لقد اشتهرت الهند بالسياسات الأخلاقية النهروية في السياسة الخارجية خلال الحرب الباردة، وهي السياسة التي اعتمدت “عدم الانحياز” للقوى العظمى، وأكدت على دعم حركات التحرر وتحدي النظام الرأسمالي الحاكم.
وفي الساحة الاقتصادية أيضاً -نظراً لعلاقاتها الوثيقة مع الاتحاد السوفيتي- اتبعت الهند نوعاً من الاقتصاد المكتفي ذاتياً والخطط شبه الاشتراكية، ولكن على الرغم من تنفيذ هذه البرامج، إلا أنها لم تحقق انفتاحاً اقتصادياً كبيراً للطبقة الفقيرة في البلاد، وانتشرت آثار الفقر بين الهنود على نطاق أوسع، يوماً بعد آخر.
وبعد الحصول على الاستقلال وفي عهد جواهر لال نهرو، اتبعت الهند سياسة عدم الانحياز في ظل القطبية الثنائية آنذاك، وبتوجه أخلاقي. وقد لفتت سياسة عدم الانحياز انتباه الدول الأخرى كجزء من خطة نيودلهي الاستراتيجية، في حال أن الهند قبل نَيل الاستقلال، دعمت السياسات الاستعمارية البريطانية عبر التعاون العسكري. واستمرت النهروية في الهيمنة على السياسة الخارجية للهند حتى عام 1991 وانهيار نظام القطبية الثنائية.
ومع نهاية الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي، تغيرت السياسة الخارجية لحلفاء موسكو الآخرين، بما في ذلك الهند. وأدى انهيار الاتحاد السوفيتي إلى التغيير في ساحة التنافس بين القطبين لصالح الولايات المتحدة، وامتد هذا التأثير إلى جميع أرجاء الاتحاد السوفيتي، حيث أصبح العالم يشهد نوعاً من الجو أحادي القطب لم يسبق له مثيل من قبل.
وفي التسعينيات، تغيرت سياسات الدول متأثرة بانهيار الاتحاد السوفيتي، ودور الولايات المتحدة كقوى عظمى فارضة على العالم نظام الأحادية القُطبية. ويمكن تحليل التحول والتغيير الاستراتيجيين الحاصلين في سياسة الهند الخارجية من التوجه نحو دول العالم الثالث إلى توسيع العلاقات مع البلدان المتقدمة في هذا السياق.
تتأثر التغييرات في سلوك الحكومات في مجال السياسة الخارجية بالمحفزات المحلية ومتغيراتها الوطنية في أثناء المراحل الزمنية المختلفة. ولقد كانت أيديولوجية القومية الهندوسية تؤكد على الحاجة إلى الإصلاح الاقتصادي؛ وبالتالي، على رفع مستوى القوة الاقتصادية والسلطة الوطنية. ونحن نرى نوعاً من البراغماتية في السياسة الخارجية والسياسات الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة الهندية. وبطبيعة الحال، يمكن أيضاً تحليل التغييرات التي حصلت في السياسة الخارجية للهند في غرب آسيا في إطار تغيير الدور الإقليمي لهذا البلد في التنافس مع باكستان والصين. حيث إن أهمية موضوع العلاقات الاقتصادية مع دول غرب آسيا، أعطت الأولوية للاهتمام بالقضايا الاستراتيجية والضرورات الجيوسياسية لنيودلهي. وتسعى نيودلهي إلى تحقيق الأهداف طويلة المدى ومتوسطة المدى التي تترتب على هذه التغييرات.
بعد الحرب الباردة، تحوّلت سياسات الهند من دعم حركات التحرر والمستضعفين إلى العلاقات الرأسمالية، ثم اتجهت نحو تبني استراتيجية التواصل مع الشرق (أو الجيران الشرقيين) والتواصل مع الغرب (أو الجيران الغربيين أنفسهم). ومع تضاؤل رغبة الولايات المتحدة بحضور أكبر في منطقة الشرق الأوسط -الأمر يعود إلى عدم رضا الشعب الأمريكي والسياسات الأمريكية الداخلية- توافرت مساحة أكبر للجهات الفاعلة الإقليمية والقوى الكبرى في المنطقة. تتمتع الهند بقدر كبير من رأس المال والقوة الناعمة، بما في ذلك تأريخها المجيد مقارنة ببعض الجهات الفاعلة الإقليمية، حيث يمكنها استخدام هذه القوة الناعمة لتوسيع اتصالاتها الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط المضطربة.
الهند: فرص وتهديدات استراتيجية أداء الأدوار في منطقة الشرق الأوسط
إن أحد الأسباب الرئيسة لفشل الهند في تحقيق قوة إقليمية كبرى هو انخفاض مستويات الدخل وانتشار الفقر في البلاد؛ ولذلك، قامت الهند بتطوير العلاقات الاقتصادية والسياسية بهدف الخروج من هذا الوضع، وإن تبني السياسات الاقتصادية العملية والابتعاد عن الاقتصاد الاشتراكي الجامد، قدم للهند قفزة اقتصادية كبيرة ومعدل نمو بنسبة 7 في المئة، حيث من المتوقع أن تصبح الهند واحدة من أكبر خمسة اقتصادات في العالم قريباً. ويمثل العدد الكبير من العمال الهنود المقيمين في دول الخليج العربية فرصة تستغلها الهند للتخفيف من حدة الفقر.
إن الوجود المكثف للعمالة الهندية على أراضي هذه البلدان -الذي في بعض الأحيان يساوي أو يفوق عدد السكان الأصليين في البلاد- يمكن أن يكون فرصة للهند لإبرام اتفاقيات دفاعية مع هذه البلدان، إلى جانب تنامي قدرة الهند على التأثير في نطاق علاقاتها معها.
إن أحد الإجراءات التي اتخذتها الهند بعد التغيير الذي أجرته في سياستها الخارجية هو عدم التورط في الصراعات الإقليمية، وهذا الحياد جعل الهند دولة وسيطة وآمنة. وبما أن غالباً ما يتم التعبير عن العلاقات والصداقات بين الدول في غرب آسيا على أساس العداء مع دولة أخرى، إلا أن سياسة الحياد التي تنتهجها الهند أدت إلى عدم حساسية الجهات الفاعلة الإقليمية الأخرى تجاه نطاق العلاقات الخارجية للهند. على سبيل المثال، فإن إقامة الهند علاقات مع إيران وإسرائيل كعدوين إقليميين، لم يثر رد فعل يدل على حساسية من قبل أي من الجانبين.
الهند واستراتيجية بناء العلاقات مع غرب آسيا
إن إيران ودول الخليج يعدان من ضمن جيران الهند الغربيين. وبعد الحرب الباردة – َنظراً للضرورات الاقتصادية والعلاقات الجيوسياسية الجديدة- عملت الهند على توسيع علاقاتها مع الدول العربية وجارتها الغربية إيران في الوقت نفسه. وتعد حاجة الهند المتزايدة إلى الطاقة وإمداداتها أولوية في توسيع العلاقات مع جيرانها الغربيين. ويمثل الممر بين الشمال والجنوب وممر تشابهار – أفغانستان فرصة لتوسيع مجال الاتصال عبر إيران وروسيا إلى آسيا الوسطى والقوقاز؛ ونتيجة لذلك، فإن باكستان لن تكون قادرة على الضغط على الهند في هذا المجال.
إن الهند مضطرة لتوسيع علاقاتها مع إيران والدول العربية؛ وذلك من أجل تلبية احتياجاتها من الطاقة، إذ يمكن للجيران الغربيين الذين لديهم احتياطيات ضخمة من النفط والغاز أن يضمنوا احتياجات الهند من الطاقة. ويمكن أن يؤدي توسيع العلاقات الاقتصادية مع هؤلاء الجيران أيضاً إلى تغيير البيئة التنافسية لباكستان والهند لصالح نيودلهي، ويمكنهم تعزيز العلاقات مع بعضهما البعض من طريق الاستثمار في المشاريع الاقتصادية. ويمكن تقييم جزء من استراتيجية الهند لتغيير سياستها الخارجية والانعطاف نحو غرب آسيا في أهدافها الاستراتيجية والجيوسياسية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء ممر بين الشمال والجنوب وطرق تجارية مع الدول الأوروبية والوصول إلى آسيا الوسطى والقوقاز عبر روسيا وإيران. وإذا أنشئ هذا الممر، فستكون الهند قادرة على تحويل أحد تحدياتها الرئيسة مع باكستان لصالحها.
ويمكن أن ينافس الممر أيضاً المشروع الصيني العالمي “حزام واحد-طريق واحد”، ويوفر المزيد من الفوائد والمصالح للهند. تعتبر الهند من أهم الشركاء في تطوير ممر تشابهار؛ الذي سيؤدي إلى تعزيز صناعة الشحن والنقل مع إيران في المحيط الهندي. إن حاجة الهند إلى احتياطيات الطاقة في غرب آسيا من ناحية والتكلفة الرخيصة للنقل عبر بندر تشابهار من ناحية أخرى، فضلاً عن التكلفة الرخيصة لتصدير البضائع وسرعته؛ أدت إلى إبرام اتفاقية ثلاثية بين الهند، وإيران، وأفغانستان. وبموجب هذه الاتفاقية ستتصل الطرق بمدينة هيرات ويربط جنوب آسيا والمحيط الهندي بأفغانستان وآسيا الوسطى عبر السكك الحديدية، وكذلك توسيع ميناء تشابهار. ويمكن تقييم مشروع ميناء تشابهار في إطار التنافس مع الصين وباكستان في ميناء جوادر الباكستاني. ويمثل الوصول إلى المحيط الهندي وتسهيل استيراد النفط من غرب آسيا أمراً حيوياً للصين. لقد أُنشئ مشروع “الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني” في عام 2013؛ بهدف توريد الطاقة بين الصين وباكستان مع تطوير ميناء ومدينة جوادر على ساحل مكران، ولهذا السبب تخطط الصين لإنشاء منطقة اقتصادية خاصة في ميناء جوادر، وتأتي أهمية الاستثمار الصيني طويل الأجل في ميناء جوادر ضمن مواصلة استراتيجية “إحياء طريق الحرير” ودوره في الاقتصاد العالمي.
إن التحدي الرئيس الذي تواجهه الهند في دخول الساحة الإقليمية هو التنافس التاريخي مع الصين وباكستان، على الرغم من أن سياسة الهند كانت أكثر مرونة من سياسة الصين، وفي بعض الحالات أدت إلى التسامح في تقاسم مصالح التواجد في بعض المناطق، إلا أن التنافس والصراع بين باكستان والهند ما يزال قوياً.
إن الدعم الذي تقدمه باكستان للجماعات الجهادية واتساع نطاق نفوذ الجماعات الإرهابية ومشاكلها العديدة، دفع الهند إلى محاولة السيطرة على القضية وإدارتها على أراضيها، ويمكن تقييم تقرب الهند من السعودية؛ كونها أحد الشركاء الاقتصاديين الرئيسيين، في هذا الصدد، حيث يأتي حوالي ثلثي واردات الهند من الطاقة من هذا البلد. ومن جهة أخرى، للسعودية تأريخ طويل في تقديم الدعم المالي والسياسي للجماعات الجهادية الباكستانية؛ ولذلك، تسعى الهند إلى تغيير موقف السعودية الداعم للجماعات الباكستانية المتطرفة بتعزيز العلاقات الاقتصادية مع هذا البلد. وقد أتاح التنافس بين السعودية وإيران فرصة للهند للتأثير على العلاقات مع السعودية، حتى تجعل كفّة ميزان العلاقة مع السعودية أثقل لصالحها.
إن رئيس وزراء الهند الحالي “ناريندرا مودي” -الذي وصل إلى السلطة نيابة عن الحزب القومي الهندوسي- لديه تأريخ من العداء والقتل للمسلمين الهنود إبان حكمه على ولاية غوجارات. ويشتهر الحزب القومي الهندوسي بعدائه للمسلمين الهنود؛ ولذلك لا أمل في تحسين أوضاع المسلمين داخل الهند، لكن ناريندرا مودي عبر تبنيه سياسة خارجية تتمحور عن “السياسة المحسوبة” و”البراغماتية”، سيجعل قدرة الهند على تأدية الدور الإقليمي أكثر بروزاً، وذلك بسبب تضاؤل الوجود الإقليمي للولايات المتحدة وتقلص دور الصين كمنافس للهند. إن التقرب من المحور العربي، واستراتيجية الانعطاف نحو جيران الهند الغربيين، وإضعاف الدعم لباكستان وممارسة الضغوط على قضية كشمير وغيرها من النزاعات مع الهند، ستحسن وضع هذا البلد بنحو كبير في المنافسة مع جارتها باكستان.
المصدر: المركز الدولي لدراسات السلام – IPCC https://b2n.ir/966525