بقلم: صلاح الدين ياسين – المغرب*
1) تعريف المنظمة الدولية وعناصرها:
إن الإختلاف الكبير بين المنظمات الدولية، سواء من حيث مواثيقها المنشئة أو أهدافها، اختصاصاتها أو أجهزتها جعل من المتعذر الوصول إلى تعريف قانوني موحد بشأنها بحيث يكون هذا التعريف جامعا ومانعا. لذا، فجل التعاريف التي أعطيت للمنظمات الدولية تتضمن مجموعة العناصر التي تعتبر ضرورية لقيام المنظمة الدولية.
ويعرف أغلب فقهاء القانون الدولي المنظمة الدولية بأنها “مؤسسة أو هيئة تتكون أساسا من مجموعة من الدول التي تتفق على إنشائها في معاهدة دولية وذلك بمقتضى ميثاق يحدد اختصاصاتها ويمنحها مجموعة من الأجهزة التي تمكنها من تحقيق أهدافها وتضمن لها الإستمرارية“.
كما يمكن تعريف المنظمة الدولية أيضا بوصفها “هيئة تضم مجموعة من الدول، من خلال اتفاق دولي، بحيث تسعى لتحقيق أغراض ومصالح مشتركة، على نحو دائم، وتتمتع هذه الهيئة بالشخصية القانونية المتميزة عن إرادة الدول الأعضاء فيها”.
ومن خلال التعريفين السابقين، يمكننا استنباط مجموع العناصر المكونة للمنظمة الدولية، والتي يمكن تحديدها كما يلي :
بالنسبة للعنصر الأول فهو يشمل الطابع الدولي، ذلك أن المنظمة الدولية تتكون كقاعدة من مجموعة من الدول، بمعنى أن العضوية فيها تكون قاصرة على الدول فقط (مع وجود بعض الإستثناءات)، أما الكيانات الأخرى التي لا يصدق عليها وصف الدولة، لا تتمتع بالحق في عضوية المنظمة الدولية. كما أن الطابع الدولي للمنظمة يضفي عليها طابعا حكوميا، وهذا هو السبب في كون أن المنظمات غير الحكومية لا تكون فيها العضوية للدول بل للأفراد.
وإضافة إلى الطابع الدولي نجد عنصر الإتفاق الدولي، حيث يتم إنشاء المنظمة الدولية بموجب اتفاق بين الدول الأطراف فيها، وهذا يعني أن العضوية في المنظمة اختيارية، وتخضع لإرادة الدول ورضاها. ويعد هذا الإتفاق بمثابة الوثيقة المنشئة للمنظمة الدولية، ويسمى أيضا بالميثاق الذي يحدد كافة الجوانب القانونية الخاصة بالمنظمة الدولية (الأهداف، الإختصاصات، الأجهزة…)، كما أن هذا العنصر هو الذي يميز أيضا المنظمات الدولية الحكومية عن المنظمات غير الحكومية التي لا تنشأ بموجب اتفاق دولي.
كما يشترط لقيام المنظمة الدولية توافر عنصر الإستمرار أو الدوام، ولا يعني ذلك ضرورة انطباق وصف الإستمرارية على كل فروع المنظمة، ولكن يقصد به أن تمارس المنظمة كوحدة قانونية متكاملة اختصاصاتها بصفة مستمرة. ويميز هذا العنصر المنظمة الدولية عن المؤتمر الدولي، فإذا كان المؤتمر الدولي ينعقد لبحث موضوع معين ثم ينقضي وجوده بعد الإنتهاء من التداول بشأن ذلك الموضوع، فإنه لا يوجد توقيت محدد لإنهاء وجود المنظمة الدولية في ميثاقها المنشئ.
وإضافة إلى ما سبق، يعد عنصر الإرادة الذاتية من أهم العناصر التي تميز المنظمة الدولية عن غيرها، فالمؤتمر الدولي باعتباره تجمعا دوليا لا يتمتع بإرادة مستقلة عن إرادة الدول المشاركة فيه. أما في حالة المنظمة الدولية، فهي تتمتع بشخصية قانونية خاصة ومستقلة عن إرادة الدول المنشئة لها، ولهذا نجد بأن القرارات أو التوصيات التي تصدر عن الدول الأعضاء في المنظمة، سواء كانت بالأغلبية أم بالإجماع، تنسب إلى المنظمة الدولية وليس إلى الدول الأعضاء فيها.
2) تطور نشأة المنظمات الدولية:
إن فكرة المنظمات الدولية كآلية للتنظيم الدولي وتنسيق المصالح المتبادلة بين الدول ليست حديثة في جوهرها، بل تعود في جذورها إلى القدم، إذ شكل ظهور الدولة الحديثة ذات التنظيم المركزي ابتداء من القرن 16 مفترقا حاسما في سبيل بلورة فكرة التنظيم الدولي لغرض إرساء علاقات متوازنة بين الدول. فمنذ أن بدأت فكرة الدولة بمفهومها الحديث تظهر وتستقر، والصراعات بين هذه الدول قائمة، ذلك أن التطور العلمي الذي شمل مختلف الميادين ومنها الميدان العسكري أدى بالمحصلة إلى ازدياد خطر الحرب حيث اتسع نطاقها ليشمل مختلف بقاع العالم.
وبناء على ذلك، أخذت الدول المختلفة في السعي إلى إيجاد حلول توافقية لما بينها من تنافس وصراع بحيث توفر عليها ويلات الحرب وتحفظ بينها نوعا من التوازن المقبول. ومن بين تلك الوسائل التي لجأت إليها الدول نجد آلية عقد المؤتمرات الدولية للتفاوض المباشر فيما بينها من أجل تسوية خلافاتها العالقة، كما يعد إنشاء اللجان الدولية خطوة مهمة في طريق نشأة المنظمات الدولية، ويذهب جانب من الفقه إلى أن هذه اللجان لم تظهر إلا كوسيلة لتعزيز وضمان حرية الملاحة الدولية، مثل لجنة الرون التي أنشئت سنة 1814.
وعليه، فإن إرهاصات نشأة المنظمات الدولية بشكلها الحديث لم تبدأ قبل القرن 19 الذي عرف ثورة صناعية وعلمية تمثلت في تطور هائل لوسائل النقل والإتصال مما أدى إلى ازدياد كبير في حجم المبادلات التجارية بين الدول، فضلا عن ظهور احتياجات جديدة لم يعد بإمكان الدول الإستجابة لها بمفردها، وهو ما جعل فكرة إنشاء منظمات دولية لتنسيق المصالح المشتركة بين الدول أكثر راهنية وإلحاحا.
ولهذا، فقد شهد القرن 19 ظهور أولى المنظمات الدولية في شكل مؤسسات لها طابع الإستمرارية لتوفرها على أجهزة دائمة وإن كانت تفتقر إلى الشخصية القانونية، فعلى سبيل المثال، عرف هذا القرن إنشاء الإتحادات الدولية الإدارية كوسيلة لتنظيم بعض المرافق ذات الصلة بالمصالح الدولية المشتركة ومن بينها اتحاد التلغراف العالمي الذي أنشئ بمقتضى اتفاقية باريس لسنة 1865، واتحاد البريد العالمي الذي تم إنشاؤه بموجب اتفاقية برلين لسنة 1874، وهو ما مهد لظهور أشكال جديدة من التنظيم الدولي سيما في القرن العشرين.
وتأسيسا على ذلك، يمكن اعتبار بداية القرن 20 لحظة فارقة في مسار تطور نشأة المنظمات الدولية، إذ شهدت تلك الفترة نزاعات خطيرة بين القوى الإستعمارية على مناطق النفوذ وقد عزز قيام الحرب العالمية الأولى (1814-1818) تلك القناعة، مما أبرز بوضوح محدودية وعدم كفاية الوسائل التي كانت متبعة والمتمثلة في المؤتمرات والمعاهدات متعددة الأطراف في الحد من الفوضى الناجمة عن النزاعات الدولية وفي تنسيق التعاون الدولي الذي أصبح ملحا أكثر فأكثر.
وعليه، ستلجأ الدول إلى خلق ميكانيزمات جديدة تمثلت في مؤسسات للتعاون الدائم أخذت شكل منظمات لها إرادة مستقلة عن إرادة الدول المنشئة لها، وحددت مهمتها في تحقيق أهداف ومصالح مشتركة بإدماج جل دول العالم في نظام موحد. وهكذا، فقد أنشئت في عام 1919 أول منظمة ذات توجه عالمي وطابع سياسي “عصبة الأمم” بمبادرة من الرئيس الأمريكي “ودرو ويلسون”، الأمر الذي أدى إلى ضرورة تنازل الدول عن بعض حقوق السيادة التقليدية، ووضع القيود على حق اللجوء إلى الحرب لتسوية الخلافات البينية، فضلا عن ظهور مبدأ الأمن الجماعي.
غير أن فشل وعجز منظمة عصبة الأمم عن تحقيق أهدافها، أفضى إلى تأسيس هيئة الأمم المتحدة غداة انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945، فقد استفادت الدول من تجربة فشل عصبة الأمم بإصرارها على تجاوز الأخطاء التي أدت إلى ذلك الفشل، بحيث تكونت لديها القناعة بأن الأمن والسلم الدولي لا يمكن تحقيقه إلا من خلال العمل الجماعي والتعاون المشترك وليس عبر العودة إلى إطار العلاقات الدولية الكلاسيكية والتحصن وراء القومية المتطرفة.
كما عرفت تلك المرحلة أيضا ظهور العديد من المنظمات الدولية الأخرى، سواء منها ذات التوجه العالمي أو الإقليمي، والتي لم تعد قاصرة على المهام الكلاسيكية للمنظمات الدولية والمتمثلة في حفظ الأمن والسلم الدوليين بقدر ما أصبحت فضاء لتنسيق المصالح المشتركة بين الدول التي تغطي كافة مجالات الإهتمام الحيوية (الإقتصادية، التجارية، الثقافية، البيئية…)، مما جعلها أهم خصائص الحياة الدولية المعاصرة باعتبارها الشكل الجديد للتنظيم السياسي للمجتمع الدولي الذي ظل منذ نشوء الدولة في القرن 16 وإلى حدود القرن 20 مجتمع دول فقط.
3)الميثاق المنشئ للمنظمة الدولية:
يعد الميثاق المنشئ للمنظمة الدولية عنصرا رئيسيا من بين العناصر الضرورية لقيامها، ويمكن تعريفه بأنه “القانون الأساسي للمنظمة الدولية الذي يحدد كافة الجوانب القانونية الخاصة بالمنظمة والمتعلقة بمبادئها وأهدافها وأجهزتها واختصاصاتها والسلطات الممنوحة لها لتحقيق أهدافها، وغير ذلك من الوسائل اللازمة لسير العمل بها“. كما تتعدد مسمياته على الرغم من وحدة الدلالة والمضمون، فهو الميثاق (هيئة الأمم المتحدة، جامعة الدول العربية…)، أو الدستور (منظمة الصحة العالمية…)، أو النظام الأساسي (صندوق النقد الدولي…)، أو القانون التأسيسي (الإتحاد الإفريقي…).
وينفرد الميثاق المنشئ بمجموعة من الخصائص التي تميزه عن بقية المعاهدات الدولية، ذلك أنه ينشئ لنا شخصا قانونيا جديدا له قدر من الذاتية. والجدير بالذكر هنا أن الميثاق المنشئ يعد بمثابة القانون الأسمى للمنظمة الدولية، فهو يحتل المرتبة الأولى بالنسبة لما تصدره المنظمة من قواعد تشريعية. كما يحدد هذا الميثاق الأجهزة التي تتكون منها المنظمة وهو الذي يقوم بمهمة توزيع الإختصاصات فيما بينها، وعادة ما يقوم الميثاق المنشئ بالتنصيص على الأجهزة الرئيسية، تاركا لكل جهاز سلطة إنشاء الأجهزة الفرعية اللازمة لممارسة الإختصاص الموكول له.
ويتميز كذلك الميثاق المنشئ بخصيصة عدم جواز إبداء تحفظات بشأن أحكامه إلا إذا نص الميثاق نفسه على خلاف ذلك. إن مبرر وأساس هذه الخصيصة هو الحرص على تحقيق أهداف المنظمة على أكمل وجه، وهو ما يتعارض مع طبيعة التحفظات التي تعطي للدول الحق في التحفظ على بعض المقتضيات مما سيخل بالسير العادي لعمل المنظمة إذا تم السماح بها.
كما يثور جدل فقهي بشأن الطبيعة القانونية للميثاق المنشئ للمنظمة الدولية، بين الإتجاه الشكلي الذي ينزع إلى التأكيد على أن الميثاق المنشئ ما هو إلا معاهدة دولية بدليل خضوعه لمبدأ سلطان الإرادة، والإتجاه الموضوعي الذي يذهب إلى أن الميثاق المنشئ للمنظمة الدولية له طبيعة دستورية لكونه يحدد القواعد القانونية الخاصة بالعضوية والتصويت وتكوين الأجهزة الرئيسية للمنظمة…، في حين اتجه فريق من الفقه إلى تبني معيار مزدوج قوامه أن الميثاق المنشئ يعتبر معاهدة شكلا، ودستورا من حيث الموضوع.
ولئن كان الميثاق المنشئ للمنظمة الدولية معاهدة دولية شكلا، فإنه يخضع لنفس القواعد القانونية التي تحكم إبرام المعاهدات الدولية، إذ يجب كقاعدة عامة أن تكون الدولة الطرف في هذا الإتفاق متمتعة بأهلية إبرامه، وذلك لا يمثل إشكالية بالنسبة للدول كاملة السيادة، أما الدول ناقصة السيادة فهي تتمتع بأهلية قانونية ناقصة، لذا لا يجوز لها أن تكون عضوا في منظمة ما إلا إذا كانت أهليتها الناقصة تسمح لها بالإشتراك في إبرام الميثاق المنشئ لتلك المنظمة. كما يتعين أن يكون رضاء أطراف المعاهدة المنشئة للمنظمة الدولية سليما غير مشوب بأي عيب من عيوب الإرادة، إضافة إلى وجوب أن يكون محل وسبب الميثاق المنشئ مشروعا بأن لا يوجد تعارض بين مضمون المعاهدة وقواعد القانون الدولي الآمرة.
وفي حال اكتمال الشروط السابقة، يتم مناقشة المعاهدة في مؤتمر دولي يعقد لهذا الغرض عبر دراسة المشروعات التحضيرية المقترحة. وتتم الدعوة إلى المؤتمر من قبل الدولة أو الدول التي طرحت فكرة المنظمة المقترحة، كما قد تتم الدعوة من قبل منظمة دولية وذلك بهدف إنشاء منظمة دولية جديدة (كقيام المجلس الإقتصادي والإجتماعي التابع للأمم المتحدة بالدعوة إلى المؤتمر الذي تم فيه إنشاء منظمة الصحة العالمية). وينتهي المؤتمر بإبرام الميثاق المنشئ للمنظمة وذلك بالتوقيع عليه بعد إقراره طبقا للقواعد العامة المنصوص عليها في اتفاقية فيينا لقانون المعاهدات الموقعة في سنة 1969، ويبقى بعد ذلك التصديق على الميثاق من قبل الدول وفقا للأوضاع الدستورية الداخلية في كل دولة.
ويعقب إبرام العقد المنشئ للمنظمة الدولية دخوله حيز التنفيذ وفقا للشروط التي تم التنصيص عليها والتي تختلف من منظمة إلى أخرى. ويتم عادة تحديد عدد معين من الدول والتي يجب أن تصادق على الميثاق قبل دخوله حيز التنفيذ، أو أيضا اشتراط مصادقة دول بعينها، أو التنصيص على شروط مجتمعة كوضع ميثاق هيئة الأمم المتحدة في المادة 110 شرطين لدخوله حيز التنفيذ أولهما مصادقة دول معينة هي الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفييتي وبريطانيا وفرنسا والصين، ثم مصادقة أغلبية الدول الموقعة على الميثاق.
4) أنواع المنظمات الدولية:
تعد (المنظمات الدولية السمة المميزة للتنظيم الدولي المعاصر وأهم آلية لتنسيق المصالح المشتركة بين الدول المختلفة)، وقد ذهب الفقه الدولي إلى تبني معايير مختلفة بهدف تصنيف هذه المنظمات وتحديد أنواعها، إذ يرجح الفقه ثلاثة معايير رئيسة وهي : معيار العضوية، معيار الإختصاص، معيار السلطة.
بالنسبة لمعيار العضوية، تنقسم المنظمات الدولية من حيث نطاق العضوية فيها إلى منظمات عالمية ومنظمات إقليمية، أما المنظمة العالمية فعضويتها مفتوحة لكل الدول متى توافرت فيها الشروط التي نص عليها ميثاق إنشائها، فهي المنظمات التي تقوم في شكل يسمح بانضمام جميع دول العالم وبتعاون كل الدول التي تشكل المنتظم الدولي كهيئة الأمم المتحدة.
في حين نجد بأن المنظمة الإقليمية هي التي تكون عضويتها قاصرة على الدول التي تربط فيما بينها روابط تضامن مشتركة (مثل جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي). ويلاحظ بأن الفقه الدولي قد اختلف بشأن تحديد الرابطة التي تجمع أعضاء المنظمة الإقليمية، فمنهم من يرى أن هذه الرابطة هي رابطة جغرافية، أي أن نطاق العضوية في المنظمة يتحدد بإطار إقليم معين، وهناك من يرى بأن الرابطة هي الوحدة في المصالح بين الدول الأعضاء سواء كانت هذه المصالح سياسية أو اقتصادية أو عسكرية…
أما بخصوص معيار الإختصاص، فتنقسم المنظمات الدولية بحسب الإختصاص أو الهدف من إنشائها إلى منظمات دولية عامة، ومنظمات دولية متخصصة. فالمنظمة الدولية العامة هي التي يشمل نشاطها أكثر من مجال من مجالات التعاون الدولي السياسية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها من المجالات مثل هيئة الأمم المتحدة التي تختص بوظائف عامة.
في حين أن المنظمة الدولية المتخصصة هي التي أنشئت لتحقيق هدف محدد أو عدد من الأهداف المحددة، بحيث يحدد ميثاقها مجالا معينا للتعاون كالمجال العسكري أو الإقتصادي أو الثقافي (منظمة التجارة العالمية، حلف شمال الأطلسي كمثال). والجدير بالذكر أنه ليس ثمة تلازم بين معياري الإختصاص والعضوية، فقد تكون المنظمة متخصصة في هدف معين ولكن باب عضويتها مفتوح لكل دول العالم كمنظمة الصحة العالمية، كما قد تكون المنظمة ذات اختصاصات عامة ولكنها إقليمية كجامعة الدول العربية.
وفيما يتصل بمعيار السلطات، تنقسم المنظمات الدولية من حيث السلطات التي تتمتع بها إلى منظمات ذات طابع تعاوني ومنظمات فوق الدول. أما المنظمة ذات الطابع التعاوني فهي التي يقتصر دورها على مجرد تنسيق العلاقات بين الدول الأعضاء وتحقيق التعاون بينها في مجال أو أكثر من مجالات التعاون الدولي. ويجب التأكيد بأن هذا هو الأصل في إنشاء المنظمات الدولية التي يجب أن تراعي وتحترم سيادة الدول الأعضاء فيها، وكمثال على ذلك فحتى مع تطور المنظمات الدولية فهي لم تتخلى من حيث نظام التصويت عن قاعدة الإجماع أو الأغلبية فيما يخص التصويت على القضايا ذات الأهمية.
وبالرغم من هذه القاعدة، فإن الفقه الدولي استنتج أن بعض المنظمات الدولية يملك اختصاصا طبقا لميثاق إنشائها قد تجاوز الإطار التعاوني وهو ما دفع هذا الفقه ليطلق عليها منظمات سلطوية أو فوق الدول. ويضرب الفقه الدولي مثلا على ذلك بالجماعات الأوروبية، جماعة الفحم والصلب، السوق الأوروبية المشتركة، حيث أن تلك المنظمات تملك إصدار قرارات ولوائح تطبق في الدول الأعضاء وكأنها صادرة من السلطات التشريعية لهذه الدول، ذلك أن إنشاء هذا النوع من المنظمات له متطلبات لا تتوافر إلا في دول لها من النظم القانونية المتقدمة والمكرسة لمصالح شعوبها كمنظمة الإتحاد الأوروبي.
غير أنه وجبت الإشارة إلى أن إنشاء مجموعة من الدول لهذه النوعية من المنظمات السلطوية لا ينتقص بالضرورة من سيادتها، فالدول لا تقدم على الإنضمام لإحدى هذه المنظمات إلا إذا وافقت بإرادتها على ميثاق إنشائها وهو ما يعد تعبيرا عن سيادتها لا انتقاصا منها. لكن ما يميز المنظمات السلطوية عن بقية المنظمات الدولية ذات الطابع التعاوني هو أن أعضاءها قد ارتضوا أن يكون لها من السلطات ما يمكنها من تحقيق هذا التعاون بطريقة أكثر فعالية.
5) العضوية في المنظمات الدولية:
إن العضوية في المنظمة الدولية بوصفها أهم آلية للتنظيم الدولي المعاصر وكإطار لتنسيق المصالح المشتركة بين الدول يقصد بها الموافقة على الأهداف والمبادئ المنصوص عليها في الميثاق المنشئ للمنظمة، ومن ثم التوقيع والتصديق عليه للتمتع بالحقوق والوفاء بالإلتزامات الواردة فيه. كما أن حق العضوية في المنظمات الدولية يخص بالأساس الدول وإن لم يكن قاصرا عليها على سبيل الحصر، فالدول هي التي تنشئ المنظمة الدولية وتؤلف أعضاءها، بحيث يعتبر الطابع الدولي ركنا أساسيا لقيام المنظمة الدولية.
وعليه، وجب التمييز بين صنفين من العضوية، فثمة من جهة الأعضاء الأصلية أو المؤسسة والتي تشمل الدول التي شاركت في الاعمال التحضيرية ووقعت على الميثاق المنشئ للمنظمة الدولية، أي الدول التي أنشأت المنظمة. ويستتبع هذا عدم خضوعها لأي مسطرة خاصة بالإنضمام، إذ تصبح عضوا بالمنظمة بمجرد المصادقة على الميثاق، وهو ما ينطبق أيضا في حالة حلول دولة محل أخرى كانت عضوا في المنظمة كألمانيا بعد توحيدها.
وإلى جانب الأعضاء الأصلية، ثمة أيضا الأعضاء المنضمة، أي تلك الدول التي تعلن عن رغبتها في الإنضمام إلى منظمة دولية قائمة. ففي هذه الحالة، يخضع انضمام الأعضاء الجدد لشروط شكلية يحددها الميثاق بحيث تختلف من منظمة إلى أخرى، هذا بالإضافة إلى شروط موضوعية والتي تختلف بدورها تبعا لنوعية كل منظمة، فقد يكون الشرط جغرافيا (منظمة الإتحاد الأوروبي)، أو قوميا (جامعة الدول العربية)، أو عقائديا (منظمة التعاون الإسلامي)، وقد يكون الشرط أيضا ذو طابع سياسي كأن يشترط الميثاق في الدولة الراغبة بالإنضمام أن تكون محبة للسلام (هيئة الأمم المتحدة).
أما بالنسبة لصور تلك العضوية، فالقاعدة هي أن الدول تكون كاملة العضوية بحيث تتمتع بجميع الحقوق ويكون عليها كذلك الوفاء بالإلتزامات الواردة في الميثاق التأسيسي للمنظمة. غير أن الدول قد تتمتع أيضا بصفة عضو مشترك أو مؤقت في المنظمة الدولية، وغالبا ما يكون ذلك من أجل تحقيق أهداف مختلفة كقبول المشاركة من أجل تهييئ دولة ما للإنضمام الرسمي لمنظمة معينة مثلما هو عليه الحال مع منظمة التعاون والتنمية الإقتصادية. ويترتب على هذا الشكل من العضوية تمتع الدولة المشتركة بحقوق وكذا التزامها بواجبات محدودة كعدم التمتع بحق التصويت.
كما قد تشارك الدولة في المنظمة الدولية بصفة مراقب أو ملاحظ غير عضو، وكأبرز مثال على ذلك منظمة الأمم المتحدة التي تضم إلى جانب الدول الأعضاء البالغ عددها 193 دولة دولا وكيانات أخرى غير أعضاء. إذ يحق للدولة التي تتمتع بصفة مراقب غير عضو أن تتحدث في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأن تشارك في الإجتماعات المختلفة للمنظمة مع إمكانية التقدم بمقترحات وتعديلات والإنضمام إلى اتفاقيات دولية، لكن دون أن يكون لها الحق في التصويت الذي تتمتع به الدول كاملة العضوية.
غير أن الدول ليست وحدها من تملك حق العضوية بالمنظمات الدولية، فقد تشمل هذه الأخيرة أيضا كيانات من غير الدول كالمنظمات الدولية التي يمكن أن تكون عضوا بمنظمة دولية أخرى وعادة ما تمنح صفة عضو ملاحظ في المنظمة التي تنضم إليها كما هو الحال مع عضوية المجموعة الإقتصادية الأوروبية في هيئة الأمم المتحدة. غير أن بعض المنظمات الدولية قد تقبل بالعضوية الكاملة لمنظمات دولية أخرى وبخاصة منظمات الإندماج الإقتصادي، وهو ما حدث مع منظمة التجارة العالمية بخصوص عضوية المجموعة الأوروبية.
ومن جهة أخرى، قد تقبل المنظمات الدولية بعضوية الأقاليم التي لها استقلال داخلي ولكن لا تتمتع بصلاحية إقامة علاقات دولية كأعضاء مشتركة وذلك بناء على طلب تتقدم به الدولة العضو التي يتبع لها ذلك الأقليم ، وإن كانت تقبل في حالات استثنائية بعضويتها الكاملة كما هو الشأن بالنسبة لمنظمة الصحة العالمية.
هذا دون إغفال حركات التحرير الوطني التي تعلن تمثيليتها لشعوب تسعى إلى التحرر، بحيث تقبل كعضو ملاحظ أو مشارك من طرف هيئة الأمم المتحدة، ويمكن أن تقبل عضويتها أيضا لدى المنظمات الجهوية وذلك في إطار مساندة شرعية كفاح الشعوب من أجل التحرر. كما قد تمنح بعض المنظمات غير الحكومية صفة عضو ملاحظ في المنظمات الدولية كدعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة للجنة الدولية للصليب الأحمر من أجل المشاركة في دوراتها وأعمالها وذلك منذ سنة 1990.
أما بالنسبة لعوارض العضوية، فثمة الإيقاف الذي يعنى به حرمان العضو من حقوق العضوية لمدة معينة مع عدم تحريره من التزاماته القانونية والمالية إزاء المنظمة، وتفعل المنظمة الدولية جزاء الإيقاف وفقا لميثاقها في حالات معينة كإخلال العضو بالتزاماته المالية كما في منظمة الطيران المدني الدولية، وقد يحدث الإيقاف لأسباب أخرى كقيام الدولة العضو بعمل مخل بالأمن والسلم الدوليين (مجلس الأمن بالنسبة للأمم المتحدة). وإلى جانب الإيقاف، نجد جزاء الفصل الذي يقصد به إنهاء عضوية الدولة في المنظمة الدولية جراء تكرارها لانتهاك أحكام الميثاق، وهي عقوبة قصوى نصت عليها مواثيق المنظمات الدولية لضمان تنفيذ أحكامها.
ومن أبرز عوارض العضوية نجد كذلك الإنسحاب الذي يحيل على إنهاء الدولة لعضويتها في المنظمة بمحض إرادتها، وتختلف المواثيق المنشئة للمنظمات الدولية في تناولها لموضوع الإنسحاب، فبعضها يسكت عن هذا الموضوع (كميثاق منظمة اليونسكو)، وبعضها يجيزه بعد فترة سنة واحدة من الإعلان (كجامعة الدول العربية)، وبعضها سنتين (كمنظمة العمل الدولية). غير أن الثابت أنه طالما أن الدولة العضو تتمتع بالإرادة المستقلة انطلاقا من سيادتها يكون لها حق الإنسحاب مكفولا طالما كان حق العضوية اختياريا.
6) اختصاصات المنظمات الدولية:
إن الإعتراف بالشخصية القانونية للمنظمة الدولية بما يعنيه ذلك من تمتعها بإرادة مستقلة عن إرادة الدول الأعضاء فيها له صلة وثيقة بنوعية ومدى الإختصاصات الموكلة إليها، وهو ما يقودنا إلى التساؤل عن طبيعة هذه الإختصاصات والصيغة التي تمارس من خلالها. فالمنظمات الدولية، وفي إطار العمل على تحقيق أهدافها، تزاول مجموعة من الإختصاصات التي تمنح لكل منظمة بموجب ميثاقها المنشئ، ولذلك فهي تسمى بالإختصاصات الممنوحة لكونها ناتجة عن إرادة الدول المنشئة لتلك المنظمة.
تأسيسا على ذلك، فإن المنظمات الدولية ليس لها من حيث الأصل كامل الصلاحيات، بما يعنيه ذلك من عدم تمتعها بالسلطة التقديرية كما هو الحال بالنسبة للدول التي تتمتع بمقتضى حقوقها السيادية بكامل الصلاحيات لممارسة مهامها. فالمنظمات الدولية لها فقط اختصاصات محددة ومحصورة في تلك المنصوص عليها في ميثاقها المنشئ.
غير أن المنظمات الدولية تتمتع وإلى جانب الإختصاصات الممنوحة المنصوص عليها في الميثاق – باختصاصات ضمنية وهي الإختصاصات التي تعد ضرورية لقيام المنظمة الدولية بمهامها وذلك عملا بنظرية الإختصاصات الضمنية. وتستمد هذه النظرية وجودها من الرأي الإستشاري لمحكمة العدل الدولية الذي صدر في سنة 1949 تعقيبا على توجه الجمعية العامة للأمم بالمتحدة بطلب رأي استشاري حول ما إذا كان يحق للمنظمة المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي تلحق بموظفيها أثناء تأدية مهامهم على إثر اغتيال العصابات الصهيونية الكونت برنادوت وسيط الأمم المتحدة بفلسطين عام 1948.
فقد جاء في هذا الرأي الإستشاري بأنه يلزم الإقرار بأن أعضاء المنظمة الدولية حينما يحددون وظائفها بما يترتب على ذلك من حقوق والتزامات فهم يمنحون المنظمة في نفس الوقت الإختصاص اللازم لأداء وظائفها : “حسب القانون الدولي، فالمنظمة الدولية يجب أن تعتبر كما لو كانت لها هذه السلطات (أي سلطات حماية موظفيها) والتي إذا لم يتم التنصيص عليها صراحة في الميثاق تكون كنتيجة حتمية تمنح للمنظمة لضرورة ممارسة مهامها“.
أما بالنسبة للشكل الذي تمارس من خلاله المنظمة الدولية اختصاصاتها فهو يختلف من منظمة إلى أخرى، ويتمثل أساسا في الأعمال القانونية التي تصدر عن تلك المنظمات، والتي قد تكون على شاكلة توصيات التي هي عبارة عن اتخاذ موقف معين تتوجه به المنظمة إلى دولة أو دول معينة أو أي هيئة دولية أخرى دون أن ينطوي على وصف الإلزام.
وإضافة إلى التوصيات، نجد القرارات التنفيذية الملزمة التي تعبر عن إرادة المنظمة الدولية، فللقرار صفة إلزامية في مواجهة الدول الأعضاء بخلاف التوصية، إذ يرتب مسؤولية الدولة المخالفة قانونا. كما تتمتع المنظمات الدولية بسلطة إصدار اللوائح التنظيمية والمتعلقة بتحديد أسلوب عملها داخل المنظمة، وكذا داخل الأجهزة والفروع المختلفة. هذا دون إغفال المعاهدات الدولية كوسيلة لممارسة المنظمة الدولية لاختصاصاتها، بحيث تتمتع بأهلية إبرامها كنتيجة لتوفرها على الشخصية القانونية.
ويشار إلى أن المنظمات الدولية تزاول اختصاصاتها طبقا لنوعيتها والغرض من إنشائها، فثمة منظمات تمارس اختصاصات عامة غير محصورة بحيث يشمل نشاطها أكثر من مجال من مجالات التعاون الدولي السياسية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها كمنظمة الأمم المتحدة التي تختص بوظائف عامة. في حين ثمة منظمات يتم إنشاؤها لتحقيق هدف أو غرض محدد، بحيث تختص في مجال محدد دون غيره (كمنظمة الصحة العالمية، ومنظمة التجارة العالمية) وهي التي يطلق عليها الفقه الدولي وصف المنظمات المتخصصة.
7) أجهزة المنظمات الدولية:
إن رهان تحقيق المنظمة الدولية لأهدافها ومهامها بوصفها إطارا يضم مجموعة من الدول التي ارتأت تنسيق المصالح المشتركة وتفعيل التعاون المتبادل فيما بينها يقتضي خلق أجهزة خاصة بالمنظمة، بحيث تمنح لها طابع الدوام والإستمرارية الذي يميزها عن غيرها من أشكال التنظيم الدولي كآلية عقد المؤتمرات الدولية. وتتميز أجهزة المنظمات الدولية بتنوع كبير في هياكلها مما يرتب اختلافا في أساليب عملها وطرق اتخاذ القرار سيما من حيث نظم التصويت المتبعة (الإجماع، الأغلبية، التوافق). وتنقسم أجهزة المنظمات الدولية إلى أجهزة أصلية وأجهزة فرعية :
أما الأجهزة الأصلية فهي التي تمنح للمنظمة الدولية بمقتضى الميثاق المنشئ لها، فالدول المؤسسة للمنظمة الدولية تتمتع بحرية خلق الأجهزة الأصلية التي تعتبرها ضرورية لسير عملها. وعلى سبيل المثال، فقد نصت المادة السابعة في فقرتها الأولى من ميثاق هيئة الأمم المتحدة على ما يلي : “الأجهزة الرئيسية لمنظمة الأمم المتحدة هي : جمعية عامة، مجلس أمن، مجلس اقتصادي واجتماعي، مجلس وصاية، محكمة عدل دولية وسكرتارية“. كما أن أي تغيير في تكوين الأجهزة الأصلية أو في السلطات الممنوحة لها أو في وظائفها يقتضي تعديلا شكليا للميثاق المنشئ للمنظمة ، ويمكن تحديد الأجهزة الأصلية للمنظمة كما يلي :
فثمة بداية الجهاز العام الذي يتكون من جميع الدول الأعضاء بالمنظمة دون استثناء، ولهذا فهو عادة ما يحمل اسم “الجمعية العامة” كما هو الشأن بالنسبة للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، أو “المؤتمر العام” كمنظمة العمل الدولية، أو “الكونغرس” كالمنظمة الدولية للأرصاد الجوية… ويضطلع الجهاز العام في المجمل بمهام تتعلق بتوجيه السياسة العامة للمنظمة عن طريق اتخاذ المبادرة بطرح القضايا التي تدخل في اختصاص المنظمة والتداول بشأنها وفقا للتوجيهات التي تحددها الدول الأعضاء.
وتعقد الأجهزة العامة اجتماعاتها في دورات عادية تكون في الغالب سنوية مثلما هو عليه الحال مع الجمعية العامة للأمم المتحدة، بل وقد تنعقد الدورات العادية لتلك الأجهزة لمدد أطول بالنسبة لمنظمات دولية أخرى قد تصل إلى خمس سنوات، كما قد تعقد تلك الأجهزة دورات استثنائية كلما دعت الضرورة إلى ذلك. ويشار إلى أنه بالنسبة للمنظمات الجهوية التي لا يحق سوى لعدد محدود من الدول الإنضمام إليها بناء على روابط تضامن معينة (جغرافية أو قومية أو عقائدية…)، فإن جميع الأجهزة التي تمثل فيها الدول من حيث المبدأ تكون أجهزة عامة.
وإلى جانب الأجهزة العامة، نجد أيضا الأجهزة المحصورة أو محدودة المقاعد التي تحيل إلى الجهاز التنفيذي داخل منظمة ما بالنظر لطبيعة المهام التنفيذية التي يزاولها (كمجلس الأمن الدولي)، بحيث تتكون هذه الأجهزة من عدد محدود من الدول الأعضاء بالمنظمة بخلاف الأجهزة العامة، إذ تطغى الإعتبارات السياسية في هذه الحالة على مبدأ المساواة بين الدول كأحد المبادئ الأساسية في القانون الدولي. غير أن ذلك لا يعني التقليل من شأن الإعتبارات التقنية التي تسمح بتكوين تلك الأجهزة في شكل يسمح بالسير العادي لنشاطها بحيث تتميز بسلاسة عقد الإجتماعات والمناقشات والتصويت وغيره، كما تتوفر على كفاءات تساهم في الرفع من نجاعة عمل المنظمة.
وإضافة إلى الجهازين السابقين، تضم الأجهزة الرئيسية بالمنظمة أيضا الجهاز الإداري أو السكرتارية، وهي أجهزة مكونة من المعتمدين الدوليين أو الموظفين بالمنظمات الدولية الذين يتم انتقاؤهم على أساس مؤهلاتهم وليس اعتبارا لانتمائهم الوطني. ويتولى الجهاز الإداري المهام الروتينية اللازمة لسير العمل اليومي في المنظمة كالمشاركة في إعداد القرارات بتقديم الإسناد المعلوماتي والوثائق وتهييئ التقارير ومهام التنسيق وغيرها. ويقوم رئيس السكرتارية أو الأمين العام بوظيفة إدارة السكرتارية، إذ يعد أسمى موظف بالمنظمة، كما يمثل المنظمة بالخارج.
أما بخصوص الأجهزة الفرعية فهي الأجهزة التي يتم خلقها لاحقا (لعدم ورودها في الميثاق المنشئ) كلما اقتضت ضرورة عمل المنظمة الدولية ذلك، وهي أجهزة جد متنوعة سواء من حيث تكوينها أو من حيث وظائفها. ولا يعني كون الأجهزة فرعية بالضرورة أنها ثانوية وتابعة بل يمكن أن تلعب أدوارا في حجم أدوار الأجهزة الأصلية كالمفوضية العليا للاجئين بالأمم المتحدة. ويتم عادة خلق الأجهزة الفرعية بواسطة الأجهزة الأصلية وفقا لما تقره أغلب مواثيق المنظمات الدولية، بل حتى في حالة سكوت المواثيق المنشئة عن ذلك، فإن الفقه الدولي يعتبرها من الإختصاصات الضمنية التي يقتضيها عمل المنظمة.
وإضافة إلى الأجهزة الأصلية والفرعية التي تزاول مهاما ذات طبيعة سياسية وإدارية في المجمل، ثمة أيضا الأجهزة القضائية والتي قد تكون أصلية أو فرعية بحسب طبيعة المنظمة، وهي الأجهزة التي تقوم بوظائف النظر في القضايا والنزاعات في حدود اختصاصها المرتبط باختصاص المنظمة الدولية، كما تتكون من المعتمدين لدى المنظمة الدولية من ذوي الخبرات والكفاءات القانونية.
وتنقسم الأجهزة القضائية بالمنظمات الدولية إلى نوعين : فثمة من جهة محاكم دولية تختص بالنظر في النزاعات التي تخص الدول أو أجهزة المنظمات الدولية أو حتى الأفراد المنتمين لإحدى الدول الأعضاء في المنظمة (كالمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان)، كما أن بعضها يختص أيضا بإصدار آراء استشارية بشأن المسائل القانونية وذلك بناء على طلب من المنظمات الدولية (كمحكمة العدل الدولية). وإلى جانب المحاكم الدولية، نجد كذلك المحاكم الإدارية التي تختص عادة بالنظر في النزاعات التي قد تنشأ بين المعتمدين لدى المنظمة الدولية وإدارة المنظمة كالمحكمة الإدارية للأمم المتحدة.
8) الشخصية القانونية للمنظمات الدولية:
يقصد بالشخصية القانونية للمنظمة الدولية صلاحية هذه الأخيرة للتمتع بالحقوق والوفاء بالإلتزامات، فضلا عن تمتعها بإرادة قانونية مستقلة عن إرادة الدول الأعضاء المنشئة لها. ويشترط القانون الدولي توافر عنصرين ضروريين لقيام الشخصية القانونية : الأول هو أن تكون الشخصية قادرة على إنشاء قواعد قانونية مع الشخصيات القانونية الأخرى عن طريق التراضي، أما العنصر الثاني فهو أن تكون الشخصية مخاطبة بأحكام القانون الدولي بمعنى أن تكون لها أهلية التمتع بالحقوق وأهلية الوفاء بالإلتزامات الموكلة لها.
وقد شهدت نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين مولد اتجاه فقهي جديد يدعو إلى تمتيع المنظمات الدولية بالشخصية القانونية، غير أنه ما لبث أن واجه معارضة قوية من اتجاه فقهي آخر أنكر على المنظمات الدولية شخصيتها القانونية باعتبار أن الدول وحدها هي أشخاص القانون الدولي لأنها هي التي تملك سلطة التصرف على المستوى الدولي بموجب حقوقها السيادية، في حين ذهب البعض الآخر إلى إنكار هذه الصفة على المنظمات الدولية على أساس استحالة نشأة الشخصية القانونية بمقتضى اتفاق دولي كون أن ذلك يتجاوز سلطات الدول.
وسيتم حسم هذا الخلاف الفقهي من طرف القضاء الدولي في الرأي الإستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية لسنة 1949 بناء على طلب تقدمت به الجمعية العامة للأمم المتحدة أمام المحكمة من أجل النظر في مدى أهلية المنظمة وحقها في رفع دعوى المسؤولية الدولية ضد الدولة أو الدول المسؤولة عن الأضرار التي تلحق بموظفي المنظمة وذلك على خلفية مقتل الكونت برنادوت أثناء قيامه بمهامه كوسيط للأمم المتحدة بفلسطين.
لقد أقرت محكمة العدل الدولية في هذا الرأي الإستشاري الشخصية القانونية لمنظمة الأمم المتحدة، مؤكدة أن الدول ليست وحدها أشخاص القانون الدولي العام، بحيث اعتبرت أن الهيئات الدولية التي نشأت نتيجة لتطورات الظروف الدولية يمكن اعتبارها أشخاصا قانونية من طبيعة متميزة عن طبيعة الدول، إذ تتمتع المنظمة الدولية بأهلية قانونية خاصة تتناسب مع مدى اتساع أو ضيق الأهداف التي أنشئت من أجلها.
نستنتج إذن بأن إضفاء الشخصية القانونية على المنظمات الدولية لا يعني أن تلك الصفة هي ذاتها التي تتمتع بها الدول وهو ما يؤكده الرأي الإستشاري الخاص بمحكمة العدل الدولية، مما يقودنا إلى الحديث عن الطبيعة الخاصة للشخصية القانونية الممنوحة للمنظمة الدولية. إذ تتميز بداية بكونها شخصية مشتقة بخلاف الشخصية الأصلية الثابتة للدول بمقتضى القانون الدولي، ويعني ذلك أن المنظمات الدولية تظل محكومة بقواعد قانونية مصدرها إرادة الدول، بحيث تنشأ بموجب اتفاق دولي يحدد حدود شخصيتها وطبيعتها وحياتها في ضوء تلك الإرادة المنشئة لها.
كما تتميز الشخصية القانونية للمنظمة الدولية بكونها شخصية وظيفية بحيث تكون محدودة بحدود الوظائف والأهداف الموكولة إليها بمقتضى ميثاقها المنشئ، هذا بخلاف الدول التي تتمتع بشخصية دولية غير منقوصة بموجب حقوقها السيادية. وتتسم تلك الشخصية أيضا بأن لها نطاق شخصي، فالدول غير الأعضاء بالمنظمة ليست ملزمة بالإعتراف بشخصيتها القانونية، مع وجود استثناء خاص بهيئة الأمم المتحدة التي تتمتع بشخصية قانونية موضوعية بحيث تسري على جميع الدول وهو ما أكده الرأي الإستشاري الخاص بمحكمة العدل الدولية لكونها تضم في عضويتها مجمل دول العالم، فضلا عن طبيعة أهدافها المتمثلة في تحقيق الأمن والسلم الدوليين.
أما بالنسبة للآثار الناتجة عن اكتساب المنظمة الدولية للشخصية القانونية، فإن هذه الأخيرة ترتب تمتع المنظمة الدولية بمجموعة من الحقوق والإمتيازات وعلى رأسها صلاحية إنشاء القواعد الدولية الإتفاقية، فقد غدت الإتفاقيات الدولية التي تكون المنظمات الدولية طرفا فيها شائعة ومألوفة في الحياة الدولية، وتجدر الإشارة إلى أن المنظمة الدولية تمارس هذه الصلاحية حتى مع عدم وجود نص صريح يخولها ذلك على أساس لزومية هذه الأهلية لقيامها بوظائفها ومهامها عملا بنظرية الإختصاصات الضمنية. هذا دون إغفال الحقوق المترتبة على الأهلية القانونية من تعاقد وتمليك للعقارات والمنقولات، فضلا عن الحق في التقاضي عن معاملات المنظمة الدولية مع الشخصيات القانونية الأخرى.
كما تتمتع المنظمات الدولية بمجموعة من الحصانات والإمتيازات في مواجهة الدول الأعضاء والتي تعد ضرورية حتى تتمكن من ممارسة اختصاصاتها ووظائفها بفاعلية وبمعزل عن أي تأثير قد يصدر من الدول على إرادتها المستقلة، بحيث تتمتع المنظمة الدولية بالحصانة القضائية التي بموجبها يتم إعفاء المنظمة وموظفيها من الخضوع للقضاء المحلي والتشريعات الوطنية للدول، إضافة إلى حرمة المباني التي تمتلكها المنظمة الدولية، ووجوب معاملة رسائل المنظمات الدولية معاملة مشابهة لرسائل البعثات الدبلوماسية بما يعنيه ذلك من عدم فرض أية رقابة عليها.
كما لا تقتصر آثار تمتع المنظمة الدولية بالشخصية القانونية على تلك الحقوق والإمتيازات، بل تشمل أيضا خضوعها للمسؤولية القانونية طبقا لذات القواعد التي يقررها القانون الدولي العام بشأن مسؤولية الدول ما لم يوجد اتفاق مناقض لذلك. وقد تكون هذه المسؤولية تعاقدية نتيجة لإخلال المنظمة بشروط العقد المبرم بينها وبين غيرها من الشخصيات القانونية، كما يمكن أن تكون هذه المسؤولية تقصيرية في حالة ضرر سببته المنظمة عن طريق الخطأ، ويغلب على التطبيق العملي الإقرار بمسؤولية المنظمة في حالة ضرر منسوب إليها حتى وإن لم يكن راجعا إلى خطأ محدد وهو ما يسمى بنظرية المخاطر.
هوامش:
– نادية الهواس، محاضرات في قانون المنظمات الدولية.
الموسوعة الجزائرية للدراسات السياسية والإستراتيجية، نشأة المنظمات الدولية وشخصيتها القانونية.
– مأمون عارف فرحات، نشأة وتطور المنظمات الدولية.
– مأمون مصطفى، قانون المنظمات الدولية.
– موقع قناة الجزيرة، دولة مراقب غير عضو بالأمم المتحدة.
– مروة أبو العلا، أنواع المنظمات الدولية من حيث العضوية والهدف.
– مروة أبو العلا، أنواع المنظمات الدولية وفقا لمعيار السلطات التي تتمتع بها.
– أمل المرشدي، نبذة تعريفية عن اختصاصات المنظمات الدولية.
– محسن أفكيرين، قانون المنظمات الدولية.
– المركز العربي للبحوث والدراسات، الشخصية القانونية لمنظمة الأمن والتعاون الأوروبي.
*صلاح الدين ياسين، من مواليد سنة 1999، باحث مجاز في العلوم السياسية بجامعة الحسن الثاني – الدار البيضاء ومدون إلكتروني، مهتم بمشاركة قراءاتي للكتب في مجال الفكر والسياسي وكافة ميادين المعرفة الإنسانية.