الانتخابات المحلية الجزائرية: قراءة متقاطعة في النتائج والسلوك الانتخابي

جرى تلغيم الحياة السياسية الجزائرية عبر عقود سابقة فتحول المواطن البسيط إلى رجل غير مسيَّس يغرق في يومياته العادية وحُوِّلت الأحزاب إلى كيانات موسمية، والأصلح هو أن تتحول المجالس المنتخبة الحالية إلى أدوات لتكريس الديمقراطية وبناء التحالفات التي تشكِّل رافعة حقيقية لأخلقة العمل السياسي التشاركي.

لقد كان قرار رئيس الجمهورية الجزائري، عبد المجيد تبون، بإجراء انتخابات محلية مسبقة، بموجب مرسوم وقَّعه بتاريخ 29 أغسطس/آب 2021 استدعى فيه الهيئة الناخبة، بمنزلة الآلية القانونية والتنظيمية التي يستند إليها لاستكمال وعوده التي أطلقها خلال حملته باستكمال المسار السياسي الذي تبنَّاه والقاضي بإعادة بناء الديمقراطية بعد إجراء الانتخابات التشريعية بتاريخ 12 يونيو/حزيران. سبقه في ذلك حلُّ البرلمان السابق. لذلك جاءت الانتخابات المحلية في ظل ظرفية خاصة وضمن رهانات أكثر من ملحَّة.

في هذه الورقة، نحاول الوقوف على ظروف الانتخابات المحلية وظروفها وأنماط السلوك الانتخابي المحلي الذي بدا غارقًا في تجاذبات الشعبوية وإكراهات الماضي وضغط الظروف الداخلية وخطاب السلطة السياسية التي ترى في المحطة استكمالًا للمشهد السياسي وبناء المؤسسات التي تحمل معالم الجزائر الجديدة.

أولًا: قراءة في النتائج من بداية الحملة إلى الإعلان الرسمي عن النتيجة

تشتت وفقدان البوصلة ومعركة الأحجام السياسية

تُظهر النتائج المعلنة من قبل السلطة الوطنية للانتخابات، ملحق (1)، عددًا من الملاحظات الأولية التي يمكن أن تفسِّر النتائج الحالية وحزمة من الملاحظات التي ستنعكس آثارها السيوسياسية على صعيد العمل السياسي والانتخابي مستقبلًا؛ الشيء الذي سيؤثِّر بشكل مباشر على مسألة أخلقة الحياة السياسية وترشيد السلوك الانتخابي.

من الظاهر أن الحملة الانتخابية ظهرت باردة إلى حدٍّ كبير بشكل يعكس ما يمكن تسميته الموت السريري للتسويق السياسي التقليدي القائم على التجمعات الجماهيرية التي كانت تحظى بحماية ورعاية وتعبئة السلطة السياسية، وعلى مدار أكثر من عقدين.

 لقد شكَّلت أجواء الحملة التي استمرت ثلاثة أسابيع حالة من القطيعة بين السياسي والناخب الجزائري، الناخب الذي ظهر مقاطعًا لكل مظاهر متابعة البرامج الانتخابية الإذاعية والسمعية البصرية، وقد سجَّل الباحث بهذا الصدد الغياب المستمر لكثير من المترشحين عن الحيز الزمني المخصص للدعاية الانتخابية خصوصًا الإذاعية منها رغم حرص سلطة الانتخابات على تنظيم القرعة الخاصة بتوزيع الحيز الزمني الدعائي بشكل متساو بين مختلف الكيانات السياسية. إنه سلوك جديد تبلور لاحقًا في تخلي الأحزاب السياسية تدريجيًّا عن الدعاية الانتخابية الكلاسيكية واللجوء إلى مواقع التواصل الاجتماعي أو اللقاءات الحوارية وهي مرحلة تعكس الانتقال من التواصل غير المباشر إلى التواصل المباشر.

هذا من حيث الحديث عن الوسيلة التسويقية أما من حيث البرامج ومضامين الخطاب الانتخابي فقد تحوَّل الكثير من الخطابات الانتخابية إلى تركيز كلي على السياسة الخارجية وقضايا الدفاع والأمن وما يعترض الجبهة الداخلية من تحديات أمنية، وغاص بعض رؤساء التشكيلات السياسية في الحديث عن الاقتصاد البديل والطاقات المتجددة وإصرار خطاب الرئيس تبون على بناء جزائر جديدة، وهو ما حوَّل أغلب المهرجانات الخطابية إلى ساحات للتهريج بدت بعيدة عن هموم المواطن وشرح البرامج المحلية ذات الصلة بالمنتخب والشأن المحلي.

وبشأن هذا الموعد الانتخابي الذي تميز بالبرودة، فقد تم إلغاء 9000 تجمع انتخابي وهي متغيرات لم يسبق أن عاشها المترشحون طيلة عشرين سنة كاملة فقد كانت الحملات الدعائية الانتخابية تعيش حالة هيجان يسمى بالعرس الانتخابي ولعل هذا مرده أيضًا إلى إلغاء مشاركة كثير من أصحاب الفساد والمشبوهين واستبعاد الإدارة التنفيذية عن السطو على العملية الانتخابية ناهيك عن الحالة الوبائية التي تعيشها الجزائر بفعل جائحة كورونا ومع ذلك حصرت سلطة الانتخابات 538 تجاوزًا قانونيًّا أفضت إلى توجيه 269 إنذارًا و142 تبليغًا للنائب العام(1).

وتعكس نسبة التصويت في الانتخابات المحلية (البالغة 36.55% في الانتخابات البلدية و34.76% في الانتخابات الولائية) حالة تؤكد أن شرائح واسعة من الجزائريين أكثر اهتمامًا بالانتخابات المحلية عن البرلمانية، فالناخب في الانتخابات المحلية تحركه معايير محلية ومنطق تسود فيه قيم “الجهة، والعرش، وعلاقات القرابة والمصاهرة”. ومع ذلك تنبغي قراءة التشتت الذي صاحب السلوك التصويتي قراءة تراعي معايير متعددة ومتقاطعة.

لقد شارك في السباق الانتخابي الأخير 40 حزبًا سياسيًّا، لكن منطق الجهوية والعروشية وهشاشة الخطاب السياسي للأحزاب جعل أغلب هذه التشكلات تخرج خالية الوفاض إذ تم تقاسم الحصيلة الانتخابية بين التشكيلات السياسية والقوائم الحرة.

لقد عكست نتائج الانتخابات حجم الأحزاب السياسية الحقيقية وأظهرت نمطًا جديدًا متناميًا للسلوك الانتخابي الذي تجب قراءته بهدوء وروية، فقد استمرت ظاهرة العزوف الانتخابي بأكثر من مليون ورقة ملغاة ناهيك عن حجم امتناع تجاوز 60%؛ وهو ملمح يجب الاستمرار في دراسته برؤية نقدية، كما ظهرت الأحزاب التقليدية المحسوبة على السلطة محتفظة بوعاء انتخابي مقبول تليها ما يمكن تسميته: تيار القوائم الحرة التي يراهن عليها الرئيس تبون في ترميم المشهد السياسي بعيدًا عن عباءة الأحزاب العتيدة رغم الحاجة الملحَّة لها لكونها تمثل ما يُطلَق عليه في الخيال الجمعي السياسي الجزائري أحزاب الإدارة التقليدية.

تحصَّل حزب جبهة التحرير الوطني في المجالس البلدية على 5978 مقعدًا وحقَّق الأغلبية التي تسمح له بالفوز دون تحالفات في 124 بلدية فيما تحصَّل على الأغلبية النسبية على مستوى 525 بلدية عبر 55 ولاية، وجاءت قوائم التجمع الوطني الديمقراطي في المركز الثاني بـ4584 مقعدًا محقِّقًا الأغلبية المطلقة في 58 بلدية عبر 27 ولاية في حين حصل على الأغلبية النسبية في 331 بلدية، وجاءت قوائم المستقلين في المرتبة الثالثة إذ تحصلت على 4430 مقعدًا، وحققت الأغلبية المطلقة في 91 بلدية عبر 24 ولاية في حين حصلت على الأغلبية النسبية في 344 بلدية، في حين تحصَّل حزب جبهة المستقبل على 3262 مقعدًا في المجالس البلدية، منها 34 بلدية ستسمح له بالحصول على الأغلبية دون تحالفات، فيما تحصل على الأغلبية النسبية على مستوى 228 بلدية. وحقَّق التيار الإسلامي نتيجة حسنة جعلته يحافظ على مكانته كجزء من المعادلة السياسية سواء أتعلق الأمر بحركة مجتمع السلم أو حركة البناء التي انشقت عن الحركة الأم. كما شهدت الانتخابات المحلية مشاركة منطقة القبائل التي دأبت على مقاطعة أغلب المواعيد الانتخابية وذلك بمشاركة أحزاب لها حضور انتخابي وسياسي بمنطقة القبائل إذ تحصلت جبهة القوى الاشتراكية على 898 مقعدًا بأغلبية مطلقة في 47 بلدية عبر سبع ولايات، وهو مثال نسوقه على سبيل المثال لا الحصر.

بالرغم من حديث الرئيس عبد المجيد تبون المتكرر عن معرفته بآليات مكافحة المال السياسي الفاسد وهو ما كرَّره في عدد من خطاباته كان آخرها حديثه مع وسائل الإعلام في حوار مطول بثَّته مختلف القنوات الوطنية يوم الجمعة 26 نوفمبر/تشرين الثاني، أي ليلة الموعد الانتخابي، إلا أن وجوهًا كثيرة من رجال المال والأعمال الذين شكَّلوا جزءًا من المشهد السياسي السابق دخلوا المعترك الانتخابي تحركهم في ذلك محاولة ضمان عضوية مجلس الأمة وما يشوب هذه العملية من إسالة لعاب المنتخبين المحليين في سباق محموم نحو الحصانة البرلمانية على حساب أصوات المنتخبين البسطاء، وهي الميزة التي أشعلت فتيل النعرات المحلية لمن يمتطي عضوية المجلس المحلي جسرًا يوصله في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الأمة والتي ستُجرى خلال شهر يناير/كانون الثاني المقبل.

إن هذه المظاهر من التحالفات المشبوهة سُجِّلت في كثير من الولايات الجزائرية وخصوصًا الولايات الداخلية التي استفادت من صفة الولاية في التقسيم الجغرافي الجديد والذي منح صفة الولاية والدائرة الانتخابية لعشر ولايات جديدة.

بهذا الصدد، سجَّل المتابع سجالات ونقاشات على مواقع التواصل الاجتماعي من شأنها تحريك خطاب الكراهية تجاه هويات فرعية بعينها لغرض ضمان الحشد الانتخابي، ويمكن هنا أن نشير إلى الهرولة إلى تحالفات بين التشكيلات السياسية الفائزة بشكل محموم حتى قبل إعلان النتيجة، إنها معركة يتحالف فيها الخاسر مع الخاسر لسدِّ الطريق أمام القوائم التي فازت نسبيًّا رغم كونها لم تتجاوز العتبة المحددة 35% من المقاعد. بهذا الصدد، يمكن أن نتحدث عن سلوك انتخابي يحكمه منطق الشعبوية المقيتة ويحدده إطار “التفاهة السياسية” التي تحدَّث عنها الكاتب الكندي، آلان دونو، بقوله: “يشكِّل العمل السياسي بما ينطوي عليه من سلطة خطاب ومال وجماهير المساحةَ الخصبة لازدهار نظام التفاهة، وتمثِّل الديمقراطية بما تنطوي عليه من مراكمة لكل هذه العناصر بالضرورة المجالَ الأخطر للعملية السياسية”(2).

ولعل من المظاهر الانتخابية الجديدة بروز السلوك “الانتخابي والشعبوي”، والمقصود بالسلوك الانتخابي هو توظيف الانتخابات بشكل غير أخلاقي والادعاء بممارسة الديمقراطية والسلوك الانتخابي الهابط تأجيجًا وإشعالًا للمشاعر العنصرية أو الطبقية أو الطائفية أو الشرائحية أو المناطقية وذلك بغية تحقيق مكاسب انتخابية(3). وهذا ما يشكِّل خطرًا مستقبليًّا على ضوابط الديمقراطية.

إن شبكات جديدة من العلاقات الزبونية(4) السياسية قد عادت في الاستحقاق الحالي، وهو ما يتطلب اليقظة مستقبلًا من طرف الفاعلين السياسيين والوقوف سدًّا في وجه التحالفات القائمة على منطق الإقصاء للوجوه النظيفة التي يمكن أن تقدِّم قيمة مضافة في العمل السياسي.

إن المسار السليم لبناء الديمقراطية المحلية يتطلب تفعيل جميع الأدوات القانونية للتخلص من جذور الخطابات الدفينة والتي ستنسف مبادئ المواطنة والعدالة والديمقراطية. وإذا كانت المعايير الهوياتية لا تظهر في الخطاب السياسي الانتخابي إلا أنها تجد لها مكانًا في سوق التحالفات الانتخابية وهو ما سبَّب تأخرًا في الإعلان عن أسماء رؤساء كثير من المجالس الشعبية البلدية والولائية رغم مرور أكثر من أسبوعين على الموعد الانتخابي الذي أُجري في تاريخ 27 نوفمبر/تشرين الثاني.

رغم كل اللغط السياسي الذي يحمل توجهات مفارقة إلا أن قانون الانتخابات مكَّن شرائح واسعة من الشباب من خلفيات أكاديمية واجتماعية متباينة من تبوؤ مكانة في هذا الاستحقاق من خلال المشاركة الفاعلة، وبموجب مشاركتهم تحولت الأحزاب السياسية إلى كيانات سياسية يمكن اللجوء إليها فهي أشبه بهياكل تنظيمية للترشح أكثر منها تشكيلات سياسية أيديولوجية تحمل مشاريع واضحة ووفق هذه الرؤية تماهت الحدود الأيديولوجية المبنية سابقًا والتي تصنِّف الأحزاب إلى مشارب وطنية أو إسلامية أو ديمقراطية، وقد تمكَّنت التشكيلات التي تُصنَّف ضمن التيار الإسلامي من الانفتاح على مختلف الأفراد الذين لا يملكون حمولات أيديولوجية بترشحيهم ضمن قوائمها وفق سياسة جديدة تبنَّتها تشكيلات مثل حمس وحركة البناء، كما سجَّلنا الانتقال السريع لبعض الأفراد من تشكيلة لأخرى بين موعدين قريبين؛ فقد ترشح أفراد كثر في تشريعيات 12 يونيو/حزيران 2021 في تشكيلة سياسية وانتقلوا تحت ملمح التجوال السياسي إلى تشكيلة أخرى غير عابئين بقواعدهم التي ناصرتهم خلال الموعد السابق، هذا طبعًا لمن كانت لهم قواعد نضالية.

وفي إطار تنقية الساحة السياسية والانتخابية ولغرض استرجاع الثقة لدى المواطن ولتفادي استعمال أموال مشبوهة فقد عمل قسم التصريحات على مستوى الهيئة الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته على كشف التجاوزات أو التصريحات الكاذبة الخاصة بإلزامية تصريح 26 ألف مترشح منتخب سابق بممتلكاتهم لتفادي ترشح شرائح واسعة ممن ثبت تورطهم في ملفات فساد ومن ثم تفعيل المتابعات القانونية ضد المنتخبين السابقين في انتخابات 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2017 وهو إجراء قانوني إلزامي يتضمن إقرار المنتخب بممتلكاته وممتلكات أولاده القصر وهي الأملاك العقارية المبنية وغير المبنية والأملاك المنقولة والسيولة النقدية والاستثمارات والأملاك. وحسب هيئة مكافحة الفساد، فقد بلغ عدد التصريحات بالممتلكات بالنسبة للمنتخبين للمجالس البلدية 20863 تصريحًا من إجمالي يفوق 24 ألف منتخب محلي بالإضافة إلى 1658 تصريحًا يخص المجالس الشعبية الولائية من إجمالي 1996؛ وهذا الإجراء من شأنه الإسهام في مكافحة الفساد وتشجيع التبليغ عنه في الهيئات المحلية المنتخبة(5).

ولعل ما يُحسب للداخلية هذه المرة منعها لاستعمال الممتلكات العمومية من طرف المجالس المنتخبة وأفراد الإدارة المحلية بمن فيهم من لا يتولون مسؤوليات تنفيذية مع إلزامية تسليمها ووضعها تحت تصرف الإدارة منعًا لاستغلالها في الموعد الانتخابي الحالي إلى غاية نهاية الحملة الانتخابية وذلك وفق تعليمة صدرت بتاريخ 6 نوفمبر/تشرين الثاني.

لقد استطاعت السُّلطة الوطنية للانتخابات إدارة الاستحقاق الانتخابي الثالث رغم صعوبة العمليات المرتبطة به ورغم ما شاب دورها من بعض الاتهامات الموجَّهة من طرف تشكيلات تُحسب على السلطة السياسية على غرار حزب جبهة التحرير الوطني؛ فقد قامت السلطة وبموجب الماكينة القانونية الجديدة من إسقاط كثير من الأسماء التي تلاحقها تهم استغلال النفوذ واستعمال المال الفاسد إلا أن كثيرًا من المقصيين عادوا إلى حلبة السباق بعد أن أنصفهم القضاء الإداري متمثلًا في مجلس الدولة باعتباره هيئة طعن قراراتها نهائية واجبة النفاذ من طرف سلطة الانتخابات ومن طرف الفاعلين السياسيين.

قد حرص محمد شرفي، رئيس السلطة، على تأكيد أهمية الاختيار الحر للشعب لمن يمثله في المجالس المنتخبة معتبرًا أن أصوات الناخبين أمانة في أعناق هيئته وهو ما صرَّح به لوكالة الأنباء الجزائرية، 25 نوفمبر/تشرين الثاني، ويمكن القول: إن أداء سلطة الانتخابات كان مهمًّا خصوصًا في مجال رقمنة المعطيات وتحيينها على موقعها الرسمي والاستجابة لمختلف الإخطارات، إلا أنها جُوبهت بالمعارضة والاستهجان لدى كثير من التشكيلات السياسية ناهيك عن أحزاب المعارضة، ويمكن بهذا الصدد الإشارة إلى تصريح الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، بعجي أبو الفضل، في تجمع انتخابي نشَّطه في ولاية بجاية، يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني، إلى إقصاء سلطة الانتخابات للكثير من إطاراته في المؤتمر الانتخابي مطالبًا بإجراء تغييرات جذرية في التسيير الهيكلي للسلطة المستقلة مثل تعيين تشكيلة السلطة من غير أبناء الولايات ضمانًا لحيادية الأداء وبعيدًا عن تصفيات الحسابات الضيقة التي يمكن أن تمارَس تحت شعار مكافحة الفساد. يبقى القول: إن قرارات سلطة الانتخابات وقراراتها تحكيمية فهي بمنزلة الحَكَم في ملعب الساسة والسياسيين(6)، كما أن كثيرًا من رؤساء التشكيلات السياسية حملوا راية المظلومية في تجمعاتهم تلك بفعل حرمان عشرات من مرشحيهم من خوض العملية الانتخابية.

 سجَّل الباحث انسجامًا كاملًا في تصريحات الجسم السياسي المشكِّلة للسلطة السياسية في هذا الموعد، وقد تجلَّى ذلك من خلال تصريحات الرؤساء الثلاث؛ فقد أكد رئيس الدولة، تبون، أن الهدف الأساسي من الانتخابات هو الوصول إلى مؤسسات شرعية في حين صرح رئيس مجلس الأمة، صالح قوجيل، بأن المحليات تعد استكمالًا لمسار بناء الدولة في حين صرَّح رئيس المجلس الشعبي الوطني، إبراهيم بوغالي، بأن الانتخابات تعد تدعيمًا للديمقراطية التشاركية والتسيير المحلي.

بتطبيق القانون الانتخابي الجديد سُجِّل الغياب الواضح للمرأة في عدد كبير في المجالس المحلية والولائية وانعدام وجودها في عدد من الولايات خاصة الشرقية والداخلية، ويعود ذلك لانتهاء العمل بنظام المحاصصة السابق والذي حوَّلته السلطة السياسية السابقة إلى أداة لشرعنة توسعة وجود المرأة؛ وهو القانون الذي لم يقدم إضافة سواء على مستوى فاعلية الأداء المحلي أو على صعيد كفاءة مخرجات جودة العملية التشريعية، كما سجلت الانتخابات المحلية الحضور القوي لعنصر الشباب والسيطرة شبه المطلقة لهم على المجالس المحلية في كثير من الولايات الجنوبية وهو ما اعتُبر بمنزلة تسليط عقوبات جماعية ضد الوجوه السابقة، وهو ما جرت ملاحظته خصوصًا في الولايات المستحدثة بموجب التقسيم الإداري الجديد.

 تبدو نتائج الانتخابات ستشكل عبئًا ثقيلًا على المجالس المنتخبة في ظل تنامي الوعي لدى المواطن؛ فمن جهة يرافق ذلك صعوبة الأوضاع الاقتصادية للجماعات المحلية إذ تعاني نحو 1200 بلدية من أصل 1541 بلدية من عجز مالي وفق إحصائيات المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي. هذا ناهيك عن انتشار مناطق الظل والتي وصلت حسب إحصائيات رسمية حوالي 13 ألف منطقة ظل تعاني العزلة وانعدام التنمية المحلية، وقد فاقم الوضع المخرجات السلبية لجائحة كورونا وسوء الأحوال الجوية التي مسَّت مدن الشمال، ناهيك عن أزمة الحرائق التي أثَّرت على مناطق واسعة في الصائفة الماضية والتي مسَّت مساحات شاسعة في مناطق القبائل وبعض ولايات الشرق الجزائري. فعلى سبيل المثال لا الحصر، رصدت وكالة الفضاء الجزائرية احتراق نحو 23 ألف هكتار في تيزي أوزو و6000 هكتار في ولاية بجاية في صائفة 2021 وهو ما حوَّل الأزمة إلى أزمة وطنية تتجاوز إمكانيات المجالس المحلية.

أما بخصوص أزمة الفيضانات التي مسَّت العاصمة مع بداية موسم الشتاء وتحويل بعض أحيائها إلى مناطق شبه مشلولة، فقد أنحى رئيس مُجمع خبراء المهندسين المعماريين، عبد الحميد بوداود، باللائمة على الولاة ورؤساء البلديات باعتبارهم يتحملون جزءًا من المسؤولية الناجمة عن الخسائر التي خلَّفتها الفيضانات والتقلبات المناخية وتنظيف بالوعات الصرف الصحي إذ لم يقم المسؤولون بأية مهمة تحسيسية للمواطنين بخصوص مخاطر البناء على ضفاف الوديان.

إن تطبيق ما يسمى بالحوكمة الرشيدة يتطلب تعميق الوعي لدى المواطن وتنمية حسِّه الاجتماعي بمخاطر البناء العشوائي وغيرها من أزمات الحياة اليومية(7).

ورغم مرور أكثر من سنة من توجيه الرئيس للتحقيق في أسباب نتائج الفياضات وإشكالات البناءات الغارقة في السيول إلا أن الملاحِظ سجَّل تخاذل الجماعات المحلية بالإضافة إلى أن مسؤولية العامل البشري تعد عاملًا أساسيًّا في عدم تفادي الآثار السلبية لهذه الأزمات.

ثانيًا: الإدارة المحلية والمجالس المنتخبة على المحك والامتحان الصعب

أمام الإدارة المحلية المستقبلية مهام جسيمة في ظل مؤشرات كمية تشير إلى أن عدد سكان الجزائر سيتجاوز 45 مليون نسمة، حسب تقديرات مصلحة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية بالأمم المتحدة، وهو ما سيطرح تحديات جمة ترتبط بإدارة العنصر البشري في الجماعات المحلية وآليات تطبيق مبادئ المواطنة الحقة القائمة على تكافؤ الفرص للخروج من معادلة المركز والأطراف التي كرَّستها السلوكيات السياسية السابقة القائمة على التهميش والإقصاء.

ورغم أن قانون الانتخابات عُدِّل 16 مرة منذ الاستقلال إلا أن النص القانوني المنظِّم للجماعات المحلية والإقليمية بحاجة إلى تعديل راديكالي جذري، كما صرَّح به رئيس الجمهورية أكثر من مرة؛ إذ لا يمكن الحديث عن أخلقة العمل السياسي في ظل غياب مقتضيات تضمن كفاءة النص القانوني إذ إنه كلما كانت المقتضيات غامضة اهتزت أركان الدولة؛ وعليه تبدو عملية ضبط مفهوم الصلة بأوساط المال المشبوه والأعمال المشبوهة أكثر من ضرورة. يضاف إلى ذلك ما يُطرح من إشكالات ترتبط بمنازعات رفض الترشح للانتخابات وما يحيط بالعملية الانتخابية ككل من طعون ناهيك عن آليات ممارسة هذا الحق(8).

أمام المجالس المنتخبة ثلاثة تحديات كبرى تتمثل في:

1- تحدي تطوير أداء منظومة الإحصاء المحلية وذلك بإنشاء بنك للمعلومات يجمع كل المعطيات ذات الصلة بالإدارات المحلية.

2-تحدي تغيير التفكير من التفكير الإداري إلى تفكير المقاولات وذلك بإنشاء مؤسسات ذات طابع إداري صناعي وتجاري يُعهد إليها بتغير أنماط العمل وآليات التفكير الجديد.

3-تحدي توسعة مشاركة هيئات المجتمع المدني وتشبيك العلاقات مع المحيط الاقتصادي والاجتماعي.

تواجه الجزائر تحديات استراتيجية في المجال المحلي يمكن ضبطها فيما يلي:

أ-إعادة التفكير في جملة النصوص القانونية لتحقيق لا مركزية وجهوية القرارات الاقتصادية، ويتضمن الأمر خمسة مستويات لا مركزية على مستوى المجالس البلدية وإلغاء الهياكل الإدارية الوسيطة مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات مناطق الجنوب مع تقليص العدد المتزايد لشركات المساهمة التي تحدد التسيير الذاتي واستقلالية المؤسسات العمومية وحركة رؤوس الأموال.

ب-إنشاء مجالس جهوية تفتح ملف التسيير الجهوي الذي يجب عدم دمجه في مصطلح الجهوية، وهذه المجالس تنشط في مختلف القطاعات في إطار تعاون وثيق بين غرف التجارة الجهوية، بما فيها رجال الأعمال الخواص أو العموميين بحيث يكون الاستثمار لا مركزيًّا على مستوى العملاء الاقتصاديين ويكون الوالي باعتباره ممثلًا للدولة مكلفًا بالهياكل الإدارية وليس له صلاحية التدخل في الجانب الاقتصادي تسند للدولة مهمة التنظيم الشامل وتعفي من وظيفة المالك المسير وبهذا تعمل الدولة كهيئة منظمة في إطار تهيئة الإقليم بالمحافظة على البيئة بمساعدة المجالس الجهوية من خلال سياسة نشطة.

ج-إنشاء مختبر لتلقي ومعالجة وتحليل المعلومات مستقل عن الحكومة لتفادي المناورات الحزبية بحيث تكون المؤسسات الجامعية والبحثية طرفًا في هذا المختبر(9).

ثالثًا: في أنماط السلوك الانتخابي والحاجة إلى إعادة صياغة النموذج

حتى لا يتحول السلوك الانتخابي إلى سلوك انتخابوي مقيت يعصف بالعملية السياسية من الداخل وعلى مراحل، ويعمل على إثارة عوامل الانقسام المجتمعي يبدو من الأهمية بمكان تعزيز عملية متابعة تجفيف عناصر المال الفاسد والتحالفات الانتخابوية المشبوهة القائمة على الزبونية السياسية؛ إذ إن الزبونية “هي ممارسة اجتماعية تسمح للأفراد الذين يحرصون على الثروات بأن يطلبوا الولاء من الآخرين وأن يمنحوهم صفة الزبائن مقابل منافع مادية وامتيازات عينية، ولذلك فالزبونية السياسية تنبني على مقايضة الولاء والدعم في الانتخابات والمناسبات السياسية بامتيازات متنوعة”(10). ومن الجدير بالإشارة ما يجري تداوله في السر والعلن والهمز والغمز عن شراء الذمم بالمال الفاسد مقابل الحصول على مناصب رؤساء المجالس ورؤساء اللجان ونواب الرؤساء في المجالس المنتخبة وهو ملمح خطير ظل معششًا لسنوات طويلة، وتبدو مهمة مؤسسة الرئاسة مهمة في قطف رؤوس هذه الفئة من الفاسدين الباحثين عن الحصانة بكل أنواع التلاعب والمقايضة غير الأخلاقية.

لقد لوحظ أن كثيرًا من النخب عجزت عن حجز مقعدها في المجالس البلدية والولائية وهي التي كانت تعتقد أن مشاركتها ستضمن لها الفوز دون عناء، والواقع أن كثيرًا من هؤلاء وقفوا مشدوهين أمام صدمة النتائج ولعل جزءًا من تفسير هذه النتيجة التي يمكن اعتبارها خسارة مؤقتة يعود إلى كون شريحة كبيرة من هذه النخب عاشت لسنوات قطيعة عن مجتمعاتها المحلية البسيطة والشعبية بل بقيت لفترات ضمن مسارات المجتمع المتفرج An on looker society.

إن هذا المعطى محدد مهم في فهم السلوك الانتخابي لشرائح واسعة من المجتمع التقليدي، خاصة أن المجتمع الجزائري عاش لسنوات حالة اغتراب سياسي واختلال في المعايير، وهو ما انعكس سلبًا على العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع، فالنخبة الرشيدة كما يسميها عالم الاجتماع التونسي، منصف الوناس، هي نخبة تقتنع بتميزها العلمي وبقدرتها على مقاومة “اللامعيارية الاجتماعية” ولكن كذلك بقدرتها على بناء القدوة التي تتأملها الأجيال فتستلهمها جزئيًّا أو كليًّا وتستمد منها القيم فتجدد بذلك ذاتها ومرجعاتها فيتجدد معها المجتمع.

 لقد تغذى السلوك الانتخابي الجديد -أيضًا- من التعبئة التي أثَّرت على توجهاته بفعل النشاط الذي مارسته جمعيات وأفراد في الميدان الجمعوي لتأكيد الأمر مع مرور الوقت على أن نشاطاتهم الموسمية تشكِّل جسرًا سريعًا وربما غير بريء لدى كثير منهم لخوض غمار السياسة بدعوى رفض سياسة الكرسي الشاغر، وهذه مبررات تبدو شرعية في ظل رفض الكثيرين خوض غمار المجازفة الانتخابية.

إن الأحزاب السياسية مطالبة، ومع انتشار حالات التجوال السياسي وحالات اللجوء الانتخابي وما يمثله من سقوط في فخ السلوكيات غير الرشيدة، بأن تتجاوز النظرة إلى الانتخابات على أساس أنها مجرد عملية انتخابية مختصرة في الجانب التقني من النظام الانتخابي إلى حالة يكون فيها امتلاك وتجسيد مؤسسة الانتخاب على مستوى المبدأ والقاعدة والحق ثم الثقافة الانتخابية الناظمة على أساس العقل والمبدأ الديمقراطي(12).

على سبيل الختم

إن السلوك الانتخابي الذي يمكن أن يؤسِّس للبناء السياسي السليم في الجزائر هو الذي من شأنه أن يفضي إلى مجالس منتخبة فاعلة ومنسجمة يسودها التعاون والأخلقة السياسية؛ وهذا ما يسميه الباحثان مونا ماير ودانيل بوي الناخب الراشد (Electeur rational)(13).

وللأسف الشديد، فقد جرى تلغيم الحياة السياسية وعبر عقود بوسائل حوَّلت المواطن البسيط إلى رجل غير مسيَّس يغرق في يومياته العادية وحوَّلت الأحزاب إلى كيانات سياسية موسمية والأصلح هو أن تتحول مجالس المنتخبة الحالية إلى أدوات لتكريس الديمقراطية وبناء التحالفات التي تشكِّل رافعة حقيقية لأخلقة العمل السياسي والانفتاح على المجتمع المدني الذي يؤسس للديمقراطية التشاركية (دون تميز اجتماعي).

إن اعتماد الديمقراطية المحلية كامتداد للديمقراطية الحقيقية يتطلب أن تمتد فروع هذه الديمقراطية إلى الجماعات التي تحدد عناصر الفعل الديمقراطي في المجالس المحلية الواجب توافرها في أربع مسائل طبيعة: آليات المساءلة داخل مؤسسات الإدارة المحلية، والدرجة التي تبلغها الإدارة المحلية في تمثيل السكان المحليين، وحجم الفرص المتاحة للمشاركة المحلية، ومدى استجابة المؤسسات المحلية للاحتياجات والمصالح المحلية.

إن هذه المؤشرات مجتمعة تُظهر العلاقة بين الحوكمة الرشيدة من جهة وأجهزة الإدارة المحلية والمجالس المنتخبة من جهة ثانية، وهذا هو الرهان الاستراتيجي(15).

أرقام خاصة بالانتخابات المحلية

المصدر: السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات.

  • الهيئة الناخبة: 23717479
  • رجال: 12824978
  • نساء: 10892501
  • المسجلون الجدد: 669902
  • المشطوبون: 474744
  • عدد مراكز الاقتراع: 13326
  • عدد المكاتب: 61676
  • عدد المكاتب المتنقلة: 129
  • عدد المؤطرين لمراكز ومكاتب الاقتراع عبر التراب الوطني: 1228580
  • عدد الملاحظين: 182981
  • عدد البلديات التي تشهد غياب المترشحين: 4 بلديات من أصل 1541 بلدية

تطور قوانين الانتخابات بالجزائر

رقم النص

تاريخ النص

عدد ج.ر

موضوع النص

 مرسوم 63 306

20 أغسطس/آب 1963

58

أول نص يتعلق بقانون الانتخابات

 قانون 80 08

25 أكتوبر/تشرين الأول 1980

44

يتضمن قانون الانتخابات

 أمر 88 01

11 أكتوبر/تشرين الأول 1988

41

تعديل وإتمام القانون 80 08

 ق 89 13

7 أغسطس/آب 1989

32

متضمن قانون الانتخابات

 ق 90 06

22 مارس/آذار 1990

13

تعديل وتتميم القانون 89 13

 ق 91 04

02 أبريل/نيسان1991

14

تعديل وتتميم القانون 89 13

 ق 91 17

15 أكتوبر/تشرين الأول 1991

48

تعديل وتتميم القانون 89 13

 أمر 95 21

19 يوليو/تموز 1995

49

تعديل وتتميم القانون 89 13

 أمر 97 07

6 مارس/آذار 1997

12

يتعلق بنظام الانتخابات

 ق 04 01

7 فبراير/شباط 2004

09

تعديل وتتميم الأمر 95 21

 ق 07 08

28 يوليو/تموز 2007

48

تعديل وتتميم الأمر 97 07

 ق 12 01

12 يناير/كانون الثاني 2012

01

يتعلق بنظام الانتخابات

 ق 16 10

25 أغسطس/آب 2016

50

يتعلق بنظام الانتخابات

 ق 19 08

14 سبتمبر/أيلول 2019

55

تعديل وتتميم القانون 16 10

 أمر 21 01

30 مارس/آذار 2021

17

يتعلق بنظام الانتخابات

 أمر 21 05

22 أبريل/نيسان 2016

30

تعديل وتتميم الأمر 21 01

 

نسبة المشاركة عند غلق مكاتب التصويت

عدد الناخبين 8517919
نسبة المشاركة فى الانتخابات البدلية %36.58
نسبة المشاركة فى الانتخابات الولائية %34.76

21/12/2021

نبذة عن الكاتب

Please subscribe to our page on Google News

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15371

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *