كثيرة هي الملتقيات المؤتمرات والمنتديات التي اصبحنا ناشرك فيها، كثيرة هي المقالات والاستكتابات الجماعية التي اصبحنا ابطلا فيها، لا تعد ولا تحصى تلك الظواهر التي عالجنها ونعالجها في كل يوم، نحن ذلك المجتمع العلمي الاكاديمي، الذي يكتب المدخلات وينجز المقالات ليلا ونهارا دون كلل ودون ملل، وينتقل بين التخصصات، كصاروخ عابر للقارات، نحن الباحثون الذين نفهم في كل شيء، ونقفز من حقل الى حقل، نحن الذين نعرف كل شيء، ونحلل كل شيء، ونستنطق الظواهر ونعلن حل المشكلات، ونكدس المداخلات والمقالات والاستكتابات الجماعية في مكتباتنا كما نكدس مؤونة الشتاء في مخزن البيت، على الاقل تلك المؤونة تكفينا الحاجة في برد الشتاء، اما تلك الثرثرات التي نسميها بحوثا، فلا تزيد الا واقعنا العلمي غما على غم.
الباحث المداخلاتي وهو نوعا اعتقد اننا ننتمي اليه جميعا، والسبب فيه هو تتفيه العلم والبحث العلمي في نظام التفاهة الذي اصبحنا ابطلا فيه على حد تعبير ألان دنو، ففي نهاية الامر كلنا يعرف اننا في مجرد لعبة، وهذا ما اصبح يحكم الملتقيات والمنتديات، كل من ارسل عنونا فهو مقبول، كل من ارسل ملخصا فهو مقبول، كل من ارسل مداخلة وحتى وان كانت جريمة لغوية وعلمية فهو مقبول، وبذلك انتقلنا من الملتقيات العلمية الى الزردات والوعدات، واصبحنا نغادر الملتقى ونحن نقول، يكثر خيرهم الفطور خيرات، حتى العشاء الله يبارك، وثاني لوتال نقي، لا احد يتذكر نقاشا او جدلا علميا، لأنه لا يحدث اصلا، ومن هنا نشا الباحث المداخلاتي.
باحثنا المداخلاتي ليس له معرفة علمية بل له معرفة مؤقتة يكونها في لمح البصر حول الموضوع الذي سيكتب حوله مداخلة او مقالا، فهو على حد تعبير داريوش شايفان “ليس نقطة على سطر، بل نقطة افتراضية تطفو على سطح ما” مثلا عندما يرى اعلانا عن ملتقى لا يكلف نفسه حتى قراءة الديباجة، يقفز مباشرة الى المحاور ويختار على طريقة شادي ما دي ندي هذي ولا هذي، محورا ثم يكتب عنوان ثم يدخل سيدنا قوقل حفظه الله ورعاه ويحمل دراسات وكتب على علاقة بالموضوع، ثم يشرع في كتابة بحثه، وهو لا يعرف في ذلك المجال سوى عنوان المحور الذي اختاره، وتلك الدراسات التي حملها، لا يهمه الامر قديمة او حديثة، المهم ان يكتب 15 صفحة يسميها النظري، ينقلها نقلا من الدراسات الاخرى، وثلاثة صفحات او اربعة يسميها الميداني، ثم بلا حرج يسرد علينا النتائج والتوصيات والحلول، لقضة ربما تؤرق الباحثين منذ عشرات السنين، لكن الباحث المداخلاتي الذي يكتب في كل المجالات لا يهمه امر البحث بقدر ما تهمه شهادة المشاركة.
الباحث المداخلتي تعتقد انه موسوعي ويكتب في الكثير من المواضع ولديه القدرة على التحليل والتفكيك، وهو في حقيقة الامر لديه كمية كبيرة من عدم الحياء ووجه صحيح يستطيع ان يناقش به علماء الذرة في ابحاثهم، لكن المشكلة ليست فيه وحده، فهو نتيجة لوضعية كارثية تعيشها جامعتنا وملتقياتنا ومؤتمراتنا ومجلاتنا، حيث اصبح كل شيء بالعرف، شكون بعثك، شكون وصى عليك، او بعض الملتقيات والمجلات التي تعمل بالبزنسة مباشرة، خلص تشارك، حتى وان كان بحثك لا يساوي قيمة الورق الذي كتب عليه، الا ان عقلية ادهن السير يسير جعلت اي شيء مقبول في سوق العلم المجنونة.
الباحث المداخلاتي يكون معرفة علمية مؤقتة تنتهي صلاحيتها بنهاية مداخلته، وربما لن يعود الى الموضوع الذي كتب فيه، الى ان تتوفاه المنية، فهو في كل يوم في حقل معرفي جديد، يكتب ويحلل ويناقش ويحاضر ويقامر ويغامر، لا لشيء فقط الان البحث العلمي ذهبت قيمته واصبح مجرد كلمات رنانة نكررها، خاصة ان الكل اصبح يتحسر على وضعية البحث العلمي، والمشكلة اننا جميعا وفي كل يوم نزيد من بئسه، عن طريق الابحاث التي ليس لها معنى ولا مبنى، ومن خلال ايضا عقلية الدينصورات التي تسير المجلات وتحتكر النشر وتقسمه على الحاشية وتحرم باقي الباحثين، فحتى التحكيم امره غريب في بلادي، ترسل بحثا قد تعبت فيه ودققته لغويا وعرضته على الكثير من الاساتذة، وبعد عام من الانتظار يرد عليك المحكم فارغ الراس عديم الضمير، بنصف نفص جملة ينسف فيها جهدك، وهو ورب الكعبة لم يقرأه ولم يتمعن فيه، لان النشر اصبح بالكوطة وانت لست ضمنها يا صديقي.
نعم نحن الامة التي قتلت العلم، من كثرة ما عبثت به، وحولته الى امر سخيف، فأصبح العباقرة الجهلة، يكتبون بحثا في ليلة واحدة، فيصلون ويجلون فيه، وهم لا يعرفون ادنى الارقام الرسمية حوله، ولا اهم من كتب فيه، بل يعرفون فقط ان الحصول على شهادة مشاركة خير من البحث ومن الجامعة ومن العلم ومن كل شيء، العلم اليوم في بلادي يعيش ازمة مؤتمرات الخرطي، ومجلات العرف وبن عمي، ومحكمين يجب محاكمتهم بجريمة انتحال صفة، وباحثين، يعرفون كل شيء وهم لا يعرفون حتى ابجديات تخصصهم، فرحم الله العلم واحسن اليه.
بقلم كرايس الجيلالي.