يتناول الكاتب ألكسندر كرامارينكو في صحيفة “المجلس الروسي للشؤون الدولية” الأزمة الأوكرانية، والاستراتيجية الروسية، ويرى أنّ هذه الأزمة هي بالأساس مؤامرة على أوروبا، وأنّ المواجهة مع روسيا هي أداتها. وفي ما يلي ترجمة المقال الى العربية:
لا يزال هذا الموضوع يحتفظ بأهميته لحد اليوم، لأننا نتعامل مع نفس الخصم – المتمثل بالنخب الأميركية بعقليتها المحددة وفلسفة السياسة الخارجية لديها، والتي كما تظهر التجربة، لا تتغير على الرغم من تغير الزمن. مقتنعون بـ “انتصارهم في الحرب الباردة” وخلود هيمنتهم، التي أصبحت وسيلة البقاء على حساب بقية العالم. والآن يعتقدون أنهم يستطيعون القضاء علينا بأيدي القوميين الأوكرانيين. ومن هنا جاءت المقارنة مع كل من حرب القرم، والحرب العالمية الثانية.
على مستوى التكنولوجيا والمنهجية، ليس من قبيل المصادفة أن يقارن الكثيرون الأزمة الأوكرانية بأزمة بحر الكاريبي. مثل هذا التحليل يساعد على فهم النقاط المشتركة في كل من المواقف والاختلافات بينهما، وهو أمر مهم بالنسبة لنا لبناء استراتيجية تم التحقق منها ومن فعاليتها.
الآن حان دورنا للرد، ليس فقط على تهديد واضح على حدودنا على مستوى الهوية والتاريخ، ولكن أيضاً على تهديد عسكري محدد لأمننا.
فها هي المختبرات البيولوجية على الأراضي الأوكرانية مع صناعاتها البيولوجية العسكرية، في انتهاك للاتفاقيات الدولية بهذا الصدد. وكما هو واضح الآن وغير مخفي حتى على المستوى الرسمي، فهي للعدوان المباشر علينا. والهدف ليس مخفياً – إنه إلحاق هزيمة عسكرية أو “استراتيجية” بنا، و”تغيير النظام” وتقطيع أوصال البلاد – كنوع من “الحل النهائي” من قبل الغرب لـ “المسألة الروسية”، ووجودها المستقل.
إن التاريخ لا يرحم، ويجب أن يُحسب حسابه. إنه يعكس مصير الشعوب، بما في ذلك مصير الشعب الروسي، ومعنى روسيا ككيان، ووسيلة لبقائه في هذا العالم، وضمان حقها في الإبداع التاريخي. لا يترك التاريخ مجالاً للرضا السياسي والتراخي الفكري.
المفكر الروسي فيودور تيوتشيف في منتصف القرن التاسع، لم يستطع قراءة شبنغلر، ولكن من تجربة الإختلاط والحياة في أوروبا، فهم نظرة الأوروبيين والثقافة الغربية: “أن وجود روسيا بحد ذاته يلغي مستقبل الغرب”. كل سلوك الغرب فيما يتعلق بروسيا، على الرغم من كل اللاعقلانية، خاصة في السنوات الثلاثين الماضية، يشير إلى أنهم يتفقون تماماً مع هذا ويرون روسيا كتهديد وجودي. لذلك، لا يمكن للنخب الغربية أن تتصرف بشكل مختلف.
سيتوجب عليهم إعادة النظر في كثير من الأمور، وتعلم كيفية التفاوض مع الآخرين بشروط متساوية، وليس بالكلمات، ولكن بالأفعال. لقد خلقت الحرب العالمية الثانية، بسبب دورنا الحاسم فيها، الظروف لتوحيد الغرب ووضعت الصراع مع الاتحاد السوفياتي في حالة مجمدة على شكل حرب باردة. الآن هناك انتقال إلى حرب بالوكالة على أراضي أوكرانيا. والسؤال هو ماذا سيحدث بعد ذلك. ومن هنا فإنّ العودة لأزمة الكاريبي يمكن أن تساعدنا في تحديد معضلاتنا وخياراتنا.
كما هو معروف، كان سبب أزمة منطقة البحر الكاريبي رد فعل واشنطن الهستيري على إجراءات موسكو لضمان أمنها وأمن حليفها.
ويستشهد كلارك تيرستون في كتابه “الأيام ال 100 الأخيرة لجون كينيدي”، بكلام الرئيس، من أن حاشيته لن تغفر له “خليج خنازير ثالث”، بمعنى أنّ الثاني كان التسوية السلمية لأزمة الكاريبي، والثالث كان رفض إرسال وحدات قتالية أميركية إلى فيتنام.
مهما كان الأمر فإنّ القيادة السوفياتية لم تنتهك أي التزامات دولية، لأنه ببساطة لم يكن هناك أي التزامات دولية في ذلك الوقت، ولم تعتبر الولايات المتحدة على الإطلاق أنه من الضروري التفاوض مع موسكو بشأن الحد من الأسلحة الاستراتيجية. في ذلك الوقت، تم نشر صواريخ نووية أميركية متوسطة المدى على أراضي جارتنا تركيا، حليف أميركا في الناتو، مما شكل تهديداً مباشراً لنا ومنح الولايات المتحدة ميزة أحادية الجانب في مجال الردع الاستراتيجي.
ولكن لسوء الحظ، وبسبب تنحية خروتشوف من القيادة السياسية في وقت لاحق، تم التعامل مع موضوع أزمة منطقة البحر الكاريبي في الاتحاد السوفياتي بشكل انتهازي ومن جانب واحد. كان من الواضح تماماً أن موسكو لها الحق في التصرف بهذه الطريقة وأنه بدون “سياسة حافة الهاوية” هذه لن يكون هناك سيطرة لاحقة على الأسلحة.
وهنا، وفي عام 1963، تم إبرام معاهدة متعددة الأطراف لحظر تجارب الأسلحة النووية في البيئات الثلاث. وكما هو الحال الآن، فهم شركاؤنا آنذاك لغة القوة فقط. ولم تكن هناك طريقة أخرى لجعلهم يدركون الحاجة إلى التفاوض، وأن ذلك يصب في مصلحتهم الأمنية الخاصة. لذلك، يجدر إعادة النظر في الموقف تجاه سياسة خروتشوف، التي تمت صياغتها على أنها “طريقة خاصة لتنفيذ السياسة الخارجية من خلال تهديد الإمبرياليين بالحرب”، وكان الجزء الذي لا يتجزأ منها هو العلاقات الاستراتيجية مع الصين على أساس مبدأ “يد بيد”، وهذا الخط قد أتى ثماره بشكل عام. لذلك، فإن الأمر يستحق النظر إليه بعقل متفتح.
إنها الحرب الكبرى في أوروبا والتصعيد النووي الذي يخاف منه الناخبون الغربيون، على الرغم من التصريحات العدائية لبعض السياسيين الغربيين. تتفهم واشنطن هذا أيضًا، على الرغم من أنها سلكت طريق التصعيد الزاحف، الذي يمكننا إحباطه من خلال اتخاذ تدابير أفضل نوعًا من التدابير الغربية، بما في ذلك تلك التي أعلنها الرئيس بوتين في 21 سبتمبر.
علاوة على ذلك، حافظنا على وعدنا للأمريكيين بالحفاظ على سرية شروط التسوية. وكان هذا تبادلًا متزامنًا لسحب صواريخنا من كوبا مقابل انسحاب مماثل للصواريخ الأمريكية من تركيا. كما تلقينا تأكيدات بأن الولايات المتحدة لن تهاجم كوبا، ما ساهم هذا إلى حد كبير في سوء فهم الرأي العام السوفيتي لما حدث بالفعل، وفي المقابل، سوقت الدعاية الأمريكية على أنها هزيمة موسكو، والتي من المفترض أنها ساعدت جون كينيدي على النجاة من أزمة الصواريخ الكوبية. هذا هو السبب في أنه من المهم وضع النقاط على الحروف في هذه الحالات.
الآن أصبح هذا الأمر مهمًا أكثر من أي وقت مضى. لسنا نحن من نقترب من حدود الناتو لكن الحلف يقترب من حدودنا، وهو ما يجبرنا على الرد، على ضوء الطابع الوجودي للمواجهة المفروضة علينا. هذا، بدوره، يشير إلى وثائقنا القاعدية، والتي يجب أيضًا مناقشتها، بما في ذلك علنًا. لذا، لا يجب أن تنسى العواصم الأوروبية أن الأسلحة النووية التكتيكية تم إنشاؤها كسلاح للحرب في أوروبا وهي أمريكية. إن استخدامه ضد روسيا يهدد أراضي الولايات المتحدة نفسها.
إن التشابه بين الوضع الحالي في أوكرانيا وأكتوبر 1962 هو أن واشنطن أوضحت علانية مواقفها الراديكالية. قلل هذا من هامش المناورة للأمريكيين وكان بمثابة وسيلة للضغط على موسكو. نحن نتصرف الآن بنفس الطريقة تمامًا من خلال الإعلان علنًا عن أهداف الأسلحة النووية التكتيكية، لكن هذه المرة، فإن استراتيجيتنا تحد بالفعل من مساحة واشنطن للمناورة وتجبرها على الارتجال على طول الطريق، بما في ذلك ضغط العقوبات (من الواضح أنه لم يتم حسابها من حيث مدة الإجراء – كان الحساب فقط للحرب الخاطفة)، ما فتحت لنا مساحة واسعة للمواجهة والتأثير على الوضع الاقتصادي والسياسي الداخلي للدول الغربية، والدول الأوروبية في المقام الأول. هذا هو الفرق، وهذه ميزتنا المفهومة جيدًا في العواصم الغربية. لقد توصلنا إلى الاستنتاج الصحيح من التجربة، بما في ذلك أزمة منطقة البحر الكاريبي: لا توجد دبلوماسية سرية، كل الأوراق على الطاولة وأمام الجميع، بالإضافة إلى الدبلوماسية المدعومة بالقوة.
أما المكافآت الإضافية لهذا النهج فهي إضفاء الطابع المؤسسي على العملية العسكرية الخاصة، طالما أن الولايات المتحدة أرادت “صراعًا طويل الأمد” (العيش معها لمدة ستة أشهر يعني أنها ستستمر في العيش – وهذا يبرز أيضًا من حالة الارتباك التي تعاني منها النخب الغربية). كما أن ما يميز الوضع في أوكرانيا عن أزمة الكاريبي – التعبئة الجزئية التي يضفي عليه أبعاد حرب الشعب، وتساهم في تكوين دولة جديدة نوعيًا.
في الوقت ذاته، هناك اختلافات كبيرة أخرى. فأنذاك كان من الممكن والضروري التفاوض، وهو ما حدث. أما هذه المرة، فالتسوية التفاوضية غير واردة. فقط من جانب واحد، اعتمادًا على نتائج العملية العسكرية في أوكرانيا، والتي لا يمكن إلا أن تكون حاسمة ولا رجعة فيها. من المفترض أن يكون هذا إعادة تنظيم كامل لمساحة أوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفيتي، من خلال استفتاءات في شكل مناطق من غرب أوكرانيا، والتي يمكن تضمينها في رومانيا والمجر وبولندا، وعلى سبيل المثال، مناطق تخضع للوصاية بالاتفاق داخل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وكما كان الحال بالنسبة للأمريكيين في ذلك الوقت، فأن لدينا الآن ميزة جغرافية – وهي القرب من أراضينا، خلافًا لما كان عليه الحال في أزمة الكاريبي، ثم كانت هذه الميزة واضحة إلى جانب الولايات المتحدة – الحصار البحري لكوبا. الآن لدينا أوراق جيدة في أيدينا، بما في ذلك لخلق تهديدات، على سبيل المثال، لدول البلطيق وبولندا، وحتى فنلندا بحدودها الشاسعة مع روسيا.
وأخيرًأ، بينت الاحداث أن الغرب بأكمله، وكل من الناتو والاتحاد الأوروبي، بتناقضاته على طول الخطوط الغربية والشرقية والشمالية والجنوبية، أصبح على مرمى البصر. ومن هنا فأن تأثير العقوبات المرتدة، وبالتالي عامل الوقت، سيؤثر على أوروبا والولايات المتحدة بشكل مختلف، مما يخلق مشاكل للممرات عبر الأطلسي. إن أوروبا وهي تنهار، تتحول إلى ملحق بالولايات المتحدة مع احتمال خطة مارشال أخرى – في مجالي الطاقة والاستثمار.
إن ضعف اليورو بالفعل بشكل ملحوظ مقابل الدولار هو من جملة أشياء تشير إلى أن الأزمة الأوكرانية هي بالأساس مؤامرة على أوروبا، وأن المواجهة مع روسيا هي أداتها.
المصدر : الرابطة الدولية للخبراء والمحللين السياسيين