النظريات الإقتصادية و الثورات الشعبية
إن الأحداث التي شهدتها أغلب الدول العربية خلال هذه العشرية من إحتجاجات شعبية متواصلة تطالب بتحسين ظروف العيش تؤكد بكل وضوح أنه هناك خلل إقتصادي عميق في منظومة هياكل تلك الدول التي أصيبت بمرض الأزمات المزمنة بحيث شلت دواليبها و أدت بها إلي الحضيض. فمما لا شك فيه أنه يوجد ترابط وثيق بين الأوضاع الإقتصادية و الإجتماعية, و لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل الواحدة عن الأخري. إذ علي سبيل المثال هناك تصنيف دولي لبعض الدول التي يطيب بها العيش مثل كندا و النرويج, فذاك التصنيف لم يأتي من فراغ بل جاء طبقا لدراسات إقتصادية تؤكد الترابط الوثيق بين الدخل الفردي الخام و القدرة الشرائية و الراحة النفسية للمواطن. فعلي مر السنين واكب الإنسان العديد من التجارب الإقتصادية منها الشيوعية و الإشتراكية بدول الإتحاد السوفياتي سابقا إلي نظام سوق رؤوس الأموال و الرأسمالية المطلقة خاصة بدول العالم الحر. كما كانت تلك التجارب الإقتصادية منبثقة عن نظريات المدارس الإقتصادية التي جاءت عن طريق فكر و دراسة تحليلية لعلماء الإقتصاد. إلا أنه في المقابل تعتبر تلك النظريات غير متلائمة مع طبيعة الواقع الحالي الذي أصبحت تعيشه أغلب شعوب العالم الصارخة و الغاضبة عن أوضاعها المعيشية منها الإحتجاجات الشعبية المتواصلة تحت مسمي ثورات عربية أو سترات صفراء غربية, مما جعلها مجرد تنظير إقتصادي غير قابل لمواكبة متطلبات العصر. فإنفجار تلك الفقاعات الإحتجاجية و خروج تلك الشعوب علي بكرة أبيها إلي الشوارع في معظم عواصم الدول العربية معبرة عن سخطها و تذمرها من الواقع الأليم و المرير التي أصبحت تعيشه في ظل تلك السياسات الإقتصادية التي مازالت تفتقر للعدالة الإجتماعية تؤكد أنه هناك خلل إقتصادي.
المدارس الإقتصادية العالمية
إن التنظير الإقتصادي واسع و شامل و تتغير في صلبه الآليات التطبيقية و المفاهيم العلمية و ذلك وفقا لكل فكر إقتصادي قابل للتطبيق و الممارسة علي أرض الميدان. ففي البداية مثلت المدرسة الكلاسيكية منعرجا إقتصاديا هاما كبوابة رئيسية لوضع القواعد الأساسية لإدارة الشؤون الإقتصادية و هي بالأساس مع الإقتصاديان آدم سميث و دافيد ريكاردو بحيث ركزا إهتمامهما بالجانب التجاري و الإنفتاح الإقتصادي و التخصص في الإنتاجية بحيث تم إستثناء العقد الإجتماعي و مكانة المواطن الفقير المحتاج. إن الثروة الوطنية من منظورهما الخاص تتلخص في جوهر قوة العمل و رأس المال و الإنتاجية. إلا أنه في المقابل لا يتوفر رأس المال لدي المواطن الفقير بطبعة, مما يضع السوق الحرة في منهج التجزئة للطبقات الإجتماعية بحيث تغيب العدالة الإجتماعية و يقتصر التنظير فقط علي شؤون الدولة و علاقاتها التجارية و المالية التخصصية. أما المفكر و المنظر الإقتصادي العالمي كاينس فهو يعتبر الأب الروحي للإقتصاد الكلي العالمي بحيث حدد الجزئيات البسيطة و الآليات التي تحقق التوازن في سوق المنتجات و الخدمات و الأسواق النقدية عبر التوازن بين العرض و الطلب و نسبة الفائدة و الدخل القومي الخام و أيضا خلق بما يسمي “باليد الخفية” التي تدعو لتدخل الدولة لخلق التوازن بتلك الأسواق. إذ هنا يمكن مربط الفرس للقول بأن العالم محتاج فعليا لنمط إقتصادي جديد بعد فشل تلك التجارب الرأسمالية التي زرعت الفوارق الإجتماعية و إعاقة نظرية كاينس لتوفير فرص حقيقية لتحسين ظروف عيش الشعوب المضطهدة من خلال ما يسمي باليد الخفية لتدخل الدولة في الإقتصاد المنفتح. بالنتيجة ظهرت المدارس النيوكاينيزية التي أصبحت تروج لخلق نظام إقتصادي يعتمد علي التضامن و التغطية الإجتماعية بالتوازي مع تقوية القطاع الخاص و تحرير الأسعار و الأسواق لكن هذا التنظير الحديث لم يحظي بالتطبيق العملي خاصة بتلك الدول السائرة في طريق النمو و التي تشهد حاليا ثورات شعبية. لكن ضمن أهم هذه المداس الإقتصادية العالمية لم يجد العالم المعاصر توازنه و النموذج الأنجع للقضاء علي الأزمات المالية و الإجتماعية و تراكم الإضطرابات المعيشية و التذمر و السخط الشعبي المتزايد علي أوضاعه التعيسة. فيمكن القول أن نظرية الإقتصادي الإشتراكي كارل ماركس تعد في جوهرها جيدة لتطبيق حاليا و التي لم تنفذ علي أرض الواقع بجزئياتها في فترة الإتحاد السوفياتي نظرا لزحف النظريات الرأسمالية الداعمة لسوق رؤوس الأموال و دخول نظرية الإقتصادي كاينس كوسيط بين الجميع و ذلك بخلقه “للتنظير الإقتصادي الكلي العالمي” بحيث حدد مصادر الدخل القومي الخام و آليات التوازن بالأسواق و كان مصدر إلهام إقتصادي للتنظير في المجال التجاري, المالي و النقدي. أما حديثا فيعتبر الشغل الشاغل لأغلب الإقتصاديين الحداثيين من أبرزهم بول كروكمان, جوزيف ستيغليتس و جورج سروس هو إيجاد توازن مستقر بالأسواق المالية و تحفيز المبادلات التجارية و مكافحة الأزمات المالية و التركيز علي قراءة مستقبل الأحداث قبل وقوعها. إجمالا رغم تلك العلوم الإقتصادية و لو إختلف بعضهم في تحديد مصدر المرض الإقتصادي مثل التضخم المالي بحيث البعض مصر علي مصدره النقدي و الآخر يزج به في التنظير الإستثماري و المالي. كذلك لم تحدد تلك العلوم الإقتصادية النموذج الأنجع للإقتصاد العالمي الحديث الذي تراكمت في صلبه الأزمات و الثورات الإجتماعية و ذلك نتيجة للسياسات الإقتصادية المجحفة التي مازالت متشبثة بالتنظير الرأسمالي و دعم رجال المال و الأعمال و الإستثمار الخاص و القطاع الحر و تحرير الأسواق بالكامل و زيادة الضرائب علي كاهل الفقراء و رفع الدعم عن المواد الأساسية.
أسباب الثورات الشعبية
منذ مطلع هذه العشرية خرجت بأغلب عواصم الدول العالمية الجحافل الشعبية صارخة بصوت واحد تطالب بالعدالة الإجتماعية و تحسين ظروف العيش و التشغيل القار و تسوية الوضعية. إذ أن تلك السياسات الرأسمالية المتوحشة خلقت الفوارق الإجتماعية و تلك المدارس الإقتصادية من كلاسيكية رأسمالية مطلقة أو مقيدة و إلي تلك القواعد الإقتصادية التي خلقها عالم الإقتصاد الكلي كاينس من خلال ترويجه لتلك “اليد الخفية” و تدخل الدولة لتعديل التوازن بالأسواق لم تعد في مجملها صالحة لعصرنا هذا الذي مازال يعاني من تراكم الفساد المالي و المحسوبية و غياب العدالة الإجتماعية لتغطية الحاجيات الأساسية. فالثورات الشعبية لم تقتصر أيضا علي الدول العربية بل كانت مثل العدوي التي تضرب في الصميم بحيث برزت بما يسمي “حركات السترات الصفراء بفرنسا” و حراك شعبي بألمانيا و بريطانيا و أيضا بأمريكا اللاتينية منها بالأساس فنزويلا و بوليفيا. إذ مثلت تلك الإحتجاجات الشعبية حراكا حقيقيا ضد الأنظمة الرأسمالية من جهة و أيضا ضد الأنظمة الإشتراكية من جهة أخري. إجمالا كانت أسباب تلك الثورات الشعبية متمثلة بالأساس في تلك التوجهات الإقتصادية لتلك الدول التي أثبتت فشلها علي مدار السنين الماضية. فمنها أصبحت الفوارق الإجتماعية واضحة للعيان, غياب كلي للحوكمة الرشيدة, المحسوبية و التهميش, غلاء الأسعار و إرتفاع في نسب التضخم, نمو إقتصادي بطئ و تقلص خلق فرص شغل, تهرب ضريبي من قبل رجال المال و الأعمال, تراكم المديونية و عجز في الميزانية. بالتالي إنعكست تلك الأوضاع التعيسة علي المعيشة اليومية للمواطن الفقير بطبعة ليعجز بالنتيجة علي مجابهة القدرة الشرائية أو عن إيجاد توازنه في الحياة و المجتمع.
بقلم فؤاد صباغ– باحث إقتصادي تونسي