليها من ناحية السلطة. المادة السياسية هي الحقيقة الماكروكزمية Macrocosm التي تتكون من جزئياتها المادة الاجتماعية، المادة الاجتماعية هي مجموعة الحقائق الميكروكزمية Microcosm  التي تتكون منه الحقيقة الكلية وهي المادة السياسية. ومن ثم القانون السياسي هو تصوير للتطور بخصوص المادة السياسية أي تلخيص لها من حيث علاقاتها الحركية. المادة السياسية هي المادة الاجتماعية وقد تبلورت حول السلطة. فما هي العلاقة بين المادة السياسية والمادة الاجتماعية؟ وإذ نصل إلى تصوير المادة السياسية في شكل علاقات ارتباطيه، يتعين علينا أن نتساءل: ما هي العلاقة بين القانون السياسي والمادة الاجتماعية؟

سوف نري فيما بعد كيف تتحدد العلاقة بين القانون السياسي والمادة السياسية حيث أن القانون السياسي ليس إلا تجريدا للمادة السياسية ومن ثم فهو لغة تصور تلك المادة من حيث الاضطراد واللزوم أن أمكن ذلك ويتفرع على هذه الحقيقة أن دراسة المادة السياسية تحتم أمور ثلاث:-

أولاأن الواقعة السياسية هي واقعة كلية من حيث طبيعتها، ولكنها جزئية من حيث تصويرها.

ثانيا: أن المعرفة السياسية هي جزئية من حيث غايتها ولكنها كلية من حيث أصولها.

ثالثا: أن المعرفة السياسية في محاولتها التجرد تتجه إلى استيعاب المادة الاجتماعية.

الجماعة المعاصرة وهذا أمر لا يحتمل المناقشة تتطور نحو تأكيد الصفة السياسية لكل تصرف أو وضع يوصف بأنه اجتماعي. المجتمع المعاصر مجتمع متناقض: في الوقت الذي يسيطر عدم الاهتمام بالنواحي السياسية على السلوك الفردي، تتدخل الجماعة باسم المصلحة العامة في كل تصرف فردي،  وفي كل وضع ذاتي، متناسية أو متجاهلة جميع التقاليد القائمة على أساس التسليم للمواطن بميدان معين، ولو جزئي، تكون فيه إرادته هي وحدها صاحبة السلطة المطلقة في التنظيم، في الوقت الذي تؤكد حرية الفرد تلغيها من جانب آخر، على أن هذا الإلغاء،  أو هذا التقييد،  إنما يعني أن الجماعة المعاصرة تجعل من العلاقة السياسية أساسا لجميع عناصر المادة الاجتماعية.

أن النصف الثاني من القرن العشرين والنصف الأول من القرن الحادي والعشرين  قد شهد لأول مرة في تاريخ الإنسانية انهيارا للحواجز بين مختلف مظاهر الوجود الاجتماعي: السياسي والاقتصادي، الخاص والعام، الفردي وغير الفردي، كل هذه النماذج من صور الوجود الإنساني قد انصهرت وألغت الحدود والفوارق التي إقامتها الحضارات الكلاسيكية والحضارات الدينية ليندفع التطور نحو تأكيد نتيجة واحدة إلا وهي طغيان  السياسة والدولة على الوجود الفردي .

علم السياسة والقوانين العامة التي تحكم تطور الظاهرة السياسية Political Science and General Laws of the Political Phenomenon

 علم السياسة ليس مجرد تجميع للمعلومات وإنما تتحدد غايته كعلم بالبحث عن القوانين العامة التي تحكم تطور الظاهرة موضوع الدراسة وصياغتها صياغة مجردة، التعريف بالقانون العلمي: تحديد مدلوله وبيان خصائصه، نماذج لقانون الظاهرة السياسية:

علم السياسة ليس مجرد تجميع للمعلومات، فعلم السياسة ليس أي معرفة سياسية، ليس هو بالفكر السياسي، وليس هو بالتاريخ السياسي ، هدف علم السياسة كأي علم آخر هو تنقية الظاهرة موضع الدراسة، ثم إخضاعها لمنطق خاص، منطق يستمد وجوده من الظاهرة ذاتها، لأن أساسه الملاحظة المباشرة والانتقال التدريجي من الواقع، حيث يتم تجميع المعلومات إلى الإطار حيث يرتفع الفكر إلى مرتبة التجريد ،ومنه إلى خلق النموذج حيث يتقابل الإطار مع الواقع ، ثم بناء التفسير الذي ينبع من ذلك النموذج ، والذي يخضع في عمليات متتالية ينتقل فيها البحث بين التجريب والتجريد لعملية قياس منطقية مجرد من حيث الزمان والمكان، بحيث ينتهي الباحث من كل ذلك إلى تحديد القوانين العامة إلى تحكم تفسير الظاهرة موضع الدراسة.

قانون الظاهرة السياسية The Political Phenomenon Law

قانون الظاهرة السياسية يسعى إلى ما يلي:

1- بناء التجريدات المنطقية في شكل علاقات ارتباطية تسمح بصياغة التنبؤ بالحوادث أو لنتائجها، القانون السياسي هو الغاية التي يجب أن يسعى إليها التحليل العلمي للظاهرة السياسية، ولكن هذا لا يمنعنا من أن نكون على قدر وافي من المعرفة بالصعوبات التي سوف تواجه المحلل للظاهرة السياسية ،وقد تحددت غايته بالسعي نحو اكتشاف تلك القوانين العامة التي تحكم تطور الظاهرة.

2– الظاهرة السياسية في الواقع تتضمن عناصر كلية، وبهذا المعني شكلية، وعناصر أخرى غير دائمة ومن ثم متغيرة وذاتية هذه الأخيرة هي التي كانت تكون المادة السياسية الأصلية التي بدورها تحدد الحركة السياسية أو بعبارة أدق التطور السياسي فالسعي نحو تحقيق الحرية هو عنصر شكلي، ولكن ما يرتبط بهذا السعي من ظروف محلية ذات صيغة نسبية ترتبط بكل جماعة وتتحدد بكل زمان وتتغير تبعا لكل موقف، هي التي تحدد الحركة السياسية المرتبطة بعملية التحرير السياسي.

الواقع أن المادة السياسية تبدأ من فرضيات معينة: Hypotheses of Political Phenomenon

أولا: أن الحياة السياسية ما هي  إلا نوع من التعارض والكفاح والتنافس والصراع بين قوي سياسية متعددة.

ثانيا: أن الطاقة السياسية هي المقومات الدفينة التي تدفع بالوجود السياسي للحركة ، بحيث يحقق عن ذلك الطريق صورة معينة من صور التوازن التي تفترض التجديد المستمر والتطور الدائم الأمر الذي يسمح بضمان نوع من الثبات لا في الصورة ذاتها وإنما في العلاقة بين ذلك الإطار وتلك القوة الدافعة.

ثالثا: المادة السياسية بهذا المعني تقودنا إلى التمييز بين نوعين من أنواع الظاهرة السياسية: الأول الظواهر الكلية، والثاني الظواهر الفرعية، هذا التمييز يعرفه علم الاقتصاد باسم الماكروMacro والميكرو Micro، ويعرفه أيضا علم الاجتماع باسم الجماعات الكلية والجماعات الفرعية ولا يعنينا من كل هذا سوي التأكيد بأن التفسير الصالح للوقائع الفرعية أو الجزئية لا يصلح في ذاته لتفسير الوقائع العامة أو الكلية إذ هو في حاجة على الأقل إلى نوع من أنواع الانتقال المنطقي الذي تتداخل فيه عناصر معينة من الخبرة والنبوغ والإيحاء والذي نستطيع أن نسميه بالتغير الدرجي في الاستدلال .

رابعا: على أن هناك صعوبة أخرى يجب أن نسرع منذ الآن للتنبيه بأبعادها ذلك أن كلمة القانون يجب أن تفهم بواحد من مدلولين: القانون بمعناه العلمي ليس هو القانون بمعناه الوضعي، الأول كما سوف نري بعكس العلاقة الارتباطية التي تفسر وجود ظاهرة استنادا إلى ظاهرة أخرى، أو على الأقل وجود تأثير متبادل بين ظاهرتين بحيث أنه حيث يوجد (أ) لابد وأن يوجد(ب) أما الثاني، فهو يعني مجرد الأمر الصادر من المشرع وقد اتجه إلى المستقبل والذي يأخذ صورة تنظيم وضعي لسلوك الأفراد في المجتمع السياسي .

الخصائص الأساسية التي تميز قوانين الظاهرة السياسية Characteristics of Political Phenomenon Laws

وهذا يقودنا إلى أن نتساءل عن تلك الخصائص الأساسية التي تميز قوانين الظاهرة السياسية والتي تسمح بأن نحدد الفارق بينها وبين مفهوم القانون في عالم الطبيعة. واضح مما سبق وذكرناه أن هذا الفارق ليس في طبيعة القانون وإنما في درجة واقعيته وفي مدي انطلاقة من حيث المستقبل .

فلنفصل ذلك:

أولا: قانون الظاهرة السياسية مجرد فرض نظري

القانون السياسي هو مجرد  فرض لتسهيل البحث العلمي وهو بهذا المعني يعبر عن إمكانية حدوث نتيجة معينة لو تدخل عامل معين بخصوص افتراض معين أو بعبارة أخري يفترض عالم السياسة أن إزاء وضع معين ومحددة عناصره ومفترض أنه لن تتدخل فيه أية عوامل أخرى سوي عامل واحد معين (أو عوامل معينة) , فأن هذا التدخل يحدث نتيجة معينة.

ثانيا- القانون السياسي هو تعبير عن نظرية التغييرات المقترنة.

القانون السياسي من حيث ليس إلا نتيجة تلخيص مقارن ، ومن ثم نستطيع أن نقول إذا ادخل العنصر أو العامل (أ) حيث جميع الظروف الأخرى لم تتغير نجد النتيجة (ب).

ثالثا: النسبية من حيث التطبيق: كذلك يجب ألا نفسي أن قانون الظاهرة السياسية مهما يلغ من  التجرد فأنه يحتفظ بنسبية معينة وفكرة النسبية في الواقع ليست جديدة في الفلسفة السياسية، على أنها توضح كيف أن قانون الظاهرة السياسية وتلك أحدي خصائصه المميز- يملك عنصره الذاتي من حيث التطبيق ومن ثم يجب على العالم السياسي أن يعرف كيف يميز بين عناصره المتغيرة وبين العناصر الدائمة الثابتة والمتكررة.

Please subscribe to our page on Google News
SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15167

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *