د. طارق الشريف
ماهية نظريات المؤامرة
ينتشر هذه الأيام النقاش والجدل حول نظريات المؤامرة، خاصة مع تفشي جائحة كورونا عالميًّا والتناظر في طبيعة ونشأة الفيروس المسبب لتلك الجائحة. البعض يؤكد وجودها والآخر ينكر، وبين هذا وذاك يقف الكثيرون حيارى بين المتطرفين من كلا معسكري التأكيد والإنكار. لذا دعونا نناقش ماهية نظرية المؤامرة، تاريخ تداولها بين بني البشر مصطلحًا ومضمونًا، ما دوافعها وما مسببات نشأتها؟ وأخيرًا ما أسباب انتشار تداولها المتزايد بين الناس في الآونة الأخيرة؟
نظرية المؤامرة حسب تعريفها الشائع هو: الاعتقاد بأن حدثًا (أو موقفًا) ما ناتج عن خطة سرية وضعها شخص نافذ (أو أكثر). لكن دعنا نشرح هذا التعريف كي نصل لجوهر مصطلح نظرية المؤامرة. فهذا التعريف يشير إلى أن نظرية المؤامرة مبنية أساسًا على الاشتباه في وجود خطة سرية وضعها شخص (أو أكثر) لتمرير (أو تبرير) حدث (أو موقف) ما، بمعنى آخر أن ظاهر الأمر غير باطنه. فهل هذا يعني أن التعريف الأشمل لنظرية المؤامرة يمكن أن يكون إذن: الاعتقاد بأن حدثًا (أو موقفًا) ما ناتج عن كذب شخص نافذ (أو أكثر). سنعود لهذا، ولكن لاحقًا.
أول مرة جرى تداول هذا المصطلح كانت في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدًا في عام 1868، ولا عجب بالولايات المتحدة الأمريكية، والتي توصل باحثان في جامعة شيكاغو، وهما إريك أوليفر، وتوماس وود بعد دراسة علمية منشورة إلى أن حوالي نصف شعبها يؤيد دائمًا نظرية مؤامرة واحدة على الأقل. لكن الملاحظ أن بدايات تداول مصطلح نظرية المؤامرة كان غالبًا في ساحات المحاكم وسياق الجرائم. لاحقًا بدأ المصطلح يأخذ شعبية أكثر في الساحة السياسية، من خلال تفسير اغتيالات سياسية متتالية، وأشهرها على الإطلاق ما حدث لاحقًا في عام 1963 من اغتيال أقل ما يقال عنه إنه مريب للرئيس الأمريكي جون كيندي، أو في سياق تبرير قمع مجموعات مخالفة فكريًّا للتيار السياسي السائد، ممن وصموا بالشيوعية من قبل الحكومة الفيدرالية، ولاحقًا من النائب جوزيف مكارثي في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات.
تواصلت شعبية مصطلح نظرية المؤامرة إلى انتشار الاعتقاد بأن أحداث 11 سبتمبر (أيلول) لم تكن سوى مؤامرة نسجتها الحكومة الأمريكية سواء بالاشتراك أو بالتواطؤ؛ كي تبرر حربها التالية على أفغانستان والعراق، وما تبع ذلك من زيادة هيمنتها على المنطقة الأشد توترًا في العالم، وذلك من وجهة نظر أصحاب تلك النظرية. هذا الاعتقاد مبني كما كان الحال في حادثة اغتيال الرئيس كيندي على اتهامات بقصور التحقيقات الحكومية، وتجاهل العديد من الشهادات، وإعلان نتائج تفتقر بعضها إلى أبسط مبادئ الفيزياء، كالرصاصة السحرية التي أصابت الرئيس كينيدي وحاكم تكساس في مواضع مختلفة من الجسد وغيرت اتجاهها عدة مرات.
ولم يقتصر استخدام هذا المصطلح على الأحداث السياسية، بل امتد أيضًا إلى مجال الصناعة والاقتصاد. ومنها على سبيل المثال نظريات المؤامرة المتعددة والموجهة لشركات الأدوية العملاقة بالتأثير في صناع القرار المحلي ممثلًا في وزارات الصحة، أو الدولي ممثلًا في منظمة الصحة العالمية. هذا التأثير يتراوح حسب أصحاب نظريات المؤامرة تلك بين الحصول على تراخيص لعقاقير أو للقاحات تفتقر بعضها لدراسات إكلينيكية كافية، وبين منع تراخيص لوسائل علاج بديلة تمتلك حسب بعض الخبراء قدرات علاجية كبيرة، وكل ما تفتقر إليه هو اللوبي عند صانع القرار.
إذن كما نرى فإن نظريات المؤامرة الشائعة لم تقتصر على اتهام المشككين للحكومة أو اللوبي المرتبط بها بتمرير مخطط أو حدث ما لتحقيق مصلحة معينة، بل رأينا نظريات مؤامرة نابعة من الحكومات نفسها ضد فصيل من الشعب أو نخبته لتبرير قمعه واضطهاده، بحجة أنه يخطط لهدم النظام السياسي أو الأيديولوجي للدولة، كما وصمت المكارثية في الولايات المتحدة أشخاصًا أمثال مارتن لوثر بالشيوعية، بل أيضًا روبرت أوبنهايمر الملقب بـ«أبو القنبلة الذرية» لمجرد معارضته تطوير القنبلة الهيدروجينية نتيجة لشعوره بالندم بعد رؤيته نتائج مشروعه المدمر على البشرية.
لكن هل نظريات المؤامرة ترجع فقط للعام 1886، أي العام الذي رصد فيه هذا المصطلح لأول مرة، أم ترجع إلى عصور قديمة جدًّا ربما قدم حياة الإنسان على وجه الأرض. للإجابة عن هذا السؤال يجب أن نرجع إلى محاولة التعمق في تعريف المصطلح التي ذكرناها آنفًا. وتحديدًا عندما افترضنا أن نظرية المؤامرة ربما يمكن تعريفها بالاعتقاد في كذب طرف (أو أكثر) لتبرير أو تمرير حدث (أو موقف) ما. فهل يذكرنا هذا بشيء ما تكرر كثيرًا في تاريخ البشرية.
تكررت كلمة «كَذَّب» بهذا التشكيل 114 مرة في كتاب الله الحكيم، كلها في سياق تكذيب آيات أو رسل وأنبياء الله المرسلة لبني البشر منذ آدم حتى خاتم الأنبياء، عليه أفضل الصلاة والسلام. وكلمة «كَذَّب» (شيئًا ما) تعني لغويًّا الزعم بأن (شيئًا ما) مخالف للحقيقة. وما نظريات المؤامرة جميعها إلا مزاعم بمخالفة الحقيقة في قول أو فعل أو حدث ما. إذن من يظن أن نظرية المؤامرة وليدة اليوم أو حتى أواخر القرن التاسع عشر، حينما رُصد (المصطلح) لأول مرة، فقد يكون مخطئًا إذا كان تفسيرنا الأشمل لتعريف نظرية المؤامرة لم يتجاوز اللغة والمضمون.
فتكذيب قوم فرعون مثلًا بموسى وهارون، عليهما السلام، واتهامهم لهما بمحاولة تغيير عقيدة الآباء والأجداد حتى تكون لهما السيطرة والهيمنة في الأرض، كما ذكر في الآية الكريمة في سورة يونس «قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ»، لا تخرج عن سياق أي نظرية مؤامرة حديثة في إطار سياسي كانت، أو اقتصادي، أو اجتماعي.
الآن لنعرج قليلًا في دوافع نظريات المؤامرة وأسباب نشأتها. بالتأكيد إذا أخذنا في الاعتبار تكذيب الرسل والبينات كأكثر نظريات مؤامرة انتشارًا وتكرارًا في تاريخ الإنسانية فسنتوصل إلى أن أهم دوافعها هو خشية الخروج عن المألوف، أو الهلع لفقدان سيطرة أو هيمنة ما، أو حتى أبسط من ذلك، نتيجة كبر واستكبار. لكن دون شك في العصر الحديث ربما تدخل عوامل وأسباب أكثر تعقيدًا.
فتداخل المصالح وتضاربها، وتنوع المؤسسات وتناحرها، وتعدد القوى وتنافسها، ساهم دون شك في تنامي شعبية نظريات المؤامرة وانتشارها بكافة أشكالها. فما أسهل اليوم أن تنشر ثقافة الإسلاموفوبيا على سبيل المثال في شتى بقاع العالم بناءً على تكرار نظرية مؤامرة تنسجها وتحبكها جيدًا إعلاميًّا، عن أسلمة الغرب بموجات الهجرة المتتالية للمسلمين المنكوبين في أوطانهم، أو بناءً على نظرية مؤامرة أخرى تلقن بها جمهورك، بأن الإرهاب ماركة مسجلة باسم المسلمين مستندًا إلى أحداث 11 سبتمبر، التي للمفارقة أيضًا يصفها آخرون بأنها هي ذاتها نظرية مؤامرة.
لكن يجب أن ننوه بأن الزيادة المضطردة في تنوع نظريات المؤامرة وشعبيتها في الآونة الأخيرة، ترجع ربما لانتشار ثقافة الانتهازية والجشع التي تغلف غالبًا بالمكيافيلية وقاعدة الغاية تبرر الوسيلة، فلا عائق أخلاقي حسب هذا المبدأ بأن تحصل على مرادك أو تحقق هدفك، حتى ولو بالكذب وإخفاء الحقيقة. سبب لا يقل أهمية أيضًا هو ضياع الحقيقة في كثير من الأحيان، إما نتيجة لاحتكار قوى معينة لوسائل الإعلام، وإما تداخل المصالح بين هذه المؤسسات وبين مؤسسات اتخاذ القرار واللوبيات المختلفة.
وكرد فعل محتمل ومتوقع لهذا الغياب المتكرر للحقيقة والغموض الذي يكتنف العديد من الأحداث والمواقف الراهنة، تفجرت نظريات المؤامرة من كل حدب وصوب بعد ظهور وامتداد وسائل التواصل الاجتماعي.
الخلاصة هي أن الكذب أو الاتهام (صدقًا أو كذبًا) بالكذب هما المحركان الرئيسيان لجميع نظريات المؤامرة منذ القدم وحتى يومنا هذا، ولطالما وجد الكذب ستجد التربة الخصبة لنظريات المؤامرة، ولا مناص من الصدق ومزيد من الشفافية في تناول الأمور والأحداث، وتبرير السياسات العامة بناء على أرقام وحقائق دامغة لا تترك مجالًا لنسج شائعات وبناء نظريات مؤامرة جديدة تشفي صدور كل متعطش للحقيقة، التي غابت عنه أو تم تغييبها عنه سهوًا، أو بفعل فاعل. وللحديث بقية.
آلية نشأة وانتشار نظريات المؤامرة في مجال التقنية والبحوث العلمية والطبية
كنا قد ناقشنا ماهية نظريات المؤامرة، تاريخ تداولها بين بني البشر مصطلحًا ومضمونًا، دوافعها ومسببات نشأتها، وأخيرًا أسباب انتشار تداولها المتزايد بين الناس في الآونة الأخيرة. وقد أشرنا إلى أن من الملفت أن نظريات المؤامرة بتعريفها الأشمل الذي أوضحناه ربما يشمل تكذيب الأمم التي خلقها الله تباعًا، لأنبياء الله ورسله وكتبه. من حيث اتهام معظم إن لم يكن جميع الأنبياء بالكذب عمدًا لتحقيق مآرب أخرى غير المعلنة من وجهة نظر كل من كفر بآيات الله بالطبع. كما أشرنا إلى اختلاف أسباب شيوع وانتشار نظريات المؤامرة في عصرنا الحديث، كون المجتمعات الحالية أكثر تعقيدًا، والسياسات والاقتصادات الدولية أكثر تشابكًا، وأخيرًا الوسائط الإعلامية أكثر تغلغلًا، عما كانت عليه سابقًا في قرون الأنبياء والرسل. وأشرنا سريعًا لبعض أشهر نظريات المؤامرة في عصرنا الحديث.
نريد أن نلقي الضوء ونتعمق أكثر في آلية نشأة وانتشار نظريات المؤامرة في مجال التقنية والبحوث العلمية والطبية، ولماذا تتمتع بعضها بالاعتراف والتصديق، بينما يوصم أصحابها ومروجيها من قبل منتقديها، بالجهل أحيانًا وبالدجل والإضرار بالناس أحيانًا أخرى وفي حالات، يتم اغتيال شخصيات هؤلاء المخالفين معنويًا، وفي حالات أخرى يتم اتهامهم بالارتباط بمجالات غير معترف بها علميًا كالطب البديل، أو العلاج بالأعشاب، أو غيرها.
من المعلوم قطعًا أن الفرق بين العلم والدجل، هو الحقائق المدفوعة بأرقام وشواهد وقرائن. فأساس المنهج العلمي التجريبي، الذي بالمناسبة من رواده العلماء المسلمين الأوائل كالعالم الجليل الحسن ابن الهيثم، هو التسلسل المتعارف عليه: الملاحظة – طرح الأسئلة – صياغة الفرضية – اختبار الفرضية (بالتجريب) – تعديل الفرضية وإعادة الاختبار (إن لزم الأمر) – تحليل البيانات – الاستنتاجات – صياغة النظرية (القابلة للنقض أو التأكيد). إذا توافرت الشروط السابقة مجتمعة في أي نظرية فهي إذًا «نظرية علمية» وإن لم تتوافر، فهي ليست علمية، بل «دجل» أو سمها إن شئت «نظرية مؤامرة» حتى يثبت العكس.
إذًا نتوقع مع وجود تعريف واضح ومتفق عليه للمنهج العلمي وللطريقة العلمية، ألا نجد طرف في الوسط العلمي يتهم آخر بالدجل، بالرغم من أن هذا لا ينفي بالطبع تقبل وجود خلاف موضوعي بين العلماء والخبراء، سواء في منهجية وضع الفرضية المطروحة للاختبار، أو في كيفية اختبارها، أو في آلية تحليل البيانات الناتجة عن اختبار الفرضية، أو أخيرًا في منطقية الاستنتاجات المعلنة، لكن يظل الخلاف في إطار النقاش العلمي العقلاني الذي يثري العلوم ولا يقصي الآخر.
لكن ومع ذلك، رأينا ولا نزال نرى، وصف رواية ما «بالعلمية» وأخرى تتهم «بالدجل»، بالرغم من استناد كليهما المفترض لأرقام وشواهد وقرائن، فقط لمجرد أن الأولى هي الرواية «الرسمية» أو المتماشية مع التيار السائد، والأخرى صادرة عن باحثين سواء كانوا مستقلين، أو أحيانًا تابعين للمؤسسات الرسمية، لكن توصلت أبحاثهم لنتائج تتعارض أو ربما تصطدم بأفكار أو تحليلات التيار العام الذي يراد له أن يسود.
وقد تكرر على مر العصور، حديثًا وقديمًا رصد حالات كثيرة لاضطهاد وقمع علماء وباحثين، حاولوا لفت الأنظار أو دق ناقوس إنذار، متسلحين بأرقام وشواهد وقرائن، لمسائل وشواهد علمية تتعلق بنظريات وتطبيقات في مجالات عدة مثل الفلك والفيزياء والطب والصيدلة. كما لو أن هناك رغبة من طرف ما، في تبني الجميع وجهة نظر محددة وواحدة في تلك المسائل، ولا يسمح بنقاش أو اختبار أية وجهات نظر معارضة لها باستفاضة وأسلوب علمي موضوعي.
إذا أردنا مثالًا قديمًا فلابد وأن نذكر واقعة إدانة محاكم التفتيش الكنسية الرومانية للعالمين الشهيرين نيكولاوس كوبرنيكوس، وجاليليو جاليلي، بالهرطقة والزندقة والتمرد والعصيان، لمجرد أن الأول تجرأ وافترض أن الأرض لا الشمس هي التي تدور حول الأخرى، والثاني تجاوز جميع الخطوط الحمراء الموضوعة حينئذٍ بمحاولته إثبات تلك الفرضية علميًا، وبالتالي فجرا بفعلتيهما قنبلة في وجه التيار العلمي السائد آنذاك، والمدعوم بنصوص من العهد القديم (التوراة)، المروج لنظرية مركزية الأرض لا الشمس في الكون. وكان من نتائج تلك الإدانة، الحظر الشامل لمخطوطات كوبرنيكوس والذي كان قد توفي قبل المحاكمة، كما تم حظر منشورات جاليليو وإجباره على الجهر علنًا بخطأ نظرية كوبرنيكوس بدوران الأرض حول الشمس، وصحة نظرية مركزية الأرض في الكون، وحكم عليه أولًا بالسجن مدى الحياة، ولكن خفف إلى الحبس المنزلي الإجباري حتى وفاته. كان هذا في النصف الأول من القرن السابع عشر.
أما في أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، أي بعد مرور حوالي 400 عام على تلك الواقعة، فلا زلنا نرى تكرار قمع وتسفيه العلماء، في وقائع كانت تستوجب الاستقصاء لا الإقصاء، والحوار لا الاحتراب. مثال على ذلك ما حدث مع العالم الفرنسي جاك بنفنيست، والذي ترأس عدة وحدات بحثية في المركز القومي الفرنسي للبحوث، وهو أحد أهم مراكز البحوث الطبية في العالم، كما كان له السبق في اكتشاف أحد الجزيئات الهامة الوسيطة في عمليتي التخثر والالتهاب بجسم الإنسان، إثر ذلك اكتسب هذا العالم تقديرًا دوليًا وشهرةً واسعةً، قربته كثيرًا، حسب العديد من الخبراء للترشح لجائزة نوبل في العلوم، لولا نشره بحثًا في أهم مجلة دورية علمية وهي مجلة نيتشر (الطبيعة)، والذي قلب كل مكتسباته وسمعته العلمية المرموقة رأسًا على عقب.
كان هذا البحث يدور حول قدرة محلول مائي لأحد الأجسام المناعية المضادة، تحت شروط معينة أهمها الرج الشديد، في الحفاظ على خاصية تحفيز أحد أنواع خلايا الجهاز المناعي، حتى بعد تخفيف هذا المحلول تخفيفًا عاليًا لدرجة الوصول إلى اختفاء هذه الأجسام المضادة من المحلول تمامًا، أي بعبارة أخرى أن المحلول قد أصبح ماءًا فقط وخاليًا من أي أجسام مضادة بعد هذا التخفيف. بالطبع ثار عليه الجميع من كبار ومشاهير العلماء فور إعلانه الغريب، والذي ينطوي على ثورة علمية لا شك فيها، تفيد بأن الماء له ذاكرة يتصرف بها وكأن المادة الفعالة متواجدة فيه حتى بعد زوالها منه إثر التخفيف المتوالي.
فور ذلك ونظرًا للضجة الشديدة المترتبة على البحث، أرسل القائمين على مجلة نيتشر لمعمله بباريس، لجنة مكونة من ثلاثة أشخاص للتأكد من صحة هذا البحث المدوي، الأول، وكان هذا مبررًا، هو رئيس تحرير المجلة شخصيًا الفيزيائي المعروف السير جون مادوكس، أما الثاني فكان للغرابة فيزيائيًا يدعى والتر ستيوارت لم يملك أي خبرة معملية سابقة في مجال البحث قيد المراجعة، أما تمام المهزلة فكان العضو الثالث في الفريق، وهو جميس راندي، الذي كان ساحرًا لم يكمل حتى دراسته الثانوية. بالطبع خلصت اللجنة إلى أن ادعاءات ذاكرة الماء لا أساس لها من الصحة؛ لأن النتائج لم تتكرر مع أعضاء اللجنة. لكن الدكتور بنفنيست رفض هذا التقرير شكلًا وموضوعًا، متعللًا بأن طريقة اختبار اللجنة لأبحاثه لم تتبع البروتوكولات التي صاغها في أبحاثه الأصلية.
لكن كان من نتائج ذلك التقييم المثير للجدل، نسج نظرية مؤامرة حول هذا الرجل بأنه زور كل هذه النتائج بهدف شرعنة أحد وسائل الطب البديل علميًا، التي مفادها تخفيف العقار قبل تناوله من المريض بشكل يشبه هذا التخفيف المشار إليه في هذا البحث، وهذا بالطبع خط أحمر، أن يدعم العلم الحديث أي شيء يمت للطب البديل، حتى يظل منبوذًا ومحصورًا في دائرة الدجل والشعوذة. كما تم توبيخه من المسئولين على المركز القومي الفرنسي للبحوث، ثم قطع التمويل عن معمله في باريس، وبالتالي فقدان مكان عمله، لكنه أصر على صحة أبحاثه وأسس شركة خاصة تقوم على بحوث ذاكرة الماء. ومع الوقت اكتسبت (نظرية ذاكرة الماء) مؤيدين جدد، كان أولهم العالم البريطاني الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء برايان يوسفسن، ثم اقتنع لاحقًا بجدية تلك النتائج، العالم الفرنسي الحاصل أيضًا على جائزة نوبل في الطب لوك مونتانييه. ومن الجدير بالذكر أن مجلة ساينس (العلوم) والتي تعتبر ثاني أشهر مجلة علمية بعد مجلة نيتشر، كانت قد أجرت مقابلة في عام 2010، وصف لوك مونتانييه فيها جاك بنفنيست بجاليليو العصر الحديث، وأقر بأن المناخ العلمي العام في الغرب يتسم بالإرهاب الفكري والذي يرفض أي جديد يشذ عن مسار التيار السائد. ولهذا السبب قرر مغادرة فرنسا، واستكمال أبحاثه بحرية أكثر في الصين.
لكن من المفارقة العجيبة أن يتم اتهام جاك بنفنيست بالدجل والشعوذة في الأوساط العلمية، ثم ترسل له مجلة نيتشر ساحرًا ضمن فريق تقصي الحقائق في مهمة من المفترض أنها من أجل إرضاء تلك الأوساط وإقناعهم بأن ادعاءات بنفنيست ليست علمية. وهنا نحن لا ندافع عن نظرية ذاكرة الماء ولا نهاجم منتقديها، بل نحاول فقط رصد المناخ العلمي السائد والذي يرفض تمامًا أي أفكار جديدة خارجة عن قوانين العلوم السائدة، كما يقولون، ولكن أحيانًا بطرق غير علمية أيضًا.
ربما يتساءل البعض في هذا النقاش حول نظرية ذاكرة الماء، ما هو غير العلمي أصلًا في ادعاء امتلاك الماء لخواص خارجة عن السياق الكيميائي والفيزيائي المعروف، وهو يعد مثالًا لأكثر الجزيئات في الكون شذوذًا في علم الكيمياء. بدءًا من درجة غليانه وتجمده، مرورًا بقلة كثافته في حالته الصلبة عما هي عليه في حالته السائلة، ووصولًا للارتفاع الشديد في قيمة التوتر السطحي، بما يخالف جميع نواميس الكيمياء والفيزياء التي تنطبق على نظرائه من الجزيئات الكيميائية القريبة تركيبيًا.
من الملاحظ أيضًا، أن الدنيا تقوم ولا تقعد، إذا خالفت أحد المنشورات العلمية، وهذا وارد، إحدى قواعد البحث العلمي سهوًا أو عمدًا، لكن فقط إذا كانت النتائج بها تتعارض مع التيار العام السائد. أما إذا كانت المخالفة تخص تلك المنشورات العادية التي تسير مع التيار السائد، فأقصى ما يتم عمله هو كتابة استدراك أو تصحيح أو اعتذار، ثم يغلق الملف تمامًا. وهذا ما تؤكده أيضًا دراسات بهذا الشأن والتي تشير إلى تحيز محكمي الدوريات والمجلات العلمية للأبحاث التي تتماشى مع معتقداتهم العلمية وأحكامهم المسبقة.
يتهم البعض أيضًا الأوساط العلمية برفض تلك الأبحاث من منطلق رفض أي نظرية تمت بصلة مباشرة، أو غير مباشرة للطب البديل، أو مؤيدة له من قريب أو بعيد، وفي حالة ذاكرة الماء فالمقصود تحديدًا المعالجة المثلية، أو المتجانسة (الهوميوباثي). لكن ألا يحق التساؤل، لماذا يتم من الأساس وصم قطاع كبير من الطب التقليدي في أحسن الأحوال بالبديل، وهو الأقدم والأسبق، وبالدجل والشعوذة من الكثيرين، بالرغم من مروره بفترة تجارب، ليس على مدار سنوات قليلة كتلك المفروضة على عقاقير ما يعرف بالطب الحديث، بل على مدار مئات وأحيانًا آلاف السنين من عمر البشرية، والتي يمكن وصفها، مجازًا بطبيعة الحال، بالسريرية أو الإكلينيكية، حيث من المفترض بداهةً أن تكون معظم تلك الأدوات التقليدية في العلاج أو التشخيص قد جربت على البشر، وأثبتت نجاعتها، وإلا لما توارثتها الأجيال، أم يجب فقط أن تكون معتمدة من إدارة الدواء والغذاء الأمريكية التي أنشئت قبل 120 عامًا فقط على أكثر تقدير، حتى تكتسب المصداقية والاعتراف.
لهذا السبب كان يعتقد الكثيرون أن المعايير المزدوجة تمارس حصريًا في مجال السياسة، لكن من المحزن أن نراها متواجدة وللأسف بنحو مضطرد في الأوساط العلمية، والتي من المفترض أن تكون حيادية وموضوعية، كحيادية وموضوعية الأرقام والشواهد والقرائن التي من المفترض أن يستند إليها وحدها الأسلوب العلمي في النقد والحكم على الأمور.
هذه المنهجية في التعامل لا تؤدي إلا بالزج بنظريات مؤامرة تلو الأخرى في النقاشات الدائرة حول الأوبئة، العقاقير، اللقاحات، وغيرها. ربما لتفسير التطرف الشديد في معالجة كل ما هو خارج عن إطار ما يعرف بالطب الحديث. فلماذا تكمم الأفواه مثلًا عند التشكيك في صحة وسلامة لقاح ما من اللقاحات، بدلًا عن إتاحة الفرصة لجميع الخبراء بالإدلاء بدلوهم، لتحقيق الفائدة القصوى من تلك اللقاحات وحماية الصحة العامة.
عوضًا عن ذلك، ما نراه غالبًا هو اتهام هؤلاء المشككين بسلامة لقاح معين، بالإضرار العمدي للصحة العامة بحجة إثارة الشك في جميع اللقاحات (وهذا ربما يكون افتراء لتعميمه)، وكرد فعل في المقابل نجد اتهام عكسي لشركات الأدوية العملاقة بالإضرار العمدي للصحة العامة بحجة ضخ لقاحات تؤدي لأضرار بدلًا عن المنفعة المرجوة (وهذا أيضًا ربما يكون افتراء لتعميمه).
الخلاصة أنه لا مناص من احترام الفكر والفكر الآخر، والرأي والرأي الآخر، خصوصًا في مجال العلوم والبحوث والتطبيقات العلمية، ولا بديل عن تكامل الوسائل والأدوات المتعددة التي أنتجتها البشرية على مدار آلاف السنين، لعلاج ما تعانيه البشرية من أمراض وأوبئة ومشاكل صحية واقتصادية. فلا يدعي أحد انفراده بامتلاك الحكمة عمن سواه، أما الآخرون فهم جهلة، أو سحرة، أو مشعوذون. نعم هناك بالتأكيد احتمالية وجود كذب وتدليس وخداع، لكن من جميع الأطراف؛ لأن هذه الخصال والنواقص لا يحتكرها، كما نعرف إنسان عن آخر، ولا مهنة عن أخرى، ولا فصيل عن فصيل. الأمانة والصدق والحقائق هي التي يجب أن تكون الهدف الأسمى، والفيصل في تقييم الأمور العلمية كما هو شأن باقي أمور الحياة.
أحدث نظريات المؤامرة وأسخنها نقاشًا وجدلًا في الآونة الأخيرة
الآن وفي مقالنا الحالي سنبدأ في نقاش نظريات المؤامرة المتعلقة تحديدًا بجائحة كورونا الأخيرة التي من المؤكد، وهذا ما يتفق عليه الكثيرون، تحيط بها وبالفيروس المفترض المسبب لها، الكثير من الغموض وعدم اليقين في كثير من الجوانب. والذي يمثل في حد ذاته عاملًا مساعدًا لرواج روايات متعددة ونظريات مؤامرة، مقنعة أحيانًا ومتناقضة أحيانًا، ومتطرفة أحيانًا أخرى. وكما أشرنا سابقًا، كلما ساد الغموض وانعدمت الشفافية في أمر ما، ذاعت وانتشرت نظريات المؤامرة حوله. وهذا للأسف يتكرر هنا أيضًا مع وباء، لم تتعامل البشرية مع مثله من الأوبئة بهذا الشكل من قبل.
فإلى يومنا هذا، وبالرغم من التأثيرات الكارثية الهائلة لهذا الوباء على اقتصادات العالم وربما مستقبله، لم يتم قطعيًا وبالإجماع تحديد مصدر انتشار الفيروس؛ فهل هو بالفعل «معمل» أبحاث للفيروسات الخطيرة بالصين، أم هو «سوق» للحيوانات البرية في مدينة ووهان الصينية، كما قيل في عدة تقارير؟
ولمن يتساءل عن جدوى هذا السؤال، نحيطه علمًا بأنه إذا كانت الإجابة هي «السوق» فهنا يكون المصدر حيوانيًا خالصًا، وبالتالي سيترتب عليه مسار بحثي مختلف لمعرفة أسباب تحور الفيروس بصورة «طبيعية» من استهداف الحيوانات لاستهداف البشر. أما إذا كانت الإجابة على هذا السؤال هي «المعمل» فهنا يكون المصدر بشريًا خالصًا، وبالتالي سيترتب عليه مسار إضافي قد يشمل تحقيقًا جنائيًا دوليًا لمعرفة من هو المتسبب في تسريبه من المعمل، وهل كان حادثًا عرضيًا، أم ربما جريمة حرب تنطوي على تطوير واستخدام سلاح بيولوجي.
وتتوالى نظريات المؤامرة لتشمل طبيعة نشأته، وهي مترتبة بالطبع على الجدل السابق الخاص بمصدر انتشاره؛ فهل ساعدت مسببات الطفرات الوراثية الصناعية أو تقنيات الهندسة الوراثية في تحوره لهذا الوحش الكاسر، من استيطان الخفافيش إلى تفضيل البشر، أم هي الطبيعة فقط وقدرة هذا الفيروس على التحور السريع.
ولم تتوقف نظريات المؤامرة عند مصدر انتشار ونشأة الفيروس، بل امتدت إلى طرق تشخيصه أيضًا؛ فكثر الجدل في الآونة الأخيرة عما إذا كانت طرق تشخيصه الحالية حقًا دقيقة وحاسمة في الجزم بالعثور على هذا الفيروس المتهم بقتل مئات الآلاف، أم لا؟ وبالتالي التشكيك تلقائيًا في أعداد الإصابات المعلنة!
ثم ثار جدل محتدم بين المختصين حول أحد طرق علاجه؛ فهل عقار الهيدروكسي كلوروكين هو حقًا ذو مفعول سحري كما ادعى رئيس أمريكا المنتهية ولايته دونالد ترامب، أم على العكس تمامًا، هو ضار بل يمثل عاملًا مساعدًا في مضاعفة الأثر السلبي للفيروس؟
وأخيرًا وهي من أكثر نظريات المؤامرة تداولًا بعد نظريات مصدر ونشأة الفيروس، تلك المتعلقة بلقاح كورونا، فالجدل يدور وبشدة عما إذا كان اللقاح المفترض إنتاجه وطرحه للتداول قريبًا، سيكون كافيًا لمنع الإصابة به، والأهم هل سيكون آمنًا حقًا ومستوفيًا للدراسات الإكلينيكية المتفق عليها، أم لا؟
نقاط كثيرة وجوانب متعددة يكثر الجدل فيها حاليًا بين أكثر من معسكر يمتد من خبراء ومعنيين بعلوم المناعة والفيروسات والصحة العامة، إلى سياسيين وإعلاميين وشخصيات عامة، إلى المواطن البسيط الذي احتار كثيرًا وسط هذا البحر من المتناقضات والنظريات. لكن دعنا نناقش هذه الجوانب نقطة تلو الأخرى، ونستعرض معًا أهم نظريات المؤامرة التي صاحبت انتشار هذه الجائحة ونناقشها بهدوء، حتى نستبين حقًا ما الذي يجري، لربما نتمكن من الحكم على الأمور بموضوعية أكثر ودون تحيز.
أول وأهم نقطة من وجهة نظر الكثيرين، هي مصدر ونشأة هذا الفيروس. فمن المستغرب ونحن نعيش في الألفية الثالثة، وفي عصر ثورة المعلومات والتقنية والتواصل، عدم وجود دليل قطعي غير قابل للشك حتى الآن، ببراءة أو اتهام الجهات الصينية بنشر هذا الفيروس، عمدًا أو عن طريق الخطأ، من ذلك المعمل المثير للجدل، الذي افتتح نشاطه في عام 2014 داخل معهد ووهان لدراسة الفيروسات، الذي تديره الأكاديمية الصينية للعلوم، وهي بالطبع جهة حكومية، إن لم يكن من يديره هو «جهاز الاستخبارات الصينية» بالنظر إلى طبيعة عمله وثيق الصلة بالأمن القومي. هذا المعمل يقوم ومنذ نشأته بدراسة أخطر الفيروسات على وجه الأرض، ومنها أيضًا فيروسات كورونا، بهدف «معلن» هو دراستها المتأنية لحماية المجتمع من شرورها، أما الهدف «الخفي» فسنتركه للزمن والتاريخ. وبالرغم من تضارب الآراء حول مصدر هذا الفيروس، هل هو هذا المعمل أم هو سوق للحيوانات البرية في نفس المدينة، لكن الإجماع الوحيد المتفق عليه تقريبًا هو أن هذه الجائحة أول ما بدأ ظهورها، ظهرت أواخر شهر ديسمبر (كانون الأول) عام 2019 وسط الصين، تحديدًا في مدينة ووهان عاصمة مقاطعة هوبي. في بادئ الأمر تم الإعلان عن تفشي التهاب رئوي مجهول السبب، لاحقًا تم نشر بحث علمي، في دورية لانسيت الطبية، يؤكد الكشف عن فيروس كمسبب محتمل لتلك الجائحة، كما أشار البحث لقرابته الوراثية الوطيدة بفيروسات كورونا المتوطنة بالخفافيش.
أُثيرت أيضًا الكثير من الشكوك والتساؤلات بسبب التقارب الجيني لهذا الفيروس الجديد من فيروسات أخرى تم الكشف عنها لأول مرة في عامي 2003 ثم في عام 2012، وهي فيروسات كورونا المسببة لمتلازمتي سارس «متلازمة الالتهاب الرئوي الحاد الوخيم»، وميرس «متلازمة الشرق الأوسط التنفسية» على التوالي، والتي يملك بالمناسبة معهد ووهان لدراسة الفيروسات في العمل عليهما خبرةً طويلة. لكن الملفت أكثر هو الاختلافات الجينية المستحدثة والمبررة رسميًا بامتلاك هذا الفيروس معدلًا عاليًا جدًا للتحور والطفرات الوراثية، معدل يصعب على أي دارس للأحياء، رجوعًا لما درسه في كتب علوم الأحياء، تصور حدوثه في هذا النطاق الزمني الضيق، وبهذا النمط بصورة طبيعية «تلقائية دون أي تدخل بشري»، بالإضافة لعدم وجود تجارب سابقة لهذا المعدل الخارق لسرعة حدوث كل هذه الطفرات الوراثية «بصورة طبيعية» في هذا الوقت القصير من الزمن.
هنا تجدر الإشارة إلى أن علماء، وللمفارقة صينيين أيضًا، لكنهم فروا من هونج كونج الصينية في وقت سابق من هذا العام قد نشروا بحثين علميين، بصعوبة بالغة نظرًا للحظر المفروض على أي أبحاث تخالف سيناريو النشأة الطبيعية للفيروس، أوضحوا فيهما، دعنا نقُل قرائن تشير إلى أن فيروس كورونا لا يمكن أن يكون طبيعي المنشأ، بالإضافة إلى اتهامات مقرونة بشواهد أن هذا الفيروس هو مشروع سلاح بيولوجي محتمل تبناه الجيش الوطني الصيني، مطالبين بالتحقيق الدولي الجدي في تلك المزاعم حتى يزول الضباب تمامًا ونعرف كيف نشأ الفيروس، والأهم محاسبة المتورطين المحتملين.
إذًا لماذا لا نقطع الشك باليقين ونغلق الباب أمام ولادة نظريات مؤامرة متعددة في هذا الشأن، وتعلن جهة دولية مستقلة وليست «منظمة الصحة العالمية» والتي هي في الواقع مجلس إدارة وزارات الصحة للدول الأعضاء بالأمم المتحدة تشكيل لجنة مكونة من علماء مشهود لهم بالخبرة والنزاهة للتحقيق في أنشطة هذا المعمل، والفيروسات المتواجدة به، ومدى قرابتها بالسلالات المنتشرة عالميًا، ومدى فاعلية وسائل الأمان الحيوي المتبعة في هذا المعمل، على الأقل لضمان عدم تسريب أي كائنات حية أخرى تنشر كل هذا الخراب والدمار في المستقبل. هل هذا مثلًا خط أحمر؟ لأن البعض يتساءل هل تفتيش الدول الضعيفة عند مجرد الشك في أي نشاط نووي «محتمل»، كما حدث مع العراق، يفوق خطورةً وأهميةً، معرفة كيف انتشرت تلك الجائحة، التي وإن تم الجدل في جميع المعلومات المحيطة بها لكن لم يتم التشكيك مطلقًا في مصدرها الجغرافي وهو مدينة ووهان الصينية. هل من الصعب أن نعرف ماذا يفعل هذا المعمل بالتحديد. وهل ننتظر منه وباءًا جديدًا، إن تم من الأساس تعافي البشرية من الوباء الحالي وآثاره التدميرية على جميع الأصعدة.
هذه من وجهة نظري المتواضعة أهم نقطة فيما يخص تكذيب أو تصديق أخطر نظريات المؤامرة حول وباء كورونا. لأن من الأساس إذا كان مصدر انتشار الفيروس المسبب للوباء بشريًا «عمدًا أو سهوًا»، ويظل من تسبب به طليقًا حرًا ومستمرًا في عبثه، فمن يضمن للعالم أجمع عدم تكراره، وربما بصورة أخطر من هذه النسخة الفيروسية.
الموجة التالية من نظريات المؤامرة حول فيروس كورونا تخص نشأته أيضًا، وهي أن البعض يشكك في كيف لمادة وراثية خلقها الله أن تتحول وتتحور في مدة زمنية قصيرة جدًا بهذا المعدل السريع الذي يحاول البعض إلصاقه بمعدل طفرات خارق للعادة عند هذا الفيروس، لكن وهذا هو الأهم، يقولون إنه إذا تم التسليم بمعدل الطفرات الوراثية والتحور السريع لهذا الفيروس، فما جدوى إذًا أي مشاريع، تتكبد بسببها اقتصادات العالم المليارات من الدولارات هي في أمس الحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى، لإنتاج لقاح لهذا الفيروس يكون ناجحًا في منح أية مناعة لمن يتناوله.
فالمعروف قطعًا أن إنتاج أي لقاح ضد أي كائن مسبب لمرض، مبني بصورة مباشرة أو غير مباشرة على المادة الوراثية لهذا الكائن، وبالتالي أي تغيير يطرأ على مادته الوراثية «بفعل الطفرات الوراثية» سيغير ربما من طبيعته وتكوينه، وبالتالي يفقد قرابته للسلالة الأصلية التي تم تصميم اللقاح ضدها. وتلقائيًا يؤدي هذا ربما إلى عدم ارتباط أي لقاح منتج، بالفيروس الأصلي بمجرد مرور فترة زمنية قصيرة، حيث إن الفيروس الدائر المنتشر في العالم الآن، إذا سلمنا بسرعة حدوث تلك الطفرات الوراثية في فيروس كورونا، ليس هو ذلك الفيروس الذي كان منتشرًا منذ عام.
لذلك يشير البعض، إما التسليم بنظرية معدل تحور فيروس كورونا السريع لتمرير نظرية نشأته الطبيعية وبالتالي اسمه كفيروس «مستجد»، لكن عندئذٍ ينبغي التساؤل عن جدوى عملية تصنيع اللقاح الخاصة به، وهي عملية تتطلب على أقل تقدير عامًا كاملًا، وهو ربما لن يكون متواجدًا في ذلك الوقت بفضل تحوره السريع ومعدل طفراته الوراثية الخارق للعادة. وإما التسليم بنظرية المعدل البطيء لطفرات فيروس كورونا المتوافق مع المعروف عن الطفرات الوراثية لتمرير نظرية فاعلية اللقاح الموجه ضده، لكن عندئذٍ سيتم التساؤل عمن حوره إذًا في هذا الوقت الوجيز كي يختار البشر بدلًا عن الخفافيش كهدف للإصابة.
وتتوالى نظريات المؤامرة على فيروس كورونا بلا هوادة، وتنتقل إلى طرق تشخيصه. من المعروف أن هناك ثلاث طرق تشخيصية متعلقة بفيروس كورونا. الأولى الكشف عن المادة الوراثية للفيروس، وهي المعروفة بـ«البي سي آر»، أو التفاعل التسلسلي لإكثار الحمض النووي للفيروس.
والثانية الكشف عن أحد بروتينات الفيروس أو ما يعرف بـ«الأنتيجن» الواقع على سطح غلافه.
أما الثالثة والأخيرة فهي الكشف عن الأجسام المضادة المناعية التي أنتجها جسم الإنسان كرد فعل للإصابة المحتملة بالفيروس. كل هذه الطرق يوجد بها العديد من التفاصيل الفنية ومواطن القوة والضعف التي لا مجال لسردها في هذا المقال، لكن ما يجدر الإشارة إليه فقط هو تنامي الدعوات للحذر من نتائج هذه الاختبارات، سواء كانت نتائج إيجابية أو نتائج سلبية فيما يعرف حتى من قبل الشركات المصنعة للكواشف التشخيصية نفسها، بالنتائج الإيجابية أو السلبية الكاذبة. ومعظم تلك الشركات، وهي في الغالب شركات أدوية عملاقة، تضيف في الإرشادات الملحقة بأطقم الكواشف أن هناك 5% هامش خطأ، بما يعني أن لكل 100 اختبار هناك خمس نتائج ربما تكون سلبية أو إيجابية كاذبة، أي غير صحيحة. لكن يجب التذكير بأن هذا الهامش مقرر سلفًا من الشركة المنتجة، وليس من طرف محايد، ولكن وهذا هو الأهم أن ذلك الهامش من الخطأ محسوب تحت الظروف المعملية والفنية المثالية، لكن يتساءل البعض هل تنطبق هذه الظروف التقنية والعملية المثالية على جميع المعامل في جميع أنحاء العالم. أضف إلى ذلك قرابة هذا الفيروس الجينية بفيروسات كورونا البشرية المعروفة الأخرى والمسؤولة بالمناسبة عن حوالي من 20% – 30% من نزلات البرد الفيروسية عند البشر، وإمكانية رصدهم أيضًا بوسائل التشخيص المتداولة لفيروس كورونا، وبالتالي إضافة عدد لا يستهان به من التشخيصات الخاطئة.
لكن هل هناك من يتجاهل كل هذه الحقائق، وما عائده حيال ذلك. الإحصاءات الحالية تشير إلى أن هناك ما يقرب من مليار و200 مليون اختبار لفيروس كورونا قد تم إجراءه في جميع أنحاء العالم حتى الآن. وبالنظر لسعر الاختبار الواحد من الشركة المنتجة، وليس سعر عرضه للجمهور، بمتوسط 20 دولار، يمكننا أن نخمن أن مبيعات شركات الأدوية من الاختبارات فقط قد بلغت حوالي «24 مليار» دولار حتى الآن. هذا مبلغ ليس بالبسيط ليثير الشكوك حول ما إذا كان هناك مستفيد!
نظريات المؤامرة حول جائحة كورونا، التي – ومن المؤكد – سيظل الجدل والشد والجذب حولها – كما أعتقد – مستمرًا، ما دام الكثير من الغموض وعدم اليقين يحيط بها.
هناك العديد من نظريات المؤامرة حول أعداد المصابين بفيروس كورونا، تتعلق بإدارة وزارات الصحة ببعض دول العالم لأرقام الإصابات والوفيات، سواء بالتهويل أو التهوين لأسباب سياسية أو اقتصادية أو حتى إجرامية تتعلق بهذا البلد أو ذاك. فالمسؤول عادة عن نشر تلك الأرقام ليست جهات مستقلة بل الحكومات التي لا يستحيل معها التلاعب بالأرقام لتحقيق أغراض قد لا تكون بالضرورة متسقة مع الحفاظ على الصحة العامة. وحتى نعود ثانيةً لمهبط هذا الفيروس، وهي الصين، يستغرب الكثير من المراقبين من أن بلدًا يقطنها مليار و400 مليون نسمة، وأن تكون بالمصادفة هي أيضًا منشأ الفيروس، لكن رغم ذلك لا تتعدى الإصابات فيها حتى اليوم عدد «87 ألف» مصاب، أي بمعدل «60» إصابة فقط لكل «مليون» نسمة، وهو «سُبع» أي «واحد على سبعة» من عدد الإصابات التي تبلغ حوالي «627 ألف» إصابة والمسجلة في جمهورية التشيك البالغ عدد سكانها حوالي 10 مليون نسمة فقط، بمعدل إصابة بفيروس كورونا تبلغ أكثر من «58 ألف» إصابة لكل «مليون» نسمة. يقول البعض إن هذه الأرقام وحدها كافية لولادة ألف نظرية مؤامرة.
أما العلاج المفترض والذي تم ترويجه من الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، فتدور حوله أيضا العديد من التناقضات والسجالات حول فاعليته من ناحية وأضراره المفترضة من ناحية أخرى. وهناك بالفعل عدد من المنشورات العلمية التي تؤيده والأخرى التي تحذر منه. لكن هنا أيضًا من المستفيد من وراء الترويج غير المبني على أسس علمية ثابتة ومتينة ومتفق عليها. نعود للأرقام، بعد ترويج السيد ترامب للهيدروكسي كلوروكين، المرخص في أمريكا فقط كعقار ضد الملاريا، أعلنت شركة سانوفي الفرنسية أحد أهم منتجي هذا العقار في تقرير منشور على موقعها الإلكتروني، أن صافي مبيعاتها ارتفع بالربع الأول لعام 2020 بمقدار «15%» وارتفع صافي أرباحها لنفس الفترة بمقدار «45%»، مع مبيعات تقارب 9 مليارات دولار أمريكي في ثلاثة أشهر فقط، ولشركة واحدة من ضمن شركات أخرى تقوم بإنتاج نفس العقار. مع الإشارة إلى أن الشركة ذاتها في ذات التقرير عزت هذا الارتفاع بالمبيعات والأرباح، رغم عدم ذكر مبيعات هذا العقار بالتحديد لجائحة كورونا، لكن تقارير أخرى أكدت ارتفاع مبيعات هذا العقار بشكل جنوني بما يفوق نسبة ألف في المائة بعد ترويج السيد ترامب له. هذا رغم سحب إدارة الغذاء والدواء الأمريكية «الإف دي إيه» للترخيص الطارئ الذي كانت أصدرته سابقًا لهذا العقار من توصياتها بتناوله ضد فيروس كورونا لقناعتها بعدم فاعليته وآثاره الجانبية السلبية المحتملة، وأبقت فقط على ترخيصه كعقار ضد الملاريا.
نأتي أخيرًا للقاح المفترض توزيعه في جميع أنحاء العالم، والذي بدأت بالفعل بريطانيا في حقنه لمواطنيها، ونظريات المؤامرة حوله. لكن دعونا أولًا ننوه أن اللقاحات عمومًا اكتشاف طبي عبقري ونبيل في ذات الوقت. وهي مبنية أساسًا على ملاحظة العالم البريطاني إدوارد جينر بأن من أصيب بجدري البقر الأقل خطورة لم يتأذ بعدوى الجدري الأكثر خطورة الذي يصيب البشر، أي أن الشخص قد اكتسب بذلك «مناعة» طويلة المدى. وهذه هي فكرة التطعيمات كما عهدناها منذ زمن جيننر في عام 1800 حتى زمننا الحاضر، ألا وهي حقن الإنسان بنسخة غير خطرة لمسبب المرض، أو جزء منه، أو حتى شبيه له، حتى يتم تحفيز الجهاز المناعي لإنتاج أجسام مضادة تتعرف، وتتسبب في القضاء على مسبب المرض في نسخته الخطرة، حال تعرض الإنسان له في المستقبل. مرت الأيام والسنين ودخلنا عصر الهندسة الوراثية، ولم لا نستخدمها لصالح البشرية بما فيها مجال اللقاحات. وقد كان، وليس هذا فقط، بل في أقل من عام، بدلًا عن 10-18 عام كما كان معتادًا مع تطوير اللقاحات حتى يومنا هذا.
لكن مبدئيًا ربما يتساءل البعض، لماذا تتطلب عملية تطوير اللقاحات بدءًا من بزوغ فكرته وتصميمه وحتى ترخيصه وانطلاق عملية تصنيعه وتوزيعه كل هذه المدة الطويلة «10 – 18 عامًا». الجواب هو باختصار أن مليارات من البشر قد تتناول هذا اللقاح، وهو عدد ضخم لا يضاهيه ربما أي عدد من البشر يتناول أي عقار آخر. لكن الأخطر هو أن هذا العدد يشمل جميع فئات المجتمع من الصغير للكبير، ومنهم الأطفال، والنساء الحوامل، والمرضى والمسنين، الذين لهم دائمًا كما نعرف وضع خاص، ستعرفه بمجرد قراءة إرشادات الجرعة والموانع والآثار الجانبية المذكورة بالنشرة داخل علبة أي عقار موجود لديك بالمنزل.
إذًا عملية تطوير اللقاح منذ ولادة فكرته وتصميمه، مرورًا باختباره وحتى ترخيصه وبدء تداوله يمر بأطوار عديدة وتستغرق أعوامًا، لكن أهمها على الإطلاق هو طور الاختبارات الإكلينيكية والذي يتوزع على ثلاثة مراحل يتم فيها من خلال تجارب سريرية على البشر الإجابة على ثلاثة أسئلة محورية: (1) هل اللقاح آمن «تستغرق من عام إلى عامين»، (2) هل اللقاح يستثير الجسم لإنتاج رد فعل مناعي «تستغرق من 2-3 أعوام»، (3) هل يقي اللقاح ضد الإصابة بالمرض «تستغرق من عامين إلى أربعة أعوام». هذا بروتوكول يعرفه كل من يشتغل باللقاحات، والغرض منه فقط هو التأكد تمامًا، بأمان وجدوى وفاعلية اللقاح.
الطريف هنا لمن يرى أن فترة تطوير اللقاحات تطول هكذا أكثر من اللازم، أن حتى مع طول هذه الفترة وجدنا أن بعض اللقاحات تم سحبها لاحقًا من التداول بعد ملاحظة بعض التأثيرات السلبية الناجمة عنها. على موقع مركز مراقبة الأمراض الأمريكي «السي دي سي» توجد قائمة لعدد من اللقاحات التي تم سحبها من الأسواق بعد ترخيصها مع الإشارة بأنها كلها لقاحات تم تطويرها بالنمط الكلاسيكي الذي يستغرق على الأقل 10 أعوام.
نعود للقاح كورونا، بعد أخذ كل هذه الحقائق والتفاصيل في الاعتبار يتساءل البعض هل حقًا عام واحد فقط كافٍ للإجابة عن تلك الأسئلة الثلاثة المشروعة حول أمان وجدوى وفاعلية اللقاح. نعم يمكن بفعل عبقرية العالم أو الباحث، وبالاستفادة من ثورة التقنيات الحيوية الجديدة أن تُختصر المرحلة الأولية من تطوير اللقاحات، وهي مرحلة تصميم اللقاح والاختبارات قبل الإكلينيكية له، كما تفخر بذلك على سبيل المثال شركة مودرنا الأمريكية للأدوية على موقعها الإلكتروني، والتي تشير فيه إلى أنه تتطلب منها «42 يومًا» فقط للتصميم والاختبار قبل الإكلينيكي للقاحها الجديد ضد كورونا، بدلًا من الفترة المعروفة قديمًا «أربعة إلى سبعة أعوام». لكن الاختبارات الإكلينيكية لا تخضع لعبقرية مبتكر اللقاح أو تطور تقنياته؛ لأنها تتم على أرض الواقع خارج المعمل، وتخضع لمتغيرات البشر الخاضعين للاختبار بتنوعهم الهائل العمري والصحي والإثني والجغرافي.
من المفهوم بالطبع بعد معرفة كل هذه الأمور، أن تتولد بعض الشكوك والتساؤلات، بل نظريات مؤامرة لدى البعض حول لقاح كورونا، لأنه عندما يقال لأحدهم أن شخصًا ما قد تمكن من اختصار رحلة القاهرة لنيويورك إلى 20 دقيقة فقط، بدلًا عن الدقائق الـ720 «12 ساعة» المتعارف عليها في زمننا الحاضر كأقصر مدة لأي رحلة طيران، فلن يتم أيضًا تمرير هذا الادعاء بتلك السهولة واليسر التي يطلبها الكثيرون بتصديق بيانات بعض شركات الأدوية بأنها قد اختصرت الفترة اللازمة لمرحلة تصميم اللقاح والاختبار ما قبل الإكلينيكي من 1460 يومًا «أربعة أعوام» كأقصر مدة متعارف عليها، إلى 42 يومًا فقط. أضف إلى ذلك بالطبع اختصار مدد مراحل الاختبارات الإكلينيكية اللاحقة حتى ترخيصه وبدء تداوله منذ ستة أعوام، كما كان معهودًا، إلى بضعة أشهر فقط، والذي يعقد أكثر عملية تمرير مصداقية أمان وجدوى وفاعلية اللقاح.
هل من اللائق إذًا، أن نتهم بعد ذلك من يتساءل عن لقاح كورونا وفاعليته وأمانه بأنه مروج لنظريات مؤامرة، وبأنه غير علمي، وبأنه يتسبب في استمرار تفشي الوباء ومنع الوقاية منه. أم من الأولى أن يسهب أولًا مروج اللقاح في الشرح المتأني والشفاف والمثبت بالدليل والوثائق كيف تأني مثلًا لشركة أن تختصر رحلة تطوير اللقاح لهذا الزمن القياسي، تمامًا كما سيتم الطلب المشروع من قبل أي عاقل لأي مدعي باختصار رحلة القاهرة – نيويورك إلى 20 دقيقة فقط. أليس كذلك.
هناك بالطبع نظريات مؤامرة عديدة أخرى تنتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، منها المنطقي ومنها المتطرف، لكن من أشهرها بالطبع تدور حول العلاقة المثيرة للجدل بين بيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، وثاني أغنى رجل في العالم وبين الصينين وتحديدًا في ووهان، وعلاقته بالوباء ولقاحه وتنبأه مثلًا بالوباء منذ سنوات. بالطبع تنبؤه بالوباء لا يصح أن يكون دليلًا على تورطه في تفشيه، لربما هي امتداد لعبقريته المعروفة سلفًا في مجال تكنولوجيا المعلومات، لكن ما يستحق التحقيق العميق هو بالفعل استثماراته الضخمة في مجال اللقاحات، وهل يتربح بالفعل منها أم لا، هنا فقط يجب رؤية تنبؤه للوباء من زاوية أخرى غير العبقرية.
في النهاية أود الإشارة بأن بالفعل هناك بعض نظريات المؤامرة المتداولة حول وباء كورونا صعبة التصديق والإثبات، لكن وجود مثل تلك النظريات لا ينبغي أن يكون تبريرًا بأي حال من الأحوال لتسفيه وتحقير، بل تجريم جميع التساؤلات والشكوك المشروعة الأخرى المبنية غالبًا على قرائن وشواهد وأرقام. لأن هذا يرهب ويخيف كل من لديه سؤال منطقي من أن يوصم بمروج لنظرية مؤامرة عبثية وغير منطقية، بدلًا عن ذلك ينبغي أن يُناقش بالحجة والدليل العلمي حتى تزول الشكوك ويتبدد الغموض.
أخيرًا، إذا أردنا أن نوجز هذا المقال الممتد على أربعة أجزاء في نقاط مختصرة يمكننا حصر الآتي:
تعريف نظرية المؤامرة هو: الاعتقاد بأن حدثًا (أو موقفًا) ما ناتج عن خطة سرية وضعها شخص نافذ (أو أكثر)، لكن التعريف الأدق من وجهة نظري يجب أن يكون: الاعتقاد بأن حدثًا (أو موقفًا) ما ناتج عن كذب شخص (أو أكثر).
نظريات المؤامرة ليست حكرًا على فئة من الشعب ضد النافذين بالسلطة، سواء كانوا سياسيين أو اقتصاديين، بل وجدنا قديمًا وحديثًا نظريات مؤامرة تحاك من قبل السلطات ضد فئة أو فصيل من الشعب، وليس آخرها تلك التي يروج لها حاليًا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ضد فصيل كبير من شعبه تحت مسمى نظرية الانعزالية والانفصالية عن قيم الجمهورية، وبالتالي القابلية لدعم الإرهاب.
نظريات المؤامرة قديمة قدم البشرية على وجه البسيطة، فما تكذيب الأنبياء من قبل أقوامهم واتهامهم بتغيير نمط حياتهم لتحقيق غرضٍ ما، إلا صورة كلاسيكية من نظريات المؤامرة.
زيادة وتيرة انتشار نظريات المؤامرة من كل حدب وصوب ما هي إلا انعكاس لتفشي ظاهرة الكذب وتنامي ثقافة الجشع والانتهازية التي تضع الربح والتسلط فوق الشفافية والمنفعة العامة، وبالتالي ترغم الناس على الاقتناع أحيانًا بأن هناك مؤامرة تحاك من قبل طرف ما ضد آخر بالمجتمع.
نظريات المؤامرة في مجال العلوم والبحوث والصحة العامة ليست حديثة بل منشأها يرجع للعصور الوسطى والتي ذاع فيها اتهام بعض العلماء المستنيرين، بالدجل والشعوذة لمجرد جنوحهم لاستخدام العقل والمنطق في العلم، عكس اتجاه بعض المعتقدات السائدة، والتي كانت حينها مفروضةً جبرًا من قبل الكنيسة الكاثوليكية، لكن أن تعود البشرية قرونًا للوراء، فهذا ما لا ينبغي أن يكون.
الفرق بين «العلم» و»الدجل»، والذي يُتهم به كل من يخالف التيار السائد، لا يجب أن يكون رهينة أهواء البعض أو نفوذه السياسي أو الاقتصادي أو الإعلامي، بل فقط حسب المقياس الذهبي للنظرية العلمية أو ما يعرف بالمنهج العلمي في التفكير، وهو نشر الحقائق المدفوعة بأرقام وشواهد وقرائن.
يجب التوقف عن اتهام كل من يطرح سؤالًا منطقيًا ومشروعًا مؤيدًا بأدلة أو شواهد في أي من قضايا المجتمع سواء صحية أو اقتصادية أو ثقافية أو حتى سياسية بمروج لنظريات مؤامرة خبيثة تهدف للإضرار العمدي للبشر، بل التمسك بثقافة النقاش الموضوعي والعلمي حول التساؤلات والشكوك، للوصول إلى قناعات مشتركة، فالهدف أيضًا مشترك وهو سلامة المجتمع والمصلحة العامة.
فيروس كورونا لا يعطي على الإطلاق الحق لأيً كان في تجاوز خطوط العقل والمنطق والمنهج العلمي بذريعة أننا نعيش في ظروف استثنائية، فهي فقط الظروف الاستثنائية، كما صرح في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي الأمين العام الحالي للأمم المتحدة، التي يعم ويعيث فيها الجشع والتسلط والفساد، والتي تتطلب أكثر من أي وقت آخر مساهمة الجميع في مراقبة ما يحدث عن كثب، حتى لا يستغل هذه الجائحة من تعودوا استغلال أية فرصة لتحقيق مآربهم الشخصية على حساب الآخرين.
نعم حماية الناس من شرور الوباء أولوية قصوى، لكن لا يتنافى أبدًا اتخاذ جميع إجراءات الحماية جنباَ إلى جنب مع اتباع الإجراءات السليمة الأخرى كمعرفة مصدر ونشأة هذا الفيروس، هل هي طبيعية، أم بفعل فاعل. وإذا كانت طبيعية ما هو الدليل العلمي القطعي. وإذا كانت بفعل فاعل فمن هو إذن، وما هي الإجراءات القضائية التي سيتم تبنيها على الأقل لضمان عدم التكرار.
كما لا يتنافى أيضًا تفعيل أي تدابير لمكافحة هذا الوباء مع مراجعة إجراءات الفحص والوقاية والعلاج بصورة دورية، حتى يتأكد الجميع من أن الهدف الحقيقي فعلًا المصلحة العامة، وليست أي أهداف ضيقة أو دوافع فئوية أخرى.
هناك المليارات من الدولارات التي تتدفق بالفعل إلى داخل جيوب البعض نتاج هذه الجائحة، وهذا لا جدال فيه، وليست محض نظريات مؤامرة، الواجب هنا على السلطات من منطلق موقعها كخادمة للشعوب، وليست أجيرة عند الرابحين من الأزمة، ألا تقف موقف المحايد من أي نقاش دائر حول أي جانب من هذه الكارثة، وإلا ستكون في موضع الاتهام المباشر بالتواطؤ مع الرابح الواضح ضد الآخرين المتضررين من هذا الوباء.
يجب أيضًا النظر في إعادة تشكيل المجالس العلمية المتخصصة في مراجعة النشر العلمي والبت في تمويل البحوث، لتنقيتها من جميع هؤلاء الذين يثبت لديهم تضارب فاضح في المصالح بينهم وبين الشركات العملاقة، ومن ضمنها شركات الأدوية، حتى يتوقف الحظر العمدي والمتكرر للأفكار المخالفة للرأي السائد، وأن يكون المعيار الوحيد كما أسلفنا هو المنهج العلمي في التحكيم والموافقة عما يتم نشره أو إجراء البحوث العلمية فيه.
ما زال هناك أمل وحيز من الوقت بألا يتطور اتهام المخالفين في الرأي، من مروجين لنظريات مؤامرة إلى اتهامات أكثر تطرفًا، وبالتالي تتم المطالبة مثلًا باستئصالهم من المجتمع. لذا ندعو وبشدة أن تسود بدلًا عن ذلك قيم الشفافية وحرية الرأي والنقاش العلمي، ووقف حملات الإقصاء والحظر من النشر والاتهامات المرسلة، وإلا فنحن مقبلون بلا شك على مرحلة متطرفة لن تكون غالبًا وعلى المدى الطويل في مصلحة أي مجتمع.