تقع البلقان في منطقة إستراتيجية عند تقاطع طرق التجارة من الغرب إلى الشرق، ومن الجنوب إلى الشمال، وقد صعدت لتصبح مُجددًا مكانًا للمنافسة الجيوسياسية بين القوى الدولية، لا سيما في ظل نهج الاتحاد الأوروبي الذي يتسم بقدر من اللامبالاة في التعامل مع المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه دول تلك المنطقة؛ ما أدى إلى تضرر سمعة الاتحاد ومصداقيته، وبدأت الحكومات والمجتمعات بأسرها تتجه إلى جهات فاعلة خارجية، مثل روسيا، والصين، وتركيا، وبلدان الخليج العربي.
الفاعلون الأبرز في البلقان
أولًا: التفكير الإستراتيجي لروسيا يُعطي البلقان أولوية في السياسة الخارجية والأمنية، خاصةً أنها تخضع لما يسمى “الخارج القريب”، وتعد موسكو منطقة البلقان ساحة يُمكن من خلالها تحقيق تأثيرات كبيرة سياسية واقتصادية بموارد قليلة نسبيًّا، ومنع ما يسمى التطويق الأطلسي (من المنظور الروسي)، وتعتمد على الأساليب الدبلوماسية والعلاقات الثنائية، وتنمية الصداقة بين الشعوب السلاڤية والمؤسسات الدينية الأرثوذكسية، ودعم بعض الأحزاب والجماعات السياسية، وحملات العلاقات العامة عبر وسائل الإعلام الصديقة لها.
ثانيًا: عملت الصين- منذ فترة طويلة- على بناء تحالفات مع الحكومات الحاكمة والأحزاب المهيمنة في البلقان، غالبًا من خلال توقيع اتفاقيات مباشرة على المستويين الثنائي والمتعدد الأطراف، مثل اتفاقية تعاون (17 + 1) بين دول وسط أوروبا وشرقها مع الصين، وتؤدي دول البلقان دورًا جيوستراتيجيًّا رئيسيًّا في تخطيط بكين التي تنظر إلى المنطقة على أنها بوابة لسوق الاتحاد الأوروبي، وجسر بري بين ميناء بيرايوس (اليونان) التابع للصين وأوروبا الوسطى. وعلى هذه الخلفية، بدأت بكين بزيادة التجارة الثنائية مع دول المنطقة، والاستثمار في تطوير البنية التحتية للنقل والطاقة، وفي بعض الصناعات الإستراتيجية في البلقان.
ثالثًا: تعد تركيا لاعبًا تقليديًّا في منطقة البلقان، وعلى مدار العشرين عامًا الماضية، أعادت تنشيط سياستها الخارجية في المنطقة، لكن على عكس الفاعلين الآخرين (روسيا والصين) تدعم أنقرة (عضو في الناتو، ومرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي) التكامل الأوروبي والأطلسي لدول البلقان، وتستهدف سياستها خلق مجال حيوي جديد عبر الأنشطة الاقتصادية؛ لذا تستثمر- بشكل أساسي- في التجارة والبنوك والبناء والاتصالات والبنية التحتية الحيوية (مثل المطارات)، مع التركيز – تركيزًا أساسيًّا- على القوة الناعمة والروابط الثقافية والدينية التي نمت على مر القرون، والتي يتم الآن توسيعها توسيعًا منهجيًّا. وتتبنى أنقرة دور حامي مُسلمي البلقان، ولطالما اعتبرت نموذجًا للديمقراطية الإسلامية والتنمية الموالي للأطلسية، لكن هذه الصورة بدأت بالتلاشي في أعقاب الانقلاب الفاشل في يوليو (تموز) 2016، وما تبعه مِن تدهور نحو الحكم الاستبدادي؛ لذا تبدلت النظرة إلى تركيا من أنها قوة استقرار في البلقان، إلى قوة منافسة غير كاملة للغرب، أو على الأقل دولة نيّاتها غير واضحة دائمًا.
العرب في البلقان
تُمثل دول الخليج (بشكل أساسي المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر والكويت، وسيتم الإشارة إليها في مواضع المقال القادمة بـ “العرب”) لاعبًا جديدًا نسبيًّا في البلقان. وبدأت مشاركتها بدعم المسلمين (البوشناق) خلال الحرب اليوغوسلاڤية في التسعينيات، وأرسلت السلاح والمتطوعين للقتال، وقدمت المساعدات الإنسانية. وعندما انتهت الحرب، انخرط كثير من المؤسسات الدينية العربية بنشاط في بناء المساجد والمدارس، ونشر الإسلام.
لم يبقَ تأثير العرب محصورًا في المجال الديني والثقافي فقط؛ بل انخرطوا- بشكل متزايد- في الاستثمارات الاقتصادية، ولم يكن الاستثمار للدول الإسلامية فقط؛ فقد نموا استثماراتهم في السياحة والبناء والزراعة والطيران والتكنولوجيا العسكرية، كما قدموا قروضًا ومساعدات إنمائية سخية. على سبيل المثال، قدمت الإمارات العربية المتحدة دعمًا للاقتصاد الصربي بمليار يورو، واشترت (49%) من “شركة الطيران الصربية”، وافتُتحت سفارة لجمهورية مقدونيا الشمالية في أبو ظبي عام 2014، تعد المركز الدبلوماسي الإقليمي للدولة؛ إذ يتولى سفيرها منصب السفير غير المقيم للمملكة العربية السعودية، وسلطنة عمان، والكويت.
وتؤدي المملكة العربية السعودية دورًا كبيرَا في كوسوڤو، وكانت المملكة من أوائل الدول التي اعترفت باستقلالها، وتؤيده حتى يومنا هذا، وافتتحت الدولة الوليدة سفارتها في الرياض عام 2010، وسفارة المملكة العربية السعودية في تيرانا (عاصمة ألبانيا) هي المسؤولة عنها، وافتتح صندوق التنمية السعودي فصلا جديدًا من التعاون، وأعلن الاستثمار في التنمية الاقتصادية لكوسوڤو، لا سيما في مشروعات البنية التحتية والرعاية الصحية. ويوفر هذا التعاون الاقتصادي العربي مع بلدان البلقان فتح السوق الأوروبية التي تضم نحو (650) مليون فرد عبر (41) دولة.
فيما فتحت قطر سفارتها لدى جمهورية ألبانيا في شهر يناير (كانون الثاني) من عام 2012، وسفارتها في صربيا عام 2015، بهدف تعزيز وجودها في منطقة البلقان، الوجود الذي يعود إلى وقت حروب البوسنة والهرسك (1992- 1999)، واعتمدت الدوحة منذ ذلك الحين غالبًا على الجمعيات والجماعات الإسلاموية، وافتتحت مكاتب لـ “قطر الخيرية” في ألبانيا، وكوسوڤو، والبوسنة والهرسك، لكن عام 2018 شهد إعلان السلطات في كوسوڤو تعليق أنشطة قطر الخيرية؛ لأنها “تقوم بأعمال غير متوافقة مع أهدافها، وتمس بالأمن القومي الكوسوڤي”، وجدير بالذكر أن كوسوڤو والبوسنة والهرسك تستحوذان على أعلى نسب المقاتلين الأجانب من أوروبا (مقارنة بإجمالي عدد سكانهما) في التنظيمات الإرهابية التي تستهدف وتنشط في مناطق الشرق الأوسط (في أبريل/ نيسان 2015، أقر برلمان كوسوڤو قانونًا يحظر على الأفراد القتال في النزاعات في الخارج، وهي جريمة تؤدي إلى عقوبة السجن مدة تصل إلى 15 عامًا)؛ ما قد يعني أن الاعتماد على الأيديولوجيا كأساس دائم في بناء العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية يبدو سياسة غير مضمونة النتائج.
لذا سيساهم توسع العرب في علاقتهم مع بلدان البلقان لتشمل التعاون العسكري والمعلوماتي الاستخباري في مكافحة الإرهاب العابر للحدود، سواء المتعلق بتنظيم القاعدة، أو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) (منظمتان إرهابيتان محظورتان في روسيا). وتسلط أولويات وأداء المؤسسات الأمنية والعسكرية العربية (لا سيما المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ومن خارج دول الخليج: جمهورية مصر العربية) الضوء على أهداف الحكومات المتعلقة بحماية الدولة، وتطوير القدرات الذاتية المتعلقة بالردع، وتأسيس عمق إستراتيجي، خاصةً في أعقاب الهزات العنيفة للمنطقة العربية منذ عام 2010، وبلغ التعاون العسكري مع البلقان، لا سيما مبيعات السلاح، نحو مليار يورو.
ماذا تعني البلقان للعرب؟
إن تحول السياسة الخارجية العربية نحو البلقان ضرورة لتحقيق أقصى منفعة سياسية واقتصادية، في ظل الفراغ الناجم عن انشغال الولايات المتحدة بأولويات أخرى، مثل الأزمات السياسية الداخلية، ومواجهة الصين وروسيا، في حين يركز الاتحاد الأوروبي على المشكلات الداخلية المتعلقة بالهجرة، وجائحة كوفيد- 19، بالإضافة إلى خروج بريطانيا من الاتحاد.
وقد أدّى انشغال القوى الأطلسية الكبرى عن البلقان إلى توسع إسرائيل وإيران في العلاقات الثنائية مع بلدان تلك المنطقة، وبالنظر إلى أنها دول تدخل في فلك الاتحاد، وبعضها أعضاء بالفعل في الناتو، مثل ألبانيا، ولكل دولة تصويت ليس في الأمم المتحدة فحسب؛ بل في وكالاتها أيضًا؛ ما يعني أن كسب تأييدها علانية في الأمم المتحدة يُمكن الدبلوماسية الناعمة الإسرائيلية والإيرانية أن تكون أداة ناجحة وذكية لتحقيق الأهداف السياسية.
وتُحاول العلاقات العربية البلقانية إعادة رسم خريطة الصراعات التي تفجرت في المنطقة، خاصةً في ظل التدخلات التركية في البلدان العربية بشكل عسكري مُباشر، أو غير مُباشر (سوريا، وليبيا، والعراق)؛ ومن ثم فإن التوسع الاقتصادي، والتعاون العسكري، وفتح أسواق البلقان أمام العرب سيعمل في الوقت نفسه للضغط على الأتراك، وتضييق نفوذهم في المنطقة، الذي عادة ما يُستخدم للإضرار، أو لتجاهل الأمن القومي العربي.
كما أن التمدد العربي في البلقان سيعني وضع قدم في مساحة جغرافية شديدة الخصوصية، طالما نظرت إليها روسيا على أنها مجال أمني وممر يوصلها إلى المياه الدافئة، فيما يراها الغرب خط الدفاع الأول ضد أي هجوم روسي، وأقصر الطرق إلى الشرق الأوسط، حيث يعد الأخير مصدر مشتقات الطاقة والمواد الخام، وإحدى أهم الأسواق لمنتجات الأول، في حين ترى أمريكا البلقان حجر زاوية في الخطط الإستراتيجية الأمنية والعسكرية لمنع روسيا أو الصين من أي تمدد نحو عمق أوروبا، وهذا يؤكد أن النفوذ العربي في البلقان سيوفر مساحة للتفاوض مع القوى الكبرى على استقرار الشرق الأوسط؛ عبر حشد صوت البلدان المؤثرة في الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وروسيا.
ماذا ينقص العرب في البلقان؟
لا تزال العلاقات العربية البلقانية- في ضوء القراءة الرقمية للاقتصاد- ضئيلة، وتعكس حاجة مُلحة إلى صياغة جديدة لـ “دبلوماسية البلقان”، والمصطلح يعود بنا إلى فترة بدت البلقان وكأنها رقعة شطرنج للقوى العظمى، سواء أكان ذلك في أواخر القرن التاسع عشر أم في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى، أو يذكرنا بالتسعينيات، عندما تفككت يوغوسلاڤيا السابقة، وتأثرت المنطقة إما تأثرًا مباشرًا (كوسوڤو والبوسنة والهرسك) وإما تأثرًا غير مباشر (صربيا والجبل الأسود ومقدونيا الشمالية).
وبغض النظر عن الدلالات التاريخية لمصطلح “دبلوماسية البلقان”، فإنه يحمل تحذيرًا من اتباع السياسات الأوروبية في البلقان، وتجنب السقوط في نفس قصورها الذي يظهر جليًّا في موضوع مثل الطاقة، حيث تنتج معظم البلدان، باستثناء ألبانيا، الكهرباء من الفحم، لكن الاتحاد الأوروبي لا يرحب بتطوير المناجم ومحطات الطاقة التي تعمل بالفحم؛ بسبب إستراتيجيته لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وبالعودة إلى ألبانيا نجد الاعتماد على محطات الطاقة الكهرومائية، وبالنظر إلى أن أنهار غرب البلقان تستمر في الجفاف يتم التخطيط لبناء معظم منشآت الطاقة الكهرومائية في مناطق ذات أهمية بيئية عالية، وأيضًا الاتحاد الأوروبي ليس حريصًا على تمويل هذه المشروعات. كما يستمر الجدل بشأن توسيع البنية التحتية للغاز وخطوط أنابيب النفط، ومن بين مشروعات الطاقة التي تُطوَّر حاليًا خط أنابيب نابوكو (بدعم من الاتحاد الأوروبي)، وخط الأنابيب عبر البحر الأدرياتيكي، الذي أطلقته أذربيجان، وكان من الممكن أخذ خطوة مماثلة نحو استثمارات في خطوط أنابيب النفط، مثل خط أنابيب النفط الألباني المقدوني البلغاري الذي يمتد من آسيا الوسطى إلى أوروبا، وهو من بين مشروعات الطاقة التي يُنظر إليها على أنها تنافسية مقارنة بالمشروعات التي يقدمها الاتحاد الأوروبي.
وتعد دول البلقان شبه أعضاء في السوق الموحدة الأوروبية، وتعتمد في تجارتها على الاتحاد الأوروبي (تحديدًا على ألمانيا وإيطاليا)، وتشكل التحويلات من أوروبا الغربية جزءًا أساسيًّا من الناتج المحلي الإجمالي، وتقريبًا رأس مالها المصرفي بكامله تملكه البنوك المسجلة في الاتحاد الأوروبي، ولكن دول البلقان لا تتمتع بفوائد هذه العلاقات الأوروبية، مثل الصناديق الهيكلية، ولكي تكون جزءًا من الاتحاد الأوروبي وتنضم بالكامل إلى السياسة الأطلسية تحتاج إلى معدل نمو سنوي مرتفع جدًّا ومستقر عدة عقود، وبالنظر إلى أن هذا غير مرجح، إن لم يكن مستحيلًا، فهذا يعني أن المنطقة بحاجة إلى رأس مال جديد؛ وهنا تأتي فرصة كبرى للعرب في استثمار أصوات سكان البلقان لصالحهم في الاتحاد الأوروبي، بالقدر نفسه الذي سيستثمرون به أموالهم في القطاعات الحيوية والاقتصادية والبنية التحتية أكثر منها في أنشطة دينية وعرقية تجلب مشكلات أمنية وسياسية على المدى البعيد.
ولهذا، فإن العمل ينصب على إنشاء دبلوماسية عربية بلقانية جديدة لا تتعلق بدفع متجدد للعلاقات عبر المؤسسات الدينية والمساجد، أو التركيز على الاختراقات الأيديولوجية؛ بل تتعلق بنوع جديد من الدبلوماسية التي تشمل نطاقًا موسعًا من الفاعلين، أي لا يقتصر الأمر على فتح السفارات والتمثيل الدبلوماسي؛ بل تتوسع العلاقات مع منظمات المجتمع المدني، وكذلك الأحزاب السياسية والمؤسسات المحلية، والهدف من ذلك هو حشد شبكة ممتدة من العلاقات بين الشعوب لإنشاء روابط عميقة مع أعضاء محتملين في الاتحاد الأوروبي.
إن ما تحتاج إليه الدول العربية في التعامل مع البلقان هو عقلية جديدة لصنع السياسات، فغالبًا ما تكون النخبة الحاكمة لتلك المنطقة مُحبطة من اللامبالاة الأطلسية، وما زالت متخوفة من التركة التاريخية الثقيلة للروس والأتراك في المخيلة الشعبية، والصين ما زالت تُعاني صعوبات كثيرة للتمدد بين الفضاءيين الروسي والأطلسي؛ ما يجعل العواصم العربية يدًا مثالية لكي تنخرط في المنطقة التي لم تستكشف بالكامل، ولم تتفجر طاقتها لخلق توازنات جديدة في العلاقات الإقليمية تساعد على الحفاظ على الأمن القومي والاقتصادي للعرب.
استنتاجات
- البلقان منطقة إستراتيجية عادت لتصبح مكانًا للمنافسة الجيوسياسية بين الفاعلين الدوليين.
- تُمثل دول الخليج لاعبًا جديدًا نسبيًّا في البلقان، لكن له ميزات استثنائية.
- يوفر التعاون الاقتصادي العربي مع بلدان البلقان فتح السوق الأوروبية أمام الدول العربية.
- تمثل العلاقات العربية البلقانية إعادة رسم لخريطة الصراعات التي تفجرت في المنطقة، لا سيما في ظل التدخلات الخارجية في البلدان العربية بشكل عسكري مُباشر، أو غير مُباشر (سوريا، وليبيا، والعراق).
- تُسهم العلاقات العربية البلقانية في تشكيل معادلة سياسية مع روسيا/ الاتحاد الأوروبي/ تركيا/ الولايات المتحدة، وتزيد من مساحات التفاوض على استقرار المنطقة.
- تحشد العلاقات العربية البلقانية البلدان التي لها صوت في الاتحاد الأوروبي، أو قادرة على التأثير في قراره، وهو أمر للصالح العربي.
- توسع العرب في علاقتهم مع بلدان البلقان، لتشمل التعاون العسكري، والمعلوماتي الاستخباري، يساعد على مكافحة الإرهاب العابر للحدود.