The association of thought about Malik Bin Nabi
(reading the starting points and effectiveness of the curriculum)
د. ناصر هواري. أستاذ متعاقد/جامعة ابن خلدون تيارت، الجزائر
Dr . Naceur Houari /Maitre contractuel /université Ibn Khaldoun ,Tiaret , Algérie
مقال نشر مجلة جيل العلوم الانسانية والاجتماعية العدد 68 الصفحة 45.
ملخّص :
تبحث هذه الدراسة في اجتماعية الفكر عند مالك بن نبي باعتباره أحد المفكرين الذين وظفوا المنهج الاجتماعي في طروحهم، من خلال الوقوف على منطلقات هذا المنهج، والأسباب التّي جعلت من ابن نبي يختار المنهج الاجتماعي كأداة للمقاربة، وكذا الوقوف على بعض القضايا التّي عالجها مالك بن نبي في ضوء المنهج الاجتماعي، فهو يرى أن المجتمع وحده كفيل بتحقيق مقومات الحضارة، وأنّ أي نشاط للفرد لا يمكن أن يكلّل بالنجاح ما لم يكن في إطار المجتمع لأنّه الحاضن له، ومن هذا المنطلق يقترح مجموعة من الحلول الاجتماعية بالدرجة الأولى للإقلاع الحضاري من خلال استثمار عامل الدين، والنخبة المثقفة، والتراب لتخليص المجتمع من ظاهرة التخلّف التّي يتخبّط فيها، فهل اختياره للمنهج الاجتماعي مبني على أسس علمية أم هو مجرد اختيار تغذيه الرغبة الشخصية، وهل للتكوين الفكري دور في ذلك؟ وإلى أي مدى يمكن أن يكون الاتجاه الاجتماعي لمالك بن نبي حلاّ لجميع المشكلات الحضارية التّي تعيق تقدّم الوطن نحو غد أفضل؟ في ضوء هذا الأشكال تود الدّراسة تقديم قراءة بحثية في منطلقات المنهج، وفاعليته لدى هذا المفكر.
الكلمات المفتاحية: المنهج، المجتمع، الحضارة، الفكر، الدين، النخبة.
Abstract;
This study aims to look into the association of thought about Malik Bin Nabi as one of the seductive thinkers who employed .The social approach their research by standing upon the premises of this curriculum and the reasons that made him choose the social approach as a tool for comparing and to stand upon some issues highlighted in association with the social approach .He believes that the community and pilgrimage and guarantor to achieve the elements of civilization and that any individual activity cannot be successful unless it is within the frame work of society because it is fortress and this vein proposes a set of meeting solutions its first class cultural take off by investing religion factors intellectual elite and back ground to rid society of underdevelopment phenomenon flops .So is the social curriculum choice based on scientific basis or is just a choice fueled by personal desire and whether training and intellectual role in that to what extent can the social direction of Malik bin Nabi a solution to all the civilization problems that hinder the nations progress towards a better future?
In the light of these forms the study provides a research reading on the principles of curriculum and its effectiveness with this thinker
Keywords: Curriculum ,Society ,Civilization ,Thought ,Religion ,Elite.
مقدمة:
جاء مالك بن نبي إلى الوجود في زمن كان الاستعمار الفرنسي قد بسط نفوذه على أرض الجزائر الطيّبة، فشبّ الطفل في وطن مسلوب، عاش فيه كلّ تطورات المجتمع، وتحولاته بجوارحه، من خلال مشاهداته اليومية، فانطبع في ذهنه ذلك الصراع القائم بين سلطة استعمارية تحاول بسط نفوذها الفكري، ومجتمع ما يزال متشبثا بموروثه الديني والثقافي، فولّد ذلك شعورا لدى الشّاب يدعوه للتفكير في تخليص هذا المجتمع من هيمنة الاستعمار، فكانت جلّ أفكاره منطلقها المجتمع الذي اصطبغ به فكره، ولم يقتصر فكر مالك بن نبي على توصيف الأوضاع الاجتماعية التّي يعاني منها المجتمع الإسلامي بصفة عامة، بل تعدّاها إلى طرح حلول يمكنها تخليص المجتمع من المشاكل التّي يتخبط فيها، من خلال وضعه الغايات التّي يمكن معالجتها في ضوء المنهج الاجتماعي وكذا النتائج الممكن تحصيلها جرّاء تطبيقه.
مشكلة الدراسة: تحاول الدراسة أن تجيب على جملة من التساؤلات.
ماهي المنطلقات التّي جعلت من مالك بن نبي مفكرا اجتماعيا؟ وماهي الحلول التّي يقترحها منهجه لبعث الحضارة، بدءاً بالتحرر من الاستعمار؟ وهل مازالت هذه الحلول صالحة إلى يومنا هذا؟
أهداف الدراسة: تستهدف الدراسة الوقوف على مسار تكوين المفكر مالك بن نبي، ومدى نجاحه في توصيف المشاكل التّي يتخبط فيها المجتمع الإسلامي بصفة عامة والجزائري بصفة خاصة، والترويج لنجاعة الحلول التي اقترحها هذا المفكر، والدعوة إلى تطبيقها من أجل إعادة بعث النهضة في الوطن، والالتحاق بركب الدول المتقدمة.
أهمية الدراسة: إنّ الوطن الإسلامي اليوم يقبع في مؤخرة الترتيب من حيث التقدم العلمي والتكنولوجي، رغم ما يزخر به من طاقات بشرية، ومادية بإمكانها أن تجعل منه في مقدمة الركب، لكن غياب المشاريع، والأهداف، والتخطيط، والتّي يسميها مالك بن نبي الأفكار حالت دون وصوله إلى التطور، وبقي تابعا لغيره مستوردا ما يجود به الغرب، وفيه الكثير من عوامل الهدم، من منطلق أنّ الخصم لا يعطيك عوامل التفوق، وعليك أن تصنع تفوقك بيدك، تلك هي أفكار مالك بن نبي التّي يجب أن تبعث من جديد في مختلف أرجاء العالم الإسلامي.
1- مفهوم المنهج الاجتماعي.
المنهج لغة: »نهج: طريق نَهْجٌ: بيّن واضج، وهو النّهج… ومنهج الطّريق: وضحُه… والمنهاج: الطريق الواضح، ونهجت الطريق سلكته، وفلان يستنهج سبيل فلان؛ أي يسلك مسلكه« [1].
المنهج اصطلاحا:
المنهج يعني السّمة الغالبة على مجموعة من الظّواهر الفكرية أو السّلوكية، وهو أيضا بمعنى الطّريق أو الطّريقة المحدّدة الّتي توصل الإنسان من نقطة إلى نقطة أخرى.
المنهج العلمي قوامه الاستقراء، وهو يعني تتبّع الجزئيات للوصول إلى حكم كلّي؛ أي إلى قوانين عامة.
إنّ المنهج الاجتماعي في الدّراسات هو تناول الظّواهر بمنظور اجتماعي؛ أي دراسة النّظم الاجتماعية ودراسة الإنسان في علاقته بالبيئة، والمجتمع، والثّقافة، وغير ذلك. ويتّخذ علماء الاجتماع طرقا مختلفة في تحليلهم للمجتمع الإنساني من حيث المستويات التّي يشملها التّحليل الاجتماعي، »باعتبار أنّ المجتمع يتكون من مجموعة من النّاس يؤدون أدوارا في مواقف، وجماعات، وتنظيمات وفقا لمعايير معيّنة ينتجها النّظام الاجتماعي من خلال أوجه النّشاط الإنساني المختلفة«[2].
وتتعدّد الدّراسة الاجتماعية بتعدّد المجتمعات الّتي يمسّها التحليل، فقد تكون دراسة حالة إذا كانت تستهدف مجتمعا واحدا للكشف عن العلاقات المتبادلة بين مكوّناته وتصير دراسة مقارنة إذا تعدّت الدّراسة المجتمع الواحد؛ حيث تهتم بعلاقة التشابه، والاختلاف بين المجتمعات، وكذا علاقات التأثير والتأثر بين المنظومات الاجتماعية »لقد كان المؤرّخ وعالم الاجتماع عبد الرّحمن ابن خلدون بصدد إعداد كتاب ( تاريخ العرب والعجم ومن عاصرهم في ذوي السّلطات الأكبر) حيث لاحظ الأخبار الّتي أوردها المؤرخون قبله تختلط بالأساطير، والرّوايات؛ بحيث يعدّ أمرا مستحيلا التمييز بين الصّحيح والزّائف من الأخبار التاريخية، وهنا حاول أن يصطنع منهجا علميا معينا يمكّنه من عملية التمييز بين هذه الأخبار، وكان في هذه الحالة سبّاقا إلى اكتشاف علم العمران البشري، أو الاجتماع الإنساني بلغته، وعلم الاجتماع بلغتنا؛ إذ ذهب إلى أنّ معرفة القوانين والانتظاميات الّتي تحكم حركة المجتمع هي الشّرط المسبق الذي يُعرَف من خلاله الصّحيح من الباطل فلذلك يمكن القول إن ابن خلدون اكتشف علم التّاريخ الحقيقي باكتشافه لعلم الاجتماع«.[3] ورغم أنّ المنهج الاجتماعي يتعرّض للظّاهرة في سياقها الاجتماعي؛ إلاّ أنّه تتداخل فيه الرّؤى التّاريخية، والنّفسية، والفلسفية لأنّها مجال للدّراسات الإنسانية، لأنّ المجتمع مكوّن من أفراد تصنعهم الأحداث التّاريخية، والعوامل النّفسية في إطار موروثاتهم الثّقافية والدّينية.
2- المنهج الاجتماعي عند مالك بن نبي: إنّ فكرة التغيير الاجتماعي شغلت فكر ابن نبي منذ بداية وعيه بعالم الأفكار، فمشكلة الأفكار بوصفها جزء من الوظيفة الرّسالية للمثقّف المسلم، لا يستصعب الاستفادة من أقوال سابقيه، فيستبعد من البداية فكرة البداية الصّفرية، ويتطلّب ذلك تمحيص جهود السّابقين والمساهمة في نقد المسالك الراهنة بما يفضي إلى مسلك التغيير الاجتماعي المحدد بوجهته الثقافية، وهو قول مالك بن نبي: »وعلى هذا نجد أنّ أهمية الأفكار في حياة مجتمع معين تتجلى في صورتين: فهي إمّا تؤثر بوصفها عوامل نهوض بالحياة الاجتماعية، وإمّا أن تؤثر على عكس ذلك بوصفها عوامل ممرضة تجعل النموّ الاجتماعي صعبا، أو مستحيلا«[4] فمالك بن نبي ينظر إلى الأفكار والمشكلات من منظور اجتماعي، فهو مثلا يتحدث عن ظاهرة الاستعمار؛ إذ يقول:” … لم تشهد الإنسانية تعطشا عارما إلى الذهب، كما كان ذلك بعد اكتشاف المستعمرات، ورغم ذلك فنحن لا نريد أن نصدر حكما أخلاقيا، بل إنّنا ننظر إلى المسألة نظرة اجتماعية«[5]، فهو يرى أنّ الصعوبات في مجتمع ما يصنعها الفرد بدوره في هذا المجتمع، فهذا الفرد لا يتغيّر بوصفه كائنا حيا في حدود التّاريخ، وإنّما يتغيّر بوصفه كائنا اجتماعيا تغيّره الظّروف، لأنّ التّاريخ لا يمكنه أن يغيّر شيئا في التّكوين المادي للإنسان لكنّه يستطيع أن يزيد، وأن ينقص من ميزاته الاجتماعية، وفعاليته في هذا المجتمع، ولذلك يجب أن يُنظَر إلى الإنسان ومشاكله الاجتماعية من جانب فعاليته دون إغفال جوانبه الأخرى، فإذا كان الإنسان هو مصدر الصعوبات والمشكلات التي تعترض المجتمع؛ فإنّ تأثيرها يبدو عليه باعتباره عنصرا من هذا المجتمع.
لذلك فالمسألة في نظر مالك بن نبي هي قضية مجتمع وليست قضية فرد، لأنّ المصاعب والمشاكل التي تهاجم الفرد وتعترضه في الطريق ليس مصدرها تكوينه المادي الخاص، ولكن صلته بالمجتمع الّذي بدوره يجب أن ينظر إلى الفرد كعنصر فعال فيه، وليس مجرد كائن بشري وفي شان ذلك يقول: »المجتمع المتحضر يكفل الضمانات للفرد مهما كانت قيمته، والمجتمع المتأخر لا يقدم الضمانات ولا يمكنه تقديمه لأنّ الحياة تتكامل بوصفها كلاّ … «[6] فالتّاريخ هو تسجيل لحركات مجتمع معين، وعملياته المختلفة، والإنسان باعتباره هو محرك هذه التّحوّلات والتّفاعلات بكونه معادلة شخصية صاغها التّاريخ، وأودعها تجارب سابقيه، وعادات ثابتة تحدّد موقف الفرد أمام المشكلات بما يكون لهذا الموقف من القوة أو الضعف من الاهتمام، أو التهاون من الضبط أو عدم الضبط، ولذلك يجب أن ينظر إلى هذا الفرد من خلال العودة إلى ماضيه لمعرفة مدى صلاحيته في العمليات الاجتماعية، والمشروعات المخطّطة القائمة عليه، وما يمكن تعديله فيه حتّى يصبح منسجما مع ضرورات الخارج، وحاجات الداخل، فالمجتمع نفسه هو مصدر التطوّر والنهضة الحضارية التّي يحدثها التغيير من خلال العلاقات بين أفراده إذ يعرِّف مالك بن نبي المجتمع »بأنه الجماعة التي تغير دائما خصائصها الاجتماعية بإنتاج وسائل التغيير مع علمها بالهدف الذي تسعى إليه من وراء هذا التغيير«[7] .
فالمجتمع عند ولادته يجب أن يبدأ أولا ببناء شبكة العلاقات الاجتماعية بين أفراده ضمن كيان ثقافي، لأنّ المجتمع يتكون من أشخاص وأفكار وأشياء وغنى المجتمع يقاس مبدئيا بما فيه من أفكار لا بما فيه من أشياء، ولكن الأفكار وحدها لا تكون فعالة إلا بوجود شبكة علاقات متينة بين أفراده. »والمجتمع كما يري مالك بن نبي يتراوح في كثافة شبكة علاقاته الاجتماعية بين حدين : الحد الأول شبكة علاقات اجتماعية يكون فيه المجتمع في دروة نموه، ويكون كل فرد مرتبطا عنده بمجموع أعضاء المجتمع، وأمّا الحد الثاني فهو حالة المجتمع المتفسخ الذي تحول إلى أفراد لا رابط بينهم«[8].
فأفراد المجتمع تجمعهم الروابط الاجتماعية على رقعة ترابية يصفها التاريخ عبر الحقب الزمانية لذلك يعوّل مالك بن نبي على شروط ثلاثة يجب أن يتوفر عليها المجتمع لبناء حضارته، ويربطها دائما بالسياق الاجتماعي، فالإنسان بمفرده لا يمكن أن يؤدي شيئا بمعزل عن المجتمع؛ لأنّ الحضارة لا تبنى باستيراد منتوجات حضارية موجودة وتكديسها، وإنّما بما تنتجه عبقرية المجتمع، ولا يتأتّى ذلك إلّا بتوفير العناصر الثلاثة وإعطائها حلّا في إطار المجتمع وهي: الإنسان، وتحديد شروط انسجامه مع سير التاريخ، مشكلة التراب وشروط استغلاله في العملية الاجتماعية، مشكلة الوقت وبث معناها في روح المجتمع ونفسية الفرد.
فمالك بن نبي يرهن وجود الحضارة بهذه الشروط الثلاثة، لأنّ الحضارة هي الحاضنة للتقدم، وهي المحيط المناسب لإشاعة ثقافة العلم. وإيمانا من مالك بن نبي أنّ المجتمع هو من يصنع العبقرية والحضارة بما ينتجه من أفكار في إطار المقومات الثلاثة التّي أعدها شروطا للإقلاع الحضاري، جاءت جهود مالك بمنظور اجتماعي لأنّه يرى أنّ وظيفة المجتمع تتجاوز حفظ النوع وتتعداه إلى مستوى أعلى فيقول: »إذا قررنا أنّ المجتمع وظيفته حفظ كيان الفرد، وتحقيق أهداف جماعته فإنّ هذه الأهداف في مستوى الحشرات حفظ النوع، ولكنّها في مستوى الإنسان تفوق ذلك ، فالقضية عن المجتمع الإنساني ليست قضية حفظ النوع، لأنّ التناسل قد وفرته الحياة الطبيعية، فالإنسان يعيش لأهداف أخرى والمجتمع الإنساني يقرر فكرته في مستوى آخر، ليس مستوى البقاء، ولكن مستوى تطوّر النوع ورقيّه، هذه هي حقيقة المجتمع التّي يبني عليها كيانه«[9] وبالعودة إلى فكرة التغيير التّي يجب أن يزرعها المثقف، إنّها إحدى واجباته تجاه مجتمعه، فقد حمل مالك بن نبي على عاتقه هذا الواجب فانطبعت أفكاره بهذا الطابع الاجتماعي؛ لأنّها تحمل الوصف، والتحليل للظواهر التّي تميّز المجتمع مقترحا معها الحلول التّي يجب أن تكون نابعة من ذات المجتمع في إطار محيطه الثقافي، والديني ليبني حضارته؛ لأنّ بناء الحضارة في الحقيقة يتوقف على قدرة المجتمع على حلّ مشكلاته التّي تعيقه، وتذليل الصعوبات التّي تقف دون نموه، وتقدّمه، ومن هذا المنطلق كانت جهود مالك بن نبي تدور في فلك عنوان جامع هو مشكلات الحضارة.
3- أسباب ودوافع انتهاج مالك بن نبي للمنهج الاجتماعي: إنّ المتتبّع لسيرة مالك بن نبي الذاتية، ولعديد مؤلفاته التّي يغلب عليها طابع المنهج الاجتماعي يتبدّى له تأثر الرجل بحالة المجتمع، ووعيه بدوره كمثقف مسلم في هذا المجتمع، ولذلك يمكن أن نحصر دوافع مالك ابن نبي إلى هذا النهج في جانبين، جانب ذاتي يتمثل في شخصيته، وتكوينه الفكري، وجانب اجتماعي يتمثل في حالة المجتمع، وما يعانيه من تخلّف.
أ- الجانب الذاتي: يتمثل الجانب الذاتي للمفكر في شخصيته كإنسان مليء بالعواطف، والأحاسيس تجاه المجتمع، والقضايا الإنسانية من جهة، وفي فكره، وما ساهم في صقل هذا الفكر من ثقافة، ومطالعة، ونتاج التأثر بها من جهة أخرى.
إنّ مالك بن نبي يجمع في شخصيته خطّين، فهو من جهة شخصية عاطفية يهيم بالتجريد، وأحلام الفلاسفة إذ يقول عن نفسه: »فأنا شديد التأثر بالحدث، وأتلقى الصدمة بكلّ مجامحي، وبانفعالية تستطيع أن تنتزع مني دموع الحزن حين يثير الحدث الحبور من حيث المبدأ «[10] فهو هنا يفصح عن عاطفة جياشة تحركها الأحداث، وقد ذكر أنّه بكى لهزيمة الجيش الفرنسي أمام الألمان رغم كرهه للفرنسيين بقوله: » لقد بكيت لهزيمة الجيش الفرنسي، وفي ذلك اليوم رأيت في ذاتي عنصرا آخر كشف كلّ التعقيد في ضمير مسلم«[11]، وقد يكون قاصدا بالعنصر الآخر ذلك التناقض، وعدم التوازن بين القيم الأخلاقية، وتطبيقاتها على الواقع، فكرهه للاستعمار الفرنسي، وهزيمته التّي كانت مثار شفقة في نفسه لما يتميّز به من أحلام الفلاسفة، فهو يتصوّر حلولا لوضع العالم الإسلامي، ويحلم بتجسيدها، ويحاول الإسهام فيها فقد كتب رسالة إلى سفارة اليابان يدعو حكومتها للتدخل باسم التضامن الأسيوي لحل الخلاف بين الملك عبد العزيز آل سعود، وإمام اليمن حفاظا على الجزيرة العربية من التمزق، ومن جهة أخرى نجد في مالك شخصية علمية صارمة، لها معرفة دقيقة وارتباط شديد بواقع الأمّة الإسلامية، ومن خلال اطّلاعه الواسع على الثقافة الغربية يطرح المقارنات، والتحليلات، ويهتم بكلّ جزئية، وبكلّ حادثة، ويبدأ عملية التحليل، والتركيب، فعندما أراد القيام بعمل علمي مع ابن الساعي* أخفقت المحاولة فعلّق على ذلك قائلا: » لم أكن أعلم أنّ العمل الجماعي بما يفرض من تبعات؛ إنما هو من المقومات التي فقدها المجتمع الإسلامي، ثمّ لم يسترجعها بعد خصوصا بين مثقفيه«.[12]
ويقول في موضع آخر في تحليله للاستعمار: »من الواضح أنّ الاستعمار في صورته هذه يعد عنصرا جوهريا في فوضى العالم الإسلامي، فهو لا يدخل فقط بمقتضى العلاقة المباشرة بين الحاكم والمحكوم، بين المستعمِر والمستعمَر، وإنّما يتدخّل في صورة خفية في علاقات المسلمين بعضهم ببعض«[13]، هذه شخصية مالك التّي أثرت في الآخرين جعلت الكثير ممن عاشرهم يرون فيه الإنسان قبل المفكر، يقول فيه عبد العزيز الخالدي عند تقديمه لكتاب شروط النهضة: »ليس مالك بن نبي في الواقع كاتبا محترفا، أو عاملا في مكتب منكبا على أشياء خامدة من الورق والكلمات، ولكنّه رجل شعرَ في حياته الخاصّة بمعنى الإنسان في صورتيه الخلقية، والاجتماعية، وتلك هي المأساة التّي شعر بها مالك بن نبي بكل ما فيها من شدّة، ولكلّ ما صادف في تجاربه الشخصية من قسوة، وهي التي تقدّم المادة الأساسية لمؤلفاته سواء الظاهرة القرآنية، أم الدّراية التي يقدمها اليوم لأنشودة بهيجة يحيي بها كوكب المثالية الذي يسجل فجر الحضارات منذ العصور المظلمة، ولكن هذه الأنشودة ثمرة عقل يحاول فتح أفاق عملية للنهضة العربية الإسلامية التي يطالب بها في الجزائر، وهو يكشف لنا عن مفهومها الأليم فإذا كان دقيقا حساسا إلى هذه الدرجة، فليس معنى ذلك أنه رجل عقل مغرم بالتجريد، أو أنّه أديب فنان مولع بالصور والجمال، فإنّ الذي يأسره ويستولي عليه إنّما هو الرعشة الإنسانية … الألم، الجوع، الجهل«[14]
ويقول فيه الدكتور محمد المبارك عند تقديم كتاب (وجهة العالم الإسلامي) »إنّ مالكا لا يبدو في كتابه هذا مفكّرا كبيرا وصاحب نظرية فلسفية فحسب؛ بل داعيا مؤمنا يجمع بين نظرية الفيلسوف المفكر، ومنطقه، وحماسة الدّاعية المؤمن، وقوة شعوره، وإنّ أثاره في الحقيقة تحتوي تلك الدّفعة المحركة التّي سيكون لها في بلاد العرب أولا، وفي بلاد الإسلام ثانيا أثرها المنتج، وقوتها الدافعة، وقلّما استطاع كاتب مفكر أن يجمع كما جمع بين سعة الإطار، والوقفة التّي هي موضوع البحث، وعمق النّظر، وقسوة الإحساس، والشعور، إنّي لا أقول إنّه ابن نبي؛ ولكنّي أقول إنّه ينهل من نفحات النّبوة، وينابيع الحقيقة الخالدة«[15].
كما كان مالك بن نبي يملك شخصية أخلاقية ملتزمة بالسلوك الإسلامي، ظلّ يذكر دائما الدّور التربوي الذي تركته في نفسه، وسلوكه جدّته لأمّه حين أخذت بيده طفلا إلى عالم الخير، والقيم الإسلامية، ويذكر من عايشه في القاهرة أنّه كان يميل إلى البساطة في العيش لا يهتم كثيرا بمأكله، وكان حسن المعشر يحترم الصداقة، ويهتم كثيرا بضيوفه، كما كان ميالا للجمال محبا للنّظافة، والنّظام، ويقر بالفضل في ذلك لزوجته الفرنسية، كما تميّز في حياته بعلو الهمّة، فقد واجه صعابا كثيرة سواء في الجزائر، أم في فرنسا، وعانى كثيرا في البحث عن عمل، ولم يضعف، ولم يذعن، ولم يستسلم، وظل صابرا متجلدا طويل النفس، ولعلّ نشأته في أسرة متدينة، ومكافحة ضد الاستعمار صنعت منه هذه الصفات، فجدّه هاجر إلى ليبيا أنفة من الخضوع إلى الاستعمار، » وكان جدي وجدتي يتشبثان برصيدهما التاريخي الأصيل، بتلك التقاليد، وبهذه الروح استطاعت البلاد أن تعود لصياغة تاريخها من جديد«[16].
هذه السّمات البارزة في شخصية هذا المفكر وبعض الشهادات حوله سمات جعلت منه مصلحا اجتماعيا ألمّ بالعديد من جوانب المجتمع الإسلامي، وحلّلها، ووصف لها الحلول النّاجعة، وما كان ليقوم بذلك إلاّ لأنه كان يشعر بأنّه جزء من هذا المجتمع وعليه واجب اتّجاهه.
ب- تكوينه الفكري وثقافته الإسلامية: ولد مالك بن نبي في عصر سمع فيه قصص الاحتلال الفرنسي المرعبة، وعاش مأساة بلده؛ حيث الاستعمار يخطط لشلّ فاعليته، وتحويله إلى فريسة يسهل التهامها، فقد مارس الاستعمار كلّما من شأنه إن يطمس هوية هذا المجتمع، وهذا الوطن، وقد عاشها ابن نبي ككلّ الجزائريين، يقول الأستاذ محمد المبارك في تقديمه لكتاب وجهة العالم الإسلامي:»إن المؤلف نفسه عانى هذه التجربة فكريا ونفسيا لأشدّ ما يعانيها إنسان مثقف مرهف الشعور والحس«[17] لقد عاش مالك هذه المأساة يوما بيوم في المدرسة الفرنسية، وفي تبسة وفي قسنطينة، ورأى كيف بدا المجتمع يتحوّل عن فطرته، وكيف صارت السّيادة للصعاليك، بمساعدة الإدارة الفرنسية، وكيف بدأت ملكية الأراضي تنتقل من أبناء البلد إلى المستعمر بواسطة اليهود، كما عاش في فرنسا مأساة الجالية الجزائرية، أو كما يسمونهم أبناء المستعمرات، من الأمية، والجهل، وشظف العيش، والنّظرة الدونية للمجتمع الأوروبي إليهم، هذه التجربة المرّة، وهذه الشّهادة على الحالة الاستعمارية أعطت مالكا القدرة الفائقة على تحليل نفسية المستعمِر، والمستعمَر، واكتشاف أساليب الاستعمار الماكرة الخبيثة »نراه يستغل جهل الجماهير ، لينشئ حول الفكرة منطقة فراغ وصمت لعزلها عن المجتمع «.[18]
كلّ ذلك ولد عند مالك فكرة عن الاستعمار، كما أنّ مالكا كان من بين أبناء الجزائريين الذين رافقهم الحظّ في دخول المدرسة حيث بفضل قراءته المتعددة الّتي كانت إلى جانب تجاربه الحياتية موجها أساسيا لأفكاره، فقد قرأ كتبا في علم النّفس، والاجتماع، والأدب، وكلّ ما وصلت إليه يداه من صحف، ومجلات عربية، وفرنسية كانت تصدر أيّام دراسته. »لقد قرأ مالك لأدباء فرنسا مثل: لامارتين وللأمريكي جون ديوي كتابه(كيف تفكر) واطلع على كتابات المستشرقين ككتاب (الإسلام بين الحوت والدب) لأوجين يونغ وكتاب (تحت ظلال الإسلام الدّافئة) لإيزابيل هارت«[19] .
رغم تعمقه في الفكر الغربي، لكن ذلك لم يكن ليأسره في تلك الحضارة الغربية، وهنا كانت ثقافته الإسلامية هي التّي صنعت الفارق في عموم فكره، فمالك بن نبي نفسه يعترف في مذكراته أنّ ما كان يردّه عن الغلوّ في الاتجاه الفكري الغربي إنّما هي دروس الفقه والتوحيد، ودروس العربية في قسنطينة، ومن قراءاته لمجلة الشهاب التّي كان يصدرها ابن باديس، ورغم الصعوبات والعراقيل التّي كانت تفرضها سلطات الاستعمار على المطبوعات العربية استطاع مالك بن نبي أن يطّلع على (الإفلاس المعنوي للسياسة الغربية في الشرق) لأحمد رضا و(رسالة التوحيد) لمحمد عبده و(طبائع الاستبداد) للكواكبي ومقدمة ابن خلدون، وبالرغم من أنّ مالك بن نبي لم يكن من حفظة القرآن الكريم والحديث الشريف إلّا أنّه كان على دراية واسعة بالتاريخ الإسلامي، وذا قدرة فائقة على فهم الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة خاصّة ما تعلّق منها بالتغيير .
مؤهلاته العلمية: إنّ دراسة مالك بن نبي للعلوم التطبيقية كان لها الأثر في أن تجعل منه يخضع كلّ شيء لمقياس دقيق في الكم والكيف مع تحديده للألفاظ والمصطلحات، حيث لا يبدو كلامه إنشائيا لملء الصفحات وتكثير سوادها، بل مختصرا دالا، ومن ذلك استعماله الصيغ الرياضية في توضيحه بعض القضايا الفكرية كمسألة العوالم الثلاثة المنتجة للحضارة التّي يعبر عنها بقوله: »وبعبارة أخرى كل من العوالم الاجتماعية الثلاثة يتفق مع الصيغة التحليلية التالية: ناتج الحضارة=إنسان+تراب+وقت«[20] وتجده يحلل الموضوع إلى عناصره الأولية ثمّ يعيد تركيبه من جديد في خطوة تنبئ أن الجانب التقني الذي يحوزه وفي ذلك يقول فيه عبد العزيز الخالدي: »وتكوين المؤلف كمهندس ساعده دون شك في التصوّر الفني للأشياء«[21]، بالإضافة إلى رحلاته فالرجل قضى حياته مرتحلا متنقلا بين بلدان مختلفة، وبيئات متباينة، ممّا أثّر في دقة ملاحظاته، وسعة معلوماته وآفاقة، فقد عاش في الجزائر وفرنسا ومصر وزار بعض البلاد العربية والتقى بأدباء ومفكرين كبار.
ج – الجانب الاجتماعي: لم يعش مالك بمعزل عن المجتمع، بل عاش مآسيه ورأى كيف كان الاستعمار يعمل جاهدا لطمس هوية هذا الوطن، وفي خضم ذلك كان يعيش مآسي المجتمع العربي والإسلامي بكل جوانحه، فكان لذلك الأثر البليغ في تكوينه الفكري، لأنّ حالة المجتمع فرضت عليه التفكير في حلول لهذه المشاكل ومنها:
ظاهرة الاستعمار: لقد عانت الشعوب الإسلامية من ظاهرة الاستعمار وما حملته عليها من ويلات، وتدهور مسّ جميع مناحي حياتها، فقد أتى على كلّ المقومات المادية والمعنوية، ولعلّ الجزائر هي أكثر البلدان الإسلامية التّي عانت من همجية الاستعمار لما أصابها منه من نهب لخيراتها المادية، بل حاول بكل الوسائل طمس هويتها، »فلم يمضي على احتلال الجزائر سوى شهران حتى أصدر إثرهما المحتل أمرا في 08 سبتمبر1830 يقضي بالاستيلاء على الأوقاف الإسلامية التّي تموّل الخدمات الدينية، والثقافية والتعليمية والاجتماعية للمسلمين الجزائريين« فكان من الطّبيعي أن يلقى هذا الاستعمار الكره والمقاومة من طرف كل مسلم حرّ، ومالك بن نبي باعتباره فردا من هذا المجتمع الإسلامي كان ينظر إلى الاستعمار نظرتين، نظرة يتقاسمها مع جميع أفراد المجتمع وهي نظرة الضحية إلى الجاني وما تحمله من كره وبغض، أمّا نظرته الثانية فهي نظرة المثقف المسلم الذي يحلّل الظاهرة ويبحث في أسبابها وتداعياتها وما يترتّب عنها، فمالك بن نبي يرى أنّ الاستعمار لا يمارس استنزاف الخيرات المادية للمجتمع فحسب، بل يتعداه إلى ما هو أخطر في كيان المجتمع المسلم، إنّه يمارس معركة صراع فكري في هذه المستعمرات، » إنّه سوف يواصل في الوقت نفسه حربه ضد الفكرة المجرّدة بوسائل ملائمة أكثر مرونة، ويستعين من أجل ذلك بخريطة نفسية للعالم الإسلامي، وهي خريطة تجري عليها التعديلات الضرورية في كلّ يوم. يقوم بها رجال متخصّصون مكلَّفون برصد الأفكار، إنّه يرسم خططه الحربية ويعطي توجيهاته العلمية على ضوء معرفة دقيقة لنفسية البلاد المستعمرة معرفة تسوّغ له تحديد العمل المناسب لمواجهة الوعي في تلك البلاد حسب مختلف مستويات الطبقة المثقفة، فيقدم للمثقفين شعارات سياسية تسد منافذ إدراكهم إزاء الفكرة المجردة«[22].
فالبلاد الإسلامية المستعمرة يمارس فيها الاستعمار جريمة بشعة هي قتل الوعي لدى هذه الشعوب، فغريزة حب السّيطرة هي قبل كل شيء سيطرة فكرية، فإذا تحقّقت الهزيمة الفكرية فالهزائم الأخرى تتوالى بشكل حتمي، فالاستعمار كما يعنيه مالك بن نبي هو استعمار مشترك هدفه إخضاع الملايين من البشر لسطوته وسلطانه وتسخيرهم لخدمته»وهنا نجد سمة الاستعمار المشترك، اعني الاستعمار الّذي يمر من المرحلة المحلية إلى الدّولية بالتّجاهل نفسه وعدم الاكتراث بمطامح وآلام ملايين المستعمَرين«[23]
فالاستعمار بالإضافة إلى سيطرته على كل ما هو مادّي في البلاد المستعمرة، يسيطر أيضا على حياة الشّعوب وأفكارهم، ويوجهها حيث أراد، فهو يتدخّل في أتفه تفاصيل الحياة اليومية» هكذا يحدق الاستعمار بحياة المستعمرين من كلّ جانب ويوجهها توجيها ماكرا لا يغفل أتفه الظروف وأدق التفاصيل«[24].
ولذلك يُعتبَر عنصرا جوهريا في فوضى العالم الإسلامي الّذي لا يمكنه أن ينهض من سباته ويبلور فكرة التحرّر؛ حيث أنّ الاستعمار ذاته مثلما هو سبب خنوع هذا المجتمع المسلم واستسلامه، فهو أيضا مدعاة التوحد والنهوض؛ إذا تبلورت فكرة التخلّص من الاستعمار لدى الشّعوب الإسلامية.
ظاهرة التخلّف: يعتبر التخلّف أحد المعضلات التّي يتخبّط فيها العالم الإسلامي، وهو الحجرة العثرة التّي تحول دون إقلاعه باتجاه الحضارة، فإذا كان التخلّف يبدو للعامة أنّه نتيجة السياسة الاستعمارية التّي تعرّضت لها جلّ الدول الإسلامية؛ إلّا أنّ مفكرا مثل مالك بن نبي وإن سلمنا أنّه يشترك مع العامّة في نفس النظرة؛ فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ ظاهرة التخلّف في حدّ ذاتها قد شغلت فكره فانكب على دراستها وتحليلها ورصد حركة هذا المجتمع المتخلّف والغوص في نفسية أفراده، ولذلك نجد مالك بن نبي ينقل هذا المجتمع الذي سلّم بحتمية واقعه ولا يحاول تغيير وضعه، من هنا ربط مالك بن نبي قضية التنمية بإرادة المجتمع من منطلق قوله تعالى:﴿ إنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡم حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾[25] فكلّ عقبة تسهل أمام إرادة التغيير .
إنّ مالك بن نبي لا ينظر لظاهرة التخلّف من جانبها الاقتصادي فقط، بل من كونها قضية إنسان لأنّه لبّ المشكلة، فحلّ المشكلة الاقتصادية منحصر في الوعي الاقتصادي، ويتجلّى هذا الوعي في التكوين الشّخصي للفرد، وتغيير عاداته، ونسق نشاطه، ومواقفه أمام المشاكل الاجتماعية، كما يتمثّل من جهة أخرى في الانتقال بهذا الفرد من كونه آلة في الاقتصاد الاستعماري إلى وضع إيجابي فعّال، فمالك بن نبي يميّز بين عالمين متباينين على سطح خريطة العالم، عالم جنوبي تقبع أكثر دوله تحت التخلّف والفقر، وعالم شمالي تمثله الدول النامية التّي تسيّر الاقتصاد وتوجّهه حسب مصالحها، أمّا الدّول المتخلّفة فهي لا تعدو أن تكون أسواقا ومصادر لعجلة هذا الاقتصاد، ولا يمكن القضاء على ظاهرة التخلّف إلّا إذا استخدم المجتمع الإنسان، والتّراب والزمن لاستحداث تشكيل تنموي يكون فيه تقديم الواجب على الحق، حتّى يتسنّى له خلق وسائل حضارته ونموه، إذ لا يكفي المجتمع لكي يصنع تاريخه أن تكون له حاجات بل ينبغي أن تكون له وسائل ومبادئ تساعده على الخلق والإبداع.
القابلية للاستعمار: إنّ مصطلح القابلية للاستعمار الذي وظّفه مالك بن نبي في تحليله لنفسية المجتمع لا يجب أن ننظر إليه من زاوية سلبية، فالأمّة الإسلامية قد ضحت بالنفس والنفيس وخاضت معارك بطولية في وجه المستعمر كما أنّها تشحذ كلّ إمكانياتها للنهوض من جديد، وإذ لا نشك في صدق مالك بن نبي اتجاه أمته الإسلامية وغيرته عليها وبغضه للاستعمار، ولذا سيستلزم الأمر منّا أن ننظر إلى هذا المصطلح من زاوية إيجابية لأنّ مالك بن نبي يريد أن يحلّل ظاهرة الاستعمار ويردّها إلى مسبّباتها الأولى، والتّي لا تنحصر في قوة المستعمر، وإنّما في تقاعس المسلمين ولا مبالاتهم، لأنّ العالم الإسلامي كان يعيش في فوضى اجتماعية ميّزها التقاعس عن أداء الواجبات، مع قلّة العلم والمعرفة أمام مكر وخداع المستعمر، وإنّ توهّم المسلمين للقوة الخارقة للعدوّ هو الذي دعاهم للاستكانة وقبول الوضع المتخلّف، فكانوا فريسة سهلة أمام الغزاة، فكثير من المسلمين يعلّقون فشلهم وضعفهم على المستعمر، وهم بذلك يلحقون بأنفسهم أشدّ الضرر، قبل أن ينظروا إلى ما ألحقه بهم المستعمر من خسائر، »فقد ظلّ العالم الإسلامي خلال قرون طويلة متجمدا في أشكال متعدّدة، وهي التّي أدت إلى وجود القابلية للاستعمار في مجتمع ما بعد الموحدين الذي أدى إلى وجود الاستعمار واليوم يتحرّك العالم الإسلامي نحو الغد المأمول«[26], هكذا أراد مالك بن نبي أن يبين أنّ القابلية للاستعمار نبعت من المجتمع الذي انبهر بمدنية العدو، وأرهبته قوته، لأنّه لم يكن يملك ما يجابهه به، فرضخ للأمر واستكان، والحقيقة أنّ فقدان وسائل المجابهة صنعه التخلّف الحضاري.
4- غايات وأهداف مالك بن نبي من هذا المنهج: إيمانا من المفكر مالك بن نبي أنّ النّهضة يصنعها المجتمع بالتّغلب على مشاكله الّتي يجب أن تخضع لتحليل دقيق وموضوعي حتّى يستطيع إيجاد الحلول المناسبة لها وتلك مهمة النّخبة المثقفة الّتي لا يجب أن تعيش بثقافتها في برج عاجي لا تصل إليه أيدي عامة الجماهير، بل ينبغي أن تكون هذه النّخبة القاعدة التّي ترتفع عليها الجماهير إلى مستوى الحضارة، وباعتباره أحد أفراد هذه النّخبة أخذ مالك على عاتقه هذه المهمة فانطبعت أعماله بالتوجه الاجتماعي في تحليل بنية المجتمع » فقد حلّل النّهضة الإسلامية تحليلا نقديا محاولا تخليصها من العقبات التي وقفت في طريقها، ومن الطريق المسدود الذي آلت إليه مسلطا عليها صرامته المنهجية التّي ترمي إلى تسليط الأضواء الكافية على المشاكل التي خلقها الاستعمار، إضافة إلى مشاكل أخذ الاستقلال، وقام بتقديم الحلول المناسبة لها«[27]
من هذا المنطلق الإصلاحي يسعى مالك بن نبي إلى إبراز ضرورة التغيير في المجتمع الإسلامي انطلاقا من مقوماته الدينية، والثقافية، واِستثمارها في البعث الحضاري من خلال عناصره الثلاثة (الإنسان، التراب، الزمن ) وذلك بإدراك
أ – دور الدين في إصلاح وبعث الحضارة : الدين في رأي مالك بن نبي هو العامل الذي تقوم الحضارة به وتتحلّل بصورة مضطردة كلّما ضعفت فاعليته » فتطوّر الإنسانية هو ما يحدث نموا في مشاعرها الدّينية المسجّلة في واقع الأحداث الاجتماعية, تلك التّي تطبع حياة الإنسان وعمله على وجه البسيطة«[28] فالدين الإسلامي هو الفاعل في سلوك الجماعة والفرد، والمحرك لهم نحو أهداف سامية تحقق خير المجتمع , لأنّ الإسلام الّذي تتجدّد قيمه روحا قرآنية تحكم كلّ حركة في المجتمع هو الكفيل بأن يعيد الدفع التحضيري إلى المؤمنين به لكي يؤَمِّنَهم ضد الانحراف الثقافــي، أو الاستلاب الفكري , ويمنحهم طاقة الثورة لصنع التقدّم بطابع تقدّمي إنسانــي .
ففي المجتمع العربي وفي العالم الإسلامي طاقات وخامات بشرية ومادية مؤهلة للعب الدور العالمي المطلوب ولكن باستثمار هذه الطاقات وفق المثل العليا، والقيم الإسلامية، وبشكل منظم يحوّلها إلى طاقات فعّالة، ويزيل عنها صفة العطالة، والكسل، وبتأثير من الفكرة والإطار الروحي تصبح هذه القدرات قوة اجتماعية فاعلة يؤدي فيها الإنسان دوره بالشّكل الّذي يليق به, هذا الأسلوب كما يراه مالك بن نبي هو الكفيل بمعالجة مشكلة ازدواج الشخصية الّذي يعاني منه الكثير بين شخصيتهم في رحاب الإيمان والعبادة، وشخصيتهم الاجتماعية التي تؤدي دورها في المجتمع دون التأثير في الشخصية الأولى، وبهذا الانفصام يختل التوازن بين ما يخصّ النّفس، وما يفعل في المجتمع لتسيير عجلته »فالمشكلة التي نواجهها إذن ذات جانبين: جانب اجتماعي وجانب نفسي, وقد أرتنا جوانب التعارف السالفة أنّه لكي تعالجها من جانبيه يجب أن تكون لدينا فكرة عليا تصل ما بين الروحي والاجتماعي، وتُجري من جديد تركيب الشخص المسلم بحيث يتماثل مع ذاته في المسجد وفي الشارع «[29] هذه الفكرة المطلوبة التي تعيد الصّلة هي الفكرة الإسلامية . »هكذا فهم ابن نبي الإسلام منقذا، والمسلم ممثلا وشاهدا، والطريق تحديث مناهج التفسير واللّحاق بركب العلم، فالإصلاح عنده بالعودة إلى مناخات يوفرها الإسلام كما كان الحال أيام السّلف الصالح «[30]
فقد أثبتت التجربة أنّ الفكرة الدينية كانت هي منبع التغيير في المجتمع نحو الأفضل قبل الموارد المادية لأنّها تعطي الأولوية لبناء المجتمع من خلال العلاقات بين أفراده، وما تتيحه من فاعلية للفرد داخل مجتمعه»فالدين الذي هو التعبير التاريخي والاجتماعي عن هذه التجارب المتكررة خلال قرون، يعدّ في منطق الطبيعة أساس جميع التغيّرات الإنسانية الكبرى وإذن فلن نستطيع تناول الواقع الإنساني من زاوية المادة فحسب«[31]والمجتمع المسلم عليه أن يعي أهمية القرآن كدستور للحياة، وذلك بالفهم والتمعّن في دلالته وإعجازه لأنّه هو الكفيل والضامن لتقدم المجتمع وتطوره.
ب- إرساء فكرة التغيير في المجتمع : ينطلق مالك بن نبي في فكرة التغيير من قوله تعالى ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍحَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾[32] لأنّ الأمر الذي يريد تأكيده هو أنّ الروح وتغييرها هو منطلق تأسيس حضارة جديدة؛ إذ أن الإنسان يمثل معادلتين , معادلة تمثل جوهره بصفة إنسان صنعه من أتقن كلّ شيء صنعا، ومعادلة ثانية تمثله كائنا اجتماعيا يصنعه المجتمع، وهي التي تحدد فاعليته في جميع أطوار التاريخ حيث لا يتغيّر فيه شيء، بل تتغيّر فعاليته من طور إلى طور؛ إذ أنّه لكي يتخلّص المجتمع الإسلامي من مشاكله يجب أن يصدر منه التغيير.
لقد وجّه مالك نقده لمسالك المسلمين في التغيير الاجتماعي؛ إذ يأخذ على مشاريع التغيير التي باشرتها الحركات الإصلاحية كونها لم تُوفَّق في تعيين أسباب الخلل؛ حيث أهملت الوظائف الاجتماعية للدين؛ إذ ليست المشكلة في أن نبرهن للمسلم على وجود اللّه بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده، ونملأ به نفسه باعتباره مصدرا للطاقة، فغياب التفكير المنهجي في التحصيل والتأسيس والنّقد لعدم مراعاة الخطة المنهجية في التغيير حيث إنّ المنهج العلمي يفرض تحليل الظواهر وفق ما تفرضه الدراسة الموضوعية لا وفق التشهي، أو الخضوع إلى سوق المعرفة، ويطرح خطّة التغيير؛ إذ تبدأ بتحرير الإنسان من عُقد النقص، والاِنبهار بمظاهر ما عند الأوروبيين، وتحريره من الترسبات الوراثية في مجال التواكل، والخرافة، وإعادة اللحمة بينه وبين قناعته وعقيدته و عمله وسلوكه، ويذلك نحدد له إطاره الحضاري في مجال الثقافة والأخلاق الاقتصادية، فنقتلع ونجتث القابلية للاستعمار من عالمه الداخلي؛ كي تنطلق طاقته لتصفيته من عالمه الخارجي وبهذا السبيل تتعدّل شخصية الإنسان، ويتم توازنه وتتعالق جوانب الروح و المادة فيها.
»فنهضة العالم الإسلامي إذن ليست في الفصل بين القيم، وإنّما في أن يجمع بين العلم والضمير، وبين الخُلق والفن، بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، حتّى يتسنّى له أن يشيّد عالمه لقانون أسبابه ووسائله وطبقا لمقتضيات غايته، إذن الذي يرد إلى العالم شبابه لا بد أن يكون إنسانا جديدا قادرا على حمل مسؤوليات وجوده ماديا وروحيا، ممثلا وشاهدا، وإنسان ما بعد الموحدين إنسان هرم في طريقه إلى الفناء، ولكن العالم الإسلامي على الرغم من ذلك لديه قدر كبير من هذا الشباب الضروري«[33]رغم الصورة السوداوية التي يرسمها مالك بن نبي لإنسان ما بعد الموحدين إلا أنّه يرى في الشاب المسلم الآمل في النهوض بالعالم الإسلامي، وخوض معركة التغيير التي تعيده إلى حلبة التاريخ من بوابة الحضارة.
ج – بعث المشروع الثقافي الإسلامي: يعرف مالك بن نبي الثقافة في كتابة شروط النهضة » بأنها مجموعة من الصفات الخلقية والقيم الاجتماعية التي يتلقاها الفرد منذ ولادته كرأس مال أولي في الوسط الّذي ولد فيه فالثقافة على هذا المحيط الّذي يشكّل فيه الفرد طباعه وشخصيته…فهي المحيط الّذي يعكس حضارة معينة، والّذي يتحرك في نطاقه الإنسان المتحضر. هكذا نرى أن هذا التعريف يضم في دفتيه فلسفة الإنسان وفلسفة الجماعة، وأي معطيات الإنسان ومعطيات المجتمع مع أخذنا في الاعتبار ضرورة انسجام هذه المعطيات في كيان واحد«[34] إنّ حملات الغزو العسكري الّذي تعرض له العالم العربي الإسلامي قد رافقتها حملات الغزو الثقافي عبر المدارس والاستشراق والتبشير الّتي جلبت إليه من الفساد والانحرافات ما لا يمد بصلة لروح الإسلام وبهذا الغزو الأوروبي الثقافي ازدادت حركة الاغتراب وقوي نفوذ الاستعمار الّذي استقرّ في عمق قناعات بعض النّاس بتأثير من الفكر الأوروبي، أمام هذه المعطيات بدأت الحاجة لمواجهة إشكالية الثقافة تتعاظم يوما بعد آخر، لأنّ الثقافة هي الّتي تهيئ المناخ الصحي اجتماعيا وتربويا، لكي تتقوّم فيها ذات الإنسان الفرد وعندها سيكون هذا الإنسان الجديد صانع الحضارة في المستقبل.
إنّ مالك بن نبي يرى المناخ المطلوب هو مناخ الروح القرآنية، والّتي فقدت أثرها العملي في حياة العرب و المسلمين، لأنّهم انفصلوا عنها في حالة ركود وجمود، أو في حالة تقليد لمادية أوروبية.
هذا المناخ الإسلامي يولد جوا ثقافيا ملائما لكل فرد يجد فيه أناه المفقودة، فالثقافة المطلوبة تحقّق الآمان للفرد أو الجماعة وتوجد ثقة بينهما بتخفيف النظرة العدائية التي أوجدتها الثقافات الأوروبية، فثقافة متجدّدة في العالم الإسلامي والعربي مطلوب منها أن تحفظ التراث من التشويه وأن تعيد صنع الحياة بنسج شبكة متماسكة من العلاقات الاجتماعية يسودها التآخي والتعاون لبناء المستقبل المتقدّم؛ لأن العزّة بعد اللّه ورسوله هي خالصة للمؤمنين العاملين.
إن الأهمية القصوى للثقافة تتمثّل في كونها حياة المجتمع وعنوان تقدمه وتطوره ورباط الوحدة بين أبنائه، وبدونها يصاب المجتمع بالتشتت والتفكك، فيتهاوى بنيانه ويسير في طريق التّخلف، وتخف فيه الحركة والنشاط، ويقل عطاؤه وينضب، فتصبح تسميته للمجتمع بدون ثقافة مجتمعا ميتا، وطريقا سهلا أمام مطامع الأعداء، وبما أنّ المعارك الحديثة هي معارك الفكر فإنّ ذلك يعد بداية انتصار للإسلام من جديد؛ لأنّه دين تكريم الإنسان والإنسان فيه هو الهدف، وهو صانع المستقبل ، فانتصار المسلم والعالم الإسلامي مرهون باستعادة علاقته مع الإسلام، وتحويلها إلى وظيفة اجتماعية، قال تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي أَرۡسَلَ رَسُولَهُ بِٱلهُدَىٰ وَدِينِ ٱلحَقِّ لِيُظۡهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦۚوَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيدٗا﴾[35] تلك هي الغاية الّتي ظل ينشدها مالك بن نبي لبعث مشروع ثقافي إسلامي يخلّص الفكر الإسلامي من ترسبات الغزو الغربي المعيق لتقدمه في طريق الحضارة.
5 – آثار ونتائج منهج مالك بن نبي:
إن المتتبع لمسيرة مالك بن نبي والمتصفح لمؤلفاته ليكتشف أنّ مالكا شغل موقعا خاصّا في الفكر الإسلامي الحديث؛ إن لم نقل أنّ هذا المفكر يشكل مدرسة خاصّة من مدارس الاتجاه الفكري الإسلامي الحديث»فطريقة مالك بن نبي في طرح مشكلة المسلمين كمشكلة حضارة ومجتمع، ودعوته المجتمع الإسلامي للنهوض بعمله الخاص الدؤوب، ودون انتظار من طرف خارجي هي طريقة قيمة جدا«[36].
لقد تعرّض بن نبي إلى قضايا ومشاكل المجتمع الإسلامي بالتحليل والنقد واصفا لها الحلول المناسبة، فلا تكاد أثاره تغفل أي جانب من جوانب حياة المجتمع، ومن القضايا التي تعرض لها مالك بن نبي كنتيجة لتطبيق منهجه الاجتماعي الذي جعل منه طرحا مميزا قضية القرآن وكيف فسّره مالك بن نبي في ضوء تطبيقات المنهج الاجتماعي، بالإضافة إلى مسألة النخبة واستثمارها في النهوض بالمجتمع وتخليصه من حالة الوهن التّي أصبح يعاني منها.
أ- تعامل مالك ابن نبي مع القرآن الكريم: لقد اهتم بن نبي بالقرآن الكريم اهتماما كبيرا، فكانت كلّ منطلقات تفكيره من هذا المعين الذي لا ينضب، فكان تعامله مع القرآن بطريقة جديدة لم يألفها المثقّف المسلم، وقد تجلى ذلك في مؤلفه )الظاهرة القرآنية( الّذي يقول فيه »جوهر الموضوع الاهتمام بتحقيق منهج تحليلي في دراسة الظاهرة القرآنية، وهو منهج تحقيق من الناحية العملية هدفا مزدوجا هو أنه يتيح للشاب المسلم فرصة التأمل الناضج في الدين، وأن يقترح إصلاحا مناسبا للمنهج القديم في تفسير القرآن«[37]
فمالك بن نبي لم يكن مفسرا للقرآن بالمفهوم الكلاسيكي، وإنّما أراد أن يحدث ثورة منهجية في الدراسة القرآنية كضرورة ملحّة لسدّ النقائص التّي يتميّز بها المنهج الكلاسيكي في التفسير الذي يعتمد على توضيح الإعجاز البياني من أجل إثبات ألوهية مصدر القرآن الكريم؛ لأنّ هذا النوع من الأدلة ذاتي بالنسبة للنخبة المثقفة التّي نهلت من مناهل النزعة الديكارتية في التفكير، أضف إلى ذلك أنّ الضعف اللّغوي الموجود في الأمّة العربية نتيجة الأمّية المتفشية في أوساط المجتمع العربي، والتيار التغريبي المنتشر في الأوساط المتخرّجة من المؤسسات الدراسية الغربية الجامحة نحو النزعة الوضعية، ممّا يتعذر على الكثيرين من أبناء الأمة العربية والإسلامية إدراك هذا الإعجاز البياني.
لذلك عمد مالك بن نبي إلى تقويم مناهج المفسرين التّي لم ترضه في معضمها، لأنّها لم تنفذ إلى القرآن الكريم الذي يحرّك الحياة، ويمسّ الطبيعة والضمير الإنسانيين مباشرة، فينفذ إلى مجال حياة الإنسان، وجوانب فكره ومناحي سلوكه، فالآية القرآنية تستخدم لديهم في منهجها كوسيلة منطقية تُساق لغرض تعليمي، فالقرآن بمنطقهم هذا يقدّم لهم مقاييس من كلّ نوع، وبراهين تفحم الخصوم، وأدلّة تدين بعض التقاليد والبدع التّي لا تتفق وما جرى عليه السلف، وهو أيضا مجموعة من المقاييس الأدبية التّي تستعملها بعض العلوم المنهجية، ورغم أنّ طريقة (رشيد رضا) وأستاذه (محمد عبده) قد أدخلت تغييرات على التفسير الكلاسيكي مما جاءت به من تجديد اهتمامات النخبة المثقفة، فهي تبقى قاصرة ومركزة حول الجدل الديني فيقول عن هذه المناهج: »ولكن يبدو أنّ جهود هؤلاء على الرغم من أنّها لا تغفل الجانب الاجتماعي في علم التفسير، لم تحدد منهجها الكامل…أمّا تفسير الشيخ (رشيد رضا)الذي اتّبع فيه إمامه الشيخ (محمد عبده) فلم يضع هو الآخر هذا المنهج، فقد كان كلّ همّه أن يخلع عن المنهج القديم صفة عقل جديد، ومع أنّه لم يعدّل طريقة التفسير القديم تعديلا جوهريا، فإنّه خلق بالصفوة المسلمة التّي تعشق التجديد الأدبي اهتماما بالنقاش الديني«[38].
ولكن المشكلة الأساسية بالنسبة للتفسير تبقى هامّة بالنسبة لاعتقاد الفرد المكوّن في المدارس ذات النزعة الديكارتية بما فيها من معارف حديثة وعقلانية، وبالنسبة لمجموع الأفكار السائدة التّي تشكّل أرضية الثقافة الشعبية بما تحتويه من خرافات وأساطير. من هذه المعطيات يقترح مالك بن نبي ضرورة إيجاد مذهب اجتماعي للتفسير، ومن ثمّ التفسير عن حركة الأفكار في العالم عامّة، وعن الحياة الاجتماعية بصفة خاصّة، لقد قدّم مالك بن نبي نماذج كثيرة للتفسير تستند إلى علم الاجتماع أكثر مما تستند إلى علم أصول الفقه، أو أصول التفسير، فلم يهتم بتفسيرات آيات الأحكام التّي يرى أنّها من اختصاص الفقهاء، بقدر ما اهتم بالآيات المتعلقة بالتنظيم الاجتماعي والسياسي، لأنّها في رأيه تحقّق في نفس المسلم الوظيفة الاجتماعية للدّين بما تبعث فيه من الفعالية الروحية؛ فتجده في كتابه شروط النهضة ينطلق من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾ [39]فهو يقرّر بأنّ هذا النص القرآني يجب فهمه في ضوء التاريخ ولا يتحقّق ذلك إلّا بشرطين هما: هل المبدأ القرآني سليم في تأثيره التاريخي؟ وهل يمكن للشعوب الإسلامية تطبيق هذا المبدأ في حياتها الراهنة؟
للإجابة عن هذا التساؤل يطرح مالك بن نبي تحليلا لدورتين من أدوار الحضارة، هما الحضارة الإسلامية، والحضارة المسيحية من الوجهة التاريخية ليخلُص إلى الإجابة عن السؤال الأول، فالحضارة الإسلامية بدأت مع كلمة ﴿ٱقرَأۡ﴾[40]المفعمة بالقيّم الدينية التي تسمو بالروح عن الخلود إلى الأرض والوقوع في وحل الغريزة، فنتج عن هذا حياة فكرية واسعة متجدّدة، وظلت في ارتقاء ونمو حتّى أدركتها أمراض الأمم السابقة، فشرعت في الانحدار وهذا هو سرّ إكثار القرآن الكريم من دعوة المؤمنين إلى التأمل فيما مضى من سيّر الأمم، إذ الأمر الذي يريد بن نبي تأكيده هو أنّ الروح وتغييرها هو منطلق تأسيس حضارة جديدة فيقول: » ولا شكّ أنّ المرحلة الأولى من مراحل الحضارة التي ابتدأت من غار حراء إلى صفين، وهي المرحلة الرئيسية التي تركّبت فيها عناصرها الجوهرية، إنمّا كانت دينية بحتة تسودها الروح«[41]وهكذا وظّف ابن نبي أحداث التاريخ، وفلسفة الحضارة للإجابة عن تساؤله هل المبدأ القرآني سليم في تأثيره التاريخي.
أما تساؤله الثاني: هل يمكن للشعوب الإسلامية تطبيق هذا المبدأ في حالتها الراهنة؟ فيرى بن نبي أن الحلّ لهذه المشكلة الإسلامية هو بعث حضارة المسلمين من جديد، فهل الإسلام صالح لإحداث هذا التركيب؟.
قوة التركيب لعناصر الحضارة خالدة في جوهر الدين، وليست ميزة خاصّة بوقت ظهوره في التاريخ، فجوهر الدين مؤثر صالح لكل زمان ومكان، وهو وحده الذي يمنح الإنسان هذه القوة، فقد وهبها لأسلافنا من بدو الصحراء، وبهذه القوة يشعر المسلم بثروته الخالدة التّي لا يدري اليوم كيفية استخدامها بإصلاح وتغيير حاله إنّنا أمام منهج جديد في التفسير هو المنهج الاجتماعي لأنّ صاحبه يقترح لتفعيل فهم المسلمين للقرآن الكريم، والأخذ بأيديهم نحو فهم يحرّك النفوس الهامدة، ويسير بها قدما اتجاه التّغيير نحو الأفضل، فالفهم السليم في نظره هو الفهم الذي يستلهم الوقائع الاجتماعية، والتاريخية التّي تقع تحت سمع النّاس وأبصارهم » وهكذا نجد ذلك الطفل الذي حفظ بصعوبة سورا يسيرة من القرآن الكريم لعقم الطرائق التربوية المتبعة في الكتاتيب القرآنية آن ذاك، يعمل على تثقيف مواهبه بالقرآن، وينكب عليه منذ بلوغه سن الرشد إل أن وافته المنية متمعّنا ومفسرا، بل ومعاتبا المفسرين ومبدعا لمنهج جديد في التفسير لو قدر له أن يطبق على القرآن كلّه لاستخرجت كنوز تنوء بحملها صدور البشرية قاطبة «[42]
ب – الدراسة الاجتماعية للنخبة ودورها: اعتنى مالك بن نبي بالتحليل الاجتماعي للنخبة ودورها في البناء الاجتماعي في الكثير من مؤلفاته، فقد عالج قضية النخبة من جميع جوانبها وقدّم الاقتراحات لتكون القاطرة التي تقود الشعب باتجاه الحضارة، وقد عرض في طرحه لمشكلة النخبة الجوانب التالية:
النخبة والمحيط الثقافي: تنطلق سوسيولوجية النخبة عند مالك بن نبي من سوسيولوجية الثقافة، لأنّ الثقافة عند بن نبي هي: »الجوّ العام الذي يطبع أسلوب الحياة في مجتمع معين، وسلوك الفرد فيه طابع خاصّ يختلف عن الطابع الذي نجده في حياة مجتمع آخر«[43] فكلّ عمل إذا حللناه على أنّه كائن مركب؛ فإنه يشتمل على دوافع نفسية يبعثها العامل الأخلاقي من اجل أداء مصلحة اجتماعية، فالثقافة عنده ليست صادرة عن المدرسة بقدر ما هي ناجمة عن البيئة، وهي التي تجعل المتعلّم فعالا.
دور النخبة في الدفاع عن أسلوب حياة المجتمع: يتمثّل دفاع المجتمع عن أسلوب حياته في دفاعه عن شخصيته، وعن مبدأ إدراج أفراده في نطاقه، وتحديد علاقاتهم به؛ بحيث يصبحون بمثابة التعريف به، كما يصبح مجتمعهم بمثابة المُعرِّف لهم، وهكذا يصبح الإرغام الاجتماعي، والموقف النّقدي للفرد مظهرا في الأساس لثقافة معينه في وظيفتها الاجتماعية، فلا يفلت أي تصرّف مشين أسلوبا في هذا المجتمع المتحضّر من طائلة النقد، ولا يفلت أي تصرف مشين سلوكا من طائلة الإرغام الاجتماعي، وعلى كاهل العلماء والنخبة المثقفة يقع عبء النّقد البنّاء الذي يحرّك المجتمع، ويرى بن نبي أنّ هذا الدور قد أقرّه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوف وَتَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ ﴾.[44]
– النخبة والتغيير: لا شكّ أنّ التغيير يكون على أيدي النخبة، فمالك بن نبي رأى أن الحركات الإصلاحية التي قادها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وابن باديس حركات أثرت في النفوس، وغيّرت ما فيها من تقاليد وعلّمتها أسلوبا جديدا في الحياة يتميز بالثورة، والتمرّد على إنسان ما بعد الموحدين الراكد والخامل الذي يحيا من أجل إشباع غرائزه، فالفكرة الإصلاحية التّي خرجت إلى الوجود قد دكّت أركان الطرقّية بقوة، فتلاشت فكرة الجنّة التّي يضمنها الشيخ لمريديه بغير ثمن، ليحل مكانها مفهوم الجنة تدرك بالعمل الصالح.
النخبة والاقتباس: يبيّن مالك بن نبي كيف يكون الاقتباس المثري من التراث، ومن الثقافات، ويسمى الأفكار القاتلة تلك التّي نستعيرها من الغرب، والأفكار الميتة على ما يجول في أنفسنا من أفكار فقدت الحياة وهي التي ورثناها عن عصر ما بعد الموحدين، وكانت قاتلة في مجتمع حي قبل أن تصبح ميّتة في مجتمع يريد الحياة، وهي أكثر خطورة من الأفكار القاتلة لأنّها تخدع الدفاع الذاتي.
وعليه فمن الضروري أن تعيد نخبتنا المتعلّمة النظر في طرق اغترافها من التراث، لتتخلّص من الأفكار الميتة الموروثة عن عهد ما بعد الموحدين، وأن تتوجّه إلى الأفكار العربية في الأماكن التّي تُصنع فيها الحضارة إلى الأماكن التي تتعفن فيها، إذن يجب الذهاب إلى حيث نجد حياة الأفكار وحرارتها.
السمات المَرَضية للنخبة المثقفة وكيفية إصلاحها: يرى مالك بن نبي في عديد النخبة المثقفة أنّها تعاني من سمات مَرَضية تتمثل في:
- اللفظية التي تتمثل في إيجاد الكلام والهيام بالألفاظ.
- الفخر والمديح وهما وسيلتان للتحذير والتسلية تعزل الفكر والضمير عن الشعور بالمتاعب الحقيقية.
- الجدلية والتبرير: وهو الطابع الطاغي على العمل في عصر الانحطاط.
- الشيئية والتكديس: وهو وضع المشاكل ضمن حدود كمية.
- الشلل الاجتماعي الناجم عن الاستخفاف بعظائم الأمور، وتضخيم الأمور البسيطة والتهويل من شأنها.
لا يمكن التغلب على هذه الأمراض إلا برفض بصمات عصر ما بعد الموحدين، واستعادة الفعّالية والعمل على دخول المعترك الحضاري وفقا للسنن الإلهية، واقتداء بمن سبقنا من الأمم، وعلى رأسها سلفنا الصالح، فهذه الأمراض تعبير عن الانحطاط الاجتماعي والثقافي، ولذلك يتحتّم على مجتمع يتأهّب لخوض المعترك الحضاري أن يخوض أولا مجال التغيير الثقافي والاجتماعي. »لقد انتقد مالك بن نبي النخبة لعدم فعاليتها أو لعدم تأثيرها في الواقع الاجتماعي والثقافي والسياسي، وكأنها تعلمت العلم من أجل اتخاذه حلية وزينة«[45]
إعداد النخبة وتحديد دورها: إن أكبر نقد يوجهه مالك بن نبي للنخبة هو كونها غير فعالة، لأنّ الفعّالية هي المنطق العملي للنشاط الإنساني سواء على صعيد الفكر أم العلم أم العمل. فالمدرسة باعتبارها هي التّي تكوّن المثقفين من الناحية العلمية وتزودهم بالمعارف لتوسيع معلوماتهم وتحسين مهارتهم وقدراتهم العقلية، غير أنّ نتيجة المدرسة قد تكون سلبية على الصعيد الاجتماعي، فمالك بن نبي لاحظ أنّ المتعلم الجزائري الذي تمّ تكوينه على مقاعد الدراسة الفرنسية كان من الناحية الاجتماعية أقل فاعلية من زميله الأوروبي رغم تفوقه العلمي، وهذا يعني أنّ فاعلية الفرد ليست على علاقة وظيفية باستعداداته الشخصية بالدرجة الأولى، لأنّ المدرسة وحدها لا تحلّ مشكلة الثقافة؛ مالم تساهم البيئة فيها، ولذلك يقترح مالك بن نبي أن ينُظر إلى المدرسة من جانب صناعة القيم، وأداء الدور الثقافي في المجتمع »فبقدر ما تستعيد المدرسة معناها الأصيل تستطيع القيام بدورها الثقافي وبالتالي دورها السياسي؛ إذ السياسة حينئذ تكتسب بعدا وطنيا وعالميا بفضل ما تهب لها الثقافة من تفتّح على القيم«[46] بهذه المقاييس يمكن للمدرسة أن تعدّ نخبة ملتزمة بدورها في بعث التغيير في المجتمع من منطلق إحساسها أنّ الحضارة لا تفتح أبوابها إلا للإنسان الفعّال المؤثِّر الذي يدخل حقل العمل بشجاعة ودون تقاعس.
ويرى مالك بن نبي أنّه ليس من العيب أن تفشل هذه النخبة في عمل من أعمالها، ولكن العيب أنّها تقتنع بهذا الفشل دون أن تعود للبحث عن أسبابه، فالعيب كلّ العيب أن تفشل في مسالة معينة وتتركها دون حلّ وتنتقل إلى آفاق أخرى، وإلى مشكلات جديدة، وكأنّ المشكلة التّي تمرّ بها لا وجود لها فذلك مضيعة للوقت لأنّ موقفنا الاجتماعي لا يتسّم بالجهد المتواصل والإرادة، لذلك يعوّل مالك بن نبي على النّخب الإسلامية لتكون منبع الخير للإنسانية التّي هي بحاجة لصوت يناديها إلى الخير امتثالا لقوله تعالى: ﴿ وَلتَكُن مِّنكُمۡ أُمَّةٞ يَدۡعُونَ إِلَى ٱلخَيرِ﴾ [47]فحب الخير يؤدي إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك لا ينبغي أن يكون حضور المسلم كشاهد في عالم الآخرين حضورا سلبيا يكتفي بمجرد ملاحظة الوقائع والأحداث بل يجب عليه أن يسعى لتعديل مسارها وردّها إلى اتجاه الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا، فالمسلم تقع عليه مسؤولية التبليغ، المقترنة بشرطي الاقتناع والإقناع؛ أي إقناع الآخرين بنفسه دون مغالطة؛ مع التعرّف إليهم دون كبرياء، فمالك بن نبي يضع على عاتق النخبة مسؤولية التصدّي للصراع الفكري والاستشراق ويدعوها إلى ضرورة البحث عن الأساليب والخطط التي ينتهجها مدبرو الصراع، وذلك بالتخلّص من الضعف وترك الفراغ الإيديولوجي إذ يقول : »كل فراغ إيديولوجي لا تشغله أفكارنا ينتظر أفكارا منافية معادية لنا«[48]وعليه يبقى على النخب الإسلامية أن تكون متيقّظة صارمة مع نفسها من الأفكار التّي يروج لها الاستعمار.
لقد قدّم مالك بن نبي دراسة وافية لمشكلة النخبة محدّدا دورها في النهوض بالمجتمع ووضعه في سكة الحضارة واصفا لها المنهج الذي تنتهجه، والمقاييس التّي تخضع لها حتى تتمكّن من التّصدّي للصراع الذي تمارسه النخب المعادية والتفوّق عليها.
ب- الإسلام والتنمية: إنّ مشكلة التنمية عند مالك بن نبي تتطابق مع مشكلة الحضارة فهو يرى النمو حضارة، والتخلّف انحطاط، لا تتكوّن الحضارة إلّا إذا اجتمعت العناصر الثلاثة: الإنسان، والتراب، والزمن، بالإضافة إلى المركب الذي هو الفكرة الدينية التّي تضمن التفاعل بين العناصر الثلاثة.
الإنسان: أزمة الإنسان المسلم في الركود والعزوف عن الحركة والتخلّي عن السّير في ركب التاريخ أنشأت في المجتمع الإسلامي عادات راكدة وضعت الفرد في خمول بينما خطت الحضارة خطوات جبارة ومن هنا كانت المشكلة الإسلامية، فعلينا إذن أن نصنع رجالا يمشون في التاريخ مستغلّين التراب والزمن والأفكار في بناء الأهداف الكبرى ولتحقيق ذلك يجب أن نفهم كيف يؤثر الإنسان في التاريخ؟
لقد ربط مالك بن نبي تأثير الإنسان في التاريخ من خلال فكره وعمله وماله، فالفكر يجب أن يكون خاضعا للتوجيه الثقافي، والعمل موجها حتّى نُكسب أنفسنا قوة في الأساس، وتوافقا في السير ووحدة في الهدف مع تجنب الإسراف في الجهد والزمن، وأمّا المال فيجب أن يخضع هو الآخر للتوجيه حتّى يتحقق التكامل الذي يؤدّي إلى حضارة، ويخرج بالمجتمع من العالم المتخلّف.
التراب: عندما تكون الأمة متخلّفة يكون التراب على قدرها من الانحطاط؛ إذ به ترتبط الثروة النباتية والحيوانية وبالتالي حياة الإنسان، ولذلك يجب صيانة هذا التراب وحمايته.
الزمن: يجب على الإنسان المسلم أن يعطي اهتماما أكبر للزمن ويعرف أن التحديات واقعة، وأنّه إذ لم يعمل بأسرع ما يمكن ولم يفرض نفسه، فإن الحضارات الأخرى ستبتلعه، ولا شكّ أنّ الصراع بين الحضارات هو صراع من أجل البقاء لا من أجل التعايش، ولذلك على المسلمين أن يعملوا بفاعلية دون تبديد الجهد أو تضييع الوقت.
لقد عالج مالك بن نبي قضية التنمية في إطار التركيب بين هذه العناصر الثلاثة من منطلق أن العالم الإسلامي يشهد أعمالا ونشاطات من أجل النهوض والتنمية، إلاّ أنها غالبا ما تصطدم بالفشل الذريع، ومرد ذلك أنّ الفكر الإسلامي أصبح مقلدا في ميدان الاقتصاد للفكر الليبرالي أو الماركسي، وكأنّ الحلول الاقتصادية في العالم الإسلامي لا تأتي إلا من هذين. فمالك بن نبي أدرك أنّ الاستعمار أدخل الرجل المستعمر في خضم العصر الاقتصادي؛ إذا به يتخذ منه آلة في جهاز نظامه الخاص.
إنّ حل المشكلة الاقتصادية ينحصر أولا في الوعي الاقتصادي؛ هذا الوعي الذي يتجلى في التكوين الشخصي للفرد، وتغيير عاداته، ونسق نشاطه، ومواقفه أمام المشاكل الاجتماعية، وينتقل كونه آلة في الاقتصاد إلى وضع إيجابي فعال، ويرى أنّ المشاكل لا تحل بصورة جذرية إلاّ في إطار الاتحاد الاقتصادي فلذلك صار الاتحاد والتكتل ضرورة من أجل بناء الحضارة، والانتصار في معركة الإنتاج لتحقيق الاكتفاء الذاتي وضمان العدالة في المبادلات التجارية وإرساء قواعد اقتصاد عالمي جديد »كي يكون لاقتصاد البلاد النامية فعاليته في الخارج يجب أن يكون له نظامه الدقيق في الداخل«[49]فالخطوة الأولى في المشروع العربي والإسلامي يجب أن تبدأ من توفير القوت عن طريق تنشيط الزراعة حيث الإمكانات متوفرة والمساحات الشاسعة من الأرض، والأهم من ذلك توافر مقومات الانطلاق دون الارتباط الأجنبي بتطبيق مبدأ أن القوت حق لكل فم والعمل واجب على كل ساعد وبذلك »كل وطن متخلف يستطيع دفع عجلته على هذا الأساس الذي يكفل سائر الحقوق ويفرض جميع الواجبات ويحقق بذلك الحركة الاجتماعية التي تتغلب على كل نوع من الركود، فمن أجل تحقيق الإقلاع هذا هو الطريق «[50]
»يتوجه مالك بن نبي بهذه النظرة الوحدوية التكاملية التي تمليها وقائع الأوضاع الاقتصادية في القرن 20 فإذا كانت شعوب أوروبا الغربية تسعى لتنشيط السوق الأوروبية المشتركة لتقوى على خوض المواجهة الاقتصادية العالمية ودول الكتلة الشرقية وغيرها تنهج النهج نفسه فالأحرى إذن بالدول العربية وهي تنتمي إلى وحدة اجتماعية لها مقومات التكامل، وتنتمي للمقومات الحضارية أظهرها وأعطى أبعادها التقدمية الثورية الإسلام أن تفعل ذلك « [51]
خاتمة:
ظّروف مجتمعة صنعت من مالك بن نبي مفكرا اجتماعيا فالرجل عاش محنة وطن ومأساة شعب ورأى بفكره كيف تصنع الحضارة القوة، وكيف يؤدي التخلّف إلى الرضوخ والمهانة، واقترح في إطار هذا المنهج الاجتماعي عديد الحلول للنهوض بهذا الوطن، فقد عالج قضية التنمية بمنهج تحليلي صارم وفق المعطيات الاجتماعية للعالم الإسلامي لإيمانه أنّ التنمية لا تستورد، ولا تشترى بل هي تراكيب فكرية ومعادلات اجتماعية قبل أن تكون بحث عن الأموال من أجل العمل، والاستثمار الحقيقي يبدأ من استثمار السواعد والعقول والساعات والدقائق وكل شيء من التراب لتحقيق الحركية الاقتصادية، وعلى كلّ القائمين عل تنفيذ المخططات السياسية والاقتصادية الاستعانة بفكر مالك بن نبي لأنّه مبني على أفكار قابلة للتنفيذ، ومازالت صالحة إلى يومنا هذا، وبإمكانها تحقيق النهضة المنشودة.
قائمة المصادر والمراجع:
01- أسعد السحمراني، مالك بن نبي مفكرا إصلاحيا، دار النفائس، بيروت، لبنان، ط2، 1986.
02- عبد اللطيف عبادة، صفحات مشرقة من فكر مالك بن نبي، مؤسسة عالم الأفكار، الجزائر، ط1، 2014.
03- مالك بن نبي، إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الحديث، دار الإرشاد، بيروت، لبنان، ط1، 1969.
04- مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط6، 2006.
05- مالك بن نبي، تأملات، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط1، 2013.
06- مالك بن نبي، شروط النهضة، تر: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، دط، دت.
07- مالك بن نبي، فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ، تر: عبد الصابور شاهين، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط7، 2009.
08- مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، تر: عبد الصابور شاهين، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط9، 2009.
09- مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط9، 2009.
10- مالك بن نبي، مذكرات شاهد القرن، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط2، 1984.
11- مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، تر: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط14، 2009.
12- مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، تر: عبد الصابور شاهين، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط6، 2006.
13- مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، تر: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط6، 2006.
14- محمد شاويش، مالك بن نبي والوضع الراهن، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط1، 2007.
15- محمد العبدة، مالك بن نبي مفكر اجتماعي ورائد إصلاحي، دار القلم، دمشق، سوريا، ط1،2006.
16- محمود عودة، أسس علم الاجتماع، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان.
17- ابن منظور، لسان العرب، تح: عامر أحمد حيدر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 2013.
[1]- ابن منظور، لسان العرب، تح: عامر أحمد حيدر، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط2، 2013، ج2، ص:169.
[2]- محمود عودة، أسس علم الاجتماع، دار النهضة العربية، بيروت، لبنان، ص: 117
[3]- نفسه، ص: 117.
[4]- مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، تر: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط14، 2009، ص:14.
[5]- مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، تر: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط2006، ص:47.
[6]- مالك بن نبي، تأملات، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط1، 2013، ص:29.
[7]- مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، تر: عبد الصابور شاهين، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط6، 2006، ص:17.
[8]- محمد شاويش، مالك بن نبي والوضع الراهن، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط1، 2007، ص:32.
[9]- مالك بن نبي، تأملات، ص:158.
[10]- مالك بن نبي، مذكرات شاهد القرن، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط2، 1984، ص:137.
[11]- نفسه، ص:137.
*ابن السّاعي: هو صديق مالك بن نبي ورفيق دربه.
[12]- نفسه، ص:235.
[13]- مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص:109.
[14]- مالك بن نبي، شروط النهضة، تر: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، دط، دت، ص: 08.
[15]- مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص:14.
[16]- مالك بن نبي، مذكرات شاهد القرن، ص:20.
[17]- مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص:09.
[18]- مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط10، 2011، ص: 16.
[19] – محمد العبدة، مالك بن نبي مفكر اجتماعي ورائد إصلاحي، دار القلم، دمشق، سوريا، ط1، 2006، ص:52.
[20]- مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص:29.
[21]- مالك بن نبي، شروط النهضة، ص:10.
[22]- مالك بن نبي، الصراع الفكري في البلاد المستعمرة، ص:16.
[23]- مالك بن نبي، فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ، تر: عبد الصابور شاهين، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط7، 2009، ص: 64.
[24]- مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص: 109.
[25]- سورة الرعد، الآية:11.
[26]- مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص: 181.
[27]- عبد اللطيف عبادة، صفحات مشرقة من فكر مالك بن نبي، مؤسسة عالم الأفكار، الجزائر، ط1، 2014، ص:49.
[28]- مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، تر: عبد الصابور شاهين، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط6، 2006، ص:61.
[29]- نفسه، ص:107.
[30]- أسعد السحمراني، مالك بن نبي مفكرا إصلاحيا، دار النفائس، بيروت، لبنان، ط2، 1986، ص: 107.
[31]- مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص:154.
[32]- سورة الرعد، الآية: 11.
[33]- مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص:169.
[34]- مالك بن نبي، شروط النهضة، ص:83.
[35]- سورة الفتح، الىية:28.
[36]- محمد شويش، مالك بن نبي والوضع الراهن، ص:72.
[37]- مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية، تر: عبد الصابور شاهين، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط9، 2009، ص:53.
[38]- مالك بن نبي، الظاهرة القرآنية ، ص:58.
[39]- سورة الرعد، الآية:11.
[40]- سورة العلق، الآية: 01.
[41]- مالك بن نبي، شروط النهضة، ص: 52.
[42]- عبد اللطيف عبادة، صفحات مشرقة من فكر مالك بن نبي، ص:116.
[43]- مالك بن نبي تأملات، دار الفكر، دمشق، سوريا،ط1، 2013، ص:147.
[44]- سورة آل عمران، الآية 110.
[45]- عبد اللطيف عبادة، صفحات مشرقة من فكر مالك بن نبي، ص:76.
[46]- مالك بن نبي، بين الرشاد والتيه، دار الفكر، دمشق، سوريا، ط6، 2006، ص: 90.
[47]- سورة آل عمران، الآية: 104.
[48]- مالك بن نبي، إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الحديث، دار الإرشاد، بيروت، لبنان، ط1، 1969، ص:45.
[49]- مالك بن نبي، بين الرشاد، ص:152.
[50]- نفسه، ص: 175.
– أسعد السحمراني، مالك بن نبي مفكرا إصلاحيا، ص: 248.[51]