بقلم: د. منذر سليمان و جعفر الجعفري
بَحْثُ الإنسان عن سبل تطوير الأعمال اليدوية وأتمتتها يعود إلى العام 1872، بحسب سردية شركة “مايكروسوفت”، استناداً إلى رواية الإنكليزي صموئيل بتلر في روايته الساخرة من القيود الملكية السلطوية “إيريوهون” أو “لا مكان”، ماراً بخياله على الدور الكبير الذي “ستؤديه الآلات في تطوير البشرية”، وإلى الروائي الإنكليزي أيضاً هربرت جورج ويلز في روايته “حرب العوالم” في العام 1897، والتي صُنّفت آنذاك في فئة “الخيال العلمي”، لحديثها عن الآلة المبتكرة من قبل سكان كوكب المريخ للسيطرة على عالمنا.
وقد انتجت مختبرات الأبحاث العلمية تباعاً آلات متعددة لمساعدة الإنسان في شتى المجالات والتطبيقات اليومية، مروراً بابتكار “مساعدين افتراضيين” لأداء المهام بإتقان وبشكل أسرع مما كان عليه الأمر، ما أضحى يعرف بحقل “الذكاء الاصطناعي” الذي يحاكي الذكاء البشري لإتمام المهام، كما شهدنا في انتاج شركة (آي بي أم) جهاز “واتسون” في العام 2011، والذي تفوق على البشر في مسابقة برنامج “جيوباردي”. ويسعى البرنامج الآلي إلى “دمج حياتنا المادية والرقمية والبيولوجية”، وهو ذو استخدامات مزدوجة، منها ما يعود بفوائد إيجابية، ولكن تقابلها جوانب سلبية، وخصوصاً في التطبيقات العسكرية المتعددة في زمن قصير نسبياً.
وحذّرت الأمم المتحدة في دراسة شاملة من تداعيات ما “تطلقه التقنية من إمكانيات هائلة للبشرية، ذلك أن تقارب الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحديثة يفرض أيضاً مخاطر غير مسبوقة على الأمن العالمي”، والتي يمكنها أن تحسن أداءها استناداً إلى المعلومات التي تجمعها (ندوة بعنوان “كيف يمكن للتعددية البقاء على قيد الحياة في عصر الذكاء الاصطناعي؟”، إلينور باولز، من دون تاريخ نشر).
حقل “الذكاء الاصطناعي” لن يحل محل الذكاء البشري في أي وقت منظور. هذه نتيجة توصّل إليها كبار العلماء والمختصين، لخشية العامة من تسخير التقنية الرقمية المتطورة في هيئة آلات تفتح آفاق كارثة إنسانية ينبغي السيطرة عليها. وبحسب وثائق الأمم المتحدة، “يجب أن تنظّم تطورات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي لصالح مجتمعاتنا وتنميتها المستدامة”، بيد أن القلق من منافسة الآلة للدور الإنساني يزداد اطراداً مع تطور بيانات الخوارزميات وتعقيداتها، وهي التي يعتمد عليها أداء الذكاء الاصطناعي.
وبحسب دراسة أجراها “مرجع فري و أوسبورن”، فإنّ حوالي 47% من اليد العاملة الحالية في الولايات المتحدة تشغل مهناً عرضة لخطر الزوال بسبب الأتمتة في العقدين القادمين” (7 كانون الأول/ديسمبر 2016).
يشير العلماء إلى تعقيدات متراكمة في جهود استنباط أفضل الخوارزميات للتحكم بالذكاء الاصطناعي، والتي تتطلّب تطبيق مزيج من التقنيات الحديثة: “تعلم لغة الآلة، التفكير الرمزي، تعلّم بيانات الإحصاء، تعلّم البحث والتخطيط، التعامل مع البيانات الهائلة، البنى التحتية للفضاء الالكتروني، وجداول الخوارزميات”.
من بين التحديّات المطروحة أمام العلماء في هذا المجال تبرز إمكانية استبدال الآلة بالعقل البشري لاتخاذ قرار الحرب، سواء عبر طائرة مسيّرة أو بأسلوب آخر أشدّ تعقيداً في بنية أجهزة رقمية هائلة. الأمر الذي يحتّم عليهم التوصل إلى خوارزميات اصطناعية تحاكي عمليات عسكريّة.
على سبيل المثال، قبل عدة عقود، واجه سلاح البحرية الأميركية معضلة تتلخّص في تطوير جداول خوارزمية باستطاعتها احتساب كلفة بناء السفن الحربية قبل البدء بها. أحد تلك الجداول سلط الضوء على المجال الهندسي، معتبراً أن الكلفة ينبغي أن تأخذ بعين الاعتبار مجموع القطع والمكونات والمعدات، مثل أجهزة الدفع وأجهزة الرادار والأجهزة الالكترونية المتعددة. كان التحدي مسلّطاً على كلفة التقنيات الحديثة المتطوّرة التي لم تكن جاهزة عند بدء دراسة الكلفة، والتي ينبغي التسلح بها واحتسابها إلى مرحلة مستقبلية في الانتاج بعد نحو 3 – 5 سنوات.
وعمل فريق آخر بالتوازي بالتركيز على الشق الاقتصادي. وبدلاً من احتساب كلفة كل جهاز على حدة، بناء على مفاهيم العرض والطلب، استند الفريق إلى استنتاجاته في فعالية نموذج بناء سفن حديثة مقارنة مع ما توفر من تصاميم جاهزة، بيد أن النموذج الاقتصادي لم يلقَ استحسانا من “قيادة نظم سلاح البحرية” التي قرّرت اتباع المنهج الهندسي المشار إليه.
من بين النتائج التي توصلت إليها قيادة سلاح البحرية أنّ تصميم الخوارزميات في التطبيقات العسكرية يعتمد على الذهنية المنتجة لها، وعلى كفاءة مهندس برمجيات وما إذا كانت تنقصه خبرة عسكرية، مقارنة مع آخرين ذوي خبرة في القتال التقليدي أو خبراء في مكافحة التمرد أو ناشطين ضد الحروب.
واكتشفت طواقم المهندسين ثغرات في برامج الذكاء الاصطناعي إبان اتخاذها قراراّ لتعديل أداء بعض مكونات الآلة، ولا سيما في تجارب قيادة السيارة من دون سائق، منها تباين أداء السائقين ومهاراتهم في مختلف مناطق الولايات المتحدة، ما يؤثر على تصاميم البرمجة.
وأوضحت تلك الطواقم أنّ معظم ولايات الوسط الشمالي، على سبيل المثال، ومنها ولاية منيسوتا، يلتزمون بأساليب التهذيب ومراعاة السائق الآخر والسماح له بالتقدّم ليكمل سيره، بينما في مناطق أخرى، مثل مدينة نيويورك، يشتهر سائقوها بالنزعة العدوانية والميل إلى حرمان السائق الآخر من التقدم عليهم ليدخل بشكل آمن إلى خطّ السير. وعليه، فإن ّبرمجة لسائق منيسوتا لا يمكن تطبيقها في مدينة نيويورك من دون الأخذ بعين الاعتبار درجة التهور والعدوانية فيها.
يصحّ القول أن تلك التحّديات تنطبق أيضاً على التقنية المتطوّرة للاستخدامات العسكرية لمختلف البلدان والساحات. من الجائز رؤية تباين تصرف عسكري روسي أنهى تدريباته على الحروب التقليدية وتسخير اداء المعدات العسكرية لإنجاز مهامها، مقابل عنصر في دولة أخرى يوازيه بالرتبة ويرأس طواقم عسكرية متدنية التدريب ومسلحة بمعدات عفا عليها الزمن.
السيناريوهات العسكرية المتعددة تدخل عامل المرونة في التطبيق وفق التغيرات الميدانية، لكن من غير المؤكد لدى العلماء استشعار الذكاء الاصطناعي معضلة ممكنة لم تجرِ بعد والتكيف معها وإنتاج خطة بديلة. مرونة القرار والتكيف الميداني سمات تميز القادة العسكريين الكبار عن نظرائهم الآخرين.
يحفل التاريخ السياسي الأميركي، على سبيل المثال، بتجربة الجنرال جورج باتون، قائد الجيش الأميركي الثالث في الحرب العالمية الثانية، في معركة “الانتفاخ” أو “الأردين”، لقراره حرف قواته العسكرية 90 درجة لمواجهة الجناح الألماني في تلك المعركة وهزيمته، متجاهلاً المعضلات اللوجستية الناجمة عن قراره.
في تجارب الذكاء الاصطناعي على معطيات متشابهة، قد يرجّح خيار الحرب التقليدية التي نفذها قادة آخرون في معسكر الحلفاء، على الرغم من طول المدة التي استغرقتها. أما الجنرال باتون، فقد ظفر بالنصر وفك الحصار المفروض على مدينة باستون البلجيكية في كانون الأول/ديسمبر 1944، بمبادرات مساعده الجنرال آبرامز الذي تمت مكافأته بتسمية الدبابة الأميركية باسمه فيما بعد. وقد أنهى باتون بذلك الحلم الألماني بالهجوم على ميناء آنتويرب.
القائد العسكري البريطاني الشهير برنارد مونتغمري حاول استنساخ تكتيكات جورج باتون للتقدم على الدفاعات الألمانية، وكانت نتيجته الفشل الذريع وعدم قدرته على تجاوز نهر الراين واختراق خط الدفاع سيغفريد.
في الشقّ المقابل، تميز الجنرال الألماني إيروين رومل، الملقب بـ “ثعلب الصحراء”، بمقارعته القوات البريطانية في الشمال الإفريقي، على الرغم من قلة أعداد مقاتليه مقارنة بقوات خصومه. ولم تفلح استراتيجيته في إلحاق الهزيمة بجيوش الحلفاء في معركة النورماندي، ما عرّضه للانتقاد من كبار القادة العسكريين، لاعتقداهم بأنّ الخطة افتقدت أخذ عناصر الكفاءة بالحسبان.
وعليه، تبرز جملة تساؤلات حول “التقديرات المفرطة” المتعلقة بالذكاء الاصطناعي الأميركي وأهلية السلاح الأميركي مقابل “الاستخفاف” بخصومه، فهل يكفي تلقيم برامج الذكاء نماذج الخبرة الميدانية لقادة القوات على حساب إبداعات القادة العسكريين في الميدان؟ تلك هي بعض مثالب برامج الذكاء الاصطناعي في العصر الراهن، والتي تستند في الأساس إلى الذكاء البشري وما راكمه من دروس وتجارب واحتمالات.
يشير الخبراء العسكريون إلى “ثقة مفرطة” لدى القادة الكبار بتقنية الذكاء الاصطناعي، محذّرين من قصور الحلول المطلوبة من النظم الاصطناعية، رغم ما يتوفّر لها من تطورات تقنية متطورة. لنزع تهمة إفراط الثقة بين العسكريين أوضح مدير قسم إبداع تقنية المعلومات في وزارة الدفاع، ويليام شيرليس، أن ما يتوفر راهنا من تقدم “ليس سوى خطوة في بداية طريق وسياق تاريخي طويل لتطورات سريعة في مجال الذكاء الاصطناعي” (ندوة عن بعد حول “آلات عبقرية” لعام 2021).
تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتوفرة لا تعدو كونها مرحلة سراب أو نقطة واعدة في الأفق، لكنها بعيدة المنال. أما طموح بعض البلدان لحلول الآلة مكان العامل البشري، وخصوصاً في مجال الأسلحة “الذكية”، فهو أمر محفوف بمخاطر فادحة إذا تم الاعتماد على الآلة بمستواها التقني الراهن لتقرير سير أي عمليات عسكرية ونتائجها. الإبداع البشري في شتى المجالات والتطبيقات وتكيفه مع المتغيرات لا يمكن الاستغناء عنه في اي زمن منظور.
* نشرة التقرير الأسبوعي لمراكز الابحاث الأميركية