الأحاجي في العقدة السياسية السورية


وليد عبد الحي _
ربما تكون الظواهر السياسية هي الأعقد على التفسير لفهم تفاعلات المجتمعات داخليا وخارجيا وهو ما اقر به أينشتاين حين قال أن ” السياسة اكثر تعقيدا من الفيزياء” ، فإذا اخذنا الظواهر السياسية هذه الى المجتمع العربي تحديدا ازدادت الامور التباسا،نظرا لتشابك السياسي بالنفسي والاجتماعي والاقتصادي والجغرافي والتاريخي بكيفية مرهقة للعقل ، وسأتوقف – كنموذج -عند الظاهرة السورية المعاصرة ما بعد عقد الاضطرابات من 2011 الى الآن لعرض الأحاجي السياسية الدولية لها خلال هذه الفترة:
1- احجية الاصرار الاسرائيلي على مواصلة هجماته على الاراضي السورية والتي كان آخرها اليوم في طرطوس، فمن الواضح ان عوامل عدة تساعد على مواصلة الهجمات:
أ‌- إدراك عميق لدى صانع القرار الاسرائيلي ان الرد السوري لن يكون في المدى المنظور، فالوضع الاقتصادي السوري منهك للغاية، والانغماس في اعادة الاعمار يحتاج للتفرغ الكامل ، والعمل على علاج تبعات موجات الهجرة والتهجير لا تقل ثقلا عن غيرها، والنهش التركي والكردي والداعشي لا يتوقف، كلها عوامل تجعل الطرف الاسرائيلي يميل باتجاه ترجيح عدم الرد ، ناهيك عن السوابق التاريخية منذ بدأت هذه المعضلة..ولكن ذلك يضع صانع القرار السوري في موقف حرج للغاية أمام مجتمعه وامام القوى العربية المساندة لخطه وأمام بعض قوى محوره ، لكن الارث الفينيقي والاموي (التجاري البرغماتي بطريقة معاوية) ما زال سائدا في ثقافة صانع القرار السوري ، فأيهما على حق من يطالب بالرد أو من يتفهم عدم الرد؟
ب‌- يبدو ان البيانات الروسية بنقد الهجمات الاسرائيلية على الاراضي السورية وقرار كبح نشاطات الوكالة اليهودية في روسيا املا في لجم الاصرار الاسرائيلي على مواصلة الهجمات لم تعط النتائج المرجوة، بل ان التلويح بتسليم منظومات صاروخية متطورة(اس.اس.400) لم تجد نفعا ايضا، وهذا يستدعي الاحجية الثانية وهي ما وزن القرار الروسي في اقناع سوريا بعدم الرد خوفا من تصاعد المواجهة واضطرار الروس على التصادم مع اسرائيل في ظل حجم تواجدهم الكثيف في اغلب المناطق السورية؟ ومن الواضح ان الروس ليسوا في وضع الرفاه لفتح جبهات جديدة مع استمرار الحرب الاوكرانية وتصاعد الحصار عليها، وقد يكون لايران شأن في هذا اللجم.
2- الموقف التركي : اشرت في مقال سابق الى الاحجية التركية، فمع ان للاتراك والسوريين مصالح مشتركة بحكم الضرورة لا بحكم الود الا ان العداء بينهم متواصل، فمن مصلحة الطرفين استراتيجيا لجم النزوع الكردي للانفصال او الحصول على حكم ذاتي موسع ، ومن مصلحتهما لجم الدور الامريكي والاسرائيلي في تغذية النزوع الكردي، ومن مصلحة الدولتين اجتثاث الحركات التي يتفق الطرفان على اعتبارهما حركات ” ارهابية” ، ناهيك عن ان التجارة بين البلدين كانت كبيرة ويمكن اعادتها الى مستوياتها السابقة ، كما ان تجارة الترانزيت عبر سوريا وصولا لاسواق الخليج كانت وقابلة مستقبلا لاغراء البلدين على توظيفها، بل هناك قوى سياسية تركية لا ترى في العداء لسوريا استراتيجية سليمة.
ويبدو ان تركيا بدأت تميل لفك عقدة العلاقة مع سوريا تدريجيا، ويبدو ان الجسر الايراني والروسي المشترك سيكون هو الطريق الوحيد للربط بين انقرة ودمشق، ولكن هل تكون سوريا موضع مساومة تركية ايرانية روسية ام ان التخفيف من دلالات تصريحات وزير الخارجية التركي عن “تواصل سوري تركي رسمي” هو تكتيك تركي اكثر منه استراتيجية تم اعتمادها وبدأ التنفيذ؟ ويبدو ان التضييق بعض الشيء على الاخوان المسلمين في تركيا هو بعض من نتائج الوصل التركي المصري السعودي ، وهو امر تراه دمشق في مصلحتها، وان كانت انقرة حريصة على استرضاء الدوحة في هذا البعد تحديدا، فكيف توفق انقرة بين الاقتراب من سوريا والابتعاد تدريجيا عن الاخوان المسلمين وبين علاقاتها مع قطر الحاضنة للاخوان المسلمين وطالبان وغيرها من الحركات الاسلامية الى جانب ان لتركيا قاعدة عسكرية في الدوحة ؟
3- احجية اخرى لا تقل التباسا وهي استحكام العداء القطري لسوريا، فكل التقارير الدولية تؤكد ان العمود الفقري للدعم المالي للمعارضة السورية مصدره خزائن الدوحة ( ويكفي العودة لتصريحات وزير الخارجية القطري مع رويترز في 26 نوفمبر 2016، وتصريحات رئيس الوزراء الاسبق حمد بن جاسم عن تقديم 137 مليار دولار للمعارضة السورية والمنشورة في اكثر من موقع) ، اما الضخ الاعلامي ضد سوريا فقد تكفلت قناة الجزيرة به بل وفقدت بعض من ألقها الاعلامي في تقاريرها عن سوريا التي تدنت “أحيانا” الى حد الاسفاف والعودة لنمط الاعلام المصري زمن احمد سعيد، كما لعبت قطر دورا مركزيا في تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية.
الأحجية هي: لماذا هذا الموقف القطري العدائي من سوريا ؟ اعتقد من السذاجة القول بانه دفاعا عن الديمقراطية من دولة قرووسطية يقوم الحكم فيها على الوراثة ولا تعرف احزابا او مجتمعا مدنيا بالمعنى العلمي المتداول في الديمقراطيات، كما ان ترتيبها دوليا في مستوى الديمقراطية هو 114(مائة واربعة عشر) ومصنفة بانها دولة استبدادية، وهل السبب هو في مزاحمة على دور اقليمي،فقطر لا تعدو حارة في حجمها الجغرافي والسكاني ؟ ام هو عداء غير مباشر ضد ايران وحزب الله استجابة لتمكين دورها في “دبلوماسية الانابة” المطلوبة امريكيا بخاصة ان العلاقة القطرية الايرانية متقدمة عن غيرها من دول الخليج، ام هل الامر له صلة بالعداء السوري مع الاخوان المسلمين؟ لكن مصر حطمت هذه الحركة وما زالت تعتقل مراسلي الجزيرة ومع ذلك جرت لقاءات على المستوى الاعلى بين البلدين في القاهرة، وكذلك الامر مع السعودية التي تطارد الاخوان في كل مكان، لكن اللقاءات تكررت بين الرياض والدوحة..فلماذا هذا العداء القطري لسوريا؟ هل هو تناغما مع ضغوط امريكية” ؟ وهل هناك علاقة بين اسراع قطر للاعلان عن دعم اعادة اعمار ما دمرته اسرائيل في غزة في المعارك الاخيرة وبين توجس الدوحة من تقارير عن نشاط دبلوماسي ايراني لفك عقدة العلاقة بين دمشق وحماس؟ لا يبدو ان التفسير المقنع لهذه الاحجية متوفر بشكل كاف..لكن السؤال المحتمل هو هل ستشهد العلاقة بين البلدين عودة قد تكون خجولة بعض الشيء لكنها ستتطور تدريجيا؟ فقطر التي ترتب المفاوضات بين اطراف الصراع في التشاد(البعيدة جدا) وفي افغانستان وقبلها في اماكن عديدة ليس بينها وبين قطر تلك الروابط الاستراتيجية نجدها عاجزة عن تقديم حجة واضحة لعدائها المستحكم لسوريا…

Please subscribe to our page on Google News

SAKHRI Mohamed
SAKHRI Mohamed

أحمل شهادة الليسانس في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، بالإضافة إلى شهادة الماستر في دراسات الأمنية الدولية من جامعة الجزائر و خلال دراستي، اكتسبت فهمًا قويًا للمفاهيم السياسية الرئيسية، ونظريات العلاقات الدولية، ودراسات الأمن والاستراتيجية، بالإضافة إلى الأدوات وأساليب البحث المستخدمة في هذا التخصص.

المقالات: 15244

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *