الإيديولوجية الماركسية MARXISM

By Professor Doctor Kamal MM ALASTTAL

أولاً: ما قبل الماركسية

أ- جذور الفكرة المادية للماركسية

وجدت الفكرة المادية طريقها على يد الفيلسوف اليوناني ديموقرايطس (450-370 ق.م.) ذلك الفيلسوف الذي صرّح بصورة عميقة وبعيدة النظر التخمين القائل بأن العالم يتألف من ذرات متناهية في الصغر، والتي لا ترى، وتختلف في صورها وحجمها، ولا تتجزأ، ومن الفراغ كذلك. ويتكون من ذرات هذا العالم المادي الذي يحط بنا، جاء ديموقرايطس من الطبقة الوسطى الماكة للعبيد، ولكنه كان ديموقراطيًا في نظرته السياسية، وقد شجع التطور العلمي والتجاري.

بينما نجد أن أفلاطون الذي عاش ما بين (427-347 ق.م.) كان خصمًا آيديوولوجيًا لديموقرايطس. وقد كان مثاليًا موضوعيًا، وقد صرّح بأن العالم الداخلي المرئي هو غير حقيقي، ووضع في مقابل ذلك عالم المُثُل، والذي قال عنه بأنه عالم غير متغيّر وهو “الوجود الحقيقي” هذا العالم المُتخيّل المثالي قد سبق العالم المادي المحسوس. بل هو بالنسبة لأفلاطون هو ظلّه أو هو انعكاس لعالم محجوب، وقد عادى أفلاطون بصورة واضحة الماديين الملحدين وأعلن عنهم أنهم يشكلون خطرًا وأنهم مجرمون يستحقون الموت. وقد كان أفلاطون ينتمي للطبقة الأرستقراطية اليونانية وكانت آراؤه الاجتماعية والسياسية متخلّفة ورجعية، ومن أجل ذلك اعتبر أن الطبقة الأرستقراطية المالكة للعبيد في جمهوريته التي يديرها حكام فلاسفة مع الجنود، بحيث تمثل الدولة المثالية، وقد دعا وكذلك عامل طبقة العبيد باحتقار واضح ومكشوف.

ولقد عكس هذا الاختلاف في هذين النهجين في الفلسفة اليونانية على من جاء بعدهما بين المادية والمثالية في اليونان القديمة.

أما في رأي الماركسية، فإن الديالكتيك عند فلاسفة اليونان القدماء كانت عفوية وتلقائية، هذا الديالكتيك قد تطور بصورة تفصيلية أكثر على يد الفيلسوف اليوناني هيروكلايطس الذي عاش ما بين (540-480 ق.م) ويعتبر هيروكلايطس الأب الأول لتشكّل الفكر الديالكتيكي، والذي يعتبر مادي ساذج وبسيط، حين أعلن: كل شيء في سيلان مستمر، كل شيء يتغيّر، حتى أنك لا تستطيع أن تستحم في ذات النهر مرتين، وبالنسبة لهروكلايطس فإن النار سائل متبخر وطيار، وعنصر مختلف، والنار هي أصل الأشياء في العالم. وقد اعتقد هيروكلايطس أن العالم لم يخلقه إله ولا إنسان، ولكنه كان وما زال وسيبقى نارًا أبدية حية.

يعلن لينين قول هيروكلايطس هذا بأنه توضيح رائع لمبادئ الديالكتيك المادي، وعلى الرغم من براءة ذلك وبساطته، فإنه توضيح للقاعدة الأساسية لفكرة الديالكتيك المادي ووحدة العالم المادي، موضوعية، استقلال الوعي، وحدة المادة والحركة، وقانونية حركة المادة، وقد وصفوا أسس الصراع، الصراع في المادة.

وكذلك فقد عارض أرسطو فكرة المُثُل الأفلاطونية معارضة شديدة وأكّد موضوعية وجود العالم المادي، وأن العالم الموضوعي في وجوده لا يعتمد على أية مُثُل، وأن جميع الأشياء في العالم موجودة في حركة. وقد صنّف أرسطو العلوم في ثلاث مجموعات: النظرية، والعلمية والإنتاجية الإبداعية، وقد وضع الفلسفة في إطار العلوم النظرية، وقد جعل هدفها، أي الفلسفة، دراسة الأسباب الرئيسية والبداية لكل موجد وهو يعتبر وبحق أساس المنطق، وعلم القوانين التي تشكل التفكير الصحيح.

2- الفلسفة المادية في القرن السادس عشر والسابع عشر

يعتبر إيرانيس بيكون (Erancis Bacon 1561-1626) الفيلسوف الانجليزي الأول الذي عارض المثالية والدين بشكل عنيف، وقد حدّد مهمة الفلسفة والعلوم بصورة عامة على أنها معرفة الطبيعة وهي تساعد الإنسان في السيطرة على قواها. وقد اعترف بيكون بمادية العالم، وأن صفاتها متنوعة من غير حدود، وقد جعل من المادة مشعة بكل أطياف قوس قزح كما وصفها ماركس على أنها تبتسم للإنسان بإحساس شاعري مشرق.

وقد زوّد بيكون العلماء بالأسلوب والمنهج في دراسة الطبيعة بشكل واسع في عصره. وقد أشار بيكون على أن المرء عليه أن يجرب وأن يلاحظ وأن يحلّل الحقائق، وأن يتقدم من دراسة الحقيقة الواحدة ثم يستخلص النتيجة، والتقدم بالفكر من دراسة الظاهرة الواحدة لاستخلاص القانون العام والذي سمّاه أندوكتسيا (استنتاج) Induction. ويعتبر بيكون واضع أسس العلم التجريبي ومنهج الاستنتاج العلمي. وهذه هي مساهمته في تطور الفكر الفسلفي. فالاستنتاج لبيكون كان الطريقة الوحيدة، بينما تجاهل الاستدلال على نقيض الفرضية والتي تجعل من الممكن استخلاص النتائج من الحقائق المعينة والمحددة.

وقد استمر بهذا الخط الفلسفي المادي بعد بيكون توماس هوبز (Thomas Hobbs 1679-1588) وكذلك جون لوك (John Locke 1704-1632) هؤلاء وخاصة هوبز قد فهموا العالم المادي والعضوي على أنه يتحرك ويعمل كما تعمل الماكنة، فالإنسان هو ماكينة تتحرك وتعمل بمواصفات الماكينة، فالقلب يشبه الزنبرك، بينما الأعصاب تشبه الأوتار، بينما المفاصل هي عبارة عن عجلات. وهؤلاء يعطون الجسم الحركة حتى الدولة في نظر هوبس ليست غير ماكينة كبيرة،  وقد ساهم لوك في وضع الأسس للنظرية الحسية، نظرية المعرفة، والتي هي بالنسبة لكل العلم الإنساني تتبع المشاعر والأحاسيس.

ولكننا نجد في النصف الثاني من القرن السابع عشر تحول الفكر الانجليزي إلى فكر مثالي يدعم الثورة البرجوازية التي حطّت رحالها في انجلترا، تخلق طبقة أرستوقراطية الإقطاع. والتي تحتل مكانة مرموقة في المجتمع الانجليزي، لذلك نجد أن في النصف الأول من القرن الثامن عشر قد أخلت المادية مكانتها لصالح الفلسفة المثالية الخاصة عن طريق جورج بيريكلي (George Berkeley 1753-1684) وكذلك ساهم دافيد هيوم (David Hume 1776-1711)، لقد كان بيريكلي عدوًا لدودًا للمادية، لقد قال أن العالم المحيط بنا لا وجود له بغير وعي الإنسان، فالوعي هو الذي ينتج هذا العالم، وأن جميع الأشياء تتحد وتتركب من مشاعر وأحاسيس، والأشياء موجودة لأن الإنسان يراها ويسمعها ويحس بها. وهكذا فأنت عندما تشعر بوجودك، عندها فقط أنت موجود، إذا استوعبت هذه، فهي الركيزة لفلسفة بيركلي.

لذلك كره بيركلي النظرية المادية، وأعلن أن كل الأسس التكفيرية والإلحادية واللادينية قامت على أسس النظرية المادية. ولقد كان العنصر المادي صديق الملحدين في كل العصور، وقد اقترح محاربة ومنع النظرية المادية من التداول، وحرّض على اضطهاد أتباع ومؤيدي المادية، وقد شارك هيوم وجهة نظر بيركلي المثالية، واعتبر الأحاسيس والمشاعر الإنسانية هي الموجودة، وكذلك لم يعترف بموضوعية العالم.

بينما كان ديكارت يؤمن بالثنائية كمدخل لجوهر المسألة الفلسفية، وقد اعتبر أن العالم قد خلق من عنصرين مستقلين: المادة والوعي، وقد كان ديكارت يعتبر أبٌ للعقلانية وواضع أسس نظرية العلم وقد اعتبر العقل العنصر الوحيد للعلم، والموقف الضعيف في ذلك هو طلاق العقل من العلم والإدراك الحسي، وفي القرن السابع عشر قد أُعلن انتصار العقل على الاعتقاد والايمان والثقة اللامحدودة في قوى المعرفة الإنسانية، والنتيجة كانت على درجة من الأهمية عندما كان الدين والمثالية في تأرجح وارتجاج.

أما فلسفة المادة عند بندكت شبينوزه (1677-1632) والتي تشكلت في القرن السابع عشر في هولندا، الدولة التي كانت الرأسمالية متطورة بها أكثر من غيرها من الدول الأوروبية. فقد صاغ شبينوزه نظرية وحدة المادة والعالم، متخطيًا ثنائية ديكارت. وقد أكّد أن عنصر الطبيعة الواحد، يؤلف قاعدة لكل الأشياء في العالم، لقد كان هذا العنصر في فلسفة شبينوزه والفلسفة فيما قبل ماركس تعتبر الحصانة الأساسية لكل الموجودات التي كانت أزلية بالنسبة للوقت وغير محدودة في امتدادها الفضائي. وهذه الفلسفة المادية اعتبرت أن لا وجود للوعي خارج العنصر المادي. وقد أكد شبينوزه أن الطبيعة تتطور تبعًا لقوانينها هي وتبعًا لأسبابها ولا تتطلب تدخل قوى فوق طبيعية لخلقها، لقد كان شبينوزه ملحدًا في القرن السابع عشر، على الرغم من أنه لم ينتقد الدين بشكل مباشر، ولكنه بحث بشكل علمي ليبرهن على خداعها وتضليلها، ويكشف عن جذورها ودورها الرجعي، وعليه فإن فكرة الله بمقتضى فلسفة شبينوزه هو نتاج الطبيعة.

ثانيًا: ماهية الإيديولوجية الماركسية

الماركسية مذهب فلسفي مادي إلحادي، يرى أن كل ما في الكون من كائنات وموجودات حية وغير حية ناشئ عن المادة، فالمادة هي أصل الأشياء، وعن تطورها وجدت كل الأشياء، فلا يوجد وراءها شيء آخر، كما أن المادة أزلية قديمة لم يوجدها أحد، وتفسر الماركسية التاريخ تفسيراً مادياً أيضاً، فترجع كل أحداثه إلى العوامل الاقتصادية وصراع الطبقات فيما بينها

تتقاطع الماركسية مع عدة علوم، كعلم الاجتماع والاقتصاد السياسي والفلسفة، وسميت بالماركسية نسبة لمنظّرها الأول كارل ماركس (1818- 1883)، وهو فيلسوف واقتصادي ألماني يهودي، واشترك معه في تأسيس نظرية الشيوعية العلمية صديقه فريدريك إنغلز (1820- 1895).

ثالثًا: مؤسسي الإيديولوجية الماركسية

أ- كارل ماركس

ولد ماركس سنة 1818م في ألمانيا في عائلة يهودية، لكن والده اختار تغيير دين عائلته للمسيحية، فغيّر اسمه من هيرشل إلى هنريخ، كما غيّر اسم ابنه حاييم ذي الستة أعوام إلى كارل، ويرى بعض المؤرخين أن تبديل الأب لدينه كان حيلة اقتصادية ليندمج في المجتمع ويخلص نفسه وأولاده من الاضطهاد ضد اليهود، أما جد كارل فكان حاخاما ويدعى مردخاي ماركس.

درس كارل الفلسفة في جامعات بون وبرلين وفينا، وكان من المعجبين بفلسفة الألماني جورج هيغل، وهي تقول إن مسيرة الفكر والواقع تتطور بتفاعلات النفي المتتالي في صيرورة دائمة، لكنه رفض مثالية هيغل التي تجعل الأفكار أصل الأشياء، فكان ماركس مادي النزعة ويؤمن بأن المادة هي الأصل، ثم سافر إلى باريس وتعرف على الفلاسفة الاشتراكيين.

لم يكن ماركس في البداية ملحداً، ومن الشائع بين المؤرخين أنه عاش معظم حياته فقيرا حيث لم يجد كفنا لابنته عندما ماتت، وأنه طُرد مع عائلته من المنزل لعدم دفع أجرته، لا سيما وأنه كان يميل للقراءة والكتابة ويكره العمل حتى ماتت ابنتاه انتحارا، لكن المنزل الذي عاش فيه بلندن وما زال يحمل لافتة “كارل ماركس عاش هنا” يثبت أنه لم يكن فقيرا طيلة حياته.

أكد ماركس صداقته المتينة بالفيلسوف الصهيوني “موسى هس” صاحب كتاب “روما والقدس”، فقال ماركس “لقد اتخذت هذا العبقري لي مثالاً وقدوة، لما يتحلى به من دقة التفكير واتفاق آرائه مع عقيدتي وما أؤمن به، إنه رجل نضال وفكر وسلوك”، ومن المعروف أن مؤسس الصهيونية تيودور هرتزل استقى مشروعه لتأسيس إسرائيل من مؤلفات هس.

وعبّر ماركس عن أفكاره أولاً في البيان الشيوعي الذي كتبه مع إنغلز عام 1848م، ثم في كتابه رأس المال 1867م، ومن أهم مؤلفاته أيضا “فقر الفلسفة”، “الاقتصاد السياسي والفلسفة”، و”الأيديولوجية الألمانية”.

ب- فريدريك إنغلز

         نشأ إنغلز في أسرة ثرية جداً، ولم يكمل دراسته الجامعية ليساعد والده في إدارة شركاته المختلفة. بدأ بالانسلاخ فكرياً عن طبقته عندما شاهد -حسب قوله- معاناة العمال من مساوئ الرأسمالية، فشرع في دراسة الاشتراكية وتأثر بالجدل الهيغلي وبالرافضين للمثالية الفلسفية المطلقة. ونظراً لنزعته المادية، تعاون مع ماركس على وضع أسس المذهب، ويقال إنه ظل ينفق على ماركس وعائلته حتى مات.

ومن أهم مؤلفاته: “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”، “حالة الطبقة العاملة الإنجليزية”، “الرد على دوهرينغ”، و”الثورة والثورة المضادة في ألمانيا”.

رابعًا: أصول الماركسية في فكر ماركس وإنغلز

بنى ماركس وإنغلز فلسفتهما من خلال نقد وإعادة قراءة كل من:

1- الفلسفة الألمانية: فقد اهتما بالفلسفة الكلاسيكية الألمانية وخاصة مذهب جورج هيغل الجدلي، ومذهب لودفيغ فيورباخ المادي الإلحادي، ثم أعادا إنتاجهما بمذهبهما الذي بات يسمى بالمادية الجدلية (الديالكتيكية).

2- نظرية التطور: التي وضعها تشارلز داروين في كتابه “أصل الأنواع”، حيث وجد فيها ماركس سندا علميا لنشأة الحياة بدون إله، كما استعار قانون التطور البيولوجي ليطبقه على المجتمعات، وعندما أصدر كتابه الشهير “رأس المال” أهداه إلى داروين، لذا يرى المنظر الشيوعي الروسي جورجي بليخانوف أن الماركسية هي التطبيق العملي للداروينية.

3- الاقتصاد السياسي الإنجليزي: اهتم ماركس وإنغلز بنقد أفكار الرأسمالية التي ظهرت على يد آدم سميث وديفيد ريكاردو، وحاولا إسقاط هذا النموذج على أساس المنطق الجدلي ليقدما بدلا منه الاقتصاد السياسي الماركسي.

4- الاشتراكية الفرنسية: استفاد ماركس من نظرياتها التي انتشرت في القرن التاسع عشر التي كانت تمثل أعلى درجات النضال ضد بقايا الإقطاعية، وأعاد تقديمها تحت اسم الاشتراكية العلمية زاعما أنها ستقوم بالتغيير الثوري والحتمي للمجتمع بفعل تناقضات الرأسمالية، فكان يقول إن الاشتراكية لم تعد حلماً طوباوياً (مثالياً) كما كانت لدى سابقيه بل أصبحت اشتراكية علمية وحتمية.

5- عقيدة المخلّص اليهودي (المسيّا): فقد نشأ ماركس على التعاليم التلمودية في كنف عائلته، وكان متأثرا كما يبدو بالحلم الذي انتظره أجداده اليهود بمجيء صاحب الفردوس الأرضي الذي سيسيطر على العالم وينشر العدل، فأعاد ماركس صياغة حلمه بالفردوس الأرضي بعد دمجه بنظريات الطوباويين الفرنسيين، وتصور إمكانية تحققه -بل حتميته- على أيدي العمال المقهورين، وقد تبنى إنغلز هذه الفكرة بعد أن رأى بنفسه معاناة العمال في المصانع التي تملكها عائلته.

خامسًا: ركائز الفلسفة الماركسية

كانت فلسفة هيغل فلسفة “مثالية عقلية” أي أنها تعتبر الفكر أصل الأشياء وليس المادة، كما وضع هيغل أسس الفلسفة “الجدلية” التي تفترض أن كل شيء في الوجود يخضع للصراع الجدلي، فالقضية تتصارع مع نقيضها، فينشأ عن الصراع نقيض النقيض وهو أرقى من القضية الأصلية، وهكذا تظل الأشياء تتوالد وتتصارع مع نقيضها لترتقي في صيرورة دائمة، واعتبر هيغل أن هذا الصراع هو الذي يحرك التاريخ والطبيعة والفلسفة.

وجد ماركس في هذه الفلسفة ما يبحث عنه، فاعتبر أنها تغني عن وجود الإله طالما كان كل شيء يتصارع مع نقيضه ويتطور تلقائيا ليرتقي، وكان يزعم أنه أنزل نظرية هيغل من السماء إلى الأرض فليس هناك وجود للجانب الروحي، ويقول “إن العقل موجود، ولكن المادة موجودة قبل العقل، والعقل مرآة تنعكس عليها صور المادة”، فما دامت المادة موجودة قبل العقل -حسب افتراضه غير المبرهن- فقد جعل من ذلك مبررا لافتراض عدم وجود الخالق، وهكذا جعل ماركس كل شيء في الوجود ناتج عن انعكاسات المادة على مرآة العقل، بما فيها الإله والدين والخلق والسياسة والفكر.

ثم حاول ماركس أن يطبق نظرية هيغل على التاريخ البشري الذي اعتبر أنه يعيش صراعا حتمياً لا بد منه، فوضع نظرية “صراع الطبقات” كما سنبين لاحقا عند الحديث عن الشيوعية.

وتنقسم الفلسفة الماركسية إلى محورين، أما المحور الأول فهو المادية الجدلية (الديالكتيكية)، وهي بدورها تقوم على عنصرين:

أ- المادية: ترى أن كل شيء في العالم مادي، فالمادة موجودة بشكل موضوعي خارج الوعي، ووجودها مستقل عن الإنسان، وهي غير مخلوقة ولا تفنى، فهي سبب وأصل كل الموجودات، وهذا هو مبدأ الإلحاد.

ب- الجدلية (الديالكتيك): تفترض الصراع المستمر بين الشيء ونقيضه، وعندما يرتبط هذا الجدل (الصراع) بالمادة فهو يؤلّهها ويجعلها أصلا لكل شيء، بما في ذلك الوعي والروح.

وأما المحور الثاني فهو المادية التاريخية، حيث تعتبر الماركسية أن الوجود الاجتماعي (العلاقات الاقتصادية التي تنشأ بين الناس) هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي (الجانب الفكري والديني والأخلاقي)، إذن فالحياة المادية هي التي تحدد دين المجتمع وأفكاره وآراءه السياسية.

بناء على ما سبق؛ سيتم تناول وجهات نظر الماركسية في الصيغ التالية:

1– الماركسية والتاريخ

        تقدم لنا الستالينية  نظرة  ماركس إلى التاريخ على اساس لوحة ستالين الشهيرة لتسلسل: المشاعية، العبودية، الاقطاع، الرأسمالية، فالاشتراكية. كل تشكيلة مؤلفة من بنية فوقية وبنية تحتية، وطبقات (عدا المشاعية) وتتميز بصراع طبقي، وتصل كل تشكيلة بنمو القوى المنتجة الى نقطة لا تعود علاقات الانتاج تتلاءم معها، فتمزقها، لتنشأ تشكيلة جديدة.

ان مفاهيم البنية الفوقية، والتحتية، وتصادم القوى المنتجة بعلاقات الانتاج، ونشوء تشكيلة جديدة من رحم القديمة مفاهيم تختص في نظر ماركس بنمط الانتاج الرأسمالي، وبه وحده، وليست معممة على كل التاريخ.

لقد كان ماركس على غرار هيغل يرى ان التاريخ البشري، كتاريخ واحد، تشترك فيه كل الحضارات، والشعوب، وان هذا التاريخ ينطوي على انماط تقسيم عمل: مشاعية، وعبودية، واقطاعية، ورأسمالية، وايضا شرقية (نمط الانتاج الآسيوي القديم).

هذا التنميط العمومي (المختلف عن نظرية المراحل الخمسة) يراد به قول ما يلي:

◄  وجود تطور ارتقائي في التاريخ البشري.

◄  إن هذا التطور هو عملية عالمية واحد.

◄  إن نمط الانتاج الرأسمالي هو ثمرة التطور السابق.

◄  إن هذا النمط الاخير ظاهرة جديدة وليس قديمة قدم الانسان.

اكتسب عرض ماركس للتاريخ شيئا من ملامح الغبش الصوفي للهيغلية، وبخاصة فكرة وجود غائية في التاريخ، أي كأن التاريخ هو ذات تعي نفسها. وهي فكرة انتقدها الماركسيون عموما، لأنها فكرة نافلة.

انتقد الماركسيون اللوحة الخماسية (لوحة المراحل المتعاقبة) التي صيغت في عهد ستالين، واعتبرت بمثابة القفص الحديدي. لاحظ باحثون كثيرون ان النمط العبودي الذي نشأ في اليونان وروما لم ينشأ في بلدان اخرى، وان نمط الانتاج الاقطاعي لم ينشأ لا في اليونان ولا روما، بل في المناطق الجرمانية (المانيا القديمة، فرنسا، الجزر البريطانية). ان الانتاج الرأسمالي فقد نشأ في بريطانيا وليس في اليونان.

هذا النمط من التناثر لأنماط الانتاج (وهي بالأساس انماط تقسيم عمل)، لا يضع رابطة سببية او تعاقبا سببيا بين نشوء العبودية والاقطاع، فالرأسمالية في اليونان او روما القديمة، هناك دوائر حضارية لم تعرف العبودية. واخرى لم تعرف الاقطاع. وبقيت اخرى مشاعية الى يومنا هذا (قبائل استراليا الاصلية قبل الغزو الاوربي). لقد ارادت نظرة ماركس الفلسفية الى التاريخ ان تؤكد على فكرة التطور والتناقض، وعلى الطابع المادي للتطور، الذي لم يكن مدروسا من قبل.

2- الماركسية ونظرية المعرفة

تقوم المادية الديالكتيكية على عمودين، العمود الاول هو اولوية المادة على الوعي، وكون الوعي نفسه هو نتاج تطور شكل ارقى من المادة (الدماغ البشري)، والعمود الثاني، ان هناك “قوانين” للديالكتيك تنظم عمليات الطبيعة والمجتمع والفكر.

إن فكرة أولوية الوعي على المادة أو أولوية المادة على الوعي قديمة قدم الفلسفة، والنظرات الفلسفية الاولية السابقة لها، وان القول بأولوية المادة على الوعي قديم قدم المادية اليونانية نفسها، شأن الديالكتيك، ولنا الملاحظات التالية:

أ – تقوم مادية القرن التاسع عشر، ونظرية المعرفة اللصيقة بها على ثنائية الذات والموضوع. الذات الواعية، والواقع الموضوعي، موضوع الوعي. هذه الثنائية هي موضع اعتراض منذ بداية  القرن العشرين. فالوحدة الاولى للمعرفة ليست ثنوية (ذات وموضوع).

  نحن لا ندخل الى أي ميدان اجتماعي بدون توسط اللغة، والدماغ الخازن لإشارات المعرفة المكونة بدورها من نظام معقد (دال – مدلول، اشكال – اصوات – علامات… الخ).

ب – إن نظم المعرفة حبيسة في نظم ثقافية (ثقافات قومية، ثقافات محلية، ثقافة عالمية متداخلة مع الثقافتين القومية والمحلية).

ج – إن الدراسات اللغوية (من البنيوية الى ما بعد الحداثة) قدمت اكتشافات هامة انعزل عنها الماركسيون بالكامل تقريبا (اضطهاد باختين ابرز مفكر في هذا الباب داخل بلاده – روسيا)، من سوسير، اول بنيوي لغوي، الى نعوم تشومسكي احدث العباقرة في هذا الميدان.

د – إن الفلسفة نفسها، التي كانت علم العلوم، تقلصت اليوم الى مجرد حقل صغير يعنى بعلم المعرفة (الابستمولوجيا)، ويشمل المنطق.

هـ – ان علم المنهج Methodology الذي كان اختصاص الفلسفة وركنها الأعز، انفصل عنها، وبات لكل علم منهجه (مناهج علم الاجتماع، مناهج الاقتصاد، مناهج الأنثروبولوجيا، مناهج الفيزياء وهلمجرا).

و – ان منطق هيغل الذي لخصه انجلز في كتابيه (انتي دوهرنغ وديالكتيك الطبيعة) يقف متخلفا الآن عن انجازات العلوم الفلسفية وبخاصة في مباحث المعرفة، وان الزمن قد تجاوزه بشوط كبير.

ز – إن علم المعرفة لم يكتف بالخروج عن أسر الفلسفة بل دخل ضمن املاك علم تشريح وفسلجة الدماغ، وعلم النفس.

   هل هناك حاجة الى نظرية معرفة خاصة، جامعة، مانعة، في هذا الباب؟ لا اظن، لأنه اولا لا توجد نظرية جامعة، مانعة، بل توجد فرضيات متوسعة وبحث متصل. ولأنه ثانيا تجري هذه البحوث في ميادين اختصاص لا قبل لفرد او حركة ان تلمّ بها.

   هل ننقطع عن الاطلاع على هذه الميادين؟ كلا بل ان ما ألمّ بالماركسية من خور وتراجع يرجع في جانب منه الى انعزال القائمين على فكرها عن تيارات العصر الفكرية الكبرى: البنيوية، علم النفس، ما بعد البنيوية، التفكيكية، او عن مدارس ماركسية هامة مثل مدرسة فرانكفورت، او مدرسة تشومسكي السنديكالية.

3- الماركسية والمجتمع

  درس ماركس بنية المجتمع الرأسمالي، انطلاقا من انجازات المؤرخين الفرنسيين عن الطبقات الاجتماعية، ومن كتابات غيرهم عن بنية “المجتمع المدني”، أي الرأسمالي، (مثل جروتيوس، ومونتسيكيو، وهيغل).

   اعتبر ماركس العلاقة بين العمل ورأس المال هي الجوهر البنيوي الذي ينبغي فهم كل العلائق الاجتماعية، في اطاره، وعلى اساسه.

  لم يأخذ ماركس اية امثلة من خارج اوربا، لأن الرأسمالية لم تتطور بعد خارجها. كما لم يأخذ جل امثلته الملموسة إلا من بريطانيا وفرنسا بشكل اساس.

   رسم ماركس في التجريد النظري طبقتين خالصتين هما الرأسمال = الرأسماليين من هنا، والعمل = العمال من هناك، وهذا التجريد ضروري لدراسة الظاهرة بشكلها النقي. لكن دراسات ماركس الاخرى، اشارت الى وجود طبقات اخرى: الفئات الوسطى (ما يسمى بالبرجوازية الصغيرة)، الفلاحون، الانتلجنسيا. كما ان الرأسماليين، عنده، ليسوا كتلة، نتذكر كتابه “الثامن عشر من برومير لويس بونابرت” (او ثلاثيته الشهيرة في فرنسا) هناك رأسمال صناعي، ورأسمال مصرفي، ينميان مصالح عديدة. كما ان الطبقة العاملة ليست بالكتلة المتجانسة، الموحدة، ولا بالكتلة الجامدة.

  اعتبر ماركس الملكية او انعدامها اساس الموقع الطبقي. كما اعتبر المراتب الاجتماعية القديمة (الطبقات الاقطاعية) قائمة على معايير المكانة، الدين، الخ، الموروثة. ودرس اشكال الانتقال من البنى القديمة الى الجديدة. (مجتمعاتنا العربية في طور انتقالي من هذا الى ذاك).

  توقع ماركس اتجاهات (tendencies) عديدة بينها:

1 – عملية الافقار المطلق ستؤدي الى تحويل جل الفئات الاجتماعية الى بروليتاريا، أي تحول الاخيرة الى غالبية الشعب.

2 – ان تحطم الفئات الوسطى المتعلمة، سينقل للطبقة العاملة عناصر المعرفة.

3 – ان نظام المصانع سيحول جيش العمل الى قوة منظمة، منضبطة.

4 – تتحول طبقة العمال من طبقة في ذاتها الى طبقة لذاتها في عملية تطور الرأسمالية عينها.

   ما تزال المجتمعات الرأسمالية تواصل عمليات التمركز والتركز للثروة المجتمعية، وتعزز سطوة الرأسمال، غير ان تطور الطبقة العاملة لم يسر باتجاه الافقار المطلق. وأدت الثورات العلمية المتلاحقة، الى زيادة الانتاجية زيادة هائلة، وتحويل ثروات متزايدة (قوى عمل + وسائل انتاج) الى ميادين الخدمات (القطاع الثالث) والعسكرة (القطاع الرابع) وصناعة الثقافة (القطاع الخامس؟)، أدى حلول الآلات محل الجهد العضلي اولا، ثم الجهد الفكري للمنتج ثانيا، عبر الاتمتة، الى حصول اتجاهات جديدة في تطور البنية الاجتماعية:

v   تقلص العمل اليدوي، تقلص الطبقة العاملة، اتساع الفئات الوسطى.

v  ان توقع ماركس باتساع الطبقة العاملة ظل يتحقق منذ مطلع الرأسمالية (اواسط القرن السادس عشر) حتى منتصف القرن العشرين. بتعبير آخر ان “القوانين” التي رصدها ماركس عملت لفترة، وهي، كما قال ماركس “ميول” وليست قوانين، فالقوانين ثابتة لا تتغير، والميول تتعدل وتتحور.

v  ولدينا الآن ظاهرة تقلص الطبقة العاملة في الدول الصناعية المستقرة، حيث نشأت الرأسمالية، وعدم تطورها بدرجة كافية في الدول النامية، حيث نقلت الرأسمالية. وهناك حالات وسطية ما تزال تشهد تحقق “ميول” المجتمع الرأسمالي كما رصدها ماركس في حياته.

v هذا الوضع بالطبع يعطي الثقل الاجتماعي للفئات الوسطى، وتترتب عليه استنتاجات كثيرة ذات طابع عملي، متروكة للممارسين.

  وبالطبع فان هذه الميول الجديدة ليست ازلية هي الاخرى، ولا يستطيع أحد أن يعرف على وجه الدقة ما سيحصل للبنى الاجتماعية في حالة التوصل الى مجتمع مؤتمت، أي مسيّر بأجهزة آلية، ذاتية التنظيم والتفكير (على غرار نظم الكومبيوتر الفائقة)، وهل ان مثل هذا المجتمع يوصل احتدام العلاقة بين التملك الخاص للثروة، والطابع المجتمعي الشامل للإنتاج، الى مدى اقصى، ويحل، في الوقت نفسه، مشكلة توفر المعلومات اللازمة لتنظيم المجتمع، او تسييره وفق خطة منظمة، بدل الفوضى الضاربة، مع ما يتطلبه ذلك من اعادة توزيع الثروة.

4- الماركسية والنظرية الاقتصادية

يشكل هذا الحقل ألمع وأوسع وأغزر نتاجات ماركس، وتلاميذه، جيل كاوتسكي وبوخارين وهيرشفيلد ولينين، وسواهم.

  ينطوي هذا الحقل على عدة مجالات:

1 – المجال الجوهري، يقوم في هذا: ان نمط الانتاج الرأسمالي، القائم على مبدأ الربح (استخلاص فائض القيمة – المطلق اولا، فالنسبي لاحقا) لا يستطيع العيش بدون توسع (اعادة الانتاج الموسعة)، التي تتطلب توسعا في الاسواق (القومية والعالمية)، ويتحقق عبر التجارة الدولية، بتوسط الدولة (في القرون الاولى) وخارج قيود هذا التوسط  في عصر العولمة . يصف لنا ماركس في الجروندريسة  Grundrisse وفي الاجزاء المجهولة من رأس المال. ان الرأسمالية تتوسع باطراد، وتخلق بتوسعها القيود والعقبات الخالقة للأزمة، وتحفزها الأزمة على ابتداع حلول وطرق جديدة، فتخرج منها الى توسع أكبر واشد عنفوانا، ويخلق التوسع الجديد قيودا وعقبات جديدة، تستثير بدورها محاولات تجاوز، وهكذا دواليك، حتى تصل الرأسمالية (كنظام عالمي) الى نقطة يتعذر بعدها تجاوز عقباتها هي، فتدق عندئذ ساعة النهاية. هذه هي رؤية ماركس.

  هذا النمط من التنبؤ النظري يحيلنا الى السؤال الكبير الذي اثاره المؤرخ الماركسي بيتر جوان Peter Gran: ما هي الآماد الزمنية لمثل هذه العملية؟ قرن؟ قرنان؟ سبعة قرون؟ ويجيب: “نحن لا نعرف! لا ندري ان كنا في اواسط عمر التشكيلة الرأسمالية ام في اواخرها! وان القول بمرحلة اخيرة (عليا)، تخمين وحدس قد لا يصمدان أمام الواقع”.

  يواجه الماركسي الواعي المشكلة التالية: ان آماد تطور التشكيلة لا تحسب على غرار آماد حياة البشر. لكن الوعد الثوري بتجاوز التشكيلة الرأسمالية يواجه محنة المصالح المادية الآنية للحركات والطبقات الثورية، فهي تريد تحقيق انجازات، هنا، الآن، وليس انتظار وعد (قد يكون بنظرها مجرد يوتوبيا). هذا الاحتدام بين الآماد (المدة) الموضوعية للتطور، والآماد المحدودة للحياة البشرية يصح هنا على المفكرين، كما يصح على قادة الحركات وانصارها. هذا التضاد يدفع الى تفكير رغائبي، الى “تمنيات” بـ”قرب النهاية”. لعل مثل هذا التضاد يقف وراء القول بأن “الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية” (قد تكون مرحلة وسيطة)، او يقف وراء قول ستالين بامكان بناء الاشتراكية خلال حياة جيل واحد (حياته هو)، او قول (زعم) خروتشوف بأن بناء الشيوعية سيكتمل في التسعينات (من القرن الماضي اثناء رئاسته طبعا).

2 – وضع ماركس صورة (تنميط نظري أو نمذجة) للرأسمالية الفردية كما نشأت في بريطانيا، وتنبأ بتحول ملامحها باتجاه الاحتكار. ووصف، معتمدا على الوقائع التاريخية وليس على الحدس، نموذجين لصعود نمط الانتاج الرأسمالي: صعود الحرفي الصغير، او صعود التاجر (أي اما من دائرة الانتاج، او دائرة التداول). ولو قيض لماركس ان يعيش حتى اواسط القرن العشرين، لوسع نموذجه الى عدة انماط:

 أ – النمط الفردي/ الرأسمالية الفردية.

 ب – رأسمالية الدولة.

ج – الرأسمالية القرابية.

  د – خلائط او هجائن من أي اثنين، او حتى هذه الثلاثة.

  اذا كان نمط الرأسمالية الفردية مفهوما، فان رأسمالية الدولة انطلقت من البلدان التي جاءت إلى الرأسمالية متأخرة بعض الشيء (المانيا، ثم روسيا)، وقد سخر انجلز من الاشتراكيين الالمان، الذين ظنوا ان “قطاع الدولة” هو “بناء اشتراكي”. (راجع مقالته عن قضايا السكن وغيرها من الامور في المانيا).

  تكشف لنا رأسمالية الدولة والرأسمالية القرابية عن هجائن فرضها التطور (على شكل خطر عسكري من دول متطورة، او منافسة تجارية حادة). اما تطور الرأسمالية القرابية (اندونيسيا، السعودية، ودول اخرى) فيكشف لنا ان نقص المؤسسات الاجتماعية والقانونية الحامية للملكية، ونقص تطور المؤسسات المجتمعية الحديثة، يدفع باتجاه الاحتماء بشبكات القرابة (حتى على مستوى الحرفي الصغير).

  لهذه الانماط، او خلائطها تمايزات عديدة، ونتائج سياسية خطيرة. منها ان شكل رأسمالية الدولة لا يسمح بتطور المؤسسات الديمقراطية بل يعيقها، ويعيق بالتالي، تطور الرأسمالية نفسها في المدى البعيد. اما النمط القرابي فانه يضيف الى ذلك عوائق اخرى اجتماعية وثقافية.

3 – درس ماركس المكونات القطاعية للرأسمالية على اساس ثنائي:

القطاع الاول (انتاج وسائل المعيشة).

القطاع الثاني (انتاج وسائل الانتاج).

        تطورت هذه البنية القطاعية في عدة اشكال تبعا لمستوى تطور القوى المنتجة. فكلما ازدادت القوة المنتجة تعاظما، قل العمل الضروري اللازم لإنتاج وسائل المعيشة ووسائل الانتاج اللازمة لها، وزاد العمل الفائض المكرّس للحاجات الاخرى.

5- الماركسية والدولة

 بعد الرأسمالية، او الرأسمال، تأتي الدولة في التسلسل التالي لمشروع دراسة ماركس، شدد انجلز على الطابع القمعي كوظيفة اولى واساسية للدولة الحديثة في العهد الرأسمالي. وفعل ذلك بصورة مطلقة. كما شدد انجلز (كتاب اصل العائلة والملكية الخاصة والدولة) على ربط نشوء الدولة بالصراع الطبقي اساسا. وفعل ذلك صورة مطلقة.

  اما ماركس فانه قبل بهذا التحديد، ولكنه اضاف عليه ابعادا كثيرة منها: علاقة الدولة بالمجتمع المدني، علاقة الدولة بالطبقات، استقلال الطبقة السياسية (القائمة على اجهزة الدولة) استقلالا نسبيا عن الطبقات المالكة، التمايز البنيوي للدولة من حيث مؤسساتها. لكن ملاحظات ماركس، للأسف، لم تحظ بالاهتمام الكافي قبل ان يتحرك العقل الماركسي رالف ميليباند، الذي نبه الى هذه المسائل وغيرها.

  اوردت الدراسات الانتروبولوجية للحضارات القديمة، ان الدولة نشأت كجهاز حماية لدولة – المدينة (اثينا، روما، بابل، الانكا، الصين، مصر القديمة) ضد البوادي، أي ليس لقمع جزء اجتماعي داخلي، بل لصد جماعات خارجية. بتعبير آخر ان نشوء الدولة يرجع الى التضاد بين الشكل المستقر للمجتمعات البشرية (المحمية بالاسوار) والشكل المترحل (البدو بلغة العرب والبرابرة بلغة الاغريق)، كما يرجع، لاحقا، الى التضاد بين مراكز الحضارة نفسها. فلم يكن عبيد هذه المدن بحاجة الى ادوات لجم مادية، ذلك ان الدين والاعراف، وانغلاق الطبقات القديمة، وحرمة الاتصال فيما بينها، كانت جزءا من التقاليد والعبادات الكفيلة بالضبط المجتمعي. ولم تقم الدولة بوظيفة قمعية ضد العبيد إلا بعد فترة طويلة من نشوئها وتطورها، وبعد نقل العبيد من الانتاج المنزلي، الى الانتاج الزراعي والمنجمي، ولم يحصل هذا التحول إلا بعد قرابة 3 آلاف عام من نشوء دولة المدينة!

  اهمل الماركسيون ملاحظات ماركس عن الدولة كما اهملوا تحليل الدولة الحديثة من حيث:

(1) انها ممثل لجماعة قومية محددة (الاهتمام بنشر الثقافة القومية، وتوحيد اللغة عبر اجهزة التعليم).

(2) لبنة في المعمار الرأسمالي العالمي.

(3) تتولى وظائف انتاجية وثقافية.

(4) تمتاز بتكوين بنيوي متباين من حيث المؤسسات ودرجة تمايزها.

(5) تحتاج دوما الى مصادر شرعية (الدين، الايديولوجيا، التعاقد الاجتماعي… الخ).

(6) ذات علاقات متباينة بالمجتمع المدني… الخ.

  هذا التذكير مفيد لنبذ الفكرة التبسيطية عن الدولة الحديثة كنتاج للرأسمالية وحسب! فاذا كانت الرأسمالية واحدة، فما الذي يفسر لنا نشوء عدة اشكال من الدول داخل نمط الانتاج الرأسمالي، بل داخل بلد واحد، ولماذا تبرز دولة الملكية المطلقة، او دولة الملكية الليبرالية المقيدة، او الدولة البونابرتية، او الدولة الفاشية، او الدولة التقليدية القرابية، وهلمجرا كلها داخل التشكيلة الرأسمالية الواحدة.

6- الماركسية والقومية

تعتبر الدولة القومية (nation – state) شكلاً جديدا للتنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي، ملازم للعهد الصناعي الرأسمالي. فالجماعات البشرية التي كانت تتحدد بالانتماء الى قبائل وعشائر، او دول مدينة، ومقسمة الى احياء وبيوتات واصناف، صارت تعيش في مجال واحد موحد، محدد سياسيا بالدولة المركزية ذات التخوم الجغرافية المثبتة، ومحدد ثقافيا باللغة (او مزيج الدين واللغة، او مزيج اللغة والعرق)، ومحدد اقتصاديا بالسوق القومي، ومحددا اجتماعيا بالمؤسسات المجتمعية.

 ان عمر هذا التنظيم الجديد للبناءات المجتمعة لا يزيد عن 3 قرون.

اعتبر هذا الشكل الجديد (الدولة القومية)، في اطار الماركسية، بمثابة ثمرة للتطور الرأسمالي بما فيه من (أ) نظم اتصال مادية (سكك حديد، سفن بخارية وخطوط تلغراف) تسهل التبادل التجاري وتسند تقسيم العمل المتشعب. وبودي ان اضيف معمارين هما: (ب) نظم اتصال ثقافية: لغة موحدة، وسائل طباعة (صحيفة… الخ)، تشكل اداة التفاعل. (ج) نظم ادارة سياسة مركزية، جهاز اداري موحد، نظام قضائي موحد، جيش دائم… الخ.

اعتبر ماركس تطور الدولة القومية نتاج عملية ارتقاء تطوري مديد، وانتقال من مستوى انتاج ما قبل رأسمالي الى رأسمالي حديث، ونلاحظ هنا ان اولى الدول القومية نشأت عفوا، أي بدون وجود “حركات قومية” او “ايديولوجية قومية”. لكن دول الموجة الثانية قلبت التسلسل: ابتداء من حركات وايديولوجيا قومية، وصولا الى دولة قومية مركزية حديثة.

  لاحظ أحد المفكرين ان ماركس، الذي امتاز بعين ثاقبة لكل ما هو جديد، طرح بديله الأممي (العالمية ما فوق القومية) في القرن التاسع عشر تحديدا، وهو قرن الموجة الثانية للقومية (المانيا، ايطاليا، ثم بولندا والشعوب السلافية لاحقا).

  ورث ماركس، شأن اوغست كونت، وسان سيمون، النظرة الارتقائية لمفكري اواخر القرن الثامن عشر، وهي النظرة القائلة بأن (الدولة المركزية = الدولة القومية) هي لحظة عابرة في التطور، وان تجاوزها الى رحاب العالمية (الاممية) ضرورة واتجاه محتوم للتطور.

  هذا الاستنتاج اغفل واقعة ان الرأسمالية اذ ترسي الاساس للعالمية، فإنها انما ترسيه بتوسط الدولة القومية، وبالفعل فان التطور العالمي سار في اتجاه توطيد الدولة القومية على امتداد القرن التاسع عشر (بوتيرة بطيئة) ثم القرن العشرين، بوتيرة متسارعة، كان آخر موجاتها تفكك يوغسلافيا الى مكوناتها القومية، وقبلها تفكك باكستان (الى بنغلاديش وباكستان)، وتفكك جيكوسلوفاكيا، والاتحاد السوفييتي نفسه، الى مكوناته القومية.

  وبينما يحث التطور العالمي توطيد الأسس لتجاوز الاطار القومي (الاتحاد الاوربي)، فانه ما يزال يواصل بقايا العملية الاخرى: ونشوء دول قومية (فلسطين الآن، والاكراد مستقبلا).

  واليوم فان العالمية التي توقع لها ماركس ان تتحقق وتتجاوز الدولة القومية بسرعة (خلال حياته؟ ربما) خرجت من اطار الدولة القومية الى الكونية، أي اقتربت من النموذج النظري، الذي استبق الواقع. ماذا حصل للحركات الاشتراكية والشيوعية خلال هذه الفترة.

1 – في الطور الاول (ماركس، روزا لوكسمبرغ، كاوتسكي، ولنين ايضا) – ازدراء النزعة القومية، واعتبار الدولة القومية لحظة عابرة، يتم تجاوزها بفضل الاممية التي ترسي الرأسمالية ركائزها المادية والثقافية.

2 – في الطور الثاني (لينين – ستالين) قيام الحركات المنتصرة ببناء دول قومية، والاعتراف بها كلبنة من لبنات معمار العالم المعاصر، لبنة ضرورة باطلاق.

  لقد انحبست كل الحركات العمالية في اطرها القومية، الى حد التطابق.

3 – واليوم، اذ تبدأ عملية الخروج من الأطر القومية الى العالمية (الكونية، العولمة) يقف اليسار مرتعبا من ذلك، متشبثا بالماضي، بعد ان عاش جل القرن العشرين داخل الاطار القديم، بتعبير آخر بينما يبرز اساس متين للأممية، تبقى اشكال الفكر والممارسة حبيسة الاقفاص المحلية.

7- الماركسية والعولمة

  ينبغي ابتداء التمييز بين العولمة globalization كعمليات موضوعية، ومذهب (او مذاهب) العولمة globalism، أي التفسير الايديولوجي لهذه العمليات، والبرامج السياسية المشتقة منها.

   ان اغلب الدراسات الجادة (الماركسية وسواها) يشير الى ان العولمة هو الاصطلاح الذي يطلق على كل العمليات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تجري خارج سيطرة الدولة القومية بوصفها وحدة للتحكم، بعد ان كانت هذه العمليات تنطلق اساسا من الدولة القومية باعتبارها المرجع والاطار المقرر، أي أداة التحكم والفعل.

  ان قصر العولمة على الجانب الاقتصادي وحده (فتح الاسواق، اسواق السلع والمال، وفتح عمليات الاستثمار والتبادل بتجاوز أي سلطة سياسية قومية) هو قسر فكري، اختزالي وضار الى أبعد حد.

  ان نظم الاتصال عبر الاقمار الصناعية، وتدفق المعلومات، والتسخين الكوني، واوضاع البيئة، الفقر، الاوبئة، الانفجار السكاني، الجريمة المنظمة، الهجرة المتبادلة هي جزء من عمليات العولمة، شأن تدفق السلع والرساميل والخدمات، وايضا (بحدود مقيدة) حركة قوى العمل.

  وتنشط في العالم جملة هائلة من المؤسسات والآليات فوق القومية، من الأمم المتحدة، الى محكمة العدل الدولية، الى صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومحكمة العدل الاوربية، مرورا بعشرات الآلاف من المنظمات الاجتماعية، والمعاهد والجامعات (بحدود ما هي مستقلة).

  تطرح العولمة كاطار موضوعي عام لتطور المجتمعات الحديثة بأشكالها الرأسمالية المتنوعة، جملة تناقضات منها:

أ – ان خروج هذه العمليات عن سيطرة الدولة القومية، يعطي للشركات العملاقة، باعتبارها قوى اقتصادية ناشطة، سلطة وسطوة فوق سلطة الدولة.

  وهذا يطرح الاشكال التالي من زاوية التطور الديمقراطي في العالم المتقدم (حيث الديمقراطية تحصيل حاصل): كيف يسع التكنوقراط، وهو غير منتخب وغير مخول ان يقرر ويحسم، في حين ان الطبقة السياسية المنتخبة بالاقتراع والمخولة، لا تستطيع ان تقرر وتحسم. من يحكم؟ هذا السؤال يستثير العقول ويحفز على الآتي: (1) تشكيل حكومة عالمية. (2) تشكيل مؤسسات فوق قومية جديدة، ذات طابع ديمقراطي. (بيان ستوكهولم).

ب – اتجاه العلاقات الدولية نحو الفوضى الكاملة، بموازاة سعي الولايات المتحدة الى التصرف المنفرد، في الوقت الحاضر، وبموازاة نبتات كارتلات سياسية جديدة (صعود اوروبا الموحدة).

ج – احتدام التوتر الثقافي، نظرا لانحباس الثقافات في اطر ثلاثة: اطار قومي، (دولة)، ما دون قومي (جزء من بلد)، وما فوق قومي. ويحتدم الصراع بفضل ظاهرتين متعاكستين: (1) نشاط الثقافات المحلية في ازدياد. (2) وسائل الاتصال الالكترونية تفتح له المجال للانتشار ما وراء الاطار المحلي.

د – ان تطور العولمة يذكي من ناحية انتشار قيم الديمقراطية، والعلم، والشفافية، وحرية المعلومات، ويدفع باتجاه (الليبرالية السياسية = الديمقراطية البرلمانية) من الوجهة الثقافية، لكن انفتاح الاسواق، وانفلات التطور الرأسمالي المفتوح، يستثير حركات احتجاج عارمة، تدفع النخب السياسية الى تشديد الاستبداد او انماط الحكم التسلطي.

  بتعبير آخر، ان الليبرالية الاقتصادية، وان كانت (بالمعنى التاريخي العام) الاساس الموضوعي لليبرالية السياسية، تعمل، في ظروف العالم النامي وسط ظروف العولمة، باتجاه كبت الليبرالية السياسية.

هـ – اخيرا، ان الحركة المدومة للعولمة، تخلق، رغم نشرها للعلم والتكنولوجيا، حالة من انعدام اليقين تذكي النزعات الصوفية، والغيبية (وهذه احد منابع بروز الدين بقوة في حياة كثرة من البلدان المتقدمة والمتوسطة والمتخلفة – باستثناء اوروبا الغربية).

  بتعبير آخر ان التقدم العلمي التكنولوجي، يذكي “تقدم” اشكال الفكر ما قبل العلمي. هذه بعض اوجه عمليات العولمة.

  هناك ثلاثة استجابات ايديولوجية عامة للعولمة، هي:

1 – الاتجاه الليبرالي: الذي يحيي العولمة باعتبارها انتصارا للعقلانية، الرأسمالية، وانتصار الاقتصاد على السياسة، او فك حركة الرأسمال عن الدولة، كما دعا اليه أباء الليبرالية الكلاسيكيين (آدم سميث). وهو يدفع باتجاه الهجوم على نظم الرفاه الاجتماعي، وتأمين مناخ حرية كامل في ارجاء المعمورة.

2 – الاتجاه القومي والماركسي المنغلق: الذي يعيش في الماضي، ويعارض العولمة، جملة وتفصيلا.

3 – الاتجاه الماركسي النقدي، وايضا الليبرالي النقدي (سوروش، أتالي) الذي يدعو الى تطوير حكومة عالمية، واشكال لجم عالمية لحركة الاسواق، ومعارضة كل الاوجه السلبية لهذه الظاهرة، دون اغفال الطابع المزدوج للعولمة، وجوانبها الموضوعية.

ان العمليات التاريخية في المرحلة الراهنة، وان كانت تتسم بموضوعية، فان حقل الموضوعية هذا ناجم عن الفعل البشري المنفتح في كل لحظة على امكانات متعددة، وخيارات. فالتاريخ، كما يقول ماركس، عملية من صنع البشر، وان كانوا يصنعونه في شروط معطاة ومنقولة من الماضي.

سادسًا: نقد النظرية الماركسية

1- نقد الماركسية من حيث هي نظرية علمية

في نقد وتقويم النظرية الماركسية نجدُ أن أول ما يَلفت النظر فيها دونًا عن سواها من نظريات اشتراكية، هو الزعم بأنها نظرية علمية.

فقد جاء ماركس في عصره الذي بلغ حد الثَّمَل والدوار في الانتشاء بالعلم، وطرح نظريته بوصفها نظرية علمية، وسوف نرى أنها ليست علمية ولا يُمكِن أن تكون هكذا، أو أنها على أوسع الفروض تُحاوِل أن تتمسَّح بالعلم وأن يكون لها الشكل العلمي، ولكنها في حقيقة الأمر ليست من العلم في شيء.

فأولًا: منهج ماركس مُضطرِب غامض مُبهَم، حتمي وقطعي وجدلي في الوقت نفسه. لقد صارح بأنه يعتمد على الجدل؛ والمنهج الجدلي والمنهج العلمي مُتضادان لا يُمكِن أن يلتقيا؛ فالجدل يحذف قانون عدم التناقُض وينتقل من الفكرة إلى نقيضها إلى مُركَّب يجمع بينهما أي يُقِر بهما معًا، والعلم لا يسمح بهذا، ومن غير المعقول البتة أن ننتظر من كل قضايا العلم أن تكون جدلية. السمة المُميِّزة للمنهج العلمي هي حذف القضية التي ثبت خطؤها وإحلالها بأخرى أكثر منها صوابًا، بغير مُبرِّر للبحث عن نقيضها فضلًا عن مُركَّب من القضية ونقيضها، ثم إن عالم العلم كمي، والكمية مجرد عناصر موجودة معًا، أي أنها نقيض الوحدة الجدلية. العلم لا يعنيه البتة الانتقال من الكم إلى الكيف، كما يُؤكِّد الجدل. وليس يفترض العلم أية انقلابات جدلية في مَسار الطبيعة، بل على العكس يفترض استمرارية ما.

جملة القول أن أبسط تحليل مَنطِقي يكشف عن التضارُب بين المنهج الجدلي والمنهج العلمي، ولم يكُن هذا خافيًا عن أي مُلِم بأساسيات المَنطِق؛ لذا دأب الشيوعيون على القول إن مَنهج العلم يُناقِض الجدل لأنه يكشف عن وجهة النظر البرجوازية.

ولما كان العلم أساسًا هو المنهج، وكان منهج ماركس بكل هذا الاضطراب والتناقض، كانت نظريته علمية زائفة؛ إنها تُحاوِل علْمنة التاريخ، أي أن تجعله علمًا كالطبيعة، له قوانين نستخلص منها تنبؤات يقينية، أي تنبُّؤات ستحدث حتمًا، لينتهي إلى أن الشيوعية ليست نظرية نقبلها أو نرفضها، أو ننقدها أو نُعدلها، بل هي أمر محتوم، سيحدث قطعًا شِئنا أم أبينا، وقصارى ما نستطيع أن نفعله هو الثورة الدموية التي تُخفف آلام الوضع، أي فقط تُقصر المرحلة التاريخية التي ستعقبها الاشتراكية، حتمًا على أية حال. وفضلًا عن أننا الآن في عصر النسبية والكوانتم اللتين لم يشهدهما ماركس، فقد أدركنا أنه لا التاريخ علم كالطبيعة، ولا الطبيعة أو أي علم آخر يُمكِن أن يكون حتميًّا بمثل هذا المنظور.

وفضلًا عن هذا نجدُ أن مِصداق الخلل المنهجي قد أتى من الوقائع التاريخية التي حدثت فكذبت كل تنبؤات ماركس تقريبًا، مما يعني أن النظرية ذاتها كاذبة؛ وبالتالي ليست الشيوعية حتمًا مَقضيًّا كما وعدتنا:

(أ) تنبَّأ ماركس بأن طبقة البروليتاريا سوف تزداد زيادة غير محدودة، وتنكمش طبقة أصحاب رءوس المال انكماشًا غير محدود، وهذا لم يحدث أبدًا؛ فقد تعقَّد اتجاه الصناعة وتغيَّر في حالات كثيرة، وأصبحت تعتمد على الثورة التكنولوجية، وثورة المعلومات والكومبيوتر أكثر من اعتمادها على العمال. زادت أهمية المَهارة الكيفية للعامل عن أهمية العدد الكمي للعمال، وبدلًا من أن تزداد البروليتاريا، ظهرت طبقة ثالثة لم يَلتفت إليها ماركس بحكم طبيعة عصره، وهي طبقة المهندسين والعلميين والفنيين والمحاسبين والإداريين، ودورها في عملية الإنتاج أهم من دور البرجوازية ومن دور البروليتاريا.

وبسبب من تطوُّر المُنتَجات وتطور الاحتياجات لم تعد المُؤسسات الكبرى تفلِس أصحاب الصناعات الصغيرة فتضُمهم للبروليتاريا، بل قد تعتمد عليها. المؤسسة الكبرى لصناعة السيارات — مثلًا — تعتمد على صناعات صغيرة لإنتاج ما يلزمها من جلود المصانع وغيره. من الناحية الأخرى لم تنكمش طبقة أصحاب رءوس الأموال انكماشًا غير محدود، بل على العكس، امتلك أسهم كثير من الشركات صغار المساهمين.

(ب) كذبتْ أيضًا نبوءة ماركس القائلة إن الطبقات سوف تُختصر إلى طبقتَي البرجوازية والبروليتاريا؛ لم يحدث هذا وليس من المُحتمَل أن يحدث، ومهما تقدَّمت الصناعة لن تختفي طبقة المُزارِعين بالذات، ولن تنضم إلى البروليتاريا، وتظل الحياة الريفية مُتميزة بطابعها المُعين. ويُمكن القول إن تاريخ الاشتراكية في أواخر القرن العشرين هو في أحد جوانبه تاريخ الصراع بين الحركة البروليتارية وبين طبقة الفلاحين، لقد عالج ماركس الإنتاج الزراعي بسطحية بالغة، الأمر الذي كلف خمسة ملايين من الفلاحين الروس أن يموتوا أو يُرحلوا حتى يتحقق نظامه.

على أية حال لم تُسفِر التطوُّرات التي أعقبت ماركس عن طبقتين، بل عن الطبقات الآتية: (١) البرجوازية. (٢) كبار مُلاك الأراضي. (٣) المُلاك الآخرين. (٤) العمال الزراعيين. (٥) طبقة وسطى من الإداريين والفنيين. (٦) طبقة العمال الصناعيين. هذا فضلًا عن طبقة المُثقَّفين التي عدَّها ماركس برجوازية، وهي ليست هكذا إذا تحرَّينا دقة في المُصطلَح. ومثل هذا التطوُّر وهو الأمر الواقع في مُعظَم البلدان، من شأنه أن يُحطِّم اتحاد طبقة العُمال الصناعيين أو وضعهم ككتلة مُتحِدة، وذلك لتداخُل علاقاتهم بالطبقات الأخرى.

(جـ) تنبَّأ ماركس بأن انتصار البروليتاريا ومَجيء الشيوعية سوف يتبعه حتمًا المجتمع اللاطبقي، وليس هذا محتومًا، لا نظريًّا ولا تطبيقيًّا؛ نظريًّا، سوف يتَّحد البروليتاريون ليواجِهوا البرجوازيين، ولنفترض أنهم انتصروا وابتلعت البروليتاريا البرجوازية، فلن يعود أمامها خطر تخشاه وتتَّحد لتواجِهه، بل الأدنى إلى المعقول أن الصراعات والمشاكل الخاصة بالبروليتاريا ستنشأ داخلها فتُقسِّمها إلى طبقات من جديد، ثم إنه في حالة انتصارها سوف يقفز إلى السلطة قادة الحركة الثورية ويُشكلون طبقة الحُكام الجُدد في المجتمع الجديد. إنه مُجرد نوع جديد من الأرستقراطية والبيروقراطية. هذا ما تحقَّق في المجتمعات الشيوعية، ولُوحظ البَون الشاسع بين طبقة الحُكام وطبقة المحكومين.

(د) تنبَّأ ماركس بأن تراكُم فائض القيمة سوف يُؤدِّي إلى زيادة بؤس العمال، زيادة في شدته أي في شدة بؤس العامل الواحد، وزيادة في مداه أي بؤس عدد أكبر من العمال؛ وأكد ماركس أن البؤس مادي وأيضًا معنوي، فاستغراق العامل في عمله الشاق الذي يغترب عنه من شأنه أن يزيد من بلاهة العامل ومن تشويه قُواه العقلية.

فهل حدث هذا؟ وهل زادت بلاهة العمال؟ كلا بالطبع، بل العكس تمامًا هو الذي حدث؛ جزء من فائض القيمة الآن يُستغل في إقامة مجتمعات سكنية ونوادٍ اجتماعية ورياضية وأنشطة ترفيهية للعمال. تطورت النظم التربوية الحديثة، وأصبح التعليم حقًّا لكل مُواطن، برجوازي أو بروليتاري. وتفجرت وسائل الإعلام المسموعة والمرئية التي تشُد الطبقات كلها في اللحظة نفسها للمادة الإعلامية الواحدة، ثم أتت ثورة المعلومات العظمى وثورة الإنترنت التي جعلتها مُتاحة للجميع بكبسة زر.

كل هذا فضلًا عن الصورة التكنولوجية التي أدت إلى إنتاج بالجملة، فجعلت كماليات كثيرة — فضلًا عن الأساسيات — في متناول كل الطبقات. والنتيجة هي نمو الوعي العمالي، وباتت طبقة العمال تُسقِط حكومات وترفع أخرى، وتطور التكوين الثقافي لطبقة البروليتاريا، ولدرجة لم يكن ماركس يحلم بها.

(هـ) تنبَّأ ماركس بأن الشيوعية ستبدأ في أكبر الدول المُتقدِّمة تكنولوجيًّا، وبالذات إنجلترا وألمانيا، والذي حدث هو عكس هذا تمامًا؛ فقد تحقَّق أول انقلاب شيوعي في دولة كانت مُتخلفة تكنولوجيًّا، هي روسيا التي استبعدها ماركس تمامًا على الرغم من علاقته بالمُفكِّر باكونين (١٨١٤–١٨٧٦م) ممثل الفكر الاشتراكي في البرجوازية الروسية، وأعقبت روسيا دولة أكثر تخلُّفًا هي الصين. وفي الربع الثالث من القرن العشرين توالت انقلابات شيوعية في دولة مُتخلِّفة كاليمن الشمالية وأفغانستان.

(و) تنبَّأ ماركس باضمحلال الرأسمالية وبالتالي مَجيء الشيوعية لتحُل مَحلها، ولكن الرأسمالية التي عرفها ماركس وحلَّلها هي رأسمالية عدم التدخُّل، أي الرأسمالية الحرة حريةً مُطلقة والتي لا تسمح بأي تدخل أو فرض قيود؛ فحتى لو تدخلت الدولة فهي — تبعًا لنظرية ماركس — أداة البرجوازية ولن تتدخَّل إلا لحمايتها والإبقاء عليها. والأمر الواقع الذي كذَّب نبوءة ماركس هو أن مثل هذه الرأسمالية اختفت تمامًا فعلًا، ولكن لم تكُن الاشتراكية هي البديل الوحيد الذي حل مَحلها دائمًا. في مُعظم البلدان حل نظام الرأسمالية الخاصة المُقيَّدة، أو نظام مُختلَط يجمع بين المِلكية الخاصة والمِلكية العامة، وحتى في أكثر الدول رأسماليةً تتدخَّل الحكومات بإرشاد والتوجيه والتخطيط والتحريم والإلزام، ومنح التسهيلات ورفع الجمارك والضرائب، وحماية حقوق العُمال وشملهم بالضمانات والتأمينات الاجتماعية والمَعاشات والتأمين ضد البطالة، بل أصبح للعُمال حق الإضراب عن العمل وإجبار أصحاب رءوس المال على رفع أجورهم.

وكانت السويد هي التي قامت بأُولى الخطوات الحاسمة في هذا الطريق حين حددت ساعات العمل بثمانٍ وأربعين ساعة في الأسبوع. لقد عاش ماركس حتى رأى بعض الإصلاحات في أحوال العُمال، لكنه لم يرَ في هذا تفنيدًا لنبوءته، بل إيذانًا بانهيار الرأسمالية.

وكان ماركس في هذا قصير النظر؛ فالتعديل التدريجي والحلول التوفيقية التي أنجزت الكثير وسوف تُنجِز الأكثر، لم تكُن إلا تطويرًا لشكل من أشكال الرأسمالية وإبقاءً عليها. وإذا رأى العُمال أنهم يستطيعون تحسين أحوالهم تدريجيًّا بالتطوير السلمي، فما الذي يدفعهم إلى المُخاطَرة بثورة دموية تُدمِّر كل شيء؟!

هكذا كذب الواقع نبوءات ماركس، ليتضح أنها تُحاوِل أن تتعلْمن، وأن تجعل العلم التاريخي جدليًّا رغمًا عنه وعن الواقع التاريخي، وإذا كانت تنصَب على تحليل عملية الإنتاج الاقتصادي، فقد كان يُمكِنها أن تقتصر على وصف ماضي تاريخ الإنتاج وليس مستقبله الذي يظل في عوالم الاحتمال، وبذلك تكون وظيفة المادية الجدلية هي إيجاد منهج نقدي للمجتمع المعاصر، ولا يُمكِن أن يكون ما قاله ماركس ذا قيمة إلا إذا كان قد كفَّ عن التنبُّؤ بالمستقبل وعن تأكيد حتمية مَجيء المجتمع الشيوعي اللاطبقي.

إننا نستنبط من النظرية ما يلزم عنها من نتائج وتنبُّؤات لنُواجِهها بالواقع التجريبي، فإذا كان ثمة تطابُق ظلت النظرية حائزة للقبول، أما إذا كان ثَمة تناقُض فالنظرية في مَوقِف حرج ويتم تركها أو تعديلها. وقد تناقضت تنبؤات الماركسية إلى كل هذا الحد مع الواقع والوقائع التاريخية، ثم تصدعت البقية الباقية من أركان ادعائها السمة العلمية بعد أن حل الاحتمال — في العلم المعاصر — محل الحتمية التي تقوم عليها الماركسية وتؤكد بها مجيء الشيوعية، حين حاولت أن تتعلْمن كعلم عصرها، علم القرن التاسع عشر الذي كان حتميًّا.

إذن لم يستطع ماركس أن يُعلمِن التاريخ، ويُعلمِن مَجيء الاشتراكية، أي لم يستطع أن يكون عالمًا ناجحًا؛ فهل استطاع أن يكون فيلسوفًا ناجحًا؟

2- نقد الماركسية من حيث هي نظرية فلسفية

انتهينا من نقد الماركسية من حيث هي نظرية علمية، أي بوصفها نظرية ذات مضمون معرفي ومحتوى إخباري عن الواقع، يُمكِننا من التنبُّؤ بمُقبِل أحداثه، واتَّضح أنها حاولت أن تكون علمية ففشلت، وعلينا الآن أن نُناقِشها على الأرض التي بقيت لها، أي من حيث هي نظرية فلسفية.

إذا كان النقاش أو بالأحرى الاختبار العلمي التجريبي يعتمد أساسًا على الواقع والوقائع، فإن النقاش الفلسفي لا يُعوِّل كثيرًا على هذا. ليس يحُط من قدر النظرية الفلسفية أنها لا تنطبق على هذا العالم الفج المُضطرم؛ فالفلسفة سوف تُعنى دائمًا بتصوُّر ما ينبغي أن يكون، وربما تترك ما هو كائن للعلم. 

لكن ما هو إذن مِعيار النقاش الفلسفي والحكم على منازل النظريات الفلسفية؟ المعيار الفلسفي يتكوَّن عادةً من شقَّين؛ الأول هو الاتِّساق أي اتِّساق النظريات مع نفسها ومُسلَّماتها وقواعد منهجها، ومع مقولات المَنطِق ومقولات التفكير بعامة. أما الشق الثاني فهو قوة البرهنة والتدليل، فليس يجوز في الفلسفة إلقاء القول على أعِنته وفرض الفروض جزافًا، ولا يحِق البتة للفيلسوف أن يطرح قضية ليست بديهية واضحة بذاتها ويطلب منا التسليم بها، ما لم يكُن قد أتى بالمُسوِّغات الكافية والبراهين المُثبِتة لها. وحين نُناقِش الماركسية من هذا المنظور سنجد أنها وقعت في تناقُضات كثيرة وزلَّت قدمها في مَواطن عدة.

فأولًا: تعتمد الماركسية على الزعم بالحتمية التاريخية، أي القول إن التاريخ يسير في مَسار محتوم يُمكِن قَولبته في مَراحل أو أنماط أو إيقاعات — هي مع ماركس مَراحل جدلية — ومن ثَم يُمكِن التنبُّؤ به؛ وهذه فكرة قديمة وعتيقة، معروفة منذ أيام هيزيود وهيراقليطس وأفلاطون وفكرة اليهود عن مآل شعب الله المُختار، ولم تنقطع أبدًا من تاريخ الفلسفة، وظلت مستمِرة حتى يومنا هذا، مع فيكو وبوسويه وكوندرسيه وهيجل وشبنجلر وتوينبي … وغيرهم؛ وعلى الرغم من هذا ومن مرور عشرات القرون من عمر البشرية، لم نجدْ لها دليلًا واحدًا مُؤيِّدًا أو برهانًا مُثبِتًا، فضلًا عن انهيار دعاوى الحتمية تحت مَعاول العلم المعاصر، معاول النسبية والكوانتم، فلماذا يتصور ماركس أن العلم الاجتماعي بالذات هو القادر على تحقيق حلم العهود القديمة بالكشف عما يُخبِّئه لنا المستقبل؟ وأن يحُل مَحل الكهنوت وإنجيل العهد القديم في التنبُّؤ بمَسار التاريخ ومَآل البشر؟ ولما كانت نبوءات ماركس لم تتحقَّق، كان هو إذن نبيًّا زائفًا.

ثم إنها — أي حتمية ماركس التاريخية — جعلته يتناقض مع نفسه ومع قوله الشهير: مَهمَّة الفيلسوف تغيير العالم لا فهمه، فإذا كان التاريخ مُحددًا سلفًا بحتمية قاطعة، فكيف يُمكِن التغيير؟

إن التغيير سوف يقتصر على التعجيل بمَجيء المجتمع الشيوعي الآتي حتمًا، وليس هذا تغييرًا حقيقيًّا؛ كل ما فعله ماركس أن وضع أمامنا بديلين؛ إما أن يبقى العالم طويلًا في فوضى ونزاع وصراع، وإما أن يتَّحد العُمال ليُقيموا ثورة دموية تُعجِّل بمَجيء الشيوعية، وبالطبع ليس من المعقول أن يختار أحد الاحتمال الأول، هذا بالإضافة إلى الوسائل الدعائية الإعلامية اللاعقلانية لدرجة تمجيد العنف الذي أحاط بها ماركس الاحتمال الثاني. لقد كان ماركس مُتناقِضًا مع نفسه بوصفه فيلسوفًا عقلانيًّا حين مجَّد العنف والحرب الأهلية التي قد تُؤدي إلى دمار وخراب شامل، وإلى التضحية بجيل الثورة من أجل أجيال لم تأتِ بعد، بل ومن أدرانا أن العنف سوف يتمخَّض عن صالح هذه الأجيال المُقبِلة؟! الأدنى إلى المعقول أن يُؤدِّي إلى ضياع الحرية وإلى حكم لا يُسايِر العقل، حكم الرجال الأقوياء قادة الثورة الناجحين. ثم إن قهر الطغيان بالعنف يُؤدِّي إلى طغيان آخر، كما بيَّنت الانقلابات التي كانت تحدث كل يوم في البلدان النامية.

ولما كانت الحتمية تُلغي أي دور للإرادة الإنسانية، كانت حتمية ماركس تجعله يتناقض أيضًا مع نفسه من زاوية أخرى، مع قوله الشهير: «يا عُمال العالم اتَّحِدوا!» لكي يُخطِّطوا للثورة؛ فاتِّحاد البروليتاريا من أهم المُقدِّمات الأساسية التي استنبط منه حتمية مَجيء الشيوعية.

غير أن الحتمية التاريخية — كما هو معلوم بعامة وكما يُؤكد ماركس بخاصة — تعني أن مَسار التاريخ مستقِل عن إرادة الإنسان؛ فهو محكوم فقط بعلاقات الإنتاج، ولكن ليس هناك اتِّحاد وتخطيط من دون تدخُّل عنصر الإرادة المُوجِّهة، فضلًا عن أن الاتِّحاد يعني العقل والصحوة، والعقل المُخطِّط المُدبِّر؛ وإذا تذكرنا أن هذا سيأتي نتيجة لتفاقم بؤس العمال وازدياد بلاهتهم وتشويه قُواهم العقلية، أدركنا كيف تناقَض ماركس في تنظيره للثورة الاجتماعية.

ثم إنه رأى أن أية ثورة اجتماعية ستُؤدِّي بالضرورة إلى الشيوعية أو بالأحرى تُعجِّل بها، وليس هذا صحيحًا، فمثلًا ثورة إيران لم تُؤدِّ إلى الشيوعية.

وماركس له نظرية أخلاقية، خلاصتها أن ثَمة نمَطَين للأخلاق، أحدهما في صالح البرجوازية يُؤدِّي إلى حفاظ على الوضع القائم عن طريق تمجيد المِلكية والتفاوت الطبقي (الأخلاق اليمينية)، والنمط الأخلاقي الآخر في صالح البروليتاريا يُمجِّد التقارب الطبقي وساعات العمل القليلة لمَزيد من الحرية ونبذ المِلكية وتراكُم فائض القيمة (الأخلاق اليسارية). ويُؤكِّد ماركس على قضية مَفادها أن كل بورجوازي يعتنق القيَم البرجوازية اليمينية، وكل بروليتاري يعتنق القيَم البروليتارية اليسارية، وليس هذا صحيحًا دائمًا، وماركس نفسه برجوازي لكنه يعتنق القيَم الاشتراكية مثله في هذا مثل كثير من أنصار الاشتراكية نظريًّا وتطبيقيًّا. وهذا الحكم الماركسي تعميم بغير مُبرِّر لتأثير الوضع الاجتماعي على قيَم الإنسان، والإنسان ليس نتاجًا لطبقته فقط كما يزعم ماركس؛ فثَمة مُؤثِّرات عديدة تُشكِّل شخصية الإنسان وقيَمه.

إن التفسيرات الماركسية دائمًا تعميم لجانب واحد وإغفال لبقية الجوانب؛ فكيف يتصور أن الاقتصاد هو المُؤثِّر الوحيد على حركة التاريخ؟! والواقع أن هناك عوامل أخرى لها تأثير أقوى، كالدِّين الذي ظل العامل الأساسي لنشأة الحضارات وازدهارها وأُفولها وقيام الإمبراطوريات وسقوطها طَوال العصور الوسطى، وكالعلم وهو السبب الأساسي للثورة الصناعية التي أدَّت إلى بؤس العُمال وأيضًا إلى الاستعمار.

وكما أوضح كارل بوبر، العلاقات مُتداخِلة بين الظروف الاقتصادية وبين المعرفة، ويستحيل أن نرجع الأولى (= الظروف الاقتصادية) ببساطة إلى الثانية (= المعرفة). وإن كان يُمكِن أن نُرجِّح كِفة الأولى على الثانية؛ فلو تحطَّمت كل وسائل الإنتاج وبالتالي انتهت علاقاته، وبقيَت لدينا المعرفة، لأمكنَنا أن نُقيم الحياة الاقتصادية ثانيةً. أما لو اختفَت المعرفة تمامًا وجاءت قبيلة بدائية بكل احتياجاتها المادية والاقتصادية، فلن تستطيع أن تُقيم حياة اقتصادية كتلك التي كانت في كنَف معرفة مُتقدِّمة. المعرفة إذن — وليس الاقتصاد — هي العامل الأكثر حسمًا وهي البناء التحتي للحياة الاجتماعية.

وبكل هذا الركام من الأخطاء يُشكل ماركس أيديولوجية صارمة لمجتمع مُغلَق، أيديولوجيًّا تحدَّد سلفًا أسلوب حل كل المشاكل ومُواجَهة كل المَواقف، فلا يقبل المجتمع أية ديمقراطية ولا تبادُل آراء ولا حتى مُحاوَلة التوصُّل لحل أصيل مرِن لمُشكِلة طارئة.

إن الماركسية نظرة كلية، تفترض أنها بضربة واحدة — هي الثورة الدموية — ستقلب التطور التاريخي إلى المرحلة اليوتوبية الشيوعية، التي يتصور ماركس أنها نهاية التاريخ وخاتمة العالم.

وعلى هذا نتفهم سر دعوى «نهاية التاريخ» لفرنسيس فوكوياما التي ترددت وعلا صِيتها في العقد الأخير من القرن العشرين، فقد كان الاتحاد السوفيتي أقوى وأمضى تمثيل لتطبيق النظرية الماركسية، وتمثيلًا عينيًّا للسير في طريقها؛ وشهد النصف الثاني من القرن العشرين استِعار أُوار الحرب الباردة بين اليمين وتُمثِّله رأسمالية وليبرالية الولايات المتحدة الأمريكية والسائرون في فلكها، واليسار وقد انبرى له الاتحاد السوفيتي والسائرون في فلكه، الزاعمون أن المستقبل ملك لهم، أوَليست الشيوعية آتية لا ريب فيها؟! وعلى حين غِرة انهار الاتحاد السوفيتي، فخرج فرنسيس فوكوياما — المُفكِّر الأمريكي اليميني المُتشدِّد ذو الأصول اليابانية — ليُعلِن أن هذا هو النصر المُؤزَّر لليمين الليبرالي والقضاء المُبرَم على غريمه اليسار الاشتراكي، مما يعني أن نهاية التاريخ لن تكون الشيوعية كما زعم ماركس بل هو تلك الليبرالية والرأسمالية التي تُجدِّد نفسها، والإصلاحات المتوالية.

لسنا الآن بصدد مُناقَشة فوكوياما الذي تُثير رؤيته حفيظة العقلاء؛ لأن التاريخ ببساطة لم ينتهِ بعد، غير أن الإصلاح مثل النقد من الأفضل أن يكون على مَراحل وقائمًا على أساسِ هندسة اجتماعية جزئية تتعامل مع المُؤسَّسات الاجتماعية كل على حِدة، بالأسلوب الذي يُناسِبها، وليس بأسلوب مُحدَّد سلفًا. الاتجاهات الكلية التي تريد الإصلاح بضربة واحدة قاصمة فاصلة قد لا تُصلِح شيئًا، وقد تُؤدِّي إلى خراب أو فساد شامل، ثم إن النزعة الكلية الاجتماعية مُستحيلة منطقيًّا، فكل تحكُّم جديد في العلاقات الاجتماعية من شأنه أن يخلق مجموعة جديدة من العلاقات الاجتماعية التي تحتاج هي الأخرى إلى التحكُّم فيها، وهكذا في سلسلة بغير نهاية؛ لذلك أعلن فلاديمير إيلتش لينين القائد السوفيتي المُبرِّز أن الحزب الشيوعي السوفيتي بمجرد أن تولى السلطة لم يجِد في النظرية الماركسية أية تكنولوجيا اجتماعية أو خطط للإصلاح الاجتماعي، فكل بحوث ماركس كانت مُكرَّسة لخدمة نبوءاته التاريخية التي فشلت.

Please subscribe to our page on Google News

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15517

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *