عرض: آية بدر – باحثة في العلوم السياسية
والمصالح الأوروبية على كافة الأصعدة. وقد تجلى ذلك الصعود في انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2019؛ إذ شهدت فوز العديد من أحزاب اليمين المتطرف، وزيادة معدل تمثيلهم في البرلمان عما كان عليه الحال في عام 2014، وهو ما دفع البعض إلى القول بأن تيارات اليمين المتطرف بصدد تشكيل جبهة قوية للتعبير عن تلك التوجهات والسياسات المتطرفة.
وفي هذا الصدد، خصصت مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية إحدى أوراقها البحثية لتناول صعود اليمين المتطرف بالبرلمان الأوروبي. وكانت الأطروحة الرئيسة للورقة ترتكز على محدودية تأثير ذلك الصعود، وما يمثله من تهديدات بسبب انقسام هذا التيار في التوجهات والرؤى. ويمكن الوقوف على مظاهر ذلك الخلاف ومؤشراته عبر تحليل أنماط السلوك التصويتي لأحزاب اليمين المتطرف بالبرلمان الأوروبي فيما يتعلق بالعديد من القضايا السياسية والاقتصادية والتنموية خلال الفترة التشريعية 2014–2019. ويمكن استخلاص اتساع الهوة والخلاف بقدر كبير بين تيار اليمين المتطرف المنتمي إلى شرق أوروبا وغربها.
انقسامات واضحة
إن خطورة صعود تلك الأحزاب تتقلص بفعل الانقسامات في الرؤى والتوجهات بين مكونات تيار اليمين المتطرف، التي تحول دون تعزيز قوة ذلك التيار؛ لصعوبة تبني تلك الأحزاب موقفًا موحدًا إزاء العديد من القضايا الخلافية بين شرق وغرب أوروبا. وبالتبعية فهي لا تمثل كتلة تصويتية موحدة داخل أروقة البرلمان الأوروبي، بل كانت هي الأكثر انقسامًا بالمقارنة بكافة التيارات الأوروبية الأخرى.
برغم أن تلك التيارات تعتمد على المرونة الأيديولوجية للتوجهات الشعبوية –حيث تنطلق جميعها من موقفها القومي المناهض للهجرة– فإن أوجه التشابه في النشأة والتوجهات بين مكونات اليمين المتطرف أقل وضوحًا من كافة التيارات الأخرى.
فثمة خلاف جوهري حول الاعتبارات القومية المتعلقة بالاندماج والتكامل الإقليمي، التي يقوم عليها في الأساس الاتحاد الأوروبي في مواجهة أطروحات المصالح الوطنية الضيقة، وتقليل التعاون والاندماج وتشارك الأعباء، وغيرها من القضايا. ومن ثم، فإن اليمين المتطرف هو الأكثر انقسامًا عن كافة التيارات الأخرى في البرلمان الأوروبي.
انعكاسات البيئة
يتباين السياقان الاقتصادي والاجتماعي في شرق أوروبا عن غربها، وهو ما انعكس على اختلاف توجهات أحزاب اليمين المتطرف بكل منهما؛ فقد عاصرت دول شرق أوروبا سياق الشيوعية وإرث ما بعد زوالها، التي تسببت في تقلُّص الثقة بالأحزاب والمؤسسات المدنية، هذا فضلًا عن اختلاف القيم الثقافية والمجتمعية بتلك المجتمعات عن السياق الغربي.
وقد انعكس ذلك على تباين التوجهات الاقتصادية لتياري اليمين المتطرف؛ إذ يميل التيار الغربي إلى التوجهات النيوليبرالية مع بروز بعض التوجهات المتضاربة إزاء السياسات النقدية التحفيزية عقب الأزمة المالية، التي تجددت مؤخرًا إزاء إجراءات التحفيز المتبعة في ظل جائحة كورونا.
وفيما يتعلق بالموقف من التكامل الأوروبي، فثمة تباين آخر بين تياري اليمين المتطرف؛ إذ يعارض يمينيو الغرب ذلك التكامل، ويميلون إلى إعلاء المصالح الوطنية والنزعة التنموية القومية بعيدًا عن استنزاف الموارد بإنفاقها على الاتحاد الأوروبي. أما دول الشرق، فهي ليست أعضاءً بالاتحاد، بل هي مستفيدة منه دون أن تشارك في تمويله. ومن ثم، لا يعارض اليمين الشرقي أفكار التكامل الأوروبي وتعزيز مؤسساته.
الموقف من الخارج
ثمة تقارب وتعاون بين التيارات اليمينية الشعبوية في كافة أرجاء أوروبا وبين النظامين الصيني والروسي، وقد سنحت الفرصة لهذين النظامين لتعزيز نفوذهما وطموحاتهما وتوغلهما في الشأن الأوروبي في ظل تنامي النزعات القومية الشعبوية، وتراجع التنسيق بين مؤسسات الاتحاد الأوروبي والثقة به؛ وذلك عن طريق ممارسات الدعاية والتضليل. ومثَّلت جائحة كورونا وتداعياتها فرصة لتعزيز مثل تلك الممارسات عبر استغلال دبلوماسية اللقاح.
إلا أن التيار اليميني المتطرف الأوروبي يتباين في موقفه بشأن الأبعاد السياسية والاقتصادية للتقارب من الصين وروسيا؛ فلا يوجد موقف يميني موحد بشأنهما. وذلك الاختلاف في المواقف ينجم عن اختلاف السياق التاريخي للعلاقات الأوروبية مع كلتا الدولتين، بالإضافة إلى الاختلاف بشأن الموقف من الأدوات التي تعتمد عليها كل منهما لتحقيق مآربهما.
النفوذ الروسي
لدى روسيا تاريخ طويل من التأثير على الطرف الأوروبي بالاعتماد على مجموعة من الأدوات تتنوع بين ممارسة الضغط الاقتصادي، والهجمات الإلكترونية، والاغتيالات السياسية، وصولًا إلى شن حملات التضليل والدعاية عبر وسائل الإعلام حتى الحكومية منها. وقد عززت روسيا نفوذها وصِلاتِها داخل أروقة البرلمان الأوروبي عبر تشكيل شبكات من التنسيق والتعاون مع أعضاء البرلمان تُسمى “مجموعات الصداقة”، وهي بمنزلة جماعات ضغط تعمل لصالح روسيا.
وقد عمل الرئيس الروسي “بوتين” على تعزيز علاقته باليمين المتطرف الغربي، وقد حال ذلك –نسبيًّا– دون تكوين موقف أوروبي موحد ضد الممارسات الروسية، لكنها لم تكن كافية للحيلولة دون فرض عقوبات أوروبية على روسيا، إلا أنها عكست ذلك الانشقاق في أروقة الاتحاد الأوروبي.
وعلى النقيض من ذلك، فإن دول شرق أوروبا وتياراتها اليمينية، ترتاب وتتحسس بشدة إزاء تعزيز العلاقات مع روسيا وتعزيز نفوذها تجاهها؛ بسبب تلك الخبرة التاريخية الناجمة عن الهيمنة الروسية خلال العهد السوفييتي. وبالتبعية يرفض يمينيو الشرق استعادة النفوذ الروسي؛ لما له من تأثير سلبي على نزعتهم القومية واستقلاليتهم ومسار التحول الديمقراطي بدولهم. ومن ثم يعارض اليمين الشرقي النفوذ الأجنبي الروسي على عكس نظرائهم بالغرب.
التوغُّل الصيني
يمثل الصعود الاقتصادي الصيني تهديدًا للاتحاد الأوروبي ودُوله؛ إذ تعتمد الصين في صعودها الاقتصادي على العديد من الأدوات التي يمكن توصيفها بـ”الجزرة والعصا”، وعملت على تكوين مجموعات صداقة عبر الأبواب الخلفية لتجاوز حالة الخصوصية الأوروبية الغربية؛ من أجل استمالة تلك النخب لصالح التوجهات الصينية وتوجهات ومصالح الحزب الشيوعي.
وبالرغم من الاعتراضات الأوروبية على الأوضاع السياسية والانتهاكات الصينية لحقوق الإنسان جنبًا إلى جنبٍ مع الاعتراض على الممارسات الصينية المناهضة لقيم التنافسية وسياسات السوق والقواعد المنظمة لحرية التجارة الدولية؛ فإن الصين عملت على تعزيز توغلها الاقتصادي داخل أروقة الاتحاد الأوروبي من خلال ما يمكن تسميتها “دبلوماسية مصيدة الديون”، عبر مبادرة الحزام والطريق، وعبر تقديم صفقات اقتصادية مربحة لها وللمستفيدين من المبادرة.
وقد تجلَّى ذلك التوغل الصيني في التقارب من التيارات الشعبوية باليونان؛ حيث امتنعت الأخيرة عن التصويت ضد الصين بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في عام 2017، وهو ما حال دون اتخاذ موقف أوروبي موحد ضد الصين حينها. ولم يتوقف الأمر عند حد الموقف اليوناني، بل دافع العديد من أعضاء البرلمان الأوروبي عن مبادرة الحزام والطريق، ورفضوا توصيف الصين بأنها قوة استعمارية عدوانية.
معضلة بكين
يظل التأثير الصيني على تيارات اليمين المتطرف بالغرب محدودًا نسبيًّا؛ بسبب الرفض الشعبي من قِبل الناخبين للتقارب الاقتصادي من العملاق الصيني؛ حيث عانت تلك الاقتصادات بسبب صعود الصين، وما نجم عنه من تقليص القدرات التنافسية لتلك الاقتصادات التي ترى نفسها خاسرةً من العولمة، وهو ما يجعل السواد الأعظم من التيارات اليمينية الشعبوية بالغرب الأوروبي تميل إلى تأييد السياسات المقيدة للنفوذ والاستثمارات الصينية ولتبني سياسات حمائية على غرار تلك التي ينادي بها اليسار الشعبوي.
وفي المقابل، يتبنى اليمين المتطرف شرقَ أوروبا موقفًا مغايرًا من الاقتصاد الصيني؛ حيث لم تتضرر تلك الدول واقتصاداتها من الصعود الصيني، كما أنها متعطشة “للاستثمارات الصينية” وحريصة على تكثيف التعاون الاقتصادي، وهو ما لا يضر بما تتمتع به من تأييد جماهيري من الناخبين. ومن ثم، تؤيد تلك الأحزاب تعزيز التعاون والتنسيق مع الصين في العديد من المجالات؛ ليس على الصعيد الاقتصادي وحده، متجاوزين بذلك الاعتبارات القومية المتعلقة بالسيادة.
وختامًا.. بالرغم من أن استمرار صعود أحزاب اليمين المتطرف داخل البرلمان الأوروبي –الذي اتضح خلال الانتخابات الأخيرة عام 2019– يُنظَر إليه باعتباره “حصان طروادة” في البرلمان، ويمثل تهديدًا لمن سواه من التيارات؛ فإن تلك الأحزاب لا تمثل قوة وجبهة موحدة؛ بسبب تباينها في المواقف والتوجهات بشأن النزعات الوطنية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي؛ الأمر الذي يُفقِد التيار اليميني المتطرف قوته اللازمة لاتخاذ موقف موحد إزاء القضايا الحاسمة في ظل تلك التباينات والانقسامات بين الشرق والغرب بشأن القضايا المختلفة، وهو ما اتضح من خلال تحليل السلوك التصويتي لهذا التيار خلال الفترة التشريعية الأخيرة للبرلمان الأوروبي.
المصدر:
Matthias Diermeier, Hannah Frohwein, and Aljoscha Nau, “One for one and none for all –The Radical Right in the European Parliament”, LSE ‘Europe in Question’ Discussion Paper Series, N. 167/2020, London School of Economics and Political Science, March 2021.