عند النظر إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2024 من حيث علاقتها بالعالم ومناطق الاهتمام الأمريكي فيه تبرز مفارقتان الأولى عامة نجدها في كل انتخابات رئاسية، وتتصل بالعلاقة بين العوامل الداخلية والخارجية في برامج المرشحين وحملاتهم الانتخابية وكذا في اهتمام الناخبين بهذه القضايا. فبصفة عامة، تعد العوامل الداخلية المتعلقة بالاقتصاد وفرص العمل ونسب التشغيل والبطالة، وغيرها العوامل الرئيسية في تحديد اتجاهات الناخبين وفرص نجاح كل مرشح.
واتساقاً مع ذلك، فإن الموضوعات التي ركز عليها المرشحان الرئيسيان المتنافســان عــلـى منصب الرئاسة، وهما دونالد ترامب الرئيس السابق ومرشح الحزب الجمهوري، وكامالا هاريس نائبة الرئيس جو بايدن ومرشحة الحزب الديمقراطي، كانت داخلية بامتياز. بـرز ذلك في الأحاديث الصحفية واللقاءات التلفزيونية، وفي خطابي قبولهما الترشح للرئاسة، وفي المناظرة التي جرت بينهما في 10 سبتمبر 2024، والتي ركزت على قضايا انخفاض معدل النمو الاقتصادي، والهجرة، والإجهاض.
المفارقة الثانية تتعلق بانتخابات ،2024، فعلى الرغم من الأهمية المتزايدة لآسيا – وفي قلبها الصين – من منظور الأمن القومي الأمريكي وحفاظ الولايات المتحدة على دورها القيادي في العالم، فإن أصداء الغارات الجوية والصواريخ والمدافع لمعارك الحرب الروسية الأوكرانية وحرب إسرائيل في فلسطين ولبنان، طغت عليها.
في هذا السياق، يسعى هذا المقال إلى تحليل أهمية القارة الآسيوية من منظور الاستراتيجية الأمريكية، ثم يعرض لكل من خبرة ترامب وهاريس تجاه آسيا، ومواقفهما بشأن القضايا الآسيوية الجوهرية كما ظهرت خلال الحملة الانتخابية.
أولاً: آسيا في الفكر الاستراتيجي الأمريكي لا شك أن آسيا تحتل مكانة خاصة في العقل الاستراتيجي الأمريكي، بسبب الصعود الاقتصادي الكبير لعدد من دولها، وأبرزها الصين، ما دفع الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما إلى إعلان سياسة “التوجه صوب آسيا Pivot to Asia) في عام 2011. كما اهتم الباحثون والخبراء الأمريكيون بالآثار الجيوسياسية المترتبة على صعود مكانة الصين في الاقتصاد العالمي، وإطلاقها مبادرة الحزام والطريق في عام 2013، وهو الصعود الذي تنبأ عدد من الباحثين بأنه سيكون الحدث الأكثر أهمية في القرن الحادي والعشرين. وإلى جانب الصين، فإن القارة تضم كوريا الشمالية وإيران وهما من الدول التي تتبع سياسات تعتبرها واشنطن عدائية لها وفرضت عليهما العديد من العقوبات الاقتصادية.
في آسيا، حارب الجنود الأمريكيون على أكثر من جبهة قتال وفي أكثر من دولة، فبعد الهجوم المباغت لليابان على ميناء بيرل هاربور في عام 1941 شاركت القوات الأمريكية في القتال ضد اليابان على أكثر من جبهة، وتولى الجنرال دوغلاس ماكارثر قيادة القوات البرية الأمريكية في المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا، ثم استخدمت واشنطن السلاح النووي لأول مرة في مدينتي هيروشيما في 6 أغسطس، وناغازاكي في 9 أغسطس 1945، لإجبار اليابان على الاستسلام من دون قيد أو شرط، وهو ما تحقق في 2 سبتمبر 1945، فاحتلتها القوات الأمريكية وتولى ماكارثر منصب الحاكم العسكري خلال الفترة بين عامي 1945 و 1951.
حارب الأمريكيون أيضاً في شبه الجزيرة الكورية تحت علم الأمم المتحدة دعماً للطرف المؤيد للغرب في الجنوب ضد الطرف الشيوعي في الشمال خلال الفترة بين عامي 1950 و1953، وانتهت الحرب بتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار في 27 يوليو 1953، وتم إنشاء منطقة منزوعة السلاح بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. وعلى الرغم من مرور أكثر من سبعين عاماً على وقف القتال، فإنه لم يتم إبرام معاهدة قانونية لإنهاء الحرب، تُمهد لإقامة علاقات دبلوماسية بين واشنطن وبيونغ يانغ.
كما شاركوا في الحرب بين فيتنام الجنوبية المؤيدة للمعسكر الغربي، وفيتنام الشمالية المؤيدة للمعسكر الشرقي خلال الفترة بين عامي 1955 و 1975. وقد تضمنت هذه المشاركة في البداية تزويد جيش فيتنام الجنوبية بالسلاح والذخائر والمستشارين العسكريين، ثم تطورت لتشمل المشاركة الفعلية في القتال، وتدريجياً زاد عدد القوات الأمريكية من أقل من ألف جندي في عام 1959، إلى ما يزيد على 180 ألفا في النصف الثاني من الستينات، من القوات البرية والبحرية ولكن هذا الدعم العسكري الهائل لم يحقق هدفه، فاضطرت القوات الأمريكية إلى الانسحاب تماماً من فيتنام في أغسطس 1973 ، وكان ذلك بداية النهاية لفيتنام الجنوبية التي اندحر جيشها بسقوط العاصمة سايغون في إبريل 1975 في أيدي قوات جيش فيتنام الشمالية والجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام (الفييت كونغ).
وفي عام 2001 حارب الأمريكيون في أفغانستان، رداً على أحداث 11 سبتمبر، وبدعـــــوى محاربة الإرهاب، ومعاقبة حركة طالبان على دورها في هذه الأحداث. وعلى مدى سنوات الحرب التي استمرت لعشرين عاماً، فَقَدَ آلاف الأمريكيين من الجنود والعاملين أرواحــــم، وتكلفت الخزانة الأمريكية نفقات باهظة؛ إذ تعد الحرب في أفغانستان ثالثة أكثر الحروب كلفة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية وحرب العراق. وقد وفر الوجود العسكري الأمريكي في أفغانستان مزايا استراتيجية، فهذه الدولة تشغل موقعاً جيوسياسياً مهماً، فلها حدود مع ست ت دول، ويسمح لها موقعها بالتأثير في خطوط الاتصال بين وسط وجنوب وغرب آسيا.
ونتيجة لتأثير التقدم العسكري لحركة طالبان المعادية للوجود الأمريكي، قامت إدارة الرئيس ترامب بإجراء مفاوضات معها، وإبرام اتفاق بالانسحاب في عام 2019، ثم اتخذت إدارة الرئيس بايدن قرار الانسحاب وتم تنفيذه في يوليو 2021 بعد أن كانت قوات طالبان قد سيطرت على أغلب محافظات البلاد وبدأت في دخول العاصمة كابول.
تحظى الهند أيضاً بمكانة مهمة في الاستراتيجية الأمريكية، فهي دولة نووية وقوة اقتصادية بازغة تهدف إلى أن تشغل المركز الخامس بين اقتصادات العالم، وازدادت أهميتها في عام 2023 بعد إعلان واشنطن الاتفاق على إنشاء ممر وطريق مواصلات جديد للسفن والسكك الحديدية يربط الهند بالشرق الأوسط ومنه إلى أوروبا والدول الأخرى.
وتبقى الإشارة إلى ما بدأتُ به هذا الجزء وهو الصين؛ فهي واسطة العقد في سياسة أمريكا الآسيوية، والتي تعتبرها وثائق الأمن القومي الأمريكي الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك عناصر القوة الشاملة – الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية – التي تمكنها من تحدي الدور العالمي لأمريكا. وأكدت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة في أكتوبر 2022 في عهد الرئيس بايدن هذا التوجه، فاعتبرت أن الصين تمثل تهديداً استراتيجياً رئيسياً.
لذلك، اتبعت واشنطن سياسات عسكرية من شأنها تطويق الصين والتنازع معها في بحر الصين الجنوبي، من أهمها، تحالف أوكوس الذي أنشئ في سبتمبر 2021 ويضم الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا. واتبعت أيضاً سياسات تجارية لفرض قيود ووضع عوائق تعطل من معدل النمو الصيني، وعلى حركة دخول الصادرات الصينية إلى الأسواق الأمريكية، والتضييق على حصول الصين على بعض المواد الاستراتيجية.
كما قامت واشنطن بعقد تحالفات مع الدول الآسيوية التي لديها مشاكل حدودية مع الصين، وحذرت واشنطن دول العالم من التعامل مع الصين في مجال تكنولوجيا الاتصالات المتقدمة، وتحديداً تقنية الجيل الخامس من الهواتف الذكية (Huawei)، بدعوى أن الصين تستخدمها لأغراض التجسس وجمع المعلومات.
يربط أمريكا بالصين علاقات معقدة، تتضمن مصالح مشتركة ومخاوف عميقة، ما جعل الفكر الاستراتيجي الأمريكي يتأرجح في موقفه تجاه الصين بين المنافسة والتعاون والصراع؛ ففي بعض المجالات، تزداد فرص التعاون مثل مواجهة التغيرات المناخية والحفاظ على البيئة. وفي المجال الاقتصادي تختلط عناصر المنافسة والصراع، ويغلب التوتر والصراع في المجال العسكري والأمني المتعلق بحرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي ومستقبل تايوان. ويطلق كثير من الباحثين على هذه العلاقات المعقدة تعبير الحرب الباردة الجديدة.
ثانياً: خبرة المرشحين بالقضايا الآسيوية
من الواضح أن هناك اختلافاً بين ترامب وهاريس من حيث الخبرة في إدارة السياسة الخارجية عموماً، وخصوصا مع الصين، وما هو المتوقع من أي منهما في حالة انتخابه رئيساً للولايات المتحدة. فمن ناحية، يمتلك ترامب خبرة عملية في إدارة السياسة الخارجية لبلاده على مدى سنوات حكمه الأربع، والتي ظهر فيها توجهاته نحو الدول الآسيوية.
ومن ناحية أخرى، فان هاريس لا تمتلك مثل هذه الخبرة، فقد شغلت في حياتها العديد من المناصب المحلية وصولاً إلى منصب المدعى العام في ولاية كاليفورنيا، ثم انتُخِبَت عضواً في مجلس الشيوخ حتى عام 2020. وخلال هذه المسيرة، ركزت هاريس على القضايا الداخلية خصوصاً إصلاح العدالة الجنائية وقضية الهجرة. ومع ذلك تنبغي الإشارة إلى مشاركتها بصفتها عضوة في مجلس الشيوخ في تبني عدد من مشروعات القوانين الخاصة بالدفاع عن حقوق الإنسان في مقاطعة شينغيانغ الصينية وهونج كونج وميانمار، وانتقدت قرار الرئيس السابق ترامب بفرض رسوم جمركية إضافية على الواردات الصينية لعدم اعتقادها في جدوى الحرب التجارية ضد الصين، كما انتقدته لعدم قيامه بالجهد الكافي لكبح جماح التهديدات النووية لكوريا الشمالية.
عندما أعلن الرئيس بايدن انسحابه من الحملة الانتخابية في يوليو 2024 وترشيح هاريس بدلاً منه ثارت التساؤلات في واشنطن وعواصم العالم الكبرى حول خبرتها في مجال السياسة الخارجية، وما هي الأولويات والأفكار التي تتبناها. وكان التقدير الأرجح، أنها سوف تمثل امتداداً لسياسة ،بايدن، وأنه لا توجد دلائل على أنها في فترة عملها كنائبه للرئيس كانت لهـا مواقف مختلفة عن بايدن أشار البعض إلى أنها كانت عضواً لفريق السياسة الخارجية للرئيس بايدن، وأنها اطلعت في سنوات عملها كنائبة للرئيس على مئات التحليلات وتقديرات المواقف بشأن تطور القضايا الدولية وتأثيرها في الأمن الأمريكي، وأنها سافرت إلى عدد من الدول الآسيوية لإبراز الدعم الأمريكي لها في مواجهة الصعود الجيوستراتيجي للصين في منطقة المحيطين الهندي والهادئ؛ ففي عام 2021 سافرت إلى سنغافورة وفيتنام، وفي عام 2022 إلى الفلبين وتايلاند وكوريا الجنوبية واليابان، وفي عام 2023 إلى إندونيسيا للمشاركة في اجتماع قمة دول رابطة الآسيان.
وكشفت تصريحاتها في هذه الزيارات عن الموقف الأمريكي تجاه الصين، ودور أمريكا في حفظ الأمن في منطقة المحيطين. ففي زيارتها إلى سنغافورة في عام 2021، قالت: “نعلم أن بكين تواصل الإكراه والترهيب والمطالبة بالغالبية العظمى من بحر الصين الجنوبي“، وأن تصرفاتها تؤدي إلى تقويض النظام الدولي القائم على القواعد وتهدد سيادة الدول، مؤكدة التزام بلادها الحاسم بدعم حلفائها”. وفي زيارتها لليابان في عام 2022 للمشاركة في جنازة رئيس الوزراء شينزو آبي، التقت بالجنود الأمريكيين في إحدى القواعد العسكرية البحرية، وذكرت في كلمتها أن “بكين تتبع سلوكاً مقلقاً في بحري الصين الشرقي والجنوبي، وتقوم بأعمال استفزازية في مضيق تايوان، مؤكدة رفض واشنطن لأي محاولة صينية للاستيلاء على تايوان “. وفي زيارتها للفلبين في نفس العام، انتقدت مضايقات الصين المستمرة للسفن الفلبينية في مياه بحر الصين الجنوبي.
ويبدو أن الصين تطلعت أيضاً لمعرفة المزيد عن هاريس، وهو ما يشير إليه ما حدث في زيارة جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي إلى الصين في أغسطس 2024، والتي التقى فيها مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، ووزير الخارجية الصينية وانج يي، والجنرال تشانج يوشيا نائب رئيس أعلى هيئة عسكرية في الصين.
فقد حرص سوليفان على تطمين“ القادة الصينيين بشأن استقرار العلاقات بين الدولتين في حالة فوز هاريس في الانتخابات. وفي المؤتمر الصحفي الذي عقده في نهاية الزيارة، أشار إلى أن السيدة هاريس كانت عضواً رئيسياً في فريق السياسة الخارجية للرئيس بايدن وباعتبارها نائبة له التقت مع الرئيس الصيني شي ورئيس الوزراء لي تشيانغ، وأنها معروفة لأعلى قيادتين في الصين. وأكد سوليفان أنها سوف تواصل سياسة بايدن في إدارة التنافس مع الصين دون اللجوء إلى صراع أو مواجهة، وأنها تُقدّر استمرار خطوط الاتصال المفتوحة رفيعة المستوى بين الدولتين 10.
تمثل العلاقة مع الهند نقطة قوة لدى هاريس، فهي من أم هندية أثرت في تكوين شخصيتها كما ذكرت هاريس عند لقائها برئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في واشنطن في يونيو 2023″. ومع أن السياسيين لا يُقدرون المصلحة الوطنية لبلادهـــم وفـقـــاً لاعتبارات الأصل والمنشأ، فإنها تيسر لهم التواصل مع الآخرين، وبالذات في داخل الولايات المتحدة، كعلاقة أوباما بأفريقيا، وبايدن بإيرلندا. فالهند دولة مركزية في عالم الجنوب. وقد طورت إدارة بايدن علاقاتها بها، وذلك باعتبارها تقوم بدور الموازن“ مع الصين، وأنها شريك استراتيجي في السياسة الأمريكية تجاه منطقة المحيطين.
ثالثاً: الاتجاهات الرئيسية للمرشحين
هناك عادة إطار ناظم لدى كل سياسي أو رجل دولة يؤثر في توجهاته ومواقفه تجــاه القضايا المختلفة. يمكن أن نحدد هذا الإطار في حالة ترامب بأنه يتسم بالواقعية المفرطة التي تؤدي إلى استخدام عبارات حادة وأحياناً “مهينة” للآخرين، والثقة الزائدة بالذات وبالقدرة على إجراء الصفقات وشعوره بالقوة التي تؤثر في سلوك الغير، ومن ثم اتهامه بايدن بالضعف وأن وجود رئيس قوي يمنع الحرب من الأساس، فمثلاً صرح المتحدث باسم حملته، في 24 سبتمبر 2024، أن إيران تحب ضعف كامالا هاريس في السياسة الخارجية 12. أما هاريس، فإنها أكثر ارتباطاً بالإطار السياسي للحزب الديمقراطي الذي يؤكد الحلول الدبلوماسية والتحالفات مع الدول الأخرى، والدفاع عن المبادئ الديمقراطية، وأن الحفاظ على المصلحة الأمريكية يتطلب تبني الريادة في تحديد قواعد الطريق.
في هذا السياق، فإن متابعة تصريحات المرشحين خلال الحملة الانتخابية تشير إلى أن الاهتمام بالقارة الآسيوية – على الرغم من قلته – ركز على ثلاثة موضوعات، هي: كيفية التعامل مع التحدي الصيني، ودروس وخبرة الانسحاب من أفغانستان، والتعامل مع التهديد الذي تمثله كوريا الشمالية.
في حالة الصين، وبينما اتسمت سنوات رئاسة ترامب الأولى بالمواجهة المباشرة، والعداء الصريح، وسخونة التوترات العسكرية في مضيق تايوان وتبني أساليب الحرب التجارية بهدف عرقلة نمو الاقتصاد الصيني، كانت تصريحات هاريس تتصف بأنها أكثر اعتدالاً وتجمع ما بين إدارة التنافس و “التصعيد المسؤول.
استمر التزام ترامب في حملته الانتخابية 2024 بخطه المتشدد، فتعهد في مقابلة له مع وكالة بلومبرغ، بتاريخ 16 يوليو 2024 ، بفرض رسوم جمركية جديدة على الواردات الصينية بنسب تتراوح بين 60% و 100%13، وبوضع قيود صارمة على أي ملكية للشركات الصينية الكبرى في أمريكا. وجدير بالذكر، أنه بعد سنوات من دعوة ترامب إلى ضرورة منع تطبيق التيك توك المملوك لإحدى الشركات الصينية في الأراضي الأمريكية، ففي هذه المقابلة، ذكر أنه لم يعد يفكر في هذا الأمر.
وفي مقابلة له مع إيلون ماسك، مالك منصة X في 13 أغسطس 142024، حذر ترامب من أن الصين سوف تلحق بالولايات المتحدة أو تتفوق عليها في حجم ترسانتها النووية التي تملكها، وهو الرأي الذي علقت عليه وزارة الخارجية الصينية، مشيرة إلى أن الصين لا تدخل في سباق تسلح مع أحد.
ولقد تعمد ترامب في تصريحاته وأحاديثه الإشارة إلى الخطر الذي تمثله الصين على أمريكا، ويدل على ذلك ملاحظة أنه أشار 14 مرة إلى الصين في خطاب قبول ترشيح الحزب الجمهوري له في 18 يوليو 2024، متفاخراً بأنه نجح في إبقاء بكين بعيدة خلال سنوات رئاسته. وفي نفس الخطاب، أعرب عن أسفه لإخلاء إدارة بايدن قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان، والتي حسب قوله تبعد ساعة واحدة عن مركز الصناعات النووية الصينية 15.
کرر ترامب موقفه تجاه الصين في المناظرة بين المرشحين، فتفاخر مرة أخرى بأنه الرئيس الأمريكي الوحيد الذي أدت الرسوم التي فرضها إلى “جلب مليارات الدولارات مــــن جيوب الصينيين“. ومع أن إدارة المناظرة لم تُوجه لأي من المرشحين سؤالاً عن الصين، فقد اشتبكا في نقاش حاد بشأن السياسة الاقتصادية الواجب اتباعها تجاهها.
انتقدت هاريس اقتراح ترامب بفرض رسوم جمركية عالية على البضائع القادمة من الصين، باعتبار أن ذلك سوف يؤدي إلى ارتفاع معدل التضخم في أمريكا وإيجاد حالة من الركود الاقتصادي، ودعمت رأيها بالاستشهاد بوجهة نظر سته عشر عالماً من الحاصلين على جائزة نوبل في الاقتصاد. ورد ترامب، بأن إدارة بايدن أبقت العمل بالرسوم الجمركية التي فرضها على الواردات من الصين، مما يعني أنها مفيدة للاقتصاد الأمريكي. علقت هاريس بانتقاد السياسات الاقتصادية في عهد ترامب، وأنها أوجدت عجزاً تجارياً هو الأعلى في تاريخ أمريكا، وذكرت أن سياساته سمحت بنقل تكنولوجيا صناعة الرقائق الأمريكية إلى الصين، ما أدى إلى تحديث قدرات الجيش الصيني وزيادة قوته، فسارع ترامب بالرد بأن الصين اشترتها من تايوان وليس من أمريكا.
ويبدو أن هاريس استخدمت كل أوراقها ضد ترامب، فانتقدت أيضاً علاقتــه مـع الرئيـس الصيني شي بسبب تغريده كتبها على موقع X، أثنى فيها على طريقة تعامل الرئيس الصيني مع جائحة كوفيد 19. لم تكن الآراء التي عبرت عنها هاريس في مناظرة 2024 جديدة؛ بل أفصحت عنها من قبل في عام 2020 في المناظرة بينها بصفتها مرشحة لمنصب نائب الرئيس، مع مايك بنس نائب الرئيس ترامب. أشارت هاريس في تلك المناظرة إلى أن أمريكا خسرت الحرب التجارية مع الصين، وأن اتباع ترامب لهذه السياسة أضر بالاقتصاد الأمريكي ضرراً بالغاً، وأنها تسببت في حالة الركود التي يعانيها، وأن الإطار الحاكم للعلاقة مع الصين ينبغي أن يكون إزالة المخاطر وليس الانفصال عن الصين، مؤكدة أهمية إبقاء خطوط الاتصال مفتوحة من أجل إدارة المنافسة بين بلداننا بشكل مسؤول“.
وبالفعل، ففي ظل إدارة بايدن / هاريس سعت أمريكا إلى تهدئة الخلافات التجارية بين الدولتين، فشجعت زيادة الصادرات الأمريكية إلى الصين، مع استمرار فرضها القيود لعرقلة نمو الاقتصاد الصيني وقدراته في مجال التكنولوجيا المتقدمة، وخصوصاً في صناعة أشباه الموصلات والسيارات الكهربائية، وشجعت الدول الأخرى على اتباع هذه السياسـة مــن خــلال تحالفاتها الدولية.
في هذا السياق، لا ينبغي التضخيم من حجم الخلاف بين ترامب وهاريس بشأن الصين، فقد اتفقا في مناظرة 2024 على أهمية استخدام التعريفة الجمركية بصفتها أداة اقتصادية، وإن اختلفا بشأن مجالات استخدامها، والدول التي تُستخدم ضدها. هناك مساحة واسعة من التوافق بين الاثنين، فإلى جانب موضوع الرسوم الجمركية، يتفقان على سياسة وضع ضوابط تصدير التكنولوجيا الأمريكية إلى الصين، والتعاون مع الدول الأخرى لاحتوائها وتعزيز الردع العسكري.
الخلاف بينهما يتعلق بكيفية تطبيق هذه السياسات، وليس الهدف. فالهدف الذي تعهدت هاريس بالعمل على تحقيقه في خطابها بعد قبول ترشيح الحزب الديمقراطي لها، هو “القيام بكل ما في وسعها للتأكد من أن الولايات المتحدة ستقود العالم في مستقبل بحوث الفضاء والذكاء الاصطناعي، وأن أمريكا، وليست الصين، سوف تفوز بالمنافسة في القرن الحادي والعشرين ، وكانت هي المرة الوحيدة التي أشارت فيها إلى الصين. واتصالاً بذلك، فقد التزم ترامب وهاريس بالدفاع عن تايوان في مواجهة التهديد العسكري الصيني؛ فتعهدت هاريس في عام 2022 ، باستمرار الالتزام الأمريكي بالدفاع عن تايوان.
أما ترامب، فقد أكد أيضاً استمرار الدعم الأمريكي لتايوان ولكنه وجه انتقادات لها، فذكر في مقابلته مع بلومبيرغ أن عليها ” أن تدفع مقابل الدفاع عنها لأنها لا تقدم للولايات المتحدة أي شيء بالمقابل، واعتبر ترامب أن الولايات المتحدة هي بمنزلة شركة تأمين مشيراً إلى أن شركات التأمين لا تُقدم خدماتها مجاناً، بل واتهمها بسرقة تكنولوجيا الرقائق من أمريكا.
انعقدت المناظرة بين ترامب وهاريس في الذكرى الثالثة للانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان في أغسطس 2021 بعد حرب استمرت عشرين سنة، وقبلها بيوم أصدر الأعضاء الجمهوريون في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب بياناً، حملوا فيه مسؤولية هذا الانسحاب لإدارة “بايدن هاريس“.
وركز البيان على انتقاد دور هاريس في هذا الشأن، وذلك لإضعاف موقفها في الانتخابات وفي المناظرة. وتم توجيه سؤال إلى هاريس بما إذا كانت تشعر كنائبة للرئيس بأي مسؤولية بشأن ما حدث، فتجنبت الإجابة عنه بشكل مباشر، مؤكدة دعمها لقرار الرئيس بايدن بالانسحاب، وأن أربعة رؤساء سابقين تعهدوا باتخاذ هذا القرار ولم يفعلوا شـ ا شيئاً، بينما اتخذ بايدن القرار.
وقد هاجمت هاريس ترامب باعتباره مسؤولاً عن بداية التفاوض مع حركة طالبان في فبراير 2020 حول الانسحاب، واتهمته بأنه قام بذلك من وراء ظهر وبدون علم الحكومة الأفغانية المدعومة أمريكياً. وبدوره، دافع ترامب عن موقفه الذي برره برغبته في حماية أرواح الجنود الأمريكيين، وادعى أن هذا الانسحاب الفوضوي أدى إلى سقوط أسلحة ومعدات أمريكية في يد طالبان يُقدَّر ثمنها بمبلغ 85 مليار دولار.
وبخصوص شبه الجزيرة الكورية، اتبعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة سياسة تحالف مـع كوريا الجنوبية، وعداءً صريحاً مع كوريا الشمالية. وباستثناء الرئيس ترامب الذي سعى إلى التواصل الحذر“ مع كيم جونج أون رئيس كوريا الشمالية وعَقَدَ معه اجتماع قمة في سنغافورة في 12 يونيو 2018، ثم اجتمع معه في 27 فبراير 2019 في العاصمة الفيتنامية هانوي والتقاه مر مرة ثالثة يوم 30 يونيو 2019 في المنطقة منزوعة السلاح بين الكوريتين؛ فإن سياسة العداء كانت هي الغالبة على السلوك الأمريكي.
واستمر ترامب في هذا الاتجاه في انتخابات 2024 ، فورد في خطاب قبوله الترشح لخوض انتخابات الرئاسة، أنه يشعر بالتفاهم والانسجام مع الرئيس الكوري، ووفقاً لكلماته أتفق معه وقد يرغب في رؤيتي مجدداً، أعتقد أنه يفتقدني“. وردت وزارة الخارجية في كوريا الشمالية ببيان ورد فيه أن المطلوب هو أن تختار الإدارة الأمريكية الخيار المناسب في إدارة العلاقات مع بيونغ يانغ، وذلك بغض النظر عمن يفوز في الانتخابات القادمة، مضيفة إلى أن حالة الارتباك السياسي والانقسامات بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي سوف يحول دون اتخاذ مثل هذا القرار.
ومع أن البرنامج الانتخابي للحزب الديمقراطي قد خلا من العبارة التي وردت في برامج سابقة، وهي النزع الكامل والقابل للتحقق للسلاح النووي الكوري الشمالي“، ففي خطاب قبولها ترشيح الحزب الديمقراطي لها، التزمت هاريس باتباع سياسة حازمة ولا هوادة فيها مع كوريا الشمالية، وأنها لن تُحسّن العلاقات مع الطغاة والدكتاتورين الذين يؤيدون ترامب، لأنهم يعرفون أنه من السهل التلاعب به بالمجاملات والمحسوبيات.
رابعاً: آسيا والانتخابات الرئاسية الأمريكية
سبق القول إن الانتخابات الرئاسية الأمريكية تدور بشكل رئيسي حول القضايا الداخلية التي تواجه المواطنين الأمريكيين، وأن اهتمام الرأي العام في هذه الفترة ركز على متابعة تطورات القتال في أوكرانيا والشرق الأوسط، وذلك في سياق يتسم بالانقسام وشيوع حالة من الاستقطاب السياسي والاجتماعي بين أنصار الحزبين الكبيرين، وبسبب شخصية ترامب واتجاهه نحو تبسيط الأمور والإدلاء بتصريحات مُبالغ فيها أو غير حقيقية، فإنه لم تتـح الفرصة لإجراء مناقشات عميقة وجدية حول السياسات الخارجية الأمريكية في آسيا.
تراقب العواصم الآسيوية المشهد الانتخابي الأمريكي بدقة، بحكم الدور القيادي لواشنطن في العالم والمصالح والعلاقات المتبادلة بينها ودول المنطقة، واحتمالات تطورها في حالة فوز أي من ترامب أو هاريس، وتحرص جميعها على عدم اتخاذ أي موقف يشير إلى تفضيلها لأي منهما، وإن كان حسب شهادة براد سميث، رئيس شركة ميكروسوفت، أمام لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ في شهر سبتمبر 2024، أن الصين تتدخل إلكترونياً للإضرار بالانتخابات الأمريكية، ولكن دون مساندة أي من المرشحين، في الوقت الذي تتدخل فيه روسيا لصالح ترامب وإيران لصالح هاريس.
وفي كل الأحوال ثمة قضايا وملفات آسيوية كبرى على أجندة الرئيس الأمريكي المقبل حيث تظل العلاقات الاقتصادية بين الاقتصاد الأكبر في العالم والاقتصاد الثاني الذي يلاحقه، والتداعيات السياسية والعسكرية المترتبة على ذلك، هي القضية الرئيسية التي تواجه الرئيس القادم، وتحديداً، كيف يتم إدارة المنافسة بين الدولتين بما فيها وضع قواعد لتنظيم الصراعات بينهما، وذلك في سياق ازدياد التقارب بين الصين وروسيا، والذي كان من مظاهره المناورات البحرية المشتركة بينهما في بحر اليابان وبحر أوخوتسك خلال الفترة من 10 إلى 16 سبتمبر 2024، والتي تُعتبر أكبر مناورات بحرية أجرتها روسيا منذ انتهاء الاتحاد السوفيتي في عام 1991.
وبالنسبة للهند، فقد تطورت علاقات الشراكة مع الولايات المتحدة في ظل إدارات أوباما وترامب وبايدن، مع احترام اختلاف المصالح بين الدولتين بخصوص قضايا معينة. يعتقد البعض أن الهند سوف ترتاح لنجاح ترامب، نظراً لكيمياء العلاقات الخاصة بينه ورئيس الوزراء ناريندرا مودي، بينما يرى آخرون أن الأصل الهندي لكامالا هاريس يجعلها أكثر قرباً لنيودلهي.
وسوف تُمثل كوريا الشمالية موضوعاً مهماً على جدول أعمال الرئيس الأمريكـــي الـقـــادم بسبب ازدياد قدراتها المسلحة النووية والصاروخية، وتصاعد قلق الحلفاء في سيول وطوكيو من هذا التطور، وتوقيع اتفاقية التعاون الاستراتيجي بين روسيا وكوريا الشمالية، في يونيو 2024، والتي وضعت الأساس للدفاع المشترك بين الدولتين في مواجهة العدوان الخارجي وظهور السلاح الكوري الشمالي في الحرب الأوكرانية. ويؤدى هذا إلى دعم علاقات التوافق والتحالف بين أمريكا واليابان وكوريا الجنوبية وسائر الدول ذات التفكير المشابه بالمنطقة.
الأمر المرجح أن آسيا هي القوة الصاعدة في عالم القرن الحادي والعشرين، وأن الصين هي خط المواجهة الأولى مع الولايات المتحدة، وأنه تدور تنافسات وصراعات بين الدولتين على كسب ثقة وصداقة الدول الآسيوية. وتشير نتائج البحوث إلى أن الصين تحرز تراكماً منظماً للثروة والنفوذ وأنها من خلال مبادرة “الحزام والطريق” تزيد استثماراتها في دول القارة، مما يوسع من نفوذها حسب استطلاعات الرأي في هذه الدول. تحدث هذه التطورات في سياق تحول من عالم تهيمن عليه قوة عظمى واحدة، إلى عالم متعدد الأطراف، وهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه الرئيس الأمريكي الجديد في إدارة العلاقــات مـــع آسيا.
بقلم أ. د. علي الدين هلال، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة – مركز المستقبل
الهوامش
1 في كل انتخابات رئاسية أمريكية، يُوجد أيضاً مرشحون مستقلون، ولكن لا توجد لدى أي منهم فرصة في الفوز. -2 الدول الست هي الصين وإيران وباكستان، وتركمانستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان.
-3- بيارق علي عزيز، أفغانستان” في المنظور الاستراتيجي الأمريكي”، مجلة تكريت للعلوم السياسية، جامعة تكريت، العدد 30 ديسمبر
2022، ص 174.
4 إسماعيل الرزاوي ومرسي عبدالكريم عبدالرازق الاستجابة الأمريكية لتنامي صعود الصين في شرق آسيا.. الأدوات والسيناريوهات”، مجلة المستقبل العربي، المجلد رقم 47 العدد رقم 546 أغسطس 2024، ص 106
5- National Security Strategy, The White House Washington, October 2022, p 23. https://tinyurl.com/mrfcfvxu
6- أسامة فاروق مخيمر الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين.. دراسة للأسباب والقضايا”، المجلة العلمية لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة، مجلد ،24 عدد 4 أكتوبر 2023، ص ص 148-115
7- Remarks by Vice President Harris on the Indo-Pacific Region, The White House Washington, August 24, 2021.
8- Remarks by Vice President Harris Aboard the USS Howard Naval Ship, The White House Washington, September 28, 2022.
9- Remarks by Vice President Harris Aboard the Philippine Coast Guard Ship Teresa Magbanua, The White House Washington, November 22, 2022. 10- Remarks by APNSA Jake Sullivan in Press Conference | Beijing, People’s Republic of China, The White House Washington, August 29, 2024