أدت التحولات الداخلية التي كان يعرفها الاتحاد السوفياتي في المجالات الاقتصادية والاجتماعية في تزايد السخط الشعبي والتي انتهت بانهيار وتفكك زعيم الكتلة الشرقية. مما جعل الساحة فارغة للهيمنة الأمريكية على العالم وهنا قرر الرئيس الأمريكي جورج بوش الإعلان عن مفهوم جديد سمي بالنظام العالمي الجديد. وكرس الهيمنة الأمريكية على العالم وذلك عبر استخدام الأمم المتحدة لخدمة مصالحها مما خلف ردود فعل قوية ضد الهيمنة الأمريكية الأحادية على العالم.
ظروف تفكك المعسكر الشرقي ونهاية الاتحاد السوفياتي
ساهمت العوامل الداخلية والخارجية في خلخلة بنية الاتحاد السوفياتي والدفع به للتفكك والانهيار، ومن بين أهم الأسباب التي أدت لذلك نذكر:
التركيبة العرقية والدينية الداخلية للاتحاد السوفياتي والتي تضم حشد من الجمهوريات ذات الألوان والثقافات المتناقضة بشكل فج في إطار نظام أيديولوجي واحد لا يؤمن بالتنوع أو الانفتاح بل ويمارس القمع والمنع والترحيل إلى سيبيريا.
كما أدي الانهيار والفشل والوهن الاقتصادي الذي أصاب الاتحاد السوفياتي نتيجة التمادي في بناء الترسانة العسكرية التي امتصت نسب عالية جدا من النفقات الرسمية على حساب تطوير القطاعات الاقتصادية والخدماتية والاجتماعية التي تمس حياة الملايين من الشعب. كما يغفل الكثيرون أن الاتحاد السوفياتي كان ينفق على العشرات من الدول عبر العالم ويمول النزاعات الإقليمية هنا وهناك على حساب شعبه.
كل ذلك ساهم في تزايد السخط الشعبي والاستياء العام من الوضعية الاقتصادية والسياسية بالبلد المترامي الأطراف خاصة بعد اكتشاف العمال الروس مقدار الحرمان الذي يعانون منه مقارنة مع نظرائهم الغربيين.
كما تولت على الاتحاد السوفياتي الهزائم والانكسارات العسكرية خاصة في أفغانستان التي تم غزوها في العام 1979 وما نتج عن ذلك من هزائم سياسية ونفسية للجيش السوفياتي والتي انعكست على الداخل السوفياتي.
لكن صاحب الضربة القاضية على الاتحاد السوفياتي وآماله كان هو الرئيس ميخائيل غورباتشوف (Mikhail Gorbachev) فمنذ وصوله إلى السلطة سنة 1985م ركز كل مجهوداته على محاولة إصلاح الوضع الاقتصادي والاجتماعي بالبلد.
بدأ في تنفيذ برنامج (البيروسترويكا) والتي تعني إعادة البناء في المجالات الاقتصادية والاجتماعية وذلك عبر الانفتاح على مبادي السوق الحرة والرأسمالية. والسعي للنهوض بالأوضاع الاجتماعية للمواطنين.
كما أطلق برنامجا آخر سمي (بالكلاسنوست) أي الشفافية والديمقراطية السياسية، والذي سعى من خلاله ميخائيل غورباتشوف إلى تخليق الحياة السياسية العامة داخل دولة كانت تحكم بقبضة من حديد. بحيث تم اطلاق حرية التعبير في وسائل الإعلام.
لقد كانت محاولات غورباتشوف كذلك الذي يريد أن يرمم جدار آيل للسقوط، رغم هذه الإصلاحات المهمة ظاهريا فقد شرعت الجمهوريات السوفياتية الصغيرة في البلطيق في الاعلان عن انفصالها الواحدة تلوى الأخرى مما شجع البقية على القيام بنفس الشيء وهو ما شكل صدمة للعالم حول الإمبراطورية الحمراء التي كانت تسبب الكثير من التهديد والرعب للغرب.
تفكك الاتحاد السوفياتي، وقدم غورباتشوف استقالته سنة 1992.
انهيار الأنظمة الاشتراكية الأخرى وبروز ما سمي بالنظام العالمي الجديد
شهدت البلدان الاشتراكية عدة تحولات تحت تأثير ما كان يقع في الاتحاد السوفياتي، وهو أمر ساهم في تسريع سقوط وتفكك المعسكر الشرقي. مع ما رافق ذلك من تحولات أدخلت العالم في ما سمي لاحقا بالنظام العالمي الجديد.
من بين هذه التطورات نذكر، بداية تخلي بعض الأنظمة الاشتراكية أو الشيوعية عن النهج الاشتراكي في تدبير الشأن الاقتصادي، والتحول نحو النظام الرأسمالي والليبيرالي، حيث سارعت دولة تشيكوسلوفاكيا سابقا للقيام بثورة هادئة عبر إلغاء الطرائق القديمة والتحول نحو اقتصاد السوق.
كما دبرت الخلافات السياسية بحكمة كبيرة حيث انقسمت بدون صراع إلى دولتين اثنتين وهما جمهورية سلوفاكيا وعاصمتها براتيسلافا وجمهورية التشيك وعاصمتها براغ.
توسعت هذه التحولات لتشمل العديد من البلدان التي كانت تحت التأثير السوفياتي في كل من أوروبا الشرقية والجنوبية الشرقية كرومانيا وبلغاريا بالإضافة لبولندا.
بدأت شعوب شرق أوربا الشرقية تتخلص من التركة السوفياتية حتى في الميادين العامة، عبر تهديم أثار وتماثيل الرموز الاشتراكية. كما أدت المظاهرات العارمة في برلين إلى تحطيم جدار برلين وتوحيد الألمانيتين سنة 1990. كان هدم جدار برلين الشهير بداية لنهاية ما سماه تشرشل الستار الحديدي، حيث انتهى وهدمت أجزاء واسعة منه بين دولتي النمسا والمجر.
هذا وساهمت تلك التطورات في إفراغ الساحة للهيمنة الأمريكية على العالم وإعلان نفسها قائدة للنظام العالمي الجديد الخاضع للإرادة الأمريكية قبل غيرها.
النظام العالمي الجديد والقطبية الواحدة
من المظاهر البارزة لانتصار المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية على نظيرة الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي، نذكر النجاح الكبير للنموذج القائم على اقتصاد السوق، والفشل الذريع للنموذج الشيوعي الذي أفسده الاستبداد والرأي الواحد قلة الحكمة والديموقراطية.
غير أن للنظام العالمي الجديد مظاهر وتجليات أخرى كثيرة نجملها في التالي:
تزايد الهيمنة العسكرية الأمريكية وذلك عبر تضاعف التوغلات والتدخلات العسكرية الأمريكية والخاصة بحالف شمال الأطلسي في الكثير من الدول والبلدان. وخاصة بالشرق الأوسط والخليج الفارسي والبلقان وغيرها.
كما تنتشر الأساطيل الأمريكية عبر بحار العالم بشكل يصعب مجاراته من طرف أي قوة جيوسياسية أخرى. ناهيك عن القواعد العسكرية الأمريكية عبر العالم والتي توجد في الكثير من البلدان والمناطق حيث يمكن للعصا الأمريكية التدخل في أي مكان عبر العالم بسهولة وفي وقت وجيز. الأمر الذي أعطى للأمريكيين لقب دركي العالم عن جدارة.
بالإضافة للهيمنة العسكرية على العالم تحتكر الولايات المتحدة الأمريكية الهيمنة كذلك على الاقتصاد العالمي عبر فر ض الدولار عملة لبيع البترول، عبر بورصاتها الضخمة (بورصة نيويورك كأكبر بورصة في العالم بالإضافة لبورصة شيكاغو للمنتجات الفلاحية).
كما أن أمريكا تمسك بتلابيب النظام البنكي العالمي ولها حصة الأسد في البنك الدولي وصندوق النقد العالمي. وقادرة اقتصاديا على الحاق الأذى بأي دولة عبر عقوبات اقتصادية أو تجارية.
لا تقتصر الهيمنة الأمريكية على ذلك فقط بل تتعداه للهيمنة الثقافية والإعلامية على باقي الأقطار. عبر انتاجها الضخم في المجالات السينمائية والتلفزية ووكالات الأنباء. الأمر الذي يؤدي إلى انتقال الثقافة الأمريكية ونمط الحياة الأمريكي عبر العالم مع ما يشكله ذلك من دعاية جيدة للمنتجات والنموذج الأمريكي وقد سماه البعض بأمركة العالم.
الردود الرافضة للنظام العالمي الجديد
سبب بروز وقيادة الأمريكيين للعالم بشكل أحادي بعد الحرب الباردة في حدوث الكثير من المشاكل والحروب التي جاءت كرد فعل على التفاوتات التي يشهدها العالم بين الأغنياء و الفقراء.
حيث ازدادت الهجرة من دول الجنوب نحو الشمال، واستخدم الأمريكيون قواتهم لاحتلال بلدان بأكملها كأفغانستان والعراق. كما ساهم التعقد العرقي والدين في منطقة البلقان في حدوث مجازر رهيبة ارتكبها الصرب ضد البوسنيين والألبان وقبلهم ضد الكروات.
كما ساهمت الأحقاد العرقية والتدخلات الاستعمارية في حدوث الكثير من المآسي بأفريقيا كما وقع في روندا. والكونغو وغيره.
كان الرفض التام للنموذج الأمريكي عند المسلمين واضحا عبر تبني أسلوب المقاومة الثقافية، والرجوع إلى الدين ونبذ نمط الحياة الأمريكية وغيرها. واتخذ ذلك بعض الأشكال التي قد تنحرف وتستغلها أمريكا نفسها في تحقيق أهدافها الاستعمارية كاستعمالهم كأدوات لضرب خصومهم السياسيين.
ساهمت هذه التناقضات الكبيرة في ظهور أشكال التطرف والارهاب والتي قد تؤدي إلى خراب دول بأكملها.
لكن التحولات التي شهدها العقد الأول من القرن الحالي ساهم في عودة التعددية القطبية ولو بشكل خجول عبر العالم. فاليوم لم تعد أمريكا تقود لوحدها العالم لكن كل القوى الكبرى تمارس ثقلها حسب استطاعتها كالصين وروسيا وغيرها.