المدرسة الابيقورية

سيطرت الأبيقورية على حوض المتوسط بأكمله, فوجدت مدرسة أبيقورية في أنطاكية, في القرن الثاني قبل الميلاد وتأثرت المذاهب الفلسفية في الاسكندرية بالأفكار الأبيقورية, أما رومة , فمع أنها عرفت الأبيقورية في حياة مؤسسها أبيقور, فإِن إِشارات الخطيب الروماني شيشرون الثابتة إِلى الأبيقورية تثبت أنها – أي الأبيقورية – ازدهرت فيها وسيطرت عليها في القرن الأول قبل الميلاد. وكذلك وجدت مراكز للأبيقورية في منطقة نابولي الإِيطالية وجوارها. ومع أن الأبيقورية كانت ما تزال مزدهرة في القرنين الأول والثاني الميلاديين, فإِنها أخذت تتفكك تدريجياً لتحلّ محلها المسيحية بمؤسستها الكنسية التي سيطرت على الفكر الأوربي في القرون الوسطى, ولكن ما إِن بدأ النصف الأول من القرن السابع عشر حتى لوحظ نوع من إِحياء للأبيقورية سببه معارضة التجريبيين لعقلانية ديكارت[ر], والباعث على هذا الإِحياء غاسندي الذي وضع النظرية الحسَّوية للمعرفة الأبيقورية مقابل ديكارتية الأفكار الفطرية, ونصَّرَ نظرية أبيقور الذرية بأن عدّ الإِله علة لحركة الذرات, خلافاً لأبيقور ذاته الذي عزا ذلك إِلى الجاذبية الأرضية, كما أنّه رأى في الكون كلاً متماسكاً يتطلب وجود إِله كليّ القدرة, ليوضح قوامه وغائيته. وقد حاول غاسندي أن يوفق بين دعوته الكهنوتية وتجريبيته المضادة للديكارتية والمتأثرة بالأبيقورية. ويلاحظ كذلك أن نفعية بنتام J.Bentham [ر] وستوارت مل J.Stuart Mill [ر] قد تأثرت, في جوانب منها, بالأخلاق الأبيقورية. وقد تكون الأبيقورية أول محاولة, في العالم الغربي, لتأسيس مذهب إِنساني كامل.

فلسفة أبيقور

القانون الأبيقوري:

يمّيز أبيقور ثلاثة أقسام في الفلسفة: العلم القانوني والطبيعة والأخلاق. الأول أساس العلم, ويعلم طرائق تمييز الحقيقة من الخطأ, والثاني يبحث في كون الأشياء وفسادها وطبيعتها, والثالث يميّز الأشياء التي توفر حياة سعيدة من الأشياء الضارة التي يجب الابتعاد عنها, والعلم القانوني والطبيعة في خدمة الأخلاق, وغايتهما دراسة الأسس التي تسمح بالتحرر من الآراء الخداعة, للتوصل إِلى حياة حرّة هادئة ومتزنة.

والقانون الأبيقوري مختلف عن المنطق الأرسطي التصوري, وعن المنطق الأفلاطوني الديالكتيكي, وكذلك عن المنطق الرواقي الشرطي. إِنه منطق لا يحتاج إِلى الكلمات إِلاّ ليشير إِلى ما هو موجود وهو وسيلة للاقتراب من الواقع. وتتجلّى نقطة انطلاق هذا القانون في أنّ هناك أربع سمات للحقيقة: الإِحساسات والتصورات القَبْلية والانفعالات والتصورات الحدسية للفكر.

الإِحساس:

الإِحساس في نظر الأبيقورية, ليس صياغة ذاتية ونسبية كما تعتقد الأفلاطونية, وإِنما هو صورة مطابقة للواقع تنشأ من اتصال بين جسمين: الأول خارجي حسي, والآخر ذاتي متعلق بالعضو الحاس, ولما كان الإِحساس خامة تبدأ معارفنا بها, لذا لا يمكن تسويغ صحته بالعقل الذي لا يكون عليه الإِتيان بتفاصيل الإِحساس وانتقاده, بل العكس هو الصحيح؛ أي إِنّ الإِحساس يفرض نفسه من دون حاجة إِلى أي تسويغ, لأن مجاله, برأي أبيقور, متقدّم على مجال العقل. وبذا خالفت الأبيقورية المذاهب العقلية التي اعتقدت أن الإِحساس ليس نقطة انطلاق المعرفة الصحيحة, كما خالفت المذاهب الريبية التي أكّدت استحالة المعرفة. فالإِحساس, في نظر الأبيقورية, يمكِّن الإِنسان من العيش في توافق مع الطبيعة ومع المجتمع, وفي سلام داخلي. وهو الأساس في الأحلام, لأن الظلال الناجمة عن الموضوعات الغائبة هي التي تنتجها عندما تلاقي الحواس, وهكذا أبعد أبيقور السمة الإِلهية عن الحلم, ليجعل من الإِنسان سيد نفسه ومصيره.

التصور القَبْلي:

حين يتكرر الإِحساس يُحدث في الذهن معنى كليّاً يُطبّقه الإِنسان على الجزئيات كلما عرضت له في التجربة. فالإِحساس يسمح للمرء بأن يسأل: «هل هذا الحيوان ثور أم حصان؟» ويصدر أحكاماً تتجاوز التجربة الراهنة, مثل قوله: هذا الشبح الذي أبصره هناك هو شجرة. بيد أن مثل هذه الأحكام لا تصير تصديقات إِلاّ إِذا أيّدها الإِحساس, والأسئلة تعني أننا ندرك معانيها إِدراكاً متقدماً على الإِحساس الذي حملنا على إِصدار الأحكام وطرح الأسئلة.

وهكذا فإِن التصور القبلي ليس الأفكار الفطرية كما يدَّعي شيشرون لتناقضها مع مادية أبيقور, وليس فكرة خاصة تبقى في الذهن, كما يؤكد شتاينهارت, وقد تستدعى الإِرادة بقصد المقارنة, إِنّه, في الواقع, إِحساس متكرر يترك فينا طابعاً واضحاً وأكيداً, وفكرة عامة تؤكد تفوّق الإِحساسات, وذلك وفق انطباعات تتركها فينا إِحساسات متقدمة تشبه الإِحساسات المذكورة.

الانفعال أو الشعور السلبي:

هناك, كما يقول ديوجينس اللايرسي, انفعالان يشعر بهما كل كائن حيّ: الأول موافق للطبيعة وهو اللذة, والآخر غريب عنها وهو الألم, و«بهما نستطيع تمييز الأشياء التي علينا أن نبحث عنها, وتلك التي علينا أن نهرب منها». وكلما كانت هذه الانفعالات, التي هي انطباعات الحواس فينا, مستحبة أو غير مستحبة بحثنا عن الموضوعات التي تؤدي إِلى هذه الانفعالات, أو هربنا منها. فالانفعالات, كالإِحساسات والتصورات القبلية, معايير الحقيقة, تنصبّ على علة المعيار وتسمح لنا بإِدراكها, فندرك الملاذَّ علة اللذة, والمؤلم علة الألم.

التصورات الحدسية للفكر:

لهذا التعبير, الذي يعاين الكون في جملته, منهجان: منهج يؤدي إِلى التصديق بأشياء ليست واقعة في التجربة, مثل الجوهر والخلاء ولا نهاية المادة؛ ومنهج يؤدي إِلى استخراج تفاصيل العالم «من نظرة إِجمالية», مثل استخراج الظواهر الجوية من معرفة مفاعيل العناصر, وإِذا كان المنهج الأول يمكّن من إِدراك اللامحسوسات, في علاقتها بالمحسوسات, فإِن المنهج الآخر, يمكّن من إِدراك اللامحسوسات ذاتها.

الطبيعيات الأبيقورية:

يتلخص المبدأ الكبير لطبيعيات أبيقور بأن «لا شيء خلق من لا شيء بفعل قدرة إِلهية», ولا شيء يمكن أن يرتد إِلى العدم. وهذا ما يقود إِلى مبدأ آخر يقول: «إِن الكون مؤلف من جسم وفراغ ومكان»؛ نستدل على وجود الأجسام بالحواس, وعلى وجود الفراغ والمكان بضرورتهما, وإِلا فلن يكون هناك مكان تتحرك فيه الأجسام. فأجسام هذا العالم, الموجودة بأعداد غير متناهية, وفي امتداد الفراغ غير المحدود, موجودة منذ البدء. «أي إِن العالم كان دائماً, كما هو اليوم, وهو هكذا منذ الأزل». أما فيما يتعلق بالذرات, فإِنها, على عددها غير المتناهي, لا يمكن أن تُستنفد بخلق عالم أو عدة عوالم, لذا فمن الضروري وجود عوالم لا تُحصى مشابهة لعالمنا أو مخالفة له.

أما الغاية من دراسة الطبيعة, فهي العيش بأمان تجاه الآخرين والأشياء, ومن ثم الوصول إِلى الرصانة. بيد أنّ هذه الغاية لا يتوصل إِليها إِلاّ من لا يخاف: لا من الأساطير الأخروية, ولا من الظاهرات الطبيعية, ولا من الموت, ولا حتى من الآلهة.

الذرات:

يميّز أبيقور بين نوعين من الأجسام: أجسام مركبة, وعناصر صنعت منها الأجسام المركبة يُطلق عليها الذرات. إِن الأجسام المركبة أنظمة مرتبة يمكن أن تفقد من ذراتها, لأن ليس لها هوية مطلقة. أمّا الذرة, فهي عنصر صلب متراص ثابت, لا يحتوي على أي فراغ أو أية مسافة, ومع أن للذرات مقداراً يراوح بين حدّ أعظم وحدّ أصغر, فإِنها تبقى غير منقسمة, وللذرات, بالإِضافة إِلى خاصة المقدار, خاصتان أخريان هما الشكل والوزن. وأشكال الذرة لا يحصى عددها مع أنه متناه, أما وزنها, فهو السبب في حركة سقوطها نحو الأسفل. ومع أنّ وزن الذرات يختلف باختلاف مقدارها وشكلها, فإِن هذه الاختلافات لا تؤدي إِلى أي فرق في سرعة السقوط, لأن كل الذرات تسقط في الفراغ بسرعة واحدة وعلى نسق واحد.

والذرات متحركة حركةً محددةً بعناصر ثلاثة هي: الثقل والتصادم والانحراف. والأول هو سبب الحركة العمودية لسقوط الذرات. والثاني يؤدي إِلى تغيير اتجاه الذرة, من دون أن يؤثّر في سرعتها التي تبقى ثابتة. والثالث يطلق على الحركة التلقائية أو الميكانيكية للذرات التي تحملها على التحول خارج خط السقوط بسبب وزنها. وعن طريق نظرية الانحراف هذه تتوضح حرية الإِنسان. وهكذا فإِن حرية الإِنسان تقوم على أسس طبيعية مادية, لا على اعتبارات ميتافيزيقية.

ولما كانت الذرات ثابتة, فلا يمكن أن تُسند إِليها كيفيات متغيرة, كاللون والرائحة والصوت وغيرها. فالكيفيات تتعلق بالأجسام المركبة فقط, وهي إِمّا أن تكون محمولات تعود إِلى الجسم ذاته على الدوام, كالصّور, وإِما أن تكون أعراضاً يمكن أن تعود إِلى الأجسام من وقت إِلى آخر, أي على نحو مؤقت, كالعبودية.

المكان والزمان:

المكان طبيعة موجودة لا تُلْمَس, ولا يقاوِم تحرك الأجسام؛ ويمكن أن يشغله جسم ما, فحيث يوجد الجسم يستمر المكان. وهو, أيضاً, فراغ خالٍ مؤقتاً من أي جسم, وضروري للحركة الدائمة للذرات, إِذ من دونه تستحيل الحركة. وهو كذلك امتداد, وامتداده غير متناه, لأن الفراغ إِذا كان «محدوداً ومحصوراً, لا يستطيع احتواء الأجسام في عدد غير متناهٍ». أما الزمان, فهو «عرض الأعراض», لا يوجد في ذاته, ولا نحسُّ به «خارجاً عن حركة الأشياء وسكونها». فهو يرافق الأحداث التي منها ينتج الإِحساس به.

النفس:

النفس, في نظر أبيقور, جسم حار لطيف للغاية تكمن فيه جميع قوى النفس, ولكن لا يكون إِحساس إِلاّ إِذا ارتبطت النفس بالبدن: فهو الذي يتيح لها أن تمارس قدرتها على الإِحساس, كما أنها, بالمقابل, هي التي تجعله حساساً, فإِنْ تفرّق شملهما تبددت النفس إِذ إِنها تتكون معه, وتنحل بانحلاله, فهي إِذن مادية وفاسدة.

والنفس مؤلفة من تجمع أربعة أنواع مختلفة من الذرات, تأتي منها خصائص الجسم الحي: النَفَس وتأتي منه الحركة, والهواء ويأتي منه السكون, والحار وتأتي منه الحرارة, وأخيراً نوع رابع يأتي منه الفكر الذي يقوم بنشر «الحركات الإِحساسية في الأعضاء». وهناك تمييز آخر تبقى صلته بالتمييز الأول غير واضحة, وهو التمييز بين الروح والنَفْس: فالروح محلها في القلب, ولها وظيفة وجدانية متمثلة في الإِحساس والفكر والإِرادة؛ والنفس منتشرة في البدن كله ولها وظيفة حيوية قائمة على بث الحياة في الجسم.

وعندما تتحرك ذرات النفس, ويُكرهها الجسم على القيام بحركات معيّنة بنشرها العنصر اللاجسميّ, بما تحمله من إِحساسات بين عناصر النفس الأخرى وخلال الجسم بأكمله, يتولد الإِحساس, فالإِحساسات جميعها تعود إِلى اللمس, حاسة الجسم بأكمله. وانطلاقاً من هذه الفكرة الأساسية عرف الأبيقوريون أنواع الحواس الأخرى من ذوق وسمع وشم ونظر. فغاية نظرية الحساسية هي إِثبات أن الإِنسان كائن يعيش في اتصال وثيق مع ما يحيط به, وفي توافق مع الطبيعة انطلاقاً ممّا يُنقل إِليه من الإِحساسات, التي بها, وليس بالغائية العنائية, يُقوّم الإِنسان. أما الفكر, فإِنه ظاهرة عارضة متولدة من تنضيد الإِحساسات المباشرة وتركيبها. فالفكر يتولّد من الإِحساس, وبتولده منه يعبّر عن مضمونه المجرّد من كل سمة زمانية ومكانية.

الآلهة:

لم ينف أبيقور مطلقاً وجود الآلهة, بل رفض الأساطير التي أسندها الجمهور إِليها, وعدّ الأفكار التي تُسِندُ إلى طبيعتها دوراً في خلق العالم وتلاحق الزمان من أخطر الأفكار, لأنّ العالم وجد من التقاء الذرات. ولا يجوز الاستنجاد بالطبيعة الإِلهية لتوضيح انتظام دوران الكواكب وتلاحق الزمان, إِذ ليس هناك لا عناية ولا قدر, بل كل الأشياء من نتاج المصادفة. وهكذا فإِن الآلهة موجودة, ومن ينفي وجودها كمن ينفي البداهة. فنحن, أولاً, نرى في المنام وفي اليقظة أشباهاً لابدّ أن تكون منبعثة عن الآلهة ذاتها, وهذه تجربة تكفي لإِثبات وجودها. وثانياً, عندنا عن الآلهة تصور قبلي بأنها موجودات سعيدة ومغتبطة تحيا في طمأنينة وسعادة كاملتين. وثالثاً, لابد من أن يقابل الوجودَ الفاني المتألم وجودٌ دائمٌ سعيدٌ, هو الآلهة المجبولة من مادة نقية خالصة, لا يتطرق إِليها الفساد.

الأخلاق الأبيقورية:

تهدف الأخلاق الأبيقورية, القائمة على مادية واضحة, إِلى بيان أن مذهب المتعة هو أسهل الطرق إِلى الحكمة؛ على طريق إِعطاء الحكيم إِمكانية إكفاء ذاته بذاته في وحدانية هادئة بعيداً عن الانفعاليين الحمْقى.وهي تدور حول غايتين أساسيتين هما: اللذة, وحالة الطمأنينة والخلو من الهموم. ومع أن التوفيق بين هاتين الغايتين ليس سهلاً, فإِن جوهر الأخلاق الأبيقورية يكمن في الصلة بينهما. بيد أن الغاية الوحيدة التي يسلم بها أبيقور على ما يبدو, هي اللذة. أما الطمأنينة فلا قيمة لها إِلاّ بقدر ما تكون تابعة للذة ومنتجة لها. ولهذا صوّر خصوم الأبيقورية الأبيقوريين في صورة فُسّاق وفَجَرَة لا يردعهم عن شهواتهم روادع. ولكن بعضهم أقر, ولاسيما سنيكا Seneque الرواقي وفورفوريوس الأفلاطوني, بالسمو الأخلاقي للتعاليم الأبيقورية مستشهدين ببعض مبادئها.

والواقع أن مفهوم أبيقور عن اللذة مغاير لمفهوم القورينائيين لها, وذلك لأسباب ثلاثة, أولها, أن أبيقور قد قال بالمتعة الثابتة والمقوّمة, خلافاً للقورينائيين الذين قالوا, بتأثير فكرة هيرقليطس Heraclite في التحوّل والتغيّر, باللذة المتحركة, وثانيها: أنّ أبيقور لم يسلّم إِلاّ بلذة واحدة حسية هي لذة الجسد والبطن, خلافاً للقورينائيين الذين سلموا باللذات الفكرية. وثالثها: أن اللذة, في نظر أبيقور, ليست, كما تخيّلها القورينائيون, حركة وجيشاناً, وإِنما هي لذة تقوم على غياب الألم الجسدي والاضطراب النفسي.

وهنا تبدأ مشكلة التوفيق بين مبدأين أبيقوريين: الأول يقول إِن الخير يتم اختياره دوماً بالإِرادة؛ والآخر يؤكد أن كل لذة خير وكل ألم شر, لكن لا يتم اختيار كل لذة, ولا تحاشي كل شر بالإِرادة دائماً. وهنا يميّز أبيقور, كالقورينائيين, موضوع الإِرادة المتبصرة من الغاية موضوع الميل المباشر. فإِذا كان الميل يحدو إِلى اللذة, فإِن على التبصر بالمقابل أن يزن عواقب كل لذة. وهكذا تُهمل اللذات التي تجرّ فائضاً من الآلام, وتُتحمل الآلام التي تأتي بلذات أكبر.

ولهذا جعل أبيقور اللذات على ثلاث مراتب: اللذات الطبيعية والضرورية التي لا مندوحة من إِشباعها, كالرغبة في الأكل؛ واللذات الطبيعية وغير الضرورية التي تطلب التنوع في إِشباع الحاجة, مثل الرغبة في تناول نوع معين من الطعام من دون غيره؛ وأخيراً اللذات اللا طبيعية واللاضرورية. كالرغبة في تاج, وهي رغبات فارغة باطلة. وهكذا فالحكيم هو من يعلم أنّ أعلى درجات اللذة يمكن بلوغه بإِشباع النوع الأول من الرغبات, أو بالأحرى, بالاكتفاء بالقليل والتلذذ بما تضعه الطبيعة المتبصرة بتصرفه. وهذا المبدأ يبيّن أن ضابط الرغبة لا يقوم في الإِرادة المقابلة لها, وإِنما في اللذة ذاتها.

فالأخلاق الأبيقورية طائفة من التوجيهات التي تلجم الفكر عن الشرود وتردعه عن تجاوز الحدود التي عينتها الطبيعة, والتقيّد بهذا المفهوم يوضح العلاقة بين الفكرتين المحوريتين, اللذة والطمأنينة. فطلب اللذة يستتبع وجوباً كل تلك التمارين العقلية: من تأمل في الحد الطبيعي للرغبات, ومن حساب اللذات, ومن تصور اللذات الماضية أو المستقبلة التي يكوّن جانبها السلبي طمأنينة النفس.

وهكذا يتوصل الحكيم بالعلم القانوني والطبيعيات والأخلاق, إِلى أمور أربعة هي التالية: عدم الخوف من المغيّبات, وعدم الخوف من الموت, والحصول على الخير بسهولة, واحتمال الألم بسهولة. فالحكيم إِذن موجود حرّ, تحرّر من فكرة الضرورة ومن الآخرين, أي إِنّه من دون سيّد, ويكفي ذاته بذاته. وصفوة القول إِنّ أبيقور إِنسان فكَّر بتعمق حول تفسّخ الأخلاق وحول الصيغ المختلفة للهستيريات الجماعية, وأراد, من خلال رسالته إِلى معاصريه, أن يبيّن لهم أن على الإِنسان أن يكون سيد قدره.

 

Please subscribe to our page on Google News

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15371

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *