يمكن تعريف المعيار في السلوك السياسي او القانوني بأنه ” كيفية الحكم على شيء “، ومفهوم الازدواجية في المعيار يعني أنك تصدر حكمين متناقضين على ظواهر متماثلة او متشابهة في البنية والتفاعل، وكثيرا ما وجهنا الاتهامات في الادبيات السياسية العربية للسياسة الغربية والامريكية تحديدا (وغيرهما) بأنها سياسات “مزدوجة المعايير”.
من الضروري التوقف قليلا عند هذه المسألة، فالسياسة الامريكية تقوم على معيار واحد وثابت وهو معيار البراغماتية، فالفكرة السياسية او السلوك السياسي من المنظور الامريكي يتم الحكم عليهما على اساس “المنفعة” المترتبة على الفكرة او السلوك، ولعل خير تفسير لهذه الفلسفة هو ما قاله احد ابرز رواد البراغماتية وهو جون ديوي(مات عام 1952) حين قال ما يلي حرفيا ” إذا كانت فكرة الله نافعة فالله موجود، أما إذا كانت فكرة الله غير ذات نفع فالله غير موجود”، وعليه الحكم على الفكر والسلوك والقيم والعادات والتقاليد والآيديولوجيات ..الخ يتم من خلال ” مدى النفع المترتب عليها” ، وهو ما يعني ان الكذب المفيد لي والتزوير الاعلامي المفيد لي مقبول طالما ان حصاده منفعة، والعدوان والاحتلال والاستعمار والمؤامرات مقبولة طالما انها تحقق لي ما اراه منفعة، فاستغلال صدام حسين لفارق القوة بينه وبين الكويت ليغزوها امر لا تستسيغه الولايات المتحدة لانه “لا منفعة لها في ذلك”، لكن ان تستغل امريكا فارق القوة بينها وبين العراق لتدمره وتشنق رئيسه امر مبرر لان “فيه منفعة لها” ، فالبراغماتية هنا هي التي حددت الموقف في الحالة الاولى والحالة الثانية.
ذلك يعني ان تشويه صدام حسين او بوتين او القذافي أو الاسلام او القومية او الشيوعية او تلميع صورة نيتنياهو ومساندة الديكتاتوريات وتجنيد رجال المخابرات والتجسس وانشاء المختبرات الكيماوية والجرثومية وضرب هيروشيما ونجازاكي بالقنابل الذرية ومنع ايران من امتلاك سلاح نووي وقبوله لاسرائيل وفرض العقوبة على كوبا او فنزويلا او البنك العربي أو الذهاب الى بنما واعتقال رئيسها نورييغا والقائه في السجن او الاشادة بشاه ايران مرة ومرة التخلي عنه تماما حتى ولو للعلاج من مرضه، او تجنيد وتدريب طالبان ثم تركهم يلهثون وراء طائراتها طلبا للنجاة او شجب السلوك الروسي في اوكرانيا وامتداح السلوك الاسرائيلي في غزة او غض البصر عنه…الخ ، كلها سلوكيات قائمة على اساس مدى النفع المترتب عليها للسياسة الامريكية بغض النظر عن اي معيار آخر، فأين ازدواجية المعايير؟ انه معيار واحد هو “المنفعة”
فإذا نظرنا الى السياسة الامريكية والغربية ” والدول البراغماتية” شرقا وغربا فهي دول أحادية المعيار في سياساتها وليست مزدوجة المعايير، بغض النظر عن حكمي أنا او انت او الطرف الآخر على ذلك، فالاساس هو حكم صاحب السلوك ما اذا كان سلوكه نافعا له ام لا على غرار وجود الله عند جون ديوي.
لعل الاشكالية في ادراك تعقيدات هذه المسألة هي في : من يحدد معيار المنفعة( اي من الذي يقرر للدولة والمجتمع ان هذا فيه منفعة)، وهنا نجد ان عدد المشاركين في اتخاذ القرار بان هذا مفيد او غير مفيد هو اوسع كثيرا في الدول “البراغماتية” من عدد المقررين بالنفع او الضرر في مجتمعاتنا او دولنا والذين لا يتجاوز عددهم في كثير من الاحيان فردا او فردين ، اما الجانب الآخر فهو اشكالية اسقاط الاخلاق الفردية على الاخلاق السياسية، فالتجسس على جارك او صديقك أمر غير مقبول ، بينما عدم التجسس على الدول المجاورة لك فيه سذاجة مفرطة، وأن تستغل – كدولة – ارتفاع اسعار ما تنتجه لزيادة دخلك القومي لا يعد استغلالا…وهكذا لا يجوز اسقاط الدلالات الاخلاقية الفردية على السلوك السياسي الدولي، وكلما كان عدد افراد المجتمع المنتفعين من القرار الحكومي اكبر كان القرار اكثر نفعا..
وما جدوى القانون الدولي والحالة هذه؟ ان القانون الدولي هو جزء من “براغماتية الفعل السياسي”، فاذا كانت المنفعة في اللجوء للقانون الدولي والمناداة به اعلى من المنفعة من استخدام اية وسيلة اخرى فليكن الامر كذلك، ويجب ان نتلوا الاناشيد للقانون الدولي، لكن اذا كانت قوتي ودعايتي وكذبي تحقق منفعة اكبر من اناشيد القانون الدولي فليكن الامر كذلك، ومن حقي ان اطالب باعادة تفسير النصوص القانونية الدولية بالشكل الذي يحقق المنفعة لي، ومن حقي ان اتراجع عن هذا التفسير إذا كان في التراجع مصلحة اكبر في موقف آخر، وهنا لا بد من استحضار مقولة لويس الرابع عشر” انا احتل ثم احضر رجل قانون ليبرر ما فعلته “.